+++السلام والنعمة "الراعى يحبك الراعى ينتظرك"+++
+++السلام والنعمة "الراعى يحبك الراعى ينتظرك"+++
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
البوابةالبوابة  الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  الكتاب المقدسالكتاب المقدس  الكتاب مسموع و مقروءالكتاب مسموع و مقروء  تفسير الكتابتفسير الكتاب  مركز تحميل الصورمركز تحميل الصور  youtubeyoutube  جروب المنتدىجروب المنتدى  twittertwitter  rssrss  دخولدخول  

 

  تفسير سفر تيموثاوس الأولى

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

 تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سفر تيموثاوس الأولى     تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Icon_minitimeالإثنين ديسمبر 06, 2010 5:43 pm

مقدمة في
الرسالة الأولى إلى تيموثاوس

"تيموثاوس" كلمة يونانية تعني "تقي الله" أو "تكريم الله"[13] آمن على يدي الرسول بولس في رحلته التبشيرية الأولى في لسترة من مقاطعة ليكاؤنية عام ٤٦ م. كان والده يونانيًا لا يُعرف اسمه، ربما مات وهو صغير السن، وقام بتربيته أمه افنيكي وجدته لوئيس وهما يهوديتان تقيتان، علمتاه الكتب المقدسة (٢ تي ١: ٥؛ ٣: ١٥)، لكنهما لم يختناه، إنما ختنه الرسول بولس فيما بعد حتى لا يغضب عليه اليهود (أع ١٦: ٢).

في رحلته التبشيرية الثانية رأى في الرسول بولس الإيمان والغيرة الروحية (١ تي ١: ١٨)، وقد اشتهر بين الإخوة بالتقوى (أع ١٦: ٢)، فأتخذه رفيقًا له في أسفاره، وصحبه إلى غلاطية ثم إلى تراوس وفيلبي وإلى تسالونيكي. وبقى في بيريه مع سيلا حين اعتزم الرسول مغادرتها فجأة (أع ١٧: ١٤)، ثم عاد فلحق بالرسول بولس في مكدونية وكورنثوس، ويبدو أنه بقي معه أثناء كرازته في كورنثوس، ثم أرسله إلى مكدونية مع أرسطوس قبل رحلته الثالثة (أع ١٩: ٢٢).

ارتبط اسم تيموثاوس مع الرسول بولس في مقدمات الرسائل (٢ كو ١: ١؛ في ١: ١؛ ١ كو ١: ١، ١تس ١: ٢؛ ٢ تس ١: ١؛ فل ١) وفي السلام الختامي في الرسالة إلى رومية (١٦: ٢١).

لقد أُرسل إلى كورنثوس بواسطة الرسول بولس في الاضطرابات التي حدثت قبل كتابة الرسالة الأولى إليهم (١ كو ٤: ١٧)، وأرسل أيضًا بعد كتابتها (١ كو ١٦: ١٠) (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لقد أشار الرسول إلى مساهمة القديس تيموثاوس في خدمة الإنجيل معه في كورنثوس (٢ كو ١: ١٩).

دُبرت أيضًا إرسالية للقديس تيموثاوس إلى فيلبي عند كتابة الرسالة إلى فيلبي (في ٢: ١٩)، وأرسل إلى تسالونيكي لتقديم تقرير قبل كتابة الرسالة الأولى إلى تسالونيكي (١ تس ٣: ٢، ٦).

في الرسالة إلى العبرانيين (١٣: ٢٣) يشير الرسول إلى سجن تيموثاوس والإفراج عنه.

يبدو أنه بعد إطلاق سراح الرسول من سجنه الأول عام ٦٣م، ترك القديس تيموثاوس يرعى شئون أفسس.

من هذا كله يظهر مدى ارتباط القديس بولس بتلميذه، وثقته الشديدة فيه. لذا كثيرًا ما يدعوه "ابني، الابن الصريح، الابن الحبيب، الأمين" (١ تي ١: ١٨؛ ١: ٢؛ ١ كو ٤: ١٧؛ ٢ تي ١: ٢). ويبدو من العبارات الواردة في الرسالتين الموجهتين إليه أن تيموثاوس كان خجولاً بطبعه[14]، كما كان يعاني من ضعف في صحته.
زمان كتابتها

حوالي عام ٦٤ أو ٦٥م بعدما أطلق سراح الرسول من سجنه الأول في ربيع عام ٦٣م. كتبها وهو في طريقه مارًا بمكدونية بعد زيارته لأفسس (١ تي ١: ٣).
غاية الرسالة

أرسل إليه ليوضح له التزاماته الرعوية في أفسس، ويحدثه عن بعض التنظيمات الكنسية الخاصة بالعبادة العامة، وعن سمات الرعاة وواجباتهم، خاصة جهادهم ضد الهرطقات المضللة، وأخيرًا العلاقات الرعوية التي تربط الراعي بك فئات الشعب.
أقسام الرسالة

1. الوصية غاية الرعاية ص١.

2. العبادة الكنسية العامة ص٢.

3. سمات الرعاة ص٣.

4. جهاد الرعاة ص٤.

5. العلاقات الكنسية ص٥.

6. العلاقات الاجتماعية ص٦.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

 تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر تيموثاوس الأولى     تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Icon_minitimeالإثنين ديسمبر 06, 2010 6:13 pm

الاصحاح الاول

الوصية غاية الرعاية

يبدأ الرسول بالبركة الرسولية كعادته، موضحًا للقديس تيموثاوس خطورة عمله الرعوي في أفسس ألا وهو تقديم الوصية الإلهية، وتحذير المؤمنين من أصحاب الخرافات والمباحثات التي ليست للبنيان، معلنًا له عن غاية رسالته خلال حديثه عن نفسه، حاثًا إياه على الجهاد الروحي في الخدمة الإلهية.

1. البركة الرسولية ١ – ٢.

2. غاية الوصية ٣ – 11.

3. الالتزام بالخدمة ١٢ – ١٧.

4. الجهاد في الخدمة ١٨ – ٢٠.
1. البركة الرسولية

"بولس رسول يسوع المسيح

بحسب أمر الله مخلصنا وربنا يسوع المسيح رجائنا،

إلى تيموثاوس الابن الصريح في الإيمان،

نعمة ورحمة وسلام من أبينا والمسيح يسوع ربنا" .

يقدم الرسول في هذه الافتتاحية البركة الرسولية لتلميذه تيموثاوس بما يناسب احتياجاته والظروف المحيطة به، إذ يُلاحظ فيها الآتي:

أ. إذ يكتب إلى خادم ملتزم بالكرازة وسط أتعاب وضيقات أراد الرسول تأكيد أن الخدمة التي يتسلمها ليست من إنسان بل من الله الآب الذي قدم ابنه الوحيد لخلاص البشرية، ومن الابن نفسه أيضًا، إذ يقول: "بولس رسول يسوع المسيح بحسب أمر الله مخلصنا وربنا يسوع المسيح". وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من البداية يرفع بولس نفس تيموثاوس ويشجعها، بقوله أن الله مخلصنا والمسيح رجاؤنا. إننا نتألم كثيرًا، لكن رجاؤنا عظيم! إننا نتعرض لفخاخٍ ومخاطرٍ، لكن الذي يخلصنا هو الله لا الإنسان. مخلصنا ليس بضعيفٍ، إذ هو الله، فلا تهزمنا المخاطر أيًا كانت، ورجاؤنا لن يخيب، إذ هو المسيح.]

إننا كخدام مُرسلين من قبل الله الآب الباذل ابنه عن البشرية والابن المبذول عنا لخلاصنا يليق بنا أن نقدم حياتنا نحن أيضًا مبذولة بالحب من أجل كل نفس.

في وسط الآلام يرى نفسه "رسولاً" أي مبعوثًا أو سفيرًا عن الله، لا عمل له سوى الشهادة له بحياته كما بكرازته، وقد قبل هذا العمل "بأمر الله" (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). وقد جاءت كلمة "أمر" في اليونانية لتعني الأمر الملوكي العسكري الذي لا رجعة فيه، فيلتزم بالعمل لتتميم هذا الأمر الإلهي. لقد صدر الأمر حينما أفرزه الله وهو في بطن أمه (غل ١: ٥)، كما أكده بأمر كنسي، حين قال الروح: "افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه" (أع ١٣ : ٢)، حيث صامت الكنيسة وصلت ووضع التلاميذ الأيدي عليهما.

ب. في هذه الافتتاحية يبرز الرسول دور الآب كمدبر للخلاص، ومُرسل الرسل، وواهب النعم والرحمة والسلام، حتى يؤكد وحدة العمل بين الآب والابن، وكما يقول القديس أمبروسيوس [انظر كيف أن مملكة وأمر الآب والابن هما واحد.] بهذا يهدم الرسول ثنائية الغنوسيين الذين يفرقون بين إله العهد القديم، وإله العهد الجديد. فإن كان الرسول بولس يعشق اسم ربنا يسوع المسيح، حتى أنه يكرره ثلاث مرات في هذه الافتتاحية القصيرة، لكنه يعرف ربنا يسوع بكونه الابن الذي قدمه الآب في محبته لخلاصنا، وخلاله ننعم بكل عطايا الآب ونعمه.

ج. إذ يتحدث عن الآب والابن لا يتحدث عن علاقتهما معًا خارجًا عنا، إنما نعرفهما خلال عملهما معًا من أجلنا ولحسابنا، فيدعو الآب أبانا ومخلصنا المسيح ربنا ورجاءنا... وكأن الرسول لا يريد أن يقدم لنا معرفة لاهوتية نظرية تقوم على الحكمة البشرية العقلية وإنما يريد أن نتعرف عليها كسّر حياتنا وخلاصنا وكمالنا.

د. يكرر الرسول في رسائله الرعوية كلمة "مخلصنا" أكثر من غيرها من الرسائل، ليؤكد للراعي أن عمله الرئيسي هو توجيه الرعية إلى مخلصها، وليوضح ضرورة اهتمام الراعي بالعمل الخلاصي فوق كل عمل آخر.

ه. يدعو القديس تيموثاوس "الابن الصريح في الإيمان"، وقد جاءت كلمة "صريح" في اليونانيةgensios بمعنى الابن الأصيل أو الحقيقي غير الزائف أو الشرعي. فقد ولده الرسول بعد أن تمخض به خلال أتعاب الكرازة بالإنجيل (١ كو ٤: ١٤–١٦؛ في ١٠)، الابن الروحي الذي يعتز به. يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا التعبير بالقول: [لا يوجد بينهما اختلاف، فقد حمل تيموثاوس شبهًا له في الإيمان، وذلك كما يحدث في المواليد، حيث يوجد شبه في كيان (الوالد والمولود منه).]

يعتز الرسول بأبوته الروحية لشعب الله، إذ يقول: "لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح، لكن ليس آباء كثيرون، لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (١ كو ٤: ١٥). هذه الأبوة ليس شرفية، لكنها ملزمة بالمسئولية. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم لأولاده الروحيين: [أني أحبكم حتى أذوب فيكم، وتكونون لي كل شيء: أبي وأمي وإخوتي وأولادي!]

إن كان الرسول هو أب للقديس تيموثاوس، فإن هذه الأبوة الروحية تنبع عن أبوة الله للبشرية كلها، لذا يدعو الله "أبانا". خلال هذه الأبوة يستريح بحق تيموثاوس كما بولس أيضًا، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هنا توجد تعزية، فإن كان الله أبانا فهو يهتم بنا كأبناء، كما يقول المسيح: "أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا؟ (مت ٧ : ٩).]

و. في رسائله غير الرعوية غالبًا ما يكتفي الرسول في البركة الرسولية، أما هنا فيضيف "الرحمة"، وبالعبريةchcsedh، وقد تكررت ما لا يقل عن ١٢٧ مرة في سفر المزامير كموضوع تسبيح الشعب. لقد قدم الله لنا مراحمه ونحن بعد أعداء، فانتشلنا من حالة العداوة إلى البنوة له، ومن الظلمة إلى النور. لذا يليق بنا أن نرد رحمته بالرحمة نحو الآخرين، ويسلك الخدام بروح سيدهم! ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المعلمين محتاجون إلى إدراك مراحم الله وسطالخدمة بسبب الأتعاب التي يعانون منها. هذا وقد سلك الرسول نفسه بالرحمة أيضًا مع تلميذه تيموثاوس، فنراه يشفق عليه، قائلاً: "لا تكن في ما بعد شّراب ماء بل استعمل خمرًا قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة" (١ تي ٥: ٢٣).

ز. يُلقب السيد المسيح "رجاؤنا"، هكذا كانت الكنيسة الأولى تتمسك بهذا اللقب، ليس لأننا نترجى أن ننال شيئًا فيه وإنما أنه نناله هو. ليس فقط باب الرجاء لكنه موضوع الرجاء نفسه، ففيه نلناه كثير كّسر حياتنا وخلاصنا وأبديتنا!

يقول القديس أغناطيوس الأنطاكي: [افرحوا في الله الآب وفي المسيح يسوع رجائنا المشترك.] ويقول القديس بوليكريس: [فلنثبت إذًا في رجائنا وفي ضامن برنا... يسوع المسيح.] ففيه رجاؤنا، حيث ننعم بالطبيعة الجديدة في استحقاقات دمه، بدفننا معه في المعمودية، وفيه ننعم بالنصرة علي الموت وندخل الحياة الأبدية، وفيه ندخل إلى حضن أبيه السماوي لنوجد معه ممجدين.

2. غاية الوصية

أوضح الرسول التزام القديس تيموثاوس بتوجيه المؤمنين في أفسس أن يتجنبوا التعاليم الغريبة والمباحثات الغبية التي ليست للبنيان الروحي، قائلاً له: "كما طلبت إليك أن تمكث في أفسس إذ كنت أنا ذاهبًا إلى مكدونية، لكي توصي قومًا أن لا يعلموا تعليمًا آخر، ولا يصغوا إلى خرافات وأنساب لا حد لها، تسبب مباحثات دون بنيان الله الذي في الإيمان".

جاءت كلمة "طلبت" في اليونانية بمعنى يطلب أو يتوسل باشتياق، وكأن الرسول لا يميل إلى إصدار أوامر إنما يقدم توسلات لتلميذه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لاحظ لطف التعبير، إنه يستخدم أسلوب العبد لا السيد.]

يطالبه أن يوصي قومًا بأفسس ألاَّ يعلموا "تعليمًا آخر"، وفي اليونانية "تعليمًا غير أرثوذكسي"، أي "غير مستقيم"، قاصدًا الذين يفسرون كلمة الحق بانحراف. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم هكذا: [إنه لم يذكر أشخاصًا بأسمائهم حتى لا يدخل بهم إلى خزي أكثر خلال التوبيخ المباشر المكشوف. لقد وجد الرسول في المدينة بعضًا من رسل اليهود البطالين الذين أرادوا أن يلزموا المؤمنين بحفظ الناموس الموسوي، الأمر الذي عالجه الرسول في رسائله الأخرى. هؤلاء كانوا يعملون بلا دافع من ضمائرهم بقدر ما كان دافعهم المجد الباطل، إذ أرادوا أن يكون لهم تلاميذ، وكانوا يحسدون بولس الطوباوي ويقاومونه.]

ما هي الخرافات التي يطالبهم الرسول بعدم الإصغاء إليها؟ ربما قصد ما كتبه للقديس تيطس: "لا يصغون إلى خرافات يهودية، ووصايا أناس مرتدين عن الحق" (تي ١: ١٤). هذا بالنسبة للذين هم من أصل يهودي، أما بالنسبة للذين هم من أصل أممي، فيحذرهم من الأساطير الخرافية التي اتسمت بها الثقافات اليونانية والرومانية والفارسية الخ.، حيث تروي قصصًا عن نزول الآلهة إلى هذا العالم لتتزوج من بنات الناس وينشئوا بذلك فرعًا يمتد أصله إلى السماء.

وما هي الأنساب؟

أولاً:ربما قصد بها الأنساب اليهودية، فكان البعض ممن قبلوا الإيمان المسيحي يعتزون بأنهم من أصل كهنوتي أو من سبط يهوذا الخ.، فيسقطون في المجد الباطل.

ثانيًا: كان في العالم الأممي القديم اهتمام خاص بالأنساب، نذكر على سبيل المثال اسكندر الأكبر، صُنعت له شجرة نسب تعود إلى آشيل Achilles واندروماكAndromache من جانب وإلى برسسPerseus وهرقلHerclues من جانب آخر. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن اليونان كانوا يعددون آلهتهم خلال أنساب معينة.

ثالثًا: يرى القديس إيريناؤس والعلامة ترتليان أن الأنساب هنا تشير إلى بذور الهرطقات الغنوسية التي اعتقد بعضهم أن الكائن الأعظم قد انبثق عنه كائن، وهذا انبثق عنه ثالث، وهكذا حدثت عدة انبثاقات تسمى الأيونات، هذه التي ضعفت من نسب إلى آخر، وان الإنسان يبلغ إلى الكائن الأعظم خلال هذه الوسائط بواسطة المعرفة gnosis.

أما قول الرسول عن هذه الأمور أنه "لا حد لها" قصد أنها بلا نهاية أو بلا غاية أو هدف يبلغه الإنسان خلالها.

والآن، ماذا يعني الرسول بقوله: "مباحثات دون بنيان الله الذي في الإيمان"؟ هل يرفض الرسول البحث والمناقشة في الأمور الإيمانية؟

لقد اهتم الغنوسيون بالمعرفة ليست النابعة عن حب الحق والمتسمة بروح متواضع تقوي، وإنما "المعرفة" المتعجرفة التي تهتم بالمباحثات الجافة العقيمة التي بلا حياة. يهدفون إلى المجادلات لأجل ذاتها، بعيدًا عن الحياة التقوية. فاحتلت المعرفة موضع الإيمان كطريق الخلاص. هذه هي "المباحثات دون بنيان الله الذي في الإيمان"، أما المباحثات التي للبنيان فهي التي تدخل تحت دائرة الإيمان، تصدر عن نفس متواضعة تطلب الحق لا للجدال والمناقشة وإنما لتحيا به وتمارسه.

يقول القديس إيريناؤس عن هؤلاء المعلمين: [إنهم يفسدون تعاليم الله، ويثبتون أنفسهم كمفسرين أشرار لكلمة الإعلان الصالحة، يحطمون إيمان الكثيرين بانتزاعهم عن الإيمان تحت ستار المعرفة... يخدعون البسطاء بالكلمات المنمقة والشكل الحسن، محطمين إياهم بسماجة.] ويتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن المباحثات الغبية قائلاً: [يلزمنا إلاَّ ننشغل بالمباحثات، لأننا إذ نسأل لا يكون للإيمان موضع، إذ الإيمان يعطي للمباحثات هدوءً. لكن لماذا يقول السيد: "اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم" (مت ٧: ٧)؟ وأيضًا "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية" (يو ٥: ٣٩)؟ الطلب يعني الصلاة والرغبة الشديدة. فهو يأمر بتفتيش الكتب لا للدخول في أتعاب المباحثات وإنما لإنهائها، بالتأكد من معناها الحقيقي، فلا نبقى بعد في مباحثات مستمرة وإنما نقطع فيها.]

ما نريد تأكيده أن الإيمان يرفض المباحثات الغبية، لكنه يلتقي مع المباحثات البناءة التي تقوم بروح الإخلاص والشوق الحقيقي لمعرفة الحق والتمتع به تحت قيادة روح الله القدوس. وقد قامت مدرسة الإسكندرية المسيحية منذ بدء انطلاقها تصالح الإيمان مع الفلسفة، وتزوج القلب مع الفكر.

يعالج القديس بولس حب الدخول في المباحثات الغبية التي يثيرها الهراطقة بقصد الكبرياء والتمتع بالسلطة، بتحديد هدف الرعاية، ألا وهو تقديم الوصية الإنجيلية بروح الحب الخالص العملي، إذ يقول: "وأما غاية الوصية فهي المحبة من قلب طاهر، وضمير صالح، وإيمان بلا رياء". خارج الحب تفقد الوصية وجودها وينحرف المعلمون عن رسالتهم، فتتحول إلى مباحثات غبية تسبب انشقاقات في الجماعة. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إذ لا يحب الناس يحسدون من لهم صيت حسن، مشتاقين أن ينالوا السلطة، وبحبهم للسلطة يقدمون الهرطقات.]

"المحبة" هي غاية الوصية التي يكرز بها الرسل وكل خدام الكلمة، هذه التي تشبع القلب، وتحدد هدف الإنسان، فلا يرتبك بالمناقشات الباطلة، ولا يعطي لنفسه سماحًا أن تهتم بالمباحثات غير البناءة. يحدد الرسول سمات هذه المحبة، بأنها تصدر عن "قلب طاهر، وضمير صالح، وإيمان بلا رياء".

"وأما غاية الوصية فهي المحبة من قلب طاهر، وضمير صالح، وإيمان بلا رياء"(1 تي 1:٥)...لكن أي نوع من المحبة يتحدث عنها الرسول؟ المحبة الخالصة التي لا تقوم على كلمات مجردة، إنما تنبع عن الميل الداخلي والوجدان والعاطفة، إذ يقول: "من قلب طاهر..." فالحياة الشريرة تجلب انقسامات، "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور" (يو ٣: ٢٠). حقًا توجد صداقات حتى بين الأشرار، فالقتلة واللصوص يحبون بعضهم البعض، لكن ليس من ضميرٍ صالح ولا من قلبٍ طاهر، إنما قلب دنس، وليس من إيمانٍ بلا رياء وإنما من إيمانٍ باطلٍ مراءٍ... فالإيمان يشير إلى الحق... ومن يؤمن بالله حقًا لا يقدر أن يبتعد عنه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لقد أحبت امرأة فوطيفار الشاب يوسف لكن بقلب غير طاهر، فلم تنفذ الوصية، إذ كانت تحب شهوات نفسها... وإذ حرمها يوسف ألقت به في السجن. وأحب أمنون أخته ثامار جدًا حتى مرض، وعندما لم تشبع شهواته أبغضها جدًا وجعلها في عارٍ. لذا يصر الرسول أن تكون المحبة "من قلب طاهر"، تنبع عن قلب تقدس بسكنى الله القدوس فيه، وضمير صالح أي نية أو إرادة صالحة فلا يداهن ولا يعمل بخبث، وإيمان بلا رياء... أي تنبع محبته للإخوة خلال إيمانه بالله وحبه له. وكما يقول القديس أغسطينوس: [لا يوجد حب حقيقي به نحب الآخرين ما لم نحب الله. كل إنسان يحب قريبه كنفسه، إن كان محبًا لله، لكنه إن لم يحب الله فلا يحب نفسه.] في اختصار نقول أنه بالحب الحقيقي لله خلال إيماننا به وسكناه فينا يحب كل منا نفسه في الرب، كهيكلٍ مقدس له، عندئذ يقدر أن يحب أخاه كنفسه! هذا هو الحب القادر أن يشبع القلب والفكر وكل الأحاسيس، فلا يجد الإنسان مجالاً للمباحثات الفارغة!

يكمل الرسول "الأمور التي إذ زاغ قوم عنها، انحرفوا إلى كلام باطل". حقًا إذا زاغ إنسان عن الحب الإلهي الصادق تتحول حياته الداخلية إلى فراغ بلا شبع، فيتحول عن الحق إلى الكلام الباطل والمباحثات التي بلا هدف، لعلها تغطي العجز الداخلي. يتحول الإنسان عن الحياة التقوية والشهادة العملية إلى شهوة التعليم وبلوغ السلطة بلا فهم ولا حكمة، لهذا يكمل الرسول: "يريدون أن يكونوا معلمي الناموس وهم لا يفهمون ما يقولون ولا يقررونه". ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا النص قائلاً: [نجد هنا سببًا آخر للشر، وهو شهوة السلطة. لذلك يقول المسيح: "أما أنتم فلا تدعوا سيديRabbi" (مت ٢٣: ٨)، كما يقول الرسول: "لا يحفظون الناموس... إنما لكي يفتخروا في جسدكم" (غل ٦: ١٣)، أي أنهم يطلبون الكرامة دون أن يهتموا بالحق. "وهم لا يفهمون ما يقولون ولا يقرونه". إنه يوبخهم إذ لا يعرفون غاية الناموس ولا الوقت اللازم لنوال السلطان. لكن إن كان هذا عن عدم فهم، فلماذا تُحسب عليهم خطية؟ لأن ما يحدث لا ينبع عن اشتياق فيهم أن يكونوا معلمين للناموس، وإنما عن عدم إيجاد الحب. جهلهم ذاته نابع عن ذات السبب، فالنفس التي تتدنس بالأمور الجسدانية تنطمس فيها نقاوة الرؤية، وبسقوطها عن الحب تسقط في كثرة الخصام وتصاب عينا ذهنها بالعمى... ولا تقدر أن يكون لها الحكم الحق".]

إذن في اختصار، انحرافهم عن الحب الحقيقي، دخل بهم إلى حالة من الفراغ الداخلي، أرادوا معالجته بالظهور كمعلمين للناموس ومدافعين عنه مع أنهم بعيدون عن غايته الحقيقية. وصارت حياتهم تتسم بكثرة المناقشات والمجادلات، ليس رغبة في البلوغ بأنفسهم وبغيرهم للحق، وإنما من أجل تمتعهم بالسلطة وحب الرئاسة. ولئلا يفهم القارئ أن الرسول يتهم الناموس في ذاته أو التعليم به كأمرٍ غير صالح، أكد: "ولكننا نعلم أن الناموس صالح، إن كان أحد يستعمله ناموسيًا". فالخطأ ليس في الناموس، وإنما في إساءة استعماله. يشبههم القديس أغسطينوس بابنتي لوط اللتين أساءتا التصرف مع أبيهما فأنجبا لنا موآب وبني عمون الذين يشيران إلى الأعمال الشريرة، وكانا هما ونسلهما سرّ متاعب لا حصر لها لشعب الله. كما يقول القديس في نفس الموضع: [لم تصدر المتاعب الرئيسية للكنيسة إلاَّ عن الذين يسيئون استخدام الناموس.]

ظن بعض المسيحيين الذين من أصل يهودي أن الرسول بولس يتحدث ضد الناموس (أع ٦: ١٣-١٤)، لهذا كان يؤكد بكل وضوح أنه صالح ومقدس (رو ١٢: ١٢) إن استعملناه ناموسيًا، أي أدركنا أن "غاية الناموس هي المسيح للبرّ لكل من يؤمن" (رو ١٠: ٤)، أو كما يقول: "كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان" (غل ٣: 2٤)، إن قبلنا ابن الله "مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني" (غلا ٤: ٤-٥). لقد أخذنا الناموس لا لندخل في مباحثات غبية، وإنما لكي يدين الخطية العاملة فينا، فنقبل السيد المسيح مبرر الخطاة، يحررنا من حكم الموت الذي صار علينا بالناموس. لهذا يقول الرسول: "فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" (رو ٦: ١٤)، "لأني مت بالناموس لأحيا لله" (غلا ٢: ١٩)، "ولكن قبلما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس، مغلقًا علينا إلى الإيمان العتيد أن يعلن، إذ قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان، ولكن بعدما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب" (غل ٣: ٢٣). "ولكن إذا انقدتم بالروح، فلستم تحت الناموس" (غلا ٥: ١٨).

يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن دور الناموس، قائلاً: [إن استخدمت الناموس بطريقة سليمة، يقودك إلى المسيح. فإن كان هدفه هو تبرير الإنسان، لكنه يعجز عن تحقيق ذلك، فإنه يقدمك إلى القادر على تحقيق ذلك.] لكن إذ ندخل إلى السيد المسيح، وننعم بالحياة المعطاة لنا فيه بالروح القدس، إنما ننعم بما عجز عن تقديمه لنا بالناموس، فلا حاجة للعودة إلى السقوط تحت الناموس من جديد. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن الفارس يستخدم اللجام في ضبط الفرس في البداية، لكن متى سلك بانضباط فلا حاجة للجام. والطفل يتعلم الحروف الأبجدية لكن متى صار ماهرًا في القراءة فلا عوز للعودة إلى الأبجدية. هذا هو استعمال الناموس ناموسيًا، أي تحقيق هدفه فينا فنعلو على الناموس ولا نبقى تحته. "الذين هم فوق الناموس ليسوا بعد في مدرسة الناموس، إنما يحفظونه بدخولهم إلى درجة أعلى، ويتممونه خلال ميلهم للفضيلة، وليس عن خوف... فمن يعيش فوق الناموس يستعمله ناموسيًا.] بمعنى آخر استخدام الناموس ناموسيًا هو الدخول في الحياة الفاضلة في المسيح يسوع، فلا نبقى تحته، ولا يتحول في حياتنا إلى مباحثات ومجادلات نظرية. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:[إن كان أحد يتممه بتصرفاته يكون قد تممه ناموسيًا، إنما يستخدمه لنفعه الخاص.]

بهذا نفهم الناموس أنه مُقدم للاثمة والأشرار، لكي يقودهم إلى السيد المسيح كمخلصٍٍ لهم، يهبهم الحياة الفاضلة فيه، ويرتفع بهم إلى ما فوق الناموس. لهذا يقول الرسول: "عالمًا هذا أن الناموس لم يُوضع للبار، بل للاثمة والمتمردين، للفجار والخطاة، للدنسين والمستبيحين، لقاتلي الآباء وقاتلي الأمهات، لقاتلي الناس، للزناة لمضاجعي الذكور، لسارقي الناس، للكذابين الحانثين، وإن كان شيء آخر يقاوم التعليم حسب إنجيل مجد الله المبارك الذي اؤتمنت أنا عليه".

الشرور المذكورة هي أبشع أنواع الخطية المفسدة للنفس التي تقاوم الحياة المقدسة في الرب حسب إنجيل مجده. وقد جاء الناموس من أجل مرتكبيها ليتعرفوا على عجزهم الذاتي التام، فيقبلوا على السيد المسيح ليس كغافر لهم هذه المعاصي المرة فحسب، وإنما ليدخل بهم إلى "مجد الله المبارك" خلال إنجيل خلاصه المجاني. هذا الإنجيل المجيد الذي أؤتمن عليه الرسول يُقدم للأشرار خلال الناموس الذي فضحهم وأعلن بؤسهم.

ويرى القديس أمبروسيوس أن الناموس هام ليس للأبرار بل للأشرار، لأن الأولين يمكن أن ينسحبوا للحياة الفاضلة خلال ناموس ذهنهم، أما الأشرار فيردعهم الناموس خلال الخوف من العقوبة.

من جانب آخر، إن كان الرسول يكتب إلى تلميذه تيموثاوس أن موضوع كرازته هو الوصية التي غايتها "المحبة"، فإن هذا الحب يفتح قلبنا لنرى الناموس مقدمًا لأشر الطبقات وأدنسها، ليدخل بها إلى مجد إنجيل الله. وكأن الرسول يوصي تلميذه بالحب لكل إنسان، خاصة الأشرار حتى يقتنصهم من شرهم إلى الحياة الإنجيلية المباركة. لا يقول هنا "الأشرار" بل يحدد الأشرار هكذا:

الأثمة والمتمردون، أي كاسرو الوصية عن عمدٍ، وليس عن ضعفٍ أو في جهلٍ...

الفجار، أي محبو الخطية، الذين يرتكبون آثامهم بجسارة في غير حياءٍ أو خجلٍ!

المستبيحون، أي الذين يشربون الإثم كالماء، دون أدنى إثارة لضمائرهم!

قتلة الآباء والأمهات، يمثلون أقسى أنواع القلوب، إذ هم أشر من الوحوش الكاسرة التي لا تؤذي والديها!

مضاجعو الذكور، أدنس أنواع الزنا والنجاسة، يصنعون النجاسة خلافًا للطبيعة!

سارقو الناس، وهم أشر اللصوص، يخطفون البشر ليبيعوهم كعبيد (خر ٢١: ٦؛ تث ٢٤: ٧).

الحانثون، الذين يرتكبون ألعن أنواع الكذب.

مقاومو التعليم الصحيح، هؤلاء الذين لا يصنعون الشر فحسب، وإنما يقاومون الحق.

من أجل هؤلاء وأمثالهم قدم الله ناموسه، ليدخل بهم إلى الشعور بالحاجة إلى مخلصهم، فكم بالحري يليق بنا أن نفتح قلوبنا بالحب نحوهم، دون الاستهانة بهم أو اليأس من خلاصهم.

3. الالتزام بالخدمة

إن كانت الوصية غايتها المحبة، هذه التي تفتح قلوبنا بالحب للجميع، فيهتم الراعي بالآثمة والفجار والمستبيحين الخ. فإن هذا العمل ليس فضلاً من جهة الراعي نحو الرعية، إنما أشبه برد الدين، إذ يقابل الراعي محبة الله له بحبه لشعب الله. هذا هو سرّ التزامنا بالخدمة، أنه أحبنا أولاً، فنلتزم أن نحبه في أولاده.

يقدم الرسول بولس نفسه مثلاً عمليًا لعمل الله في حياته، قائلاً: "وأنا أشكر المسيح يسوع ربنا الذي قواني، أنه حسبني أمينًا، إذ جعلني للخدمة، أنا الذي كنت قبلاً مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا، لكنني رُحمت، لأني فعلت بجهلٍ في عدم إيمان". يقدم الرسول بولس تسبحة شكر لله الذي لما رآه يهوي في الموت بتجديفه واضطهاده كنيسة الله وافترائه، لم ينقذه فحسب، وإنما أقامه خادمًا مؤتمنًا على الحق. لم يغفر له ماضيه فحسب، وإنما أقامه سفيرًا له. كثيرًا ما كان الرسول يعلن ما كان عليه قبلاً كمضطهدٍ ومفترٍ (أع ٢٢: ٧)، ليعلن تفاضل نعمة الله المجانية عليه، منكرًا كل استحقاق شخصي في قيامه بالخدمة، ناسبًا كل الفضل لله، ولكن دون تجاهل لحرية الإرادة الإنسانية التي يقدسها الله. إنه مدين كل الدين لنعمة الله التي تفاضلت جدًا فأقامته للخدمة، إذ يقول "قواني" أي وهبني "قوته الإلهية" لكي أرد الدين بالحب نحو الذين لم يختبروا بعد عمله الخلاصي، ولكي لا أيأس قط من خلاص إنسان! يقول القديس أغسطينوس: [إذ نال بولس عفوًا عن جرائم عظيمة هكذا، يليق ألاَّ ييأس أحد من أي خطية، فإنها تُغفر له!]

لقد أدرك الرسول بولس أنه قد "رُحم"، فما يناله من نعم هو من قبيل مراحم الله المجانية... وكما يقول القديس أغسطينوس: [إنه يقول بأنه رُحم ليس خلال استحقاقاته الذاتية، وإنما خلال مراحم الله.] ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لاحظ كيف يشكر الله، إذ يعرف أن حتى ما يفعله من جانبه، إنما هو فضل من الله الذي جعله أناءً مختارًا.]

في تواضع يعترف الرسول بولس أنه كان مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا، فلماذا دعاه الله للخدمة دون غيره من المجدفين والمضطهدين والمفترين؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم: [لأن ما فعلوه لم يكن بجهل، وإنما بإرادتهم عن معرفة كاملة. توجد شهادة بذلك، إذ يقول الإنجيلي: "ولكن مع ذلك آمن به كثيرون من الرؤساء أيضًا غير أنهم بسبب الفريسيين لم يعترفوا، لئلا يصيروا خارج المجمع، لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله" (يو ١٢: ٤٢-٤٣). مرة أخرى قال لهم المسيح: "كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض؟" (يو ٥: ٤٤). بلي، قال اليهود أنفسهم: "انظروا إنكم لا تنفعون شيئًا، هوذا العالم قد ذهب وراءه" (يو ١٢: ١٩). هكذا كانوا دائمًا محبين للسلطة...، أما بولس فأين كان حينئذ؟ قد يقول قائل أنه كان عند قدمي غمالائيل، ولم يكن له نصيب بين جموع المتآمرين ضد يسوع، لأن غمالائيل لم يظهر كإنسان طموح! إذن كيف ارتبط بولس بالجموع (المقاومة)؟ لقد شاهد التعليم ينمو ويسود، إذ صار مقبولاً على نطاق واسع. ففي حياة المسيح رافقه التلاميذ، وبعد ذلك صار معلمو اليهود مهجورين تمامًا، لذلك قام بولس ضد التعليم ليس كبقية اليهود بدافع حب السلطة وإنما بسبب الغيرة. ماذا كان الدافع لرحلته إلى دمشق؟ لقد ظن أن التعليم مؤذٍ، وكان يخشى من انتشاره في كل موضع. أما اليهود فلم يكن همهم الجموع إنما حب السلطة التي تأثرت بأعمالهم.]

ما كان يُحزن قلب بولس هو أن البسطاء قد تعرفوا على السيد المسيح وقبلوا إنجيله، حتى العشارين تمتعوا به، أما هو فقضى غالبية عمره يدرس الناموس، لكن في جهالة، إذ اهتم بحرفه دون غايته، لكن مراحم الله انتشلته إلى الاستنارة!

يقول الرسول: "وتفاضلت نعمة ربنا جدًا مع الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع". لم تقف مراحم الله عند عدم معاقبته على تصرفاته الماضية من تجديف واضطهاد وافتراء، وإنما رفعته إلى حالة "الدخول في المسيح يسوع" ليصير فيه ابنًا لله ووارثًا له. هذا ما شعر به الرسول أمام نعمة الله المتفاضلة جدًا، والفائقة لكل رحمة، لذا يكمل، قائلاً: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا". هذه هي نعمة الله التي انتشلت أول الخطاة!

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا يرى أحد سجينًا قد صار في القصر ويشك في نوال الرحمة، هكذا كان حال بولس، مقدمًا نفسه مثالاً. فإنه لم يخجل من أن يدعو نفسه خاطئًا، بل بالحري يبتهج بذلك، مقدمًا الدليل الحسن على معجزة الله معه، هذا الذي حسبه أهلاً لحنوٍ فائق. هنا يدعو نفسه خاطئًا بل أول الخطاة، مع أنه في موضع آخر يؤكد "أنه من جهة البرّ الذي في الناموس بلا لوم" (في ٣: ٦) فبالنسبة للبرّ الذي هو من عمل الله، البرّ الذي يطلبه بحق، يُحسب حتى الأبرار في الناموس أنهم خطاة، "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رو ٣: ١٣). لذا حينما يتكلم عن بره يقول: "البرّ الذي في الناموس". إنه كمن يطلب ثروة فيظن في نفسه أنه غني، لكنه متى قارن نفسه بكنوز الملوك يحسب نفسه فقيرًا جدًا وأول الفقراء. هكذا أيضًا إذا قورن حتى الأبرار بالملائكة فإنهم يحسبون خطاة، وإن كان بولس الذي يعمل البرّ الذي في الناموس يُحسب أول الخطاة فأي إنسان يُدعى أنه بار؟ إنه لم يفعل ذلك ليدين حياته ويحكم عليها أنها دنسة، وإنما بمقارنة برّه ببرّ الله يظهر أنه غير مستحق شيئًا، ليس هذا فقط وإنما أراد أن يؤكد بأن الذين يتمتعون بهذا هم الخطاة.]

"لكنني لهذا رُحمت،

ليظهر يسوع المسيح فيّ أنا أولاً كل أناة،

مثالاً للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية".

يعلقالقديس يوحنا الذهبي الفمعلى هذه العبارة بقوله:

[رُحم حتى لا ييأس أي خاطئ من نوال الرحمة، إنما يشعر كل أحد بتأكيد نواله عطية مشابهة. إنه تواضع متزايد، إذ يدعو نفسه أول الخطاة ومجدفًا ومضطهدًا وغير مستحق أنه يدعى رسولاً، مقدمًا نفسه مثالاً. افترض مدينة مزدحمة سكانها جميعهم أشرار، بعضهم شرهم متزايد والآخر شرهم أقل، فإن الكل يستحق الإدانة. فإن كان من بينهم إنسان يستحق عقوبة أكثر من الكل إذ فعل كل أنواع الشر، وقد أعلن الملك أنه يود العفو عن الجميع ربما لا يصدقوه مثلما لو عفى بالفعل عمن فعل الشر أكثر من الجميع. بهذا لا يطرأ أدنى شك لدي أحد.

هذا ما يقوله بولس: إن الله أراد أن يقدم تأكيدًا كاملاً للغفران عن العصاة، فاختاره كموضوع رحمة الله بكونه أول الخطاة. بنواله الرحمة يبرهن أنه لن تعود بعد توجد دينونة على غيره. إنه كمن يقول: إن كان الله يعفو هكذا فإنه لن يعاقب أحدًا. إن كنت أنا قد خلصت، فلا يشك أحد في الخلاص. لاحظ تواضع هذا الطوباوي إذ لم يقل: "ليظهر فيّ الأناة" بل "كل أناة"، وكأنه يقول: لا حاجة لظهور أناة أعظم مما تظهر في حالتي أنا، فليس عن خاطئ يحتاج إلى عفو الله وكل أناته وليس جزءًا منها مثلي!]

"وملك الدهور الذي لا يفنى ولا يُرى،

الإله الحكيم وحده،

له الكرامة والمجد إلى دهر الدهور. آمين".

هذهالمراحم الإلهية التي رفعت معلمنا بولس الرسول من تحت العقوبة إلى مبعوث الكنيسة ورسولها، تمجد الله ملك الدهور. حقًا لقد تمجد الابن بهذا العمل الإلهي، وتمجد الآب كمدبر لهذا الخلاص. وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي: [من أجل هذه الأمور لا نمجد الابن وحده بل والآب أيضًا... يتمجد الآب بالأكثر عندما يصنع الابن أمورًا عظيمة.]

كيف نمجد الله ونكرمه؟ إننا لا نكرمه بكلمات التسبيح مثلما نكرمه بالعمل، خلال تقديسنا روحًا وجسدًا في ابنه يسوع المسيح بواسطة روحه القدوس. ليس فقط بتقديسنا نحن، وإنما أيضًا بالصلاة مع العمل الدائم لأجل تقديس كل إنسان روحًا وجسدًا. فإن كان الله قد تمجد في شاول الطرطوسي إذ رُحم وصار رسولاً للحق، فإنه بالحق تمجد بالأكثر بدخول الكثيرين خلاله إلى الحياة الجديدة وتمتعهم بروحه القدوس.

4. الجهاد في الخدمة

بعدما تحدث الرسول مع تلميذه عن الالتزام بالخدمة الرسولية، كدينٍ يوفيه لله الذي أحبه وأنقذه، وعلامة حب صادقة وارتباط بالوصية، فإنه يختم حديثه في هذا الأصحاح عن "الجهاد والخدمة"، إذ يقول: "هذه الوصية أيها الابن تيموثاوس أستودعك إياها، حسب النبوات التي سبقت عليك، لكي تحارب فيها المحاربة الحسنة".

يبدو أن البعض قد تنبأ عن القديس تيموثاوس أثناء عماده أو عند بدء خدمته والتزامه بالعمل الرعوي. لهذا إذ يقدم له الرسول الوصية الخاصة بالحب العملي الرعوي، لا يقدمها له من عنده، بل من الله نفسه الذي دعاه للخدمة. موضوع هذه الوصية هي أن يحارب روحيًا المحاربة الحسنة، أي يجاهد في الخدمة كمن هو في جيش روحي، لينقذ كل نفس من أسر الخطية. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن في الجيش لا يخدم الكل بنفس الطاقة، إنما كل يعمل حسب موقعه، هكذا في الكنيسة يعمل واحد كمعلم وآخر كتلميذ وثالث كفردٍ من الشعب.]

ماذا يعني الرسول بالمحاربة الحسنة التي يلتزم بها القديس تيموثاوس؟

لا يكفي أن يجاهد في خدمته، وإنما يلزمه أن يجاهد حسنًا، أي يقدم الوصية كما يليق، يقدم وصية الله الممتدة في العهد القديم كما في العهد الجديد بروحٍ واحد وفكرٍ واحد. يقول القديس إكليمنضس السكندري أن ما ذكره الرسول هنا عن النبوات لا يخص القديس تيموثاوس شخصيًا، إنما هي نبوات العهد القديم عن الكرازة بالعهد الجديد. وكأن ما يفعله القديس تيموثاوس في خدمته إنما يحقق هذه النبوات الخاصة بالكرازة بالإنجيل.

إذ يتحدث الرسول عن الجهاد الروحي للخادم يربط الحياة الداخلية الخاصة بالخادم بالعمل الكرازي دون انفصال، إذ يقول له: "ولك إيمان وضمير صالح، الذي إذ رفضه قوم انكسرت بهم السفينة من جهة الإيمان أيضًا، الذين منهم هيمينايس والاسكندر، اللذان أسلمتهما للشيطان لكي يؤدبا، حتى لا يجدفا".

إن كان في كل وقد يوجد مقاومون للحق كما حدث في أيام موسى وهرون حيث ظهر الساحران، فإن الراعي الناصح يلزمه وهو يسند شعب الله ضد المقاومين للتعليم الصحيح ألا يفقد حياته الروحية، إنما ليكن له "إيمان وضمير صالح". يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارة الرسولية السابقة هكذا:

[من أراد أن يكون معلمًا يلزمه أولاً أن يعلم نفسه. وكما أن الذي لم يكن يومًا ما جنديًا لا يقدر أن يكون قائدًا هكذا المعلم أيضًا (يلزمه أن يكون تلميذًا).] لهذا يقول في موضع آخر: "بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا مرفوضًا" (١ كو ٩: ٢٧).

يقول: "لك إيمان وضمير صالح" حتى تقدر أن تدبر لآخرين. عندما نسمع هذا لا نستخف بوصايا رؤسائنا حتى وإن كنا نحن أنفسنا معلمين، لأنه إن كان تيموثاوس الذي لا نستحق نحن جميعًا أن نُقارن به قد تقبل وصايا وكان يتعلم مع أنه كان معلمًا فكم بالحري يجب علينا نحن أن نقبل ذلك؟]

ويقول الأسقف أمبروسيوس: [إنني أرغب في الجهاد والتعلم حتى أكون قادرًا على التعليم، لأنه يوجد سيد واحد (الله) الذي وحده لا يتعلم ما يعلّمه للجميع.]

أما وقد رفض بعض المعلمين الإيمان والضمير الصالح فقد "انكسرت بهم السفينة من جهة الإيمان أيضًا". هذا أمر طبيعي، فإن الحياة الفاسدة تدفع حتى المعلمين للانحراف عن الإيمان المستقيم ويسقطوا في هرطقات وبدع، وبالتالي تنكسر بهم السفينة من جهة الإيمان. بمعنى آخر، كما تلتحم الحياة الروحية الفاضلة في المسيح بالإيمان المستقيم ليحيا الإنسان برجاء الفرح، هكذا تلتحم الحياة الفاسدة بالمباحثات الغبية البعيدة عن الإيمان المستقيم لتنكسر السفينة، ولا يجد المسيحي له ملجأ. وكأن الحياة هي وحدة واحدة متكاملة لا تنفصل فيها التقوى عن استقامة الحياة، وبالتالي عن الرجاء المفرح، كما لا ينفصل الفساد عن الانحراف الإيماني والسقوط في اليأس. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان أحد ينحرف عن الإيمان لا يكون له ثبات، فيسبح هنا وهناك حتى يفقد نفسه في الأعماق.]

يقدم لنا الرسول مثالين، قائلاً: "الذين منهم منهم هيمينايس والاسكندر، اللذان أسلمتهما للشيطان لكي يؤدبا، حتى لا يجدفا". أما هيمينايس فهو المذكور في (٢ تي ٢: ١٧)، واصفًا إياه أنه قد زاغ عن الحق قائلاً إن القيامة قد حصلت، فيقلب إيمان كل قوم. قدم تعاليمه المضللة بإساءة استخدام كلمات السيد المسيح عن قيامة النفس من موت الخطية بالإيمان به، منكرًا قيامة الجسد في اليوم الأخير. أما الاسكندر فغالبًا هو المذكور في (٢ تي ٤: ١٤) "إسكندر النحاس أظهر لي شرورًا كثيرة، فليجازيه الرب حسب أعماله". هذان الرجلان رفضا صوت الله لكبرياء قلبيهما، فسقطا في الحياة الشريرة، وانحرفا عن الإيمان كثمرة هذه الحياة الفاسدة. لذا رأى الرسول بولس أن يسلمهما للشيطان ليس للانتقام منهما، وإنما لتأديبهما. ربما قصد بذلك الحكم عليهما بالقطع من شركة الكنيسة المقدسة حتى لا يُفسدا أفكار الإخوة، وفي نفس الوقت ربما بحرمانهما من الشركة يرجعان إلى الله بالتوبة. هذا ما حكم به الرسول على مرتكب الشر مع امرأة أبيه في كورنثوس، إذ يقول: "باسم ربنا يسوع المسيح إذ أنتم وروحي مجتمعون مع قوة ربنا يسوع المسيح، أن يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد، لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع، ليس افتخاركم حسنًا، ألستم تعلمون أن خميرة صغيرة تخمر العجين كله؟" (١ كو ٥: ٤–٦)

يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: [لكن كيف يعلمهما الشيطان ألا يجدفا؟ هل يقدر أن يعلم غيره داك الذي لم يعلم نفسه، إذ لا يزال هو مجدفًا؟ ويجيب: إنه لا يعلمهما بل كما قيل "لكي يؤدبا"، إنه لا يقوم بعمل (التعليم) وإن كانت هذه هي النتيجة... فكما أن الجلادين وإن كانوا هم أنفسهم موسوسين بجرائم لا حصر لها يكونون سببًا في إصلاح الغير، هكذا يكون الأمر بالنسبة للشيطان.]

وكما يقول العلامة ترتليان: [بالتأديب يتعلما ألا يجدفا، فقد أعطى لخدام الله السلطان لتسليم الشخص للشيطان مع أن الشيطان نفسه ليس له سلطان علينا من ذاته.

ويقول القديس چيروم: [كأن الشيطان جلاد يستخدمه الرب فيعني الرسول أن الخطاة يسلمون للشيطان لتأديبهم بواسطته حتى يرجعون إلى الله.

يلاحظ أن الرسول يقول "لكي يؤدبا"، فهو لا يبغي العقوبة للانتقام، وإنما يطلب التأديب للإصلاح، لهذا وإن بدا قاسيًا على مرتكب الخطية مع امرأة أبيه (١ كو ٥: ٤–6) لكنه إذ قُطع هذا العضو عن الشركة المقدسة، وأظهر حزنًا شديدًا بالتوبة خشي عليه الرسول من اليأس، فأسرع يكتب إلى أهل كورنثوس قائلاً: "إن كنت أحزنكم أنا، فمن هو الذي يفرحني إلاَّ الذي أحزنته... هكذا يكفيه هذا القصاص الذي من الأكثرين، حتى تكونوا بالعكس تسامحونه بالحري وتعزونه لئلا يُبتلع مثل هذا من الحزن المفرط، لذلك أطلب أن تمّكنوا له المحبة" (٢ كو ٢: 2، ٧-٨). ويوضح الرسول غاية التأديب بقوله: "لذلك أكتب بهذا وأنا غائب لكي لا أستعمل جزمًا وأنا حاضر حسب السلطان الذي أعطاني إياه الرب للبنيان لا للهدم" (٢ كو ١٣: ١٠)... ويعلن الرسول كيف لا يشتاق إلى التأديب بل الترفق، إذ يقول: "ماذا تريدون: أبعصا آتي إليكم أم بالمحبة وروح الوداعة؟" (١ كو ٤: ٢١).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

 تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر تيموثاوس الأولى     تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Icon_minitimeالإثنين ديسمبر 06, 2010 7:27 pm

الاصحاح الثانى

العبادة الكنسية العامة

بعدما كشف الرسول لتلميذه عن مفهوم الوصية كموضوع الرعاية لكي يتسع قلبه بالحب لخدمة الجميع خاصة الأشرار، فلا ينشغل بالمباحثات الغبية، بل بخدمة الحب العملي، باذلاً كل الجهد كجندي روحي صالح، بدأ يحدثه عن العبادة الكنسية الجماعية.

1. الصلاة من أجل كل البشرية ١ – ٧.

2. إرشادات للرجال في العبادة ٨.

3. إرشادات للنساء في العبادة ٩ – ١٥.

1. الصلاة من أجل كل البشرية

"فاطلب أول كل شيء أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس".

يكشف الرسول بولس عن رسالة الكنيسة، سواء على المستوى المسكوني أو المحلي، أو على مستوى كل عضوٍ فيها. فإن الكنيسة ليست مؤسسة تنافس العالم فيما له، لكنها أولاً وقبل كل شيء هي جماعة متعبدة لله لأجل تقديس العالم، تقدم الطلبات والصلوات والابتهالات والتشكرات عن جميع الناس.

يرى الأب إسحق أن ما ذكره الرسول هنا يمثل مراحل حياة الشركة مع الله التي ينعم بها المؤمن، كمراحل متصاعدة، وفي نفس الوقت متكاملة معًا. فيبدأ المؤمن بالطلبة أي السؤال عن احتياجاته الضرورية ليرتفع من الطلبة إلى الصلاة أي الالتصاق بالله والدخول معه في صلة عميقة وحب لأجل الله ذاته. خلال هذا الحب الإلهي يرتفع إلى الابتهال أو التشفع عن الآخرين، فلا يطلب ما لنفسه بل ما هو للغير، وينسى احتياجاته أمام محبته لإخوته. وأخيرًا يمارس التشكرات بكونها الحياة الملائكية التي تقوم على أساس الشكر الدائم بلا انقطاع والتسبيح لله بغير انقطاع.

على أي الأحوال، تمارس الكنيسة في صلواتها وليتورچياتها كل هذه الأنواع من الصلاة، خاصة في ليتورچيا الإفخارستيا، أي القداس الإلهي. فيطلب الإنسان من أجل نفسه لنوال غفران خطاياه والتمتع بالنمو الروحي وإشباع كل احتياجاته وأعوازه الروحية والنفسية والجسدية، وتمتزج هذه الطلبات بالصلوات فيدخل المؤمن في حديث سري مع الله في ابنه الوحيد بالروح القدس. ولا تكف الكنيسة عن ممارسة الابتهالات فتشفع عن جميع الناس، أما جوهر الإفخارستيا فهو التمتع بالحياة الجديدة الشاكرة، خلال ثبوتنا في المسيح يسوع ربنا، حتى دُعيّ القداس الإلهي بالافخارستيا أي "الشكر".

وتحدث العلامة أوريجينوس بشيء من التفصيل عن التمييز بين هذه الأنواع من الصلاة معطيًا أمثلة لذلك. فيرى أن الطلبة هي توسل برجاء أن ينال الإنسان شيئًا هو في عوز إليه، كطلبة زكريا الكاهن، إذ يقول له الملاك: "لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت، وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنًا، وتسميه يوحنا" (لو 1: ١٣). أما الصلاة، فهي تعبير يقدم لله وحده يمثل عبادة فيها مديح له. وكما يقول أوريجينوس أنه يمكن تقديم التعبيرات الثلاث الأخرى لغير الله كأن يطلب إنسان شيئًا من آخر أو يشفع (يبتهل) عن آخر لدي أخيه، أو يشكر من صنع معه معروفًا، أما الصلاة فلا تقدم لغير الله. من أمثلة الصلاة، ما جاء في (١ صم ١: ١٠) عن حنة امرأة القانة أنها "صلت إلى الرب وبكت بكاءً" أما البتهال ففي رأيه هو طلب يُقدم لله من أجل أمور معينة يقدمه من له ثقة أكثر من المعتاد. أما المثل الفريد في الابتهال فهو عمل الروح كقول الرسول: "لكن الروح يشفع فينا بأنات لا ينطق بها"، ولكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح، لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين" (رو ٨: ٢٦–٢٧). أخيرًا الشكر هو عرفان بالجميل مع صلاة بسبب عطية الله وبركاته. وجاء حديث السيد المسيح مع أبيه مثلاً فريدًا، إذ يحمده لأجل عطاياه التي يقدمها للبسطاء، إذ يقول الكتاب: "في ذلك الوقت أجاب يسوع وقال: أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال" (مت ١١: ٢٥).

ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا النص بكونه دعوة لعمل كنسي مملوء حبًا للكل يشترك فيه الكاهن مع الشعب صباحًا ومساءً، مصلين عن البشرية كلها حتى المقاومين الوثنيين، إذ يقول: [الكاهن أب كما لو كان للعالم كله، لذا يليق به أن يهتم بالجميع كالله الذي يخدمه... وهذا يؤدي إلى نفعين: أولاً نزع الكراهية من جهة من هم من الخارج إذ لا يقدر أحد أن يشعر بالكراهية نحو من يصلي من أجله، وثانيًا أن هؤلاء أنفسهم يصيرون في حالة أفضل بفعل الصلوات المرفوعة عنهم، فيتركون وحشيتهم التي يصوبونها ضدنا، فإنه ليس شيء يجتذب البشر للتعلم مثل أن يُحبوا ويحبوا. تطلع إلى الذين اضطهدوا المسيحيين وجلدوهم ونفوهم وقتلوهم، فإن المسيحيين كانوا يقدمون صلوات حارة لدى الله من أجل الذين عاملوهم ببربرية كهذه. وكما أن أبًا إن لطمه طفل صغير على وجهه يحمله على كتفيه، إذ أن تصرف الطفل لا ينزع عنه حنوه من جهته هكذا يليق بنا ألا نفقد إرادتنا الصالحة نحو من هم من الخارج حتى وإن ضربونا... ماذا يعني الرسول بقوله "أول كل شيء"؟ أي في الخدمة اليومية وكما تعرفون كيف نقدم صلوات يومية في المساء والصباح من أجل العالم كله، عن الملوك وكل من هم في منصب.]

يكشف لنا هذا النص عن ممارسة الكنيسة لليتورچيات جماعية صباحية ومسائية، فيها تبتهل الكنيسة عن الملوك (الرؤساء) ومن هم في مراكز قيادية مع بقية الابتهالات عن كل البشرية. ونحن نجد في القداس الباسيلي الصلاة عنهم كجزء من الصلاة من أجل سلام الكنيسة قبل صلاه الصلح، وفي القداس الغريغوري تقدم أوشية خاصة بالملك (الرؤساء) والعاملين في البلاط (القصر) وجميع العاملين في الدولة والجند لأجل سلامهم.

"لأجل الملوك، وجميع الذين هم في منصب،

لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار".

يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم إن كان يمكن الصلاة من أجل ملك وثني أثناء الاحتفال بالأسرار الإلهية؟ ويجيب قائلاً: [لقد أظهر الرسول فائدة ذلك بقوله: "لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة". وكأنه يقول إن سلام (المسئولين) هو آمان لنا. وفي رسالته إلى أهل رومية يأمرهم بالطاعة للحكام "ليس بسبب الغضب فقط بل أيضًا بسبب الضمير" (رو ٣: ٥)، فقد أقام الله الحكومة لأجل الصالح العام... ليس في تملقٍ، وإنما نطيع في اتفاق مع أحكام العدل. فإنهم إن لم يكونوا محفوظين ومنتصرين في الحروب ترتبك أمورنا حتمًا وندخل في متاعب، وإن هلكوا نتشتت.]

ماذا يعني الرسول بقوله: "لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار"؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا السؤال قائلاً بأنه يوجد ثلاث أنواع من الحروب: حرب تنشأ عن هجمات جيوش غريبة ضدنا، وحرب تثور فيما بيننا، والثالثة الحرب التي تنشأ داخل الإنسان نفسه. ويرى القديس أن هذه الطمأنينة وها الهدوء المذكور هنا يشير إلى هدوء النفس الداخلي، والراحة من جهة الحرب الثالثة، لذا يكمل الرسول "في كل تقوى ووقار". إن صلواتنا وطلباتنا من أجل جميع الناس وطاعتنا الصادقة للمسئولين تعطي سلامًا في القلب الداخلي كأبناء يحملون سمات عريسهم المحب المطيع! علاقتنا مع الآخرين لا تقوم على أساس نفعي مادي أو أدبي، ولا على أساس الخوف، وإنما على أساس إلهي، حيث نلتقي مع الجميع ونعمل على راحة الجميع من أجل الله محب البشر.

يكمل الرسول: "لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون". ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: [ما هو هذا المقبول؟ الصلاة من أجل جميع الناس! هذا هو المقبول لدى الله، هذه هي إرادته!... تمثل بالله، فإنه يريد أن جميع الناس يخلصون! وها هو سّر صلاة الإنسان من أجل الجميع! إن كان الله يريد أن جميع الناس يخلصون، فلترد أنت أيضًا هذا! وإذ تكون هذه هي إرادتك، فصلِ لكي تتحقق هذه الإرادة، فإن الإرادة (الرغبة) تقود إلى الصلوات.]

ربما يسأل أحد: هل نصلي من أجل الأمم الوثنيين؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا تخف من أن تصلي من أجل الأمم، فإن الله يريد ذلك، إنما خف من أن تصلي ضد أحد، إذ لا يريد الله هذا. إن كنت تصلي من أجل الوثنيين فالطبع يلزمك أيضًا الصلاة من أجل الهراطقة. فلنصل من أجل الجميع ولا نضطهد أحدًا.]

قد يتساءل البعض: لماذا أصلي من أجلهم؟ أما تكفي إرادة الله نحوهم؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم: [للصلاة نفع عظيم لهم ولك فإنها تجتذبهم للحب، وتهبك أنت لطفًا. الصلاة قادرة على جذبهم للإيمان.]

أخيرًا فإن الرسول يؤكد حب الله لخلاص الجميع ليس فقط لكي نصلي في عبادتنا الكنسية والخاصة عن الجميع، إنما لينزع الثنائية الغنوسية التي تقسم المؤمنين إلى كاملين وبسطاء.

يربط الرسول بين الصلوات الكنسية العامة وما تحمله من حبٍ خالص نحو كل البشرية ووساطة السيد المسيح الكفارية لدى الآب عنا جميعًا، قائلاً: "لأنه يوجد إله واحد ووسيط بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية، لأجل الجميع الشهادة في أوقاتها الخاصة".

لعل الرسول بولس أراد أن يؤكد أن اتساع قلبنا بالحب نحو البشرية ليس من عندياتنا، وإنما يتحقق فينا خلال اتحادنا بالوسيط الواحد الذي لم يقدم مجرد صلوات لفظية عن البشرية، لكنه تجسد وتألم ليفدي الكل! إن سمة الحب التي لنا في عبادتنا الجماعية الكنسية الشخصية هي سمة السيد المسيح نفسه "الإله الواحد" الذي صار "الإنسان" ليفتدي الكل!

يليق بنا أن نقف قليلاً عند كلمات الرسول بولس هنا، التي شغلت فكر الكنيسة الأولى وابتلعت مشاعر الآباء وهزت أعماقهم الداخلية.

من جهة لم يكن مجال الحديث هنا مهاجمة وساطتنا لبعضنا البعض بالحب لدى الله، وإنما كما نعلم أن الغنوسيين آمنوا بوجود انبثاقات متتالية بدأت من الكائن الأعظم وانتهت إلى مجيء السيد المسيح، هذه الانبثاقات هي أيونات تقدم المعرفة كطريق الخلاص. ففي نظرهم ينطلق الغنوسي خلال المعرفة إلى يسوع الذي يرفعه بالمعرفة أيضًا إلى أيون أعظم، وهذا يرفعه إلى ثالث أعظم، وهكذا يرتفع على سلم الأيونات حتى يبلغ بالمعرفة الكاملة إلى الكائن الأعظم. والرسول هنا يؤكد أن الحق الذي يريد الله أن يُقبل إليه جميع الناس هو الإيمان بالآب الواحد الذي أرسل ابنه الوحيد الوسيط الكفاري الوحيد ليصالح البشرية المؤمنة معه، هادمًا بهذا فكرة الأيونات الغنوسية.

بهذا لا يمكننا بتر هذه العبارة عن مجالها الكامل ليستشهد بها البعض في إنكار الشفاعة أو صلوات الكنيسة عن بعضها البعض، سواء بالنسبة للأعضاء الراقدة في الرب أو المجاهدة على الأرض. فإن هذا انحراف بعيد عن فكر الوحي الإلهي. إنما ما أراد الوحي تأكيده هو عمل المسيح الفريد في خلاصنا ومصالحتنا مع أبيه، الأمر الذي لن يمكن لكائنٍ سماوي أو بشري القيام به!

يؤكد الرسول "إله واحد"، ليعود فيقول: "الإنسان يسوع المسيح". وكأنه لا طريق للمصالحة إلاَّ بالتجسد الإلهي. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الوسيط يتصل بالطرفين ليتوسط بينهما. فلا يمكن للسيد المسيح أن يتوسط لدى الآب وهو منفصل عنه ولا أن يتوسط عن الناس منفصلاً عنهم. إنه كوسيط بين الله والناس يليق به أن يحمل الوحدة مع الآب في الجوهر، كما يحمل الوحدة مع الطبيعة البشرية. جاء مصالحًا الاثنين معًا بكونه ابن الله المتأنس، لقد حمل في طبيعته الواحدة اتحاد الطبيعتين معًا دون خلطة أو امتزاج أو تغيير.

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن غاية التجسد الإلهي هو تحقيق هذه الوساطة الفائقة، إذ وهو ابن الله أخذ ناسوتنا لينزع العداوة التي كانت قائمة بين الله والإنسان، أو بين الطبيعة الإلهية والبشرية... لقد نزع عنا تغربنا عن الحياة الحقيقية، حيث ردنا نحن البشر إلى الشركة مع أبيه.

صار ابن الله بالتجسد ابن الإنسان، حتى بشركته يوحدهما معًا في نفسه، هذين الذين انقسما بالطبيعة.

القديس غريغوريوس النيسي

لم يرد الله أن يكون أي ملاك هو الوسيط بل الرب يسوع المسيح نفسه بقدر ما تنازل وصار إنسانًا.

هكذا ابن الله نفسه ،كلمة الله، هو وسيط بين الله والناس، ابن الإنسان المساوي للآب في وحدة اللاهوت وشريكنا بأخذه ناسوتنا.

إنه يتوسط عنا لدى الآب بكونه قد صار إنسانًا، دون أن يكف عن أن يكون هو الله، الواحد مع الآب (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إنه يقول: "لست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضًا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم، ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد" (يو ١٧: ٢٠-٢١).

يوجد وسيط فاصل، ووسيط آخر مصالح. الوسيط الفاصل هو الخطية، أما المصالح فهو للرب يسوع المسيح... هذا الذي ينزع الحائط الفاصل أي الخطية. لقد جاء وسيطًا وصار الكاهن وهو نفسه الذبيحة.

إنه الباب المؤدي إلى الآب، ليس هناك طريق للاقتراب من الآب إلاَّ به.

لا يتصالح إنسان مع الله خارج الإيمان الذي في المسيح يسوع، سواء قبل التجسد أو بعده.

القديس أغسطينوس

في آخر الأزمنة أعادنا الرب بتجسده إلى الصداقة، فقد صار وسيطًا بين الله والناس. استرضي الآب عنا نحن الذين أخطأنا إليه، مبددًا عصياننا بطاعته، واهبًا إيانا عطية الشركة مع خالقنا والخضوع له.

القديس إيريناؤس

إنه يصالح الله مع الإنسان، والإنسان مع الله!

يصالح الروح مع الجسد، والجسد مع الروح!

فيه اتحدت كل الطبائع، وتوافق الكل كعريس وعروس، في وحدة شركة الحياة الزوجية.

حفظ في نفسه وديعة الجسد الذي أخذه بكلا جانبيه كعربونٍ وضمانٍ لكماله التام، كما وهبنا غيرة الروح (٢ كو ٥: ٥).

أخذ منا غيرة الجسد، ودخل به إلى السماوات كعربون عن الكل...

إذن، لا تضطرب أيها الجسد، ولا تحمل أي هم، فقد نلت في المسيح سماوات وملكوت الله!

العلامة ترتليان

الوسيط بين الله والناس، إذ صار بكرًا للطبيعة البشرية كلها، أعلن لإخوته فيما قد شاركهم فيه... قائلاً: إني أرحل لكي أجعل بنفسي الآب الحقيقي الذي انفصلتم عنه أبًا لكم، وأجعل الله الحقيقي الذي تمردتم عليه إلهًا لكم. بالبكورية التي صرت أنا فيها أقدم البشرية جميعها لإلهها وأبيها في شخصي أنا.

القديس غريغوريوس النيسي

لقد أنكر الغنوسيون حقيقة تأنس ابن الله، إذ ظنوا في الجسد أنه عنصر ظلمة لا يمكن للمخلص أن يتحد به، فنادوا بأن جسده كان خيالاً، والبعض قالوا حمل جسدًا روحيًا أخذه من السماء وعبر به في أحشاء العذراء دون أن يأخذ منها لحمًا ودمًا، لذلك يؤكد الرسول "الإنسان يسوع المسيح" لأن من ينكر تأنسه إنما ينكر عمله الخلاصي، وينزع عنه وساطته عنا. يقول القديس أغسطينوس: [من يعرف المسيح بكونه الله وينكره كإنسان، لا يكون المسيح قد مات عنه. إنه مات كإنسان. من ينكر المسيح كإنسان لا يجد مصالحة مع الله بواسطة الوسيط... إنه لا يتبرر، لأنه كما بمعصية إنسان كثيرون صاروا خطاة، هكذا بإطاعة إنسان واحد يتبرر الكثيرون (رو ٥ : ١٩).]

إذ حمل طبيعتنا لم يقدم الوساطة عنا بالكلام وإنما بالعمل، باذلاً حياته خلال الصليب، إذ يكمل الرسول: "الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع الشهادة في أوقاتها الخاصة". لقد قدم حياته فدية لصالح البشرية كلها مع الآب. هذه هي المصالحة العملية التي دفع ابن الله المتأنس ثمنها. هنا مرة أخرى يقول "لأجل الجميع" لينزع الثنائية الغنوسية في حياة المؤمنين: أي وجود الكاملين والبسطاء.

لقد قدم السيد حياته فدية حتى من أجل الوثنيين. لهذا نلتزم نحن بتقديم الصلوات من أجل الجميع والحب للكل. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بلا شك مات المسيح حتى من أجل الوثنيين، فهل تقدر أن لا تصلي من أجلهم؟] بهذا الحب العملي الشامل قدم الابن الوحيد الشهادة الحقة للحب الإلهي في الوقت المناسب.

هذا العمل الإلهي والشهادة الماسيانية خلال الفداء المقدم عن الجميع هو موضوع كرازة الرسول، إذ يقول: "التي جعلت أنا لها كارزًا ورسولاً. الحق أقول في المسيح ولا أكذب، معلمًا للأمم في الإيمان والحق". لقد تفرغ الرسول بولس للكرازة بالخلاص لجميع الأمم، إذ امتدت نعمة الله لتشمل جميع البشرية. لقد صار معلمًا للأمم في الإيمان والحق. إن كان الإيمان قد امتد خارج دائرة اليهود، لذا صار الحق أو المعرفة غير قاصرة على فئة دون أخرى.

في اختصار نقول إن المبدأ الأساسي في عبادتنا الجماعية والشخصية هو اتساع القلب بالحب ليضم كل البشرية، نصلي للجميع ونطلب خلاص الكل.

2. إرشادات للرجال في العبادة

"فأريد أن يصلي الرجال في كل مكان،

رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال".

يطلب الرسول من الرجال أن يرفعوا أياديهم طاهرة عندما يصلون في كل مكان، أي في الاجتماعات الكنسية العامة كما في العبادة العائلية وأيضًا في المخدع، مع أن السيد المسيح يقول: "وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصل إلى أبيك الذي في الخفاء، وأبوك الذي في الخفاء يجازيك علانية" (مت ٦: ٥-٦). كيف يتحدث الرسول عن الصلاة "في كل مكان" بينما يحدد السيد موضع الصلاة بالمخدع؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس في هذا تناقض بل تناغم. يلزمنا أولاً أن ندرك ماذا يعني بالقول "أدخل إلى مخدعك"؟ ولماذا يأمرنا المسيح بذلك مادمنا نصلي في كل مكان؟ هل لا نصلي في الكنيسة ولا في أي موضع داخل البيت وإنما فقط في المخدع؟ إذًا ماذا يعني هذا القول؟ إن ما ينصحنا به المسيح هو تجنب الافتخار، آمرًا إيانا أن نقدم صلواتنا لا بطريقة محدده وإنما نقدمها سريًا. عندما يقول: "لا تعرف شمالك ما تفعل يمينك" (مت ٦: ٣)، لا يقصد الأيدي (الشمال واليمين) وإنما يحذر بشدة من الافتخار. هذا هو ما يقصده هنا، فإنه لا يود أن يحدد الصلاة بوضع محدد إنما يسأل شيئًا واحدًا وهو ترك المجد الباطل. أما ما قصده بولس فهو التمييز بين الصلوات المسيحية واليهودية، لذا يقول: "في كل مكان، رافعين أيادي طاهرة"، الأمر الذي لم يسمح به اليهود، إذ لم يكن يُسمح لهم بالاقتراب إلى الله وتقديم ذبيحة وتكميل خدماتهم في أي مكان، بل يجتمع الكل من كل العالم في مكانٍ واحد، ويرتبطون معًا في الهيكل لتتميم عبادتهم. على خلاف ذلك يوصي الرسول بالتحرر من هذا، وكأنه يقول: إن طريقنا مختلف عن الطرق اليهودية، فكما أمرنا المسيح أن نصلي من أجل كل الناس لأنه مات من أجل الجميع، يليق أن نصلي في كل مكان، وكأن المقصود هنا هو طريقة الصلاة.]

إذن الصلاة في كل مكان لا تتنافى مع وصية السيد المسيح الخاصة بالصلاة في المخدع، الأولى تعني الصلاة بلا حدود مكانية حيث يتسع القلب بالحب للصلاة في كل موضع من أجل الجميع، والثانية تعني تقديم الصلاة بعيدًا عن المجد الباطل وحب الظهور.

هذه الوصية لا تخص الرجال وحدهم إنما هي وصية للكنيسة كلها، رجال ونساء، أطفال وشيوخ، شباب وفتيان. الكل ملتزم أن يحيا بروح الرجولة أي النضوج الروحي، فيبسط كل مؤمنٍ يديه الداخليتين كما بسط السيد المسيح يديه على الصليب بالحب لينزع كل غضب عن البشرية.

ماذا تعني الأيدي الطاهرة إلاَّ الحياة العاملة خلال تقديس الروح. فالصلاة وإن كانت تصدر عن القلب في الداخل ومن الفم من الخارج، لكن لا يمكن أن تُقبل ما لم تتحد بالعمل الروحي والجهاد الحق في المسيح يسوع. يلزم أن يرافق عملنا الروحي صلواتنا وتسابيحنا للرب!

تشير الأيدي الطاهرة إلى نقاوة الروح والجسد معًا، وكما يقول القديس چيروم: [قيثارتنا إنما هي جسدنا ونفسنا وروحنا يعملون معًا في توافق لتقدم أوتارهم جميعًا النغم!]

لا تعني الطهارة الغسل بالماء وإنما بالتوبة ليعمل الروح القدس فينا لنقاوة إنساننا كله، الداخلي والخارجي. يقول العلامة ترتليان: [ما الداعي للذهاب للصلاة بأيدٍ مغتسلة حقًا بينما الروح متسخة؟! يلزم رفع أيادي روحية طاهرة، نقية من الباطل والإجرام والقسوة والسموم وعبادة الأوثان وغير ذلك من الأمور المخجلة... هذه هي الطهارة الحقيقية.] كما يقول: [بعدما اغتسل الجسد كله، أي تطهر في المعمودية، صارت الحاجة إلى التطهير بالتوبة المستمرة عما يلحق بأيدينا من دنس.]

3. إرشادات للنساء في العبادة

إذا كان الرجل – بل كل نفس ناضجة روحيًا – يلزمه أن يتمثل بالسيد المسيح فيبسط يديه كما على الصليب بالطهارة الداخلية ليطلب لا بالكلام فحسب وإنما أيضًا بالعمل، في حب بلا جدال أو غضب، فإنه يلزم بالمرأة – وكل نفس صارت كعروس للسيد – أن تهتم في عبادتها بالزينة الداخلية لتفرح قلب عريسها السماوي. يقول الرسول بولس: "وكذلك أن النساء يزين ذواتهن بلباس الحشمة مع ورع وتعقل، لا بضفائر أو ذهب أو لآليء كثيرة الثمن، بل كما يليق بنساء متعاهدات بتقوى الله بأعمال صالحة".

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا القول الرسولي: [ماذا؟ هو تقتربين لله للصلاة بضفائر وحلى ذهبية؟ لعلك تأتين إلى مرقص؟ أو حفلات خليعة؟ فإن الضفائر والثياب الثمينة تليق بهذه الأماكن، أما هنا فلا حاجة إلى مثل هذه الأمور. إنك تأتين إلى الصلاة لتطلبين المغفرة عن خطاياكِ... وتتوسلين إلى الرب، وتترجين فيه أن يجيب عليك بسماحة! لماذا تتزينين؟ إنها ليست ملابس تليق بمن يتوسل! كيف تتنهدين؟ كيف تبكين؟ كيف تصلين بحرارة وأنتِ مزينة هكذا؟]. كما يقول: [المسيح هو عريسك أيتها البتول، فلماذا تجتذبين الأحباء البشريين؟... الزينة التي ترضي الله هي الوداعة والعفة والالتزام بالترتيب واحتشام الملبس؟... كفى غباء أيتها السيدة! حولي اهتمامك إلى نفسك، وإلى زينتك الداخلية.]

يمكننا أن نلتمس في كلمات الرسول بولس أن الامتناع عن الزينة الخارجية في ذاته ليس فضيلة، إنما الفضيلة هي قبول زينة القلب الداخلي خلال الحياة التقوية (الورع) والتعقل! فضيلة الإنسان أن يلبس السيد المسيح بكونه سرّ بهاء النفس بكل عواطفها وأحاسيسها والعقل بكل طاقاته. يقول الرسول: "يزين ذواتهن بلباس الحشمة مع ورع وتقوى... متعاهدات بتقوى الله بأعمال صالحة"، أي يحملن ورع الله وسماته في داخلهن.

ما نقوله عن الزينة نردده أيضًا بخصوص الاحتشام، فإن لباس الاحتشام لا يعني مجرد ارتداء أنواع معينة من الملابس، إنما نحمل فينا مسيحنا ليهب للقلب والفكر والنظر واللسان الخ. احتشامًا داخليًا خارجيًا، إذ يليق لا بالنساء فقط وإنما بكل مسيحي أن يكون محتشمًا في نظراته وكلماته بل وأفكاره الخفية، مرددًا مع المرتل: "ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتي". من هو الحافظ للفم، وما هو الباب الحصين للشفتين، إلاَّ الروح القدس الذي يقدس الخارج والداخل، والسيد المسيح نفسه الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح.

بعد هذا تحدث عن التزام المرأة بالاحتشام الداخلي الروحي وعدم المبالغة في الزينة الخارجية خاصة أثناء العبادة الكنسية، تكلم عن صمتها في الكنيسة وعدم قيامها بتعليم الرجال في الاجتماعات الكنسية العامة، إذ يقول: "لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع، ولكن لست آذن للمرأة أن تعلم ولا تتسلط على الرجل بل تكون في سكوت، لأن آدم جُبل أولاً ثم حواء، وآدم لم يغوَ بل حواء أغويت، فحصلت في التعدي، ولكنها ستخلص بولادة الأولاد إن ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل".

ربما يتساءل البعض لماذا تصمت النساء ولا تعلم في الكنيسة؟ ولماذا يُنسب لها الخضوع؟

لكي نفهم هذا النص يلزمنا أن نتعرف على الظروف المحيطة بالكنيسة في ذلك الحين، ففي المجتمع اليهودي كانت المرأة ممنوعة من دراسة الناموس، ولا يُسمح لها أن تقوم بأي دور قيادي في خدمة المجتمع، وكان الرجل يشكر الله كل صباح على أنه لم يخلقه "أمميًا ولا عبدًا ولا امرأة". هذا وإن كنا لا ننكر أن بعض النساء خلال التهاب قلوبهن بمحبة الله تسلمن أدوارًا قيادية في العهد القديم في الجانب الديني والسياسي، حيث كان الدين لا يفصل عن السياسة عند اليهود، الأمر الذي صححه السيد المسيح. فعرفن في العهد القديم أربعة نبيات هن مريم قائدة النساء في التسبيح (خر ١٥: ٢٠)، ودبورة النبية وقاضية إسرائيل (قض ٤: ٤)، وخلدة النبية في أيام يوشيا (٢مل ٢٢: ٤)، ونوعدية النبية في أيام نحميا (نح ٦: ١٤)، يُضاف إليهن حنة المذكورة في إنجيل معلمنا لوقا (٢: ٣٦). حقًا لقد تمتعت المرأة بالكثير من الحقوق من خلال الشريعة الموسوية إن قورنت بمركزها في العالم في ذلك الحين. لكنها بقيت بعيدة عن خدمة المقدسات والعمل التعليمي الكنسي الخ.

أماعند اليونان فقد ضم معبد افروديت في كورنثوس ألف كاهنة كن يعرضن أجسادهن على المتعبدين كنوع من العبادة، وضم معبد ديانا بأفسس مئات من الكاهنات الشريرات.

إن كانت الكنيسة المسيحية قد رفعت من شأن المرأة، وأعطتها الكثير من الحقوق، لكن لم يسمح لها بالتعليم العام حيث يوجد الرجال حتى لا يُساء الفهم. لقد رفع السيد من شأن المرأة، فنقرأ في الإنجيل المقدس أن بعض النساء كن يسرن وراء السيد وتلاميذه الاثني عشر أثناء كرازته، وكن يخدمنه من أموالهن الخاصة (لو ٨: ١–٣)، وٍذكرت أسماء بعضهن أيضًا اللواتي رافقن إياه حتى الصليب (مت ٢٧: ٥٦، ٦١؛ ٢٨: ١)، وكانت النساء أول من بشر بقيامة السيد للتلاميذ (لو ٢٤: ١٠-١١).

وفي العصر الرسولي مع بدء انطلاق الكنيسة كانت النساء من بينهن القديسة مريم يواظبن على الصلاة والطلبة مع التلاميذ (أع ١: ١٤)، ويروي لنا لوقا البشير في سفر الأعمال الدور الإيجابي لطابيثا في خدمة الفقراء والأرامل (أع ٩: ٣٦)، وفي التحيات الطويلة في رسائل معلمنا بولس الرسول نتلمس دور كثير من النساء في العمل الكنسي الكرازي، اللواتي لم يكن أقل غيرة من الرجال في نشر كلمة الإنجيل. يتحدث الرسول عن فيبي شماسة كنخريا (رو ١٦: ١-٢) التي كانت تخدم الغرباء والمسافرين "إضافة الغرباء" كما فتحت بيتها للاجتماعات الدينية. ويتحدث عن "بريسكلا وأكيلا" انهما "عاملان معه" في المسيح يسوع (رو ١٦: ٣)، والعجيب أنه يذكر اسم الزوجة قبل الزوج على خلاف العادات المتبعة في ذلك الوقت، لعلها كانت أكثر غيرة من زوجها، كما كان لها أثرها مع زوجها على أبولس في تصحيح إيمانه كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم ويتحدث أيضًا عن أخريات كثيرات يذكرهن بالاسم أنهن عاملات بقوة، وفي سفر الأعمال نسمع عن أربع بنات لفيلبس الإنجيلي كن يتنبأن (أع ٢١: ٩)، وردت أسماؤهن في مخطوط يرجع للقرن الرابع: هيرموان وكاريتينا وإيريس وأوطاخيانا. هذا بخلاف خدمة الأرامل والعذارى التي نتكلم عنها في موضعها إن أذن الرب.
إذن لم تجحف الكنيسة المسيحية منذ انطلاقها حق المرأة، فلماذا رفضت قيامها بدور تعليمي وسط الرجال؟

يمكننا إدراك كلمات الرسول بولس إن عرفنا الفكر الغنوسي الذي كان يتسرب إلى الكنيسة منذ العصر الرسولي. لقد كان المجتمع في العصر الرسولي يضع فوارق بين الرجل والمرأة بصورة قاسية على المرأة، حتى تجاهلت القوانين المدنية والجنائية حقوقها الإنسانية. لكن جاءت المسيحية لتعلن: "ليس ذكر ولا أنثى لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع (غل ٣: ٢٨). أما الغنوسيون، فإذ يحتقرون الجسد ويحسبونه عنصر ظلمة يجب معاداته والتخلص منه، فرفضوا كل ما يخصه: رفضوا الزواج كأمر دنس، وبعض الأطعمة كقوتٍ للجسد، كما رفضوا قيامة الجسد في اليوم الأخير، وأخيرًا رفضوا الاعتراف بالتمايز الجنسي، فلا رجل ولا امرأة وإنما إنسان هو كائن له مواهبه التي لا ترتبط برجولته أو أنوثته. بعنى آخر أرادوا أن يحيا المجتمع دون وجود أدنى اعتبار للرجولة أو الأنوثة! هذا الأمر أثار الكنيسة لتعلن أنه ليس رجل أو امرأة في المسيح كأعضاء في جسده المقدس، لكن دون تجاهل لدور الرجل كرجل، والمرأة كامرأة. لذلك حينما تحدث الرسول بولس عن التزام المرأة غطاء الرأس والرجل بتعرية رأسه (١ كو ١١: ٤–٥) لم يكن الرسول الملتهب روحيًا – على ما يظن الكثيرون – بالإنسان الذي يهتم بهذا الأمر في حرفيته، إنما أراد أن يؤكد أنه مع مساواة الرجل والمرأة في المسيح، لكن الخلاص أو العضوية في جسد المسيح أو الدخول في الحياة الجديدة لم ينزع عن المرأة أنوثتها ولا عن الرجل رجولته. كل له دوره الحيّ والفعال في الحياة الكنسية بروح الحب المتكامل.

نستطيع أن نقول بأن الرسول بولس الذي كان منفتح القلب والفكر لم يقصد بحديثه هنا عن صمت المرأة في الكنيسة وعدم تعليمها للرجل وعن خضوعها له أن يحقِّر من شأنها أو يقلل من دورها، إنما أرادها أن تعمل فيما يناسب طبيعتها كامرأة وإمكانياتها الجسدية والنفسية. فالجسد في خضوعه للرأس لا يعني أفضلية الرأس عليه أو احتقار الجسد، لأنه لا كيان للرأس منفصلاً عن الجسد ، ولا عمل له بدونه حقًا أن الرأس هو المدبر للجسد، لكن إن لم يتجاوب أحدهما مع الآخر يفقد الإثنان سلامهما وكيانهما. لا ينكر الرسول بولس دور لوئيس وأفنيكي في حياة تيموثاوس وتعليمه الكتب المقدسة (٢تي ٣: ١٥) ولا تجاهل بريسكلا مع رجلها في خدمتهما الفردية مع كثيرين وفي بلاد مختلفة، هذان اللذان قادا بولس إلى معرفة الحق (أع ١٨: ٢٦)، وقد جاهدت أفودية وستيخي في الإنجيل (في ٤: ٢-٣).

لعل الرسول أيضًا أراد بهذا المنع أن ينزع كل مجال للعثرة في الكنيسة لكن دون تجاهل لدورها التعليمي على المستوى العائلي والفردي وأيضًا بين النساء.

يمكننا أن نكتشف مفهوم الرسول بولس مما كتبه العلامة ترتليان مهاجمًا الهراطقة، قبل أن يسقط في بدعة ماني، إذ يقول: [يا لنساء هؤلاء الهراطقة، إنهنخليعات! إنهن جسورات، حتى إنهن يعلمن ويناقشن ويخرجن شياطين ويقمن بأشفية – ألعلهن أيضًا يعمدن؟".] وحتى بعد انحرافه في الهراطقة لم ينحرف العلامة ترتليان عن الوصية الرسولية، بالرغم من اقتباسه بعض تعاليم للنبيتين ماكسميلا وبريسكلا، إذ يقول [لا يُسمح للمرأة أن تتكلم في الكنيسة (١ كو ١٤: ٣٤-٣٥)، ولا أن تعلم أو تعمد أو تنسب لنفسها عملاً خاصًا بالرجل من كل الأعمال الكهنوتية.] هنا يظهر العلامة ترتليان أن الامتناع يقدم على أساس أنه لا يناسب طبيعتها كامرأة، وليس تحقيرًا من شأنها. لكن ترتليان عاد فتأثر قليلاً بالفكر الهرطوقي فسمح لها بالعمل النبوي.

أخيرًا، ماذا يقصد الرسول بولس بقوله: "لكنها ستخلص بولادة الأولاد، إن ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل"؟ يرى البعض أن القديس مريم قدمت للنساء كرامة عظيمة إذ أنجبت لنا المخلص. ويرى آخرون أن النساء وإن كن قد حرمن من التعليم العام في الكنيسة في وجود الرجال، لكنهن ينلن أكاليلهن خلال تربية أولادهن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل، الأمر الذي لا يستطيع الرجال القيام به. إنهن بحق يقدمن للكنيسة أعضاء قيادية مباركة!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

 تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر تيموثاوس الأولى     تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Icon_minitimeالإثنين ديسمبر 06, 2010 7:36 pm

الاصحاح الثالث

سمات الرعاة وواجباتهم

بعد أن تحدث عن العبادة الكنسية العامة، مركزًا على الصلاة من أجل الجميع حتى الوثنيين، كما قدم السيد نفسه فدية عن الكل، مشتاقًا أن يدخل بالكل إلى خلاصه، موصيًا إيانا أن نكون رجالاً روحيين نبسط أيادي مقدسة طاهرة، تسند صلواتنا بالعمل الروحي، وأن تكون نفوسنا كامرأة مزينة لعريسها بالمجد الداخلي عوض الزينة الخارجية، يتحدث الآن عن الرعاة أنفسهم:

1. سمات الأسقف ١ – ٧.

2. سمات الشماس ٨ – ١٣.

3. نظرة الراعي للكنيسة ١٤ – ١٦.

1. سمات الأسقف

"صادقة هي الكلمة إن ابتغى أحد الأسقفية فيشتهي عملاً حسنًا".

شهوة الأسقفية ليست شهوة للسلطة والكرامة، وإنما هي شهوة غسل أقدام الآخرين وبذل الذات من أجل كل أحد في المسيح يسوع. ففي الكنيسة الأولى كان الأسقف هو الأب الذي يتعرض للاضطهادات والعذابات والنفي من أجل الدخول بالبشرية إلى الحياة الإيمانية الحية، وحتى في فترات الهدوء النسبي لم يكن يشعر الأسقف أنه صاحب الكرامة والسلطان بالرغم من محبة أولاده له، إنما يشعر بالحري بالتزامه الأبوي نحو كل أحد.

إن كان لأحد هذه الرغبة فلا يشتهي السيطرة والسلطة، وإنما يرغب في حماية الكنيسة (روحيًا)، فأنا لا ألومه. فإنه حتى موسى اشتهى الوظيفة لا السلطة، فعرضته شهوته للتوبيخ الساخر: "من أقامك رئيسًا وقاضيًا علينا؟" (أع ٧: ٢٧، خر 2: ١٤). من يشتهي هذه الوظيفة بهذه الكيفية فليشتهيها، لأن الأسقفية دعيت هكذا (ابسكورس) بكونها "نظارة" على الكل

القديس يوحنا الذهبي الفم

يتحدثالقديس يوحنا الذهبي الفم في شيء من التفصيل عن "شهوة الأسقفية"، موضحًا الفرق بين شهوة الخدمة الباذلة ونوال الرتبة للسلطة، إذ يقول في كتابه "عن الكهنوت":

توجد صفات كثيرة يجب أن يتحلى بها الكاهن، فقبل كل شيء يجب أن يتطهر من شهوة الحصول على هذه الرتبة، لأنه إن اشتهى هذه الكرامة، حالما يصل إليها تزداد فيه شهوة حب الكرامة اضطرامًا، حتى إذا استعبد لها يتردى في شرور كثيرة مثل التملق والمداهنة ويخضع لأمورٍ كثيرة – وهذا هو سبب المذابح التي عمت الكنائس، والخراب الذي حلَّ بالمدن، بسبب التشاحن على الرئاسة. ولا يظن أحد إني أعارض القديس بولس الرسول حين يقول: "إن ابتغى أحد الأسقفية فليشتهي عملاً صالحًا"، فإني لا أقول إن اشتهاء الاسقفية أمر ردئ، لكن الردئ هو رغبة التسلط وحب الرئاسة.]
أما سمات الأسقف فهي:
أ. بلا لوم

كل فضيلة إنما تدخل في هذه الكلمة، فإن شعر أحد في نفسه بخطية ما، ليس له أن يشتهي العمل الذي لا تؤهله له صفاته. فإن مثل هذا الإنسان يليق به أن يكون تحت التدبير لا أن يدبر الآخرين. فمن يدبر يلزمه أن يكون أكثر بهاءً من أي كوكب منير، تكون حياته بلا عيب، يتطلع الكل إليه، فيرون في حياته نموذجًا لهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ليعرف الإنسان إذًا قدر نفسه، حتى لا يتجرأ أحد فيأخذ لنفسه منصب الرعاية بينما لا تزال الرذيلة تسيطر عليه وتتسبب في إدانته، فإن الذي أفسدته الآثام لا يجب أن يشفع من أجل آثام غيره.

البابا غريغوريوس (الكبير)

وقد فسر هذا الأب الكلمات الإلهية لموسى النبي عن الرجل الذي يتقدم ليقرب خبز إلهه ألا يكون فيه عيب (تث ٢١: ١٧– ٢١) بطريقة رمزية، فيها يُستعبد الإنسان الذي يحمل عيبًا روحيًا من الخدمة الكهنوتية والعمل الرعوي، إذ يقول الرب: "لأن كل رجل فيه عيب لا يتقدم، لا رجل أعمى ولا أعرج ولا أفطس ولا زوائدي ولا رجل فيه كسر رجل أو كسر يد ولا أحدب ولا أكشم ولا من في عينه بياض ولا أجرب ولا أكف ولا مرضوض الخصي". فالكاهن (أيا كانت درجته) يلزم ألا يكون أعمى، بل يرى بهاء التأمل السماوي، ولا أعرج، بل يعرف أن يسير في طريق الحق، ولا أفطس، إنما قادر على التمييز الروحي، ولا يكون كالزوائدي الذي يتدخل في شئون الآخرين بإفراط ويفرضون أنفسهم عليهم ولا مكسور الرجل أو اليد أو عاجز عن الحركة والعمل الخ.
ب. بعل امرأة واحدة

لم يضع الرسول هذا الأمر قاعدة بأنه يجب أن يكون له امرأة واحدة، إنما يمنع أن تكون له أكثر من امرأة واحدة، إذ كان يُسمح لليهود بالزواج الثاني (بعد وفاة الأولى أو تطليقها) بل وأن يكون له زوجتان في وقتٍ واحد.

القديس يوحنا الذهبي الفم

بمعنى آخر لا يلزم الرسول الأسقف أن يكون متزوجًا لكنه يرفض سيامة من يتزوج للمرة الثانية حتى وإن كانت الأولى قد ماتت أو طُلقت. إنه يكتب في بدء انطلاق الكنيسة حيث كان تعدد الزوجات مباحًا وشائعًا عند الأمم، فإن دخل أحدهم الإيمان المسيحي لا يُقام أسقفًا إن كان قد سبق فتزوج أكثر من مرة. لقد أراد أن يختار الأسقف أكثر الناس عفة ونقاوة. أما وقد انفتح باب الرهبنة فقد وجد بيننا بتوليين لذلك صار الأسقف يُسام من بين البتوليين.
ج. صاحيًا

هذا يعني أن يكون حذرًا، له آلاف الأعين حوله، سريع النظر، أعين ذهنه غير مظلمة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

وكأن الأسقف بكونه الناظر على شعب الله يليق به أن يكون ذا بصيرة متقدة، صاحيًا وواعيًا على خلاص نفسه وخلاص إخوته وأولاده الروحيين، لا تربكه الأمور الإدارية ولا تلهيه المشاكل العامة أو الخاصة عن رسالته الروحية.

يليق به أن يكون ساهرًا، حارًا في الروح كمن يتنسم نارًا! يلزمه أن يعمل دومًا مؤديًا واجبه نهارًا وليلاً أكثر من قائد ملتزم نحو جيشه! يليق به أن يكون حريصًا يهتم بالجميع!"

القديس يوحنا الذهبي الفم
د. عاقلاً

أي رزينًا يتصرف بحكمة وتمييز، وفي اعتدال، لا يكون متطرفًا يمينًا أو يسارًا، يعرف كيف يوجه أولاده بحكمة واتزان. يهتم بالأمور الروحية لشعبه دون تجاهل لاحتياجاتهم النفسية والاجتماعية والجسدية، يوجههم كل حسب موهبته الخاصة به، وليس حسب ميول الأسقف الشخصية.

في حديثنا عن الحب الرعوي رأينا التزام الكاهن، أيا كانت درجته، أن يكون حكيمًا في معاملته لأولاده يعرف كيف يعامل الأحداث والشيوخ والفقراء والأغنياء والمتزوجين والبتوليين والمتجاسرين الخ. كل حسب ظروفه وإمكانياته حتى لا يفقد أحدًا ولا يدلل أحدًا.
ه. محتشمًا

يليق بالكاهن أن يكون محتشمًا في ملبسه كما في تصرفاته وكلماته، فالاحتشام صفة تمس القلب في الداخل وتنعكس على كل الأحاسيس والتصرفات، وقد سبق لنا الحديث في هذا الأمر. من أمثلة الاحتشام عدم استخدام الفكاهات غير اللائقة، والهزل المفسد للنفس، وعدم إعطاء اهتمام خاص ببعض النساء أو الفتيات الخ.
و. مضيفًا للغرباء

استضافة الغرباء علامة إتساع القلب بالحب العملي، لهذا يمدح الرسول أهل رومية، قائلاً: "مشتركين في احتياجات القديسين، عاكفين على إضافة الغرباء" (رو ١٢: ١٣)، كما يقول في الرسالة إلى العبرانيين: "لا تنسوا إضافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون" (عب ١٣: ٢). فمن لا يختبر الحب العملي قبل سيامته كيف يقدر أن يقدم حياته بالحب عن شعبه خلال اسقفيته؟

كان المؤمنون والخدام في الكنيسة الأولى يجولون كثيرًا بسبب الاضطهاد، لذا كانوا ينزلون على بيوت المؤمنين، خاصة بيت االأسقف. لهذا يقولهرماس في كتابه "الراعي": [يجب أن يكون الأسقف مضيفًا للغرباء، يرحب بسرور وفي كل وقت بخدام الله القادمين إلى بيته.]
ز. صالحًا للتعليم

لا يكفي أن يكون الأسقف بلا عيب، ذا معرفة روحية مستقيمة وغيرة متقدة، إنما يلزم أن تكون له موهبة التعليم، الأمر الذي لا يتوفر في الكثيرين.

هذه ليست مطلوبة فيمن هم تحت التدبير، لكنها أساسية فيمن يعهد إليه أمر التدبير.

القديس يوحنا الذهبي الفم

اهتم بالكلام أيها الأسقف، وإن كنت تقدر أن تفسر ففسر كلام الكتب، اشبع شعبك واروه من نور الناموس فيغتني بكثرة تعاليمك.

الدسقولية
ح. غير مدمن الخمر

كانت المسكرات ممنوعة على كهنة اليهود مدة خدمتهم (لا ١: ٩)، هكذا يليق بالأسقف المسيحي ألا يكون محبًا للمسكرات علامة شبعه بالخمر الروحي الحقيقي، خمر الروح القدس المفرح للنفس.

الانغماس في الخمر هو من أخطاء الشرهين والمترفين، فعندما يسخن الجسد بالخمر للحال تثور فيه الشهوة. فشرب الخمر معناه التساهل مع النفس، وهذا يعني التنعم الحسي. والتنعم الحسي يعني كسر العفة. فالإنسان الذي يعيش متنعمًا يكون ميتًا وهو حيّ (١ تي ٥: ٦). وأما الذي يشرب الخمر فلا يكون ميتًا بل مدفونًا. إن ساعة واحدة من الخلاعة جعلت نوح يتعرى بعدما استتر ستين عامًا بوقارٍ (تك ٩: ٢٠-٢١).

القديس چيروم
ط. غير ضرّاب

في العهد القديم إضطر نحميا في غيرته المقدسة أن يضرب المتزوجين بوثنيات أجنبيات، إذ يقول:"فخاصمتهم... وضربت منهم أناسًا" (نح ١٣: ٢٥). لكن المسيحية تطلب التقديس الداخلي للنفس فلا تستخدم وسائل العنف، حتى يتحقق الإصلاح الداخلي بكامل حرية الإنسان، وقد أمرت القوانين الرسولية بتجريد الأسقف أو الكاهن أو الشماس الذي يضرب مؤمنًا عندما يخطيء (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى).

وقد استبعدالقديس يوحنا الذهبي الفم أن يوجد أسقف يفعل مثل هذه الحماقة التي لا تليق به، لهذا يرى في كلمات الرسول أنها لا تعني المفهوم الحرفي بل الرمزي، قائلاً: [هذه لا تعني أنه ضرّاب بيديه... فإن البعض يضرب ضمير الإخوة، هذا ما يبدو لي أن الرسول يقصده.]

ى. غير طامع بالربح القبيح ولا محب للمال

إن ارتبط قلب الإنسان بالربح ولو كان قليلاً؛ إن كان محبًا للمال، فإنه إذ يتسلم قيادة شعب لا يطلب ما لهم على حساب نفسه، أي لا يكون باذلاً يعرف أن ينفق كل ماله ويبذل حياته عنهم، إنما يطلب ما لنفسه، فيفسد كنيسة الله، ويغتنمها لحسابه الخاص.
ك .حليمًا غير مخاصم

يحمل روح سيده الذي "لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته" (مت ١٢: ١٩). يملك السيد المسيح على القلوب بالحلم والوداعة، هكذا يليق بالأسقف أن يعيش بروح سيده ليقدم لشعب الله صورة حية للملك الوديع الذي يغلب الشر بالخير، ويقتل كل خصام بالحب!
ل. يدبر بيته حسنًا

له أولاد في الخضوع بكل وقار، وإنما إن كان أحد لا يعرف أن يدبر بيته، فكيف يعتني بكنيسة الله؟ من لا يعرف أن يدبر كنيسة بيته الصغيرة والتي تخضع له حسب قانون الطبيعة، تسنده في ذلك القوانين الوضعية والكنسية، فكيف يقدر أن يتسلم قيادة الكنيسة التي لا تُلزم القوانين أعضاءها بالخضوع له إلاَّ خلال سلطان الحب الروحي والإيمان؟

إن كان الأسقف يُختار من بين البتوليين، فإنه يلزم أن يكون له أولاد في الخضوع في الروح. فمن لا يعرف أن يقتني له في المسيح أولادًا خلال الإنجيل قبل سيامته، كيف يقدر أن يربح أولادًا لله وسط مسئوليات الأسقفية الضخمة؟!
م. غير حديث الإيمان

غير حديث الإيمان لئلا يتصلف، فيسقط في دينونة إبليس. لم يقل غير حديث السن بل "غير حديث الإيمان"، فالقديس تيموثاوس كان حديث السن لكنه كان ناضجًا في الإيمان. حداثه الإيمان ربما تحمل غيرة متقدة نحو الخدمة، لكنها تحمل خطر الاعتداد بالذات والتصلف، فيخسر الإنسان نفسه بالكبرياء ويهلك من هم تحت تدبيره.
ن. له شهادة من الذين في الخارج

"ويجب أيضًا أن تكون له شهادة حسنة من الذين هم خارج لئلايسقط في تعيير وفخ إبليس".قد يشهد المؤمنون لعضوٍ من بينهم شهادة حسنة، لكن شهادة الأمم له هي ختم لهذه الشهادة، فإن النور لا يستطيع أحد أن ينكره حتى ون كان يرفضه، والحياة الصالحة مشهود لها حتى من الأعداء.

حسن للصالحين أن يكون لهم صيت حسن لدى أعدائهم... لماذا لم يتكلم أحد ضد الرسل مدعيًا أنهم زناة أو دنسون أو طماعون أو مخادعون، وإنما كانوا ضد كرازتهم فقط؟ أليس لأن حياتهم بلا غبار؟ لقد كان ذلك واضحًا! فلنحيا هكذا فلا يقدر عدو أو غير مؤمن أن ينطق بالشر ضدنا، فمن كانت حياته فاضلة يكرمه حتى هؤلاء. إن الحق يغلق أفواه الأعداء... كما لا يستطيع أحد أن يقول عن الشمس أنها مظلمة حتى وإن كان أعمى، إذ يخجل ويخشى أن يلومه الكل، هكذا من كان صلاحه واضحًا لا يلومه أحد.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يلزم أن يكون الأسقف المسيحي هكذا: إن الذين يكابرون معه في العقيدة لا يقدرون أن يكابروا في حياته.

القديس چيروم
2. سمات الشماس

يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد ناقش ما يخص الأساقفة ووصف سماتهم والمؤهلات التي يلزم توافرها فيهم، عابرًا على الكهنة ليتحدث عن الشمامسة. أما سبب عدم حديثه عنهم فهو عدم وجود فرق كبير بين الأساقفة والكهنة، فالكل يتعهد بوظيفة التعليم والرئاسة في الكنيسة، فما يقوله عن الأساقفة ينطبق على الكهنة، وإنما يمتازون عنهم بسلطان السيامة، ويبدو أنه لم يكن لهم أية ميزة أخرى.]
أما سمات الشمامسة فهي:

أ. أن يكونوا ذوي وقار: "كذلك يجب أن يكون الشمامسة ذوي وقار". ويعلقالقديس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: [هذا يعني أنه يجب أن تكون لهم ذات سمات الأساقفة. ما هي هذه السمات؟ أن يكونوا بلا عيب، وقورين، محبين لاستضافة الغرباء، صبورين، غير مخاصمين ولا طماعين. يظهر ذلك من قوله "كذلك"، ويوضحه بقوله "يكونون ذوي وقار لا ذوي لسانين" أي غير فارغين ولا مخادعين. فإنه ليس من شيء يحط من شأن الإنسان مثل الخداع، وليس ما يضر الكنيسة مثل عدم الإخلاص.]

ب. غير مولعين بالخمر الكثير ولا طامعين بالربح القبيح، ولهم سرّ الإيمان بضمير طاهر. إنها ذات السمات التي سبق لنا الحديث عنها بخصوص الأساقفة. فإنه مع وجود اختلاف كبير في الدرجة الكهنوتية والمسئولية لكن كعاملين معًا في كرمٍ واحد يلزم أن يحملوا السمات التي تليق بصاحب الكرم، ويكون لهم روحه القدوس الواحد. وكما يقول الرسول بولس: "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد، وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد، وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل" (١ كو ١٢: ٤–٧).

هذا ويلاحظ أن الأسقف يُختبر أولاً بكونه قد مارس العمل الكنسي في درجة كهنوتية أقل، أما الشماس وهو ينال أول درجة كهنوتية فإنه لا يتمتع بها قبل اختياره، لذلك يؤكد الرسول: "وإنما هؤلاء أيضًا ليختبروا أولاً".

ج. يكمل الرسول حديثه قائلاً: "كذلك يجب أن تكون النساء ذوات وقار غير ثالبات، صاحيات، أمينات في كل شيء". ويرىالقديس يوحنا الذهبي الفم أن الحديث هنا لا يخص النساء بوجه عام وإنما يخص "الشماسات"، إذ يقول: [ليُفهم هذا عن الشماسات، فإن نظام الشماسات ضروري ونافع ومكرم في الكنيسة]. ويرى البعض أن الحديث هنا عن زوجات الشمامسة.

د. "ليكن الشمامسة كل بعل امرأة واحدة، مدبرين أولادهم وبيوتهم حسنًا". ويعلقالقديس يوحنا الذهبي الفم هكذا: [أنظر كيف يطلب في الشمامسة ذات فضائل الأساقفة، وإن كانوا ليسوا في درجة مساوية لهم، لكن يلزم أن يكونوا (مثلهم) بلا لوم وطاهرين، مدبرين أولادهم وبيوتهم حسنًا.]

يختم الرسول حديثه عن الشمامسة بقوله: "لأن الذين تشمسوا حسنًا يقتنون لأنفسهم درجة حسنة وثقة كثيرة في الإيمان الذي بالمسيح يسوع". وكمايقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كأنه يقول من يوجد صاحيًا في الدرجة الأقل يرتفع إلى درجة أعلى]، أي ينتقل من درجة الشموسية إلى القسيسية.

3. نظرة الراعي إلى الكنيسة

"هكذا أكتبه إليك راجيًا أن آتي إليك عن قريب، ولكن إن كنت أبطيء، فلكي تعلم كيف يجب أن تتصرف في بيت الله الذي هو كنيسة الله الحي عمود الحق وقاعدته". ربما خشي الرسول أن يُصاب القديس تيموثاوس بشيء من الضيق، فقد وعده بالحضور إليه، لذلك يؤكد له أنه سيحضر فإن تأخر فلا يكتئب، فإن الروح القدس يسمح بهذا لأجل البنيان. إنها فرصة نادرة للقديس تيموثاوس أن يبذل مجهودًا أعظم كخادم لكنيسة الله الحيّ، عمود الحق وقاعدته، فينال إكليلاً أعظم. غياب الرسول بولس لا يكون بالنسبة له سرّ تحطيم أو تعب، إنما فرصة عمل أكثر ومجهود أعظم كخادم السيد المسيح.

لقد وجد الرسول فرصة ليكشف للقديس تيموثاوس كأسقف الكنيسة عن مفهوم الكنيسة التي يرعاها، إذ يقول: "وبالإجماع عظيم هو سرّ التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى للملائكة، كرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رفع في المجد".

ما هي كنيسة المسيح التي يرعاها الأسقف ويخدم فيها الشمامسة؟

أ. عمود الحق وقاعدته: يرى القديس بولس الكنيسة كلها كجماعة المؤمنين، يقومون على الحق كعمود يرتكزون عليه وكقاعدة بدونه ينهار كل البنيان. فإن كان الغنوسيون يهتمون بالمعرفة كأساس للخلاص، فالرسول يرى في الكنيسة أولاً وقبل كل شيء دخولاً إلى الحق، لكنه الحق المجاني الذي يقدمه الله للجميع ولا يخصه بفئة دون أخرى.

الكنيسة هي العمود الذي أقامه أبونا يعقوب، وصب زيتًا على رأسه (تك ٢٨: ١٨) علامة تكريسه للرب بالروح القدس. إنها عمود الدخان الصاعد من البرية المعطّر بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر (نش ٣: ٦)، ترتفع خلال دخان الذبيحة الذي لا يفسد العينين، بل يفتحها لرؤية الحق السماوي، معطرة بآلام عريسها (المر) ورائحته الزكية (اللبان).

هذه هي رؤية الراعي الحقيقي لكنيسة المسيح، وكما يقولالقديس چيروم: [لا تضم الكنيسة حوائط (ومباني) وإنما تضم حقائق تعاليمها. هي الإيمان الحق! في الحقيقة كانت المباني الكنسية منذ ١٥ و ٢٠ عامًا في أيدي الهراطقة بأكملها، لكن الكنيسة الحقيقية كانت قائمة حيث يوجد الإيمان الحق.] بمعنى آخر الكنيسة بكونها الإيمان الحق لا يمكن أن تُغلب مهما كانت الظروف المحيطة بالمؤمنين!

ب. تمتع بسرّ التقوى: ليست الكنيسة مجرد معرفة عقلية للحق كما تخيل الغنوسيون، وإنما هي دخول عملي إلى الحق خلال الحياة التقوية التي صارت لنا بالتجسد الإلهي. لذا يقول الرسول: "عظيم هو سرّ التقوى، الله ظهر في الجسد".

إن كانت الكنيسة هي عمود الحق المرتكز على ذبيحة السيد المسيح الفريدة والمقبولة لدى الآب رائحة رضا، إنما هذا الحق يتحقق خلال تجسد كلمة الله كطريق لتقديم الذبيحة وقبول الصليب، وباب لدخولنا إلى الحياة الجديدة باتحادنا مع الله الآب في ابنه. لقد حلّ بيننا وحمل طبيعتنا حتى نوجد نحن فيه، ننعم بحياته وسماته وشركة أمجاده! هذا هو الحق العملي الذي قُدم لنا خلال الإنجيل في ربنا يسوع المسيح.

لقد أنكر الغنوسيون حقيقة التجسد برفضهم أن السيد يحمل جسدًا حقيقيًا، بهذا ينكرون الحياة التقوية التي صارت لنا فيه، ويحولون الحق إلى معرفة نظرية عقلانية بلا ورح ولا حياة! بمعنى آخر، التجسد الإلهي ليس عقيدة فلسفية تعتنقها الكنيسة للمجادلة، وإنما هي سرّ حياتها التقوية وأمجادها الداخلية!

ج. تبرر في الروح: ما هي الكنيسة إلاَّ قبول الروح القدس الذي وهبه لنا الله، هذا الذي يدخل بنا إلى الثبوت في المسيح يسوع ربنا، لا لنغتسل بدمه الكريم من خطايانا فحسب، إنما نحمل برّ المسيح فينا، فنُحسب في عيني الآب أبرارًا. يقول الرسول: "لكن اغتسلتم، بل تقدستم، بل تبررتم، باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (١ كو ٦: ١١). إن كانت الكنيسة في جوهرها هي ثبوت في المسيح، كأعضاء جسده، فإن هذه العطية تحمل من الجانب الآخر انطلاقها بالروح القدس إلى حضن الآب متبررة بالدم الكريم، حاملة سمات عريسها ورأسها!

د. تراءى لملائكة: انطلاق الكنيسة بالروح الناري، لتحيا ببرّ المسيح في حضن الآب، يجعل منها في الحقيقة "حياة سماوية" وتمتع بالطبيعة الملائكية، فتنعم برؤية الله، حيث يصير أعضاؤها أشبه بملائكة يُعلن لهم الله غير المنظور! بمعنى آخر، الكنيسة في العهد الجديد هي تجلي الابن الوحيد الجنس في وسط المؤمنين كملائكة ينعمون بحضرته ورؤيته وينعمون بسماته.

ربنا يقصد الرسول بقوله: "تراءى لملائكة" أن الملائكة الذين كانوا يرونه قبل التجسد قد أدركوه بمفهوم جديد خلال تجسده في كنيسته، رأوه في كمال حبه الفائق خلال الصليب، وعمله الإلهي العجيب في المؤمنين الذين كانوا قبلاً خطاة وأعداء، وقد تقدسوا فيه وتبرروا وصاروا أبناء أحياء وممجدين فيه!

ه. كرز بين الأمم: إن كانت الكنيسة هي عمود الحق وقاعدته الذي يهب لن سرّ التقوى في المسيح يسوع، وينطلق بنا بالروح القدس لنحيا ببرّ المسيح، ونشارك الملائكة طبيعتهم، فإن هذا كله إنما يقدم لكل البشرية خلال الكرازة بالمسيا المخلص بين الأمم، فينعم الكل بهذه النعم الإلهية بلا تمييز ولا محاباة لأمة على حساب أمة، أو جنس على حساب آخر. وكما يقول المرتل: "إلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم" (مز ٤٩: ٤). أما غاية هذه الكرازة فهي رفع البشرية إلى المجد السماوي.

في اختصار نقول أن الراعي الحقيقي يرى في الكنيسة تمتعًا بالحق العملي خلال سرّ التجسد الإلهي، ودخولاً إلى الحياة التقوية في المسيح يسوع، وتبريرًا في الروح، وشركة مع الملائكة. هي سرّ انفتاح البشرية كلها على الإيمان الجامع للدخول إلى المجد العلوي، فيحيا الكل في الأحضان السماوية.

بأسلوب آخر يعلق القديس يوحنا الذهبي الفمعلى هذا النص، قائلاً: [حقًا عظيم هو السرّ: الله صار إنسانًا والإنسان إلها، صار الإنسان يُرى بلا خطية! صار (الإله المتأنس) مقبولاً في العالم، ومكروزًا به يراه الملائكة معنا! هذا بحق هو سرّ! ليتنا لا نحتقره... بل نحيا كما يليق بهذا السرّ.]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

 تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر تيموثاوس الأولى     تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 08, 2010 7:44 pm

الاصحاح الرابع

جهاد الرعاة

بعد أن تحدث الرسول بولس مع تلميذه تيموثاوس عن الوصية كغاية الرعاية ، موضحًا بعض المفاهيم الخاصة بالعبادة الكنسية الجماعية، تحدث عن سمات الرعاة والخدام، والآن يحدثه عن الالتزام بالجهاد الروحي حتى يدخل بالكل إلى الحياة الكنسية، أي إلى الاتحاد مع الله في المسيح يسوع والتمتع بالتبرير في الروح والشركة مع السمائيين، والدخول إلى الأمجاد الإلهية. إنه عمل روحي شاق، يتطلب أن يكون الراعي واعيًا وصاحيًا ضد كل هرطقة، ومثابرًا في كل جهاد روحي، لهذا يتكلم هنا عن:

1. الارتداد عن الإيمان ١ – ١١.

2. وصايا للراعي ١٢– ١٦.

1. الارتداد عن الإيمان

"ولكن الروح يقول صريحًا،

أنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان،

تابعين أرواحًا مضلة،

في ريَاء أقوال كاذبة مسمومة ضمائرهم،

مانعين عن الزواج،

وآمرين أن يمتنع عن أطعمة قد خلقها الله

لتتناول بالشكر من المؤمنين وعارفي الحق" .

لقد نادى الهراطقة، أصحاب الميول الغنوسية، بالامتناع عن الزواج وعدم أكل اللحوم بكونهما أمرين محرمين يدنسان النفس، وقد التزمت الفئة التي كانوا يلقبونها بالكاملين بهذا الامتناع.

أما تدنسيهم للزواج فعلَّته نظرتهم نحو الجسد كعنصر ظلمة يجب معاداته، وبالتالي فالعلاقات الجسدية بين الرجل وامرأته، في نظرهم، تأكيد لمتطلبات الجسد الدنس، فهي دنسة ومحرمة على الكاملين. على العكس، في مفهومنا المسيحي، الجسد هو خليقة الله الصالحة والمقدسة، إن كان بسبب خطايانا قد مال إلى الشهوات الشريرة، لكن بقبول الابن الكلمة ناسوتنا قدَّس أجسادنا. فصرنا ننظر إليه بكل وقارٍ وتكريمٍ، وعليه فإن العلاقات الجسدية بين الرجل والمرأة لا تعني إشباع شهوات دنيئة، إنما علامة الحب الداخلي والوحدة بين الطرفين، حيث يحترم كل الآخر. بمعنى آخر الزواج في نظر المؤمن الحقيقي ليس إشباعًا لشهوات جسده، لكنه أولاً وقبل كل شيء هو قبول الطرف الآخر كشخصٍ له فكره ومواهبه وقلبه قبل أن يكون له جسده. إنه يتطلع إليه كإنسان، يحبه ويحترمه ويقدس نظرته إلى جسده! ويرى بعض اللاهوتيين في العلاقة الجسدية نظرة إجلال وتقديس بكونها شركة الإنسان مع الله في إنجاب الأطفال ليكونوا أعضاء في الجسد المقدس، أولادًا لله!

لقد أفاض الآباء في الحديث عن قدسية الزواج، فيقول القديس أغسطينوس:[إذ حضر الرب العرس الذي دُعي إليه... أراد تأكيد أن الزواج إنما من تأسيسه هو... وإن الاتحاد بين الرجل والمرأة من قبل الله، وأن التطليق من الشيطان.]

ربما يتسائل البعض: لماذا كرّم الرسول بولس البتولية، مشتهيًا أن يكون الكل مثله يعيشون بلا هم؟ ولماذا قامت الحركات الرهبانية المسيحية؟

البتولية المسيحية ليست امتناعًا عن الزواج كأمرٍ دنسٍ، بل هي تمتع بزواجٍ روحيٍ بين النفس وعريسها، خلاله تريد ألا تنشغل بآخر غيره. الزواج سرّ مقدس، يحترمه البتول والراهب والراهبة، إنما يفضلون البتولية ليس تدنيسًا للزواج، وإنما انطلاقًا نحو الحياة الملائكية المكرسة للعبادة والخدمة الإلهية.

إننا لا نمنع من يرغب في الزواج، لكننا نشجع من لا يرغبون فيه لأجل البتولية. يوجد فارق بين المنع وأن يُترك الإنسان يتصرف بكامل حريته. من يمنع يأمر بذلك للجميع، أما من يوصي بالبتولية كحالة أسمى فإنه لا يمنع الزواج إنما يفضل البتولية.

القديس يوحنا ذهبي الفم

أما بالنسبة للأطعمة، فقد تطلع بعض الغنوسيين إلى اللحوم وبعض الأطعمة كعناصر شرٍ لا يليق بالكاملين أن يتناولوها، أما الكنيسة فلا تمنع أنواعًا من الأطعمة كأمور دنسة أو نجسة، إنما تطلب من أولادها الصوم عنها، فترة من الزمن، لضبط الجسد حتى يُعطى للنفس إمكانية السيطرة على الجسد بالروح القدس مقدس النفس والجسد معًا. الصوم هو انطلاقة روحية أكثر منه نسكًا للجسد، لذا يُسمح للمرضى بالإفطار دون تشكك، حاسبين المرض نوعًا من الصوم، يتقبلونه بشكر!

هذه هي نظرتنا للمادة، أيا كانت "خليقة الله جيدة، ولا يرفض شيء إذا أخذ مع الشكر، لأنه يُقدس بكلمة الله والصلاة". لقد خلق الله كل شيءٍ حسنًا (تك 1: 31)، ليس في خليقة الله ما هو دنس، لكن إذ سقط الإنسان سيد الخليقة الأرضية في الخطية تدنست نظرته، كما دنس بضميره بعض الأشياء بإساءة استخدمها، كمن يستخدم الحجارة والذهب والفضة في عبادة الأصنام. المادة في ذاتها صالحة، لكن الإنسان دنسها بضميره الشرير، لذا صار تقديسها مرتبطًا بتقديس طبيعة الإنسان وضميره ونظرته.

يعلق القديس يوحنا ذهبي الفم على العبارة الرسولية السابقة، قائلاً [يقدم الرسول وضعين: الأول ليس شيء من خليقة الله دنسًا، والثاني إن كان شيئ ما قد صار دنسًا، فالعلاج هو أن يختم (يرشم بعلامة الصليب) مع الشكر لله وتقديم المجد له، فينزع عنه كل دنس.] ويقول القديس أغسطينوس: [كل الأشياء الموجودة صالحة لأن خالق هذه جميعها هو كلي الصلاح.]

ركز الرسول بولس على أمور ثلاث كسر للتقديس: حياة الشكر، وكلمة الله، والصلاة. هذه الأمور تُقدم بصورة فائقة وفريدة في الإفخارستيا، حيث تنطلق الكنيسة بالروح القدس نحو الآب السماوي لتقدمله الشكر خلال ذبيحة ابنه الفريدة، أي ذبيحة كلمة الله المتجسد. فيتقبل الآب من الكنيسة حياتها كحياة شكر، وكحياة إنجيلية (كلمة الله)، وحياة صلاة مقبولة لديه، لهذا يقدم لها ينبوع تقديس بلا حدود، خلاله ليس فقط يقدس أرواحهم وأجسادهم، إنما يقدس أيضًا المادة على أعلى مستوى، حيث يتحول الخبز والخمر إلى جسد السيد ودمه الأقدسين!

هذا هو التعليم الصحيح الذي نشأ عليه القديس تيموثاوس، أن كل خليقة الله صالحة، وإن ما قد دنسه الإنسان يتقدس بالشكر والكلمة الإلهية والصلاة. لذلك يقول الرسول له: "إن فكرت الإخوة بهذا تكون خادمًا صالحًا ليسوع المسيح، متربيًا بكلام الإيمان والتعليم الحسن الذي تتبعه". لقد تربى تيموثاوس على الإيمان المستقيم بعيدًا عن الأضاليل، وها هو ملتزم أن يفكر الإخوة بهذا الإيمان. هنا يقول "إن فكرت الإخوة" ولا يقل إن "أمرت الإخوة بهذا"، فإن الراعي الصالح هو الذي لا يأمر وينهي كثيرًا كمن هو متعالي على المخدومين، إنما يتحدث معهم كمن يذكر إخوته.

بعد أن تحدث عن الجانب الإيجابي وهو تربية تيموثاوس على الإيمان الحيّ والتعليم المستقيم والتزامه بتذكير شعب الله. بذلك تعرض للجانب السلبي، إذ يقول: "وأما الخرافات الدنسة العجائزية فارفضها".

يليق بالراعي ألا يفسد وقته وفكره بالأمور المضللة، إنما يهتم بترويض حياته وحياة شعبه على الحياة التقوية أو الرياضة الروحية القائمة على أساس الإيمان المستقيم. "وروض نفسك للتقوى، لأن الرياضة الجسدية نافعة لقليل، ولكن التقوى نافعة لكل شيء، إذ لها موعد الحياة الحاضرة والعتيدة". كان الراعي ملتزم أن يكون في كل وقته ملتهبًا بنار الروح القدس لبنيان كنيسة الله في حياته الخاصة أو عمله بين شعب الله.

ماذا يقصد بالخرافات الدنسة العجائزية؟ ربما ذات الأفكار الغنوسية السابق الحديث عنها، وهي أفكار ذات أصل وثني وقد شاخت ولكنها تتسلل تحت ستار "المعرفة" إلى بعض المسيحيين. إنها أفكار دنسه شائخة تحاول أن تلبس صورة جديدة خلال الهراطقة لعدم الإيمان المستقيم. ويرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن هذه الخرافات إنما تمثل الأفكار الخاصة بالعودة إلى التهود، وهي أفكار باطلة لا تحمل قوة كلمة الله الروحية بل حرفية قاتلة. دعاها عجائزية، لأنها صارت قديمة وشاخت، ولم تعد تناسب الحياة الجديدة التي لنا في المسيح يسوع ربنا، ويرى القديس إن العودة إليها إنما كعودة الرجل الناضج إلى الرضاعة، فلا ينتفع شيئًا بل يُصاب بضررٍ.

يليق بالإنسان الروحي وقد ارتقى من الطفولة غير الناضجة حتى بلغ الرجولة ألا يعود إلى حرفية الناموس، بل يروض نفسه كرجل على الرياضة الروحية التي هي أفضل من الرياضة الجسدية.

ماذا يقصد الرسول بالرياضة الجسدية؟

يرى البعض أنها التداريب الخاصة بالصوم والزهد الشديد (بغير روح) فإنها قد تنفع الجسد لكنها لا تفيد النفس ما لم ترتبط بالروح (الصلاة والحب الخ.) غير أن القديس يوحنا ذهبي الفم يرفض هذا الرأي إذ يرى أن الرياضة الجسدية هي الألعاب الأولمبية التي كانت منتشرة لدى اليونان. إنها نافعة للجسد إلى حين، أما الرياضة التقوية فتسند النفس والجسد معًا. إنه يقول: [يرى البعض أن الرسول يشير هنا إلى الصوم، لكن هذا المعنى غير لائق، فإن الصوم رياضة روحية لا جسدية. لو كان الصوم رياضة جسدية لكان منعشًا للجسد، لكنه يجعله هزيلاً ونحيلاً، لهذا فهو ليس رياضة جسدية.]

إذ يتحدث الرسول عن الرياضة التقوية يقول: "صادقة هي الكلمة، ومستحقة كل قبول، لأننا لهذا نتعب ونُعير، لأننا قد ألقينا رجاءنا على الله الحيّ، الذي هو مخلص جميع الناس ولا سيما المؤمنين. أوصِ بهذا وعلم".

ما هي الكلمة الصادقة المستحقة كل قبول؟ الرياضة التقوية الروحية نافعة لكل شيء، لها المواعيد الحاضرة والمستقبلة. تدخل بالمؤمن إلى الرجاء في الله الحيّ، فينال البركات الحاضرة والمستقبلة، أو كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [من يدرك في نفسه أنه بلا شر (أي غفرت له خطاياه وشروره) يكون له ثمر صالح، فيفرح هنا أيضًا أما الشرير فعلى العكس يعاقب هنا، كما يعاقب هناك. إنه يعيش في حالة خوف دائم، لا يقدر أن يتطلع إلى أحدٍ بثقةٍ، يكون دائمًا شاحب الوجه مرتعبًا، ومملوءًا قلقًا. أليس هذا هو حال المحتالين واللصوص الذين لا يكتفون بما لديهم؟ أليست هذه هي حياة القتلة والزناة المملوئين بؤسًا هؤلاء الذين يتطلعون إلى الشمس يتشكك؟ لا بل بالحري هي بشاعة.]

هذا هو عمل الرياضة الروحية الحقة، إنها تبعث في النفس روح الرجاء المفرح، الأمر الذي له انعكاساته حتى على حياتنا الزمنية بجانب إكليلنا السماوي، فنحيا فرحين متهللين حتى وسط الآلام، لا يفارقنا فرح الروح حتى وسط الدموع. ولعل هذا ما قصده السيد المسيح حين وعدنا في هذا العالم بمئة ضعف وفي الحياة الأخرى بالحياة الأبدية (مت 19: 29؛ مر 10: 30).

يقول الرسول: "لهذا نتعب ونعير"، فإنه يحلو الصليب بكل آلامه وأتعابه وما فيه من مرارة وحرمان، لأن وسط الضيقات المتزايدة تتلذذ النفس بالتعزيات الإلهية الفائقة، وخلال شركة آلام الصليب نتعرف على قوة القيامة عاملة فينا.

هذه الوعود ليست خاصة بفئة دون أخرى كما يدعي الغنوسيون، إنما هي وعود للبشرية كلها. هذا ما يؤكده الرسول في كل رسائله، إذ يقول هنا: "ألقينا رجاءنا على الله الحي الذي هو مخلص الجميع الناس ولاسيما المؤمنين". إنه مخلص جميع البشر، لكنه لا يستطيع أن يلتمس عمله الخلاصي سوى المؤمنين.

2. وصايا للراعي

بعد أن تحدث عن التزام الراعي بالجهاد الروحي في حياته الخاصة وكرازته بالإيمان المستقيم الحي، قدم له وصايا تمس جهاده:

أ."لا يستهن أحد بحداثتك، بل كن قدوة للمؤمنين في الكلام، في التصرف، في المحبة، في الروح، في الإيمان، في الطهارة" . إن كان الراعي حديث السن، فلا تصغر نفسه فيه، فإن الشيخ لا يُحسب هكذا بشيبة السن، وإنما باتسامه بالحكمة، ليس فقط خلال المعرفة والوعظ والتعليم، وإنما أيضًا في تدبير الأمور وإعلان الحب أي اتساع القلب ليضم فيه كل نفس، وفي كل حكمة الروح، فلا ينحرف عن الخط الروحي المتزن، وفي الإيمان بلا تخوف ولا تردد، وفي حياة الطهارة والنقاوة (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). الرعاية لا تطلب خبرة زمن بقدر ما تطلب خبرة حياة صادقة وأمينة، معلنة على فم الراعي وفي قلبه وروحه وفي كل تصرفاته الظاهرة والخفية، فيكون مثالاً حيًا لشعب الله.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [مادامت حياتك متزنة فإنهم لا يستخفون بحداثتك، بل بالحري يعجبون بك بالأكثر، لهذا يكمل قائلاً: "كن قدوة للمؤمنين في الكلام في التصرف في المحبة في الروح في الإيمان في الطهارة". لتظهر كمثال للأعمال الصالحة في كل شيء، ولتكن نموذجًا للحياة المسيحية، نموذجًا يُقدم للغير كناموس حي وقاعدة وقياس للحياة الصالحة. هذا ما يليق بالمعلم.]

ب. "إلى أن أجيء أعكف على القراءة والوعظ والتعليم". يليق بالراعي أن يكون دائم النمو في حياته الداخلية، خلال الرياضة الروحية، ولاسيما حب القراءة والتعلم مع الشوق إلى الوعظ والتعليم بقصد الدخول بكل نفسٍ إلى الخبرات الجديدة التي يمارسها المعلم كل يوم. فالراعي يتعلم ويعلم، يتدرب ويدرب الآخرين، ينمو كل يوم فيأتي بثمر في حياته وحياة اخوته وأولاده الروحيين.

ج. "لا تهمل الموهبة التي فيك المعطاة لك بالنبوة مع وضع أيدي المشيخةPresbytery". إن كان الله قد وهبنا مواهب فيلزم ألا نطمرها بل نعمل بها رابحين لتقديمها للرب مع ربحها. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن النبوة هنا تعني التعليم وأن كلمةPresbytery تعني الكهنوت بصفة عامة، وأن الرسول هنا درجة الأسقفية لا القسيسية.

المواهب المعطاة للقديس تيموثاوس هي كلمة الوعظ (النبوة) ومع درجة الأسقفية الخ. إنها مواهب مجانية مقدمة له من قبل الله، بلا فضل من جانبه، لكنه ملتزم أن يضرمها بالعمل والجهاد حتى لا تذبل فيه، فيدان أمام من وهبه إياها.

هنا أيضًا تأكيد لنوال الدرجة الكهنوتية بوضع الأيدي، لكن هذه العطية ليست للكرامة، وإنما لحمل المسئولية، إذ يقول الرسول: "اهتم بهذا، كن فيه" بمعنى "كرس كل حياتك وكل طاقاتك وكل مواهبك لحساب هذه الموهبة المجانية. كن في هذا العمل دون غيره". يطالبه الرسول بضرورة النمو الدائم في كل شيء، في الدراسة والعبادة والكرازة والتعليم والتدبير والإرشاد الروحي. أي يكون النمو في كل جانب من جوانب الرعاية بغير تطرف، إذ يقول الرسول: "لكي يكون تقدمك ظاهرًا في شيء" كما يقول: "لاحظ نفسك والتعليم وداوم على ذلك، لأنك إن فعلت هذا تخلص نفسك والذين يسمعونك". ليست هناك ثنائية في حياة الراعي، ولا تطرف. إنه يعمل روحيًا لبناء نفسه كما لبناء شعب الله، حياته الروحية لا تقوم على حساب مسئولياته الرعوية، ولا الأخيرة على حساب الأولى، إنما يعمل في حياته الخاصة وفي عمله الرعوي بكونهما عملاً واحدًا متكاملاً ومتناسقًا!

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

 تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر تيموثاوس الأولى     تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 08, 2010 7:57 pm

الاصحاح الخامس

العلاقات الكنسية

بعد أن قدم الرسول لتلميذه وصايا تخص حياته الروحية وعمله الرعوي بكونهما عملاً واحدًا متكاملاً، أوضح له الخطوط العريضة في طريقة التعامل مع الرعية:

1. توجيه كل فئة ١ – ٢.

2. إكرام الأرمل ٣ – ١٦.

3. الاهتمام بالكهنة ١٧ – ١٨.

4. أسلوب التوبيخ ١٩ – ٢١.

5. عدم التعجل في السيامات ٢٢.

6. وصية خاصة بصحته ٢٣.

7. الخطايا الواضحة والخفية ٢٤ – ٢٥.

1. توجيه كل فئة

"لا تزجر شيخًا بل عظه كأب،

والأحداث كإخوة،

والعجائز كأمهات،

والحدثات كأخوات بكل طهارة" .

كأن الرسول يعلن للرعاة أنه يجب عليهم أن يكونوا حكماء في معاملتهم مع كل فئة وكل فرد من أفراد الرعية، يعرفون كيف يكسبون الكل رجالاً ونساءً، شيوخًا وأطفالاً الخ. حتى لا ينحرف أحدهم عن حظيرة السيد المسيح. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يختلط الكاهن بالمتزوجين الذين لهم أطفال وخدم، كما يختلط بالأغنياء وأصاحب المراكز العامة وذوي النفوذ... لهذا وجب أن يكون إنسانًا يعرف كيف يعامل الكل (many sides man). لست أقول أن يكون مخادعًا أو متملقًا أو مرائيًا، بل يكون شديد المرونة... يعرف كيف يتلاءم مع كل واحد حتى يربحه، حسبما تقتضي الظروف. فيكون رحيمًا وحازمًا، لأنه يستحيل عليه أن يعامل كل الذين تحت إشرافه بمعاملة واحدة. كالطبيب الذي ليس له أن يستخدم علاجًا واحدًا لكل المرضى الذين يعالجهم، أو ربان السفينة الذي ينبغي عليه ألا يعرف طريقة واحدة فقط لصد الرياح، إذ نتعرض لرياح كثيرة.]

يقدم لنا الرسول عينات عن طريقة تعامل الراعي مع فئات شعبه، يمكن إجمالها في عبارة واحدة، وهي أن الرعاية ليست سلطة بل حب. فالراعي يتعامل مع كبار السن بكونهم آباء وأمهات له: "لا تزجر شيخًا بل عظه كأب... والعجائز كأمهات". إنه ملتزم بمعالجة أخطائهم لكن دون زجرهم بسلطان، وإنما خلال الحديث الودي كابن يتحدث مع أبيه أو أمه. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الزجر في طبيعته أمر خاطيء، خاصة إن وجه إلى الشيخ، أما إن صدر عن شاب لشيخ فيكون الخطأ مضاعفًا ثلاث مرات.]

ولا يقف الحنو عند الشيوخ والعجائز، وإنما يمتد إلى معاملة الراعي للأحداث والحدثات، إذ يقول: "والأحداث كإخوة... والحدثات كأخوات بكل طهارة". بدون الحب لا يقدر الراعي أن يدخل إلى قلوب الأحداث والحدثات. لكن يجب عليه في معالجته لأخطاء الحدثات أن يلتزم بروح الطهارة حتى لا يتعثر ولا يعثر أحدًا، لئلا فيما هو يصلحهن يفقد طهارته أو يعثر الآخرين حتى وإن كان تصرفه صادرًا عن بساطة قلب. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [التعامل مع الحدثات يسبب دائمًا شكوكًا، ومع هذا لا يقدر الأسقف أن يتجنب التعامل معهن باستمرار، لذا يلزم أن يكون مثل هذا الالتصاق بكل طهارة.]

في اختصار نقول أن الراعي في علاقته بشعب الله يلزمه أن يعرف كيف يتعامل مع كل فئة، بل مع كل شخص بروح الحب المملوءة رقةً وحنوًا، لكن دون مجاملة أو مداهنة على حساب خلاص نفسه أو خلاص أنفسهم، يسلك بروح الحكمة والطهارة حتى لا يتعثر ولا يُعثر أحدًا.

2. إكرام الأرمل

في معالجة السيد المسيح لمشكلة الألم في حياة الناس، لم يأتِ لينزع الآلام عنا، لكنه قبلها بإرادته عنا ليحوّل مجراها ومفهومها. بعد أن كانت الآلام ثمرة غضب الله، وبصمة من بصمات عصياننا عليه، صارت في المسيح يسوع علامة حب إلهي فائق، وطاعة حتى الموت موت الصليب. وذبيحة شكر مقدمة من الابن الوحيد. بهذا انفتح طريق الألم لنا بمفهومٍ جديد خلال إعلان حبنا وطاعتنا لشكرنا للآب في ابنه. هكذا أيضًا في حالة الترمل، فإن الكنيسة لم تخرج الأرامل عن حالة ترملهن بتشجيعهن على الزواج لنزع الألم عنهم، وإنما رفعت مفهوم "الترمل"، لتكون ليس بحالة بؤس وحزن، وإنما حالة عمل روحي في الكنيسة. صارت الأرامل تمثل طغمة معينة لها كرامتها وعملها الإيجابي في الكنيسة. فلا تعيش الأرامل كفئة منكوبة تتلمس عطف الجميع وترفقهم، فيسلكن منكسرات القلب، لا بل هن فئة تحتل الصف الثالث بعد رجال الكهنوت والمتبتلين، لهن عملهن العظيم ورسالتهن في الكنيسة. بهذا ترفع روحهن المعنوية وتنتفع الكنيسة عامة بهن وبخدمتهن. هذا ما نلمسه بوضوح في الرسالة التي وجههاالقديس يوحنا الذهبي الفم إلى شابة أرملة، كان زوجها أوشك أن ينال وظيفة والي مقاطعة فكتب ليواسيها في مصابها الفادح، بل بالحري ليدفعها للعمل في كرم الرب. وهنا نلاحظ الرسول بولس قد أطال الحديث عن "الأرامل" ربما أكثر من أي فئة أخرى، معطيًا إياهن اهتماما خاصًا، ويظهر مدى اهتمام الكنيسة الأولى خاصة آباء مدرسة اسكندرية بهن في كتاباتها عنهن.

يقول الرسول: "أكرم الأرامل اللواتي هن بالحقيقة أرامل". كأنه يميز بين من هي بالحقيقة أرملة، ومن هي ليست بالحقيقة أرملة. بمعنى آخر يميز بين من هي أرملة في طغمة الأرامل العاملات في الكنيسة، والأرامل اللواتي تعولهن الكنيسة.

فمن جهة إعالة الكنيسة الأرامل يقول الرسول: "ولكن إن كانت أرملة لها أولاد أو حفدة، فليتعلموا أولاً أن يوقروا أهل بيتهم، ويوفوا والديهم المكافأة، لأن هذا صالح ومقبول لدى الله".

يطالب الرسول المؤمن أبسط القواعد الإنسانية، وهي إن ترملت أمه أو جدته يلتزم المؤمن بإعالتها، إن كانت هي خدمته في طفولته وصبوته دون أن تنتظر الجزاء، فإن أصابها عوز بسبب ترملها وجب عليه الاهتمام بها. هكذا تلتزم العائلات القادرة بسد احتياجات أراملها حتى تتفرغ الكنيسة كهنة وشعبًا لسد احتياجات الأرامل المحتاجات.

في العهد القديم يرفض الله عبادة المؤمنين إن خلت من أعمال المحبة والرحمة، مطالبًا إياهم الاهتمام بالأرملة، إذ يقول: "تعلموا فعل الخير: اطلبوا الحق، انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة" (إش ١: ١٧). وفي القرن الثاني الميلادي كتب القديس أغناطيوس أسقف أنطاكية إلى أخيه القديس بوليكربوس أسقف أزمير: [أمام الرب، فلتكن محاميًا عنهن.] وكتب القديس بوليكربوس: [يجب على الكهنة أن يكونوا رحومين مترفقين بالكل، لا يعطون ظهرهم لمن ضلوا، يهتمون بالمرضى، ولا يتجاهلون الأرامل أو اليتامى الفقراء.] ويتحدث القديس يوستين في ذات القرن عن مساعدة الأيتام والأرامل كجزء لا يتجزأ من العبادة الإفخارستية الأسبوعية، حيث يقدم المؤمنون عطاياهم ويقوم رئيس الجماعة المقدسة بتوزيعها. ويقول هرماس أيضًا في ذات القرن أن المؤمن إن يصوم يدفع ثمن غذاء يومه لأرملة أو يتيم أو أي إنسان محتاج. كأن الاهتمام باحتياجات الأرامل تشغل قلب كل مؤمن سواء كان أسقفًا أو كاهنًا أو من الشعب، كجزء لا يتجزأ من سلوكه المسيحي وعبادته الأسبوعية الجماعية وعباده الخاصة الخفية.

هكذا اهتمت الكنيسة باحتياجات الأرامل منذ انطلاقها، وقد وضع الرسول بولس الشروط اللازمة في الأرملة لكي تعولها الكنيسة، إذ يقول: "ولكن التي هي بالحقيقة أرملة ووحيدة فقد ألقت رجاءها على الله وهي تواظب على الطلبات والصلوات ليلاً ونهارًا، وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية".

لقد اشترط الرسول فيها:

أ. أن تكون بالحقيقة أرملة ووحيدة، أي فقدت رجلها وليس لها أولاد أو حفدة قادرون على إعالتها.

ب.ألقت رجاءها على الله الحي، أي إن كانت قد فقدت كل من يعولها لكنها وضعت رجاءها فيمن هو بالحق قادر أن يعول. إنها تجد راحتها في الله نفسه، الذي لا يتركها وحيدة! مثل هذه تحتضنها الكنيسة لتجد أيضًا في المؤمنين، كهنة وشعبًا، أحباء لها يقدمون لها كل راحة ممكنة، فتقبل محبتهم كما من الله نفسه.

ج. تواظب على الطلبات والصلوات ليلاً ونهارًا. إنها لم تختر الحياة الزمنية كسرّ بهجتها لكنها دائمة الاتصال بعريسها، تسأله طلباتها وتدخل معه في صلوات بلا انقطاع.

د.لا تعيش حياة مترفة مدللة: "وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية". هذا هو حال النفس التي تفقد عريسها المسيح وتعيش مترملة تسأل التنعم بالزمنيات لتشبع فراغ قلبها. وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [الإنسان الذي يعيش في لذة ميت وهو حي. إنه يعيش من أجل بطنه، ولا يحيا لبقية أحاسيسه (المقدسة). فهو لا ينظر ما كان ينبغي أن ينظره، ولا يسمع ما كان يجب أن يسمعه، ولا ينطق بما يلزم أن يتكلم به، ولا يتمم أعمال الأحياء... إنه ميت!]

"فاوصِ بهذا لكي يكن بلا لوم". يعلقالقديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة الرسولية: [لا يُترك الأمر لاختيارهن. أوصِ، كما يقول، ألا يكن في ترف... فإن هذا أمر غير لائق بهن. ولا يجوز للمترفات أن يشتركن في الأسرار الإلهية... إذن لنوصي الأرامل المترفات ألا يكتتبن في قوائم الأرامل طاعة للرسول، وذلك كالجندي الذي لا يحسب مؤهلاً لوظيفته لأنه يكثر الدخول إلى الحمامات والمسارح.]

يكمل الرسول: "وإن كان أحد لا يعتني بخاصته، ولاسيما أهل بيته، فقد أنكر الإيمان، وهو شر من غير المؤمن". لقد استغل بولس هذا الموقف الخاص برعاية الأرامل ليعلن التزام المؤمن ليس فقط نحو والدته أو جدته الأرملة، وإنما نحو كل عضو في الكنيسة المقدسة في عوز، خاصة أسرته. سمة المسيحي الحقيقي هو الحب بلا حدود، والاعتناء بالغير، فكم بالحري نحو خاصته وأهل بيته؟ جاء في سفر إشعياء: "لا تتغاضى عن لحمك" (٥٨: ٧). ويعلقالقديس يوحنا الذهبي الفم: [الاعتناء الذي يتكلم عنه جامع يخص النفس والجسد، أي الاعتناء بالاثنين معًا.] كما يقول: [من لا يعتني بعائلته يعتدي على شريعة الله وعلى ناموس الطبيعة... ليس الإيمان مجرد اعتراف بعقيدة، وإنما هو تتميم الأعمال اللائقة بالإيمان.]

لاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم أن بعض المؤمنين يهتمون برعاية الآخرين جسديًا أو روحيًا بينما يتجاهلون احتياجات عائلاتهم، هذا إ يكشف عن دافع خدمتهم للغير أنها ليست عن محبة أو لطف قلبي وإنما عن حب الظهور. فلو كانت خدمتهم نابعة من أعماق قلبية محبة لما تجاهلوا بيتهم حيث لا يراهم أحد ليشكرهم ويمدحهم.

يرى القديس أغسطينوس في الأرملة الوحيدة التي ألقت رجاءها على الله وهي تواظب على الطلبات والصلوات ليلاً ونهارًا وتسلك بغير ترف تمثل النفس البشرية المترملة كمن هي بلا رجل يعينها. إذ يقول: [كل نفس تدرك أنها مجردة عن عون إلاَّ الله وحده فهي مترملة... ما الذي يجعلها أرملة؟ إدراكها أنه ليس لها عون من مصدر آخر غير الله وحده. ليس لها زوج، ولا تنتفخ بحمايته لها، لذلك تبدو الأرامل مهجورات لكن معونتهن أعظم. الكنيسة ككل هي أرملة واحدة، سواء كانوا رجالاً أو نساء، متزوجين ومتزوجات، الكنيسة ككل أرملة واحدة مهجورة في هذا العالم! إن شعرت بهذا وعرفت حقيقة ترملها عندئذ يكون العون بين يديها حاضرًا لديها.]

بعد الحديث عن إعالة الأرامل تحدث الرسول عن "فئة الأرامل"، قائلاً: "لتُكتتب أرملة إن لم يكن عمرها أقل من ستين سنة، امرأة رجل واحد، مشهودًا لها في أعمال صالحة إن لم تكن قد ربت الأولاد، أضافت الغرباء، غسلت أرجل القديسين، ساعدت المتضايقين، اتبعت كل عملٍ صالح.

يقولRoger Gryson في كتابه عن "خدمة المرأة في الكنيسة الأولى أكثر من مرة وضع الاسكندرانيون الأرامل في نفس القوائم مع الأساقفة والكهنة والشمامسة، مثال ذلك إكليمنضس السكندري حيث يعلن أن "وصايا بلا حصر كهذه قد كتبت في الكتاب المقدس توجه إلى أشخاص مختارين، البعض للكهنة، والأخرى للأساقفة، كما للشمامسة وللأرامل". هذا لا يعني أن الأرامل يمثلن جزءً من الكهنوت، لكنهن يمثلن نصيبًا من التنظيم الكنسي، لهن عملهن الخاص، خاصة الصلاة. وقد أفرد كثير من الآباء مقالات خاصة عن "الترمل".

وقد حدد الرسول الشروط السابقة لاكتتاب الأرملة في الكنيسة. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه السمات بقوله: "يا للغرابة! أي دقة يتطلبها في الأرامل، فإنها تكون ذات السمات المطلوبة في الأسقف.]

وفيما يلي السمات:

أ.ألا يقل عمرها عن الستين عامًا، كأرملة يهتم الرسول بسنها حتى لا يتعثر أحد بتنقلاتها بين بيوت الفقراء والمرضي لخدمتهم، وأيضًا مرافقتهن للأسقف أو الكاهن عند زيارة بعض البيوت لخدمة النساء أو الفتيات، أو عند عماد الفتيات. إنهن سند قوي في خدمة النساء (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). وفي حديث القديس يوحنا الذهبي الفم لأرملة شابة يعلق على العبارة الرسولية التي بين أيدينا، قائلاً: [عندما نظم (الرسول) موضوع الأساقفة لم يحدد لهن السن، أما هنا فحدد السن، لماذا؟ ليس لأن الترمل أعظم من الكهنوت، إنما لأن للأرامل أعمال خطيرة... فهن محاصرات بأعمال متنوعة، عامة وخاصة. وكما أن المدينة غير الحصينة تكون نهبًا لمن يريد أن يسلبها، هكذا الشابة الأرملة، يترقبها كثيرون حولها، ليس فقط الذين يرغبون في نهب أموالها، وإنما الراغبون في إفساد عفتها أيضًا.]

ب.امرأة رجل واحد، فلا يكون قد سبق لها أكثر من زواج، بهذا تحمل سمة من سمات الأسقف والشماس. وكأن الكنيسة لا تستريح في خدامها أو العاملين فيها أن يكونوا غير أعفاء أو حتى سبق زواجهم أكثر من مرة.

ج.لها شهادة أنها تمارس الأعمال الصالحة، أي مشهود لها أن تكون بلا لوم كما قيل عن الأسقف. يقول القديس أمبروسيوس: [ليس فقط طهارة الجسد وحدها هو هدف الأرملة القوي، وإنما ممارستها للفضيلة على نطاق عظيم وبفيض.] كما يقول: [ليس بلا سبب يجب أن يكن بلا لوم، هؤلاء اللواتي إذ يرتبطن بالأعمال الفاضلة تكون لهن كرامة عظيمة حتى أن الأساقفة يكرمهن. ليس كبر السن وحده يجعل منها أرملة وإنما استحقاقها كأرملة.]

د.ربت أولادها حسنًا، فإذ تتسلم رعاية الفقراء والمرضى، يجب أن تكون قد نجحت فيما كان بين يديها، أي تربية أولادها، فتؤتمن على الغرباء.

ه.إضافة الغرباء: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لاحظ أنه يتحدث عن إضافة الغرباء هنا ليس كمجرد استقبال لطيف لهم، وإنما التقدم إليهم بغيرة ونشاط واستعداد كمن يستقبل المسيح نفسه. يليق بالأرامل أن يحققن ذلك بأنفسهن ولا يعهدن بخدمة الغرباء لخادماتهن. يقول المسيح: "إن كنت وأنا السيد المعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض" (يو ١٣: ١٤)... إن كنتن تستقبلن الغريب كأنه المسيح، فلا تخجلن فإنكن تكن في مجدٍ، وإن كنتن لا تستقبلن هكذا المسيح فلا تقبلوه بالمرة.]

و. غسلت أقدام القديسين: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من هم هؤلاء القديسين؟ القديسون الذين في ضيقة وليس كل القديسين. يوجد قديسون يهتم بهم كثيرون مثل هؤلاء لا تفتقدهم إذ هم في وسع، إنما يجب أن تهتم بمن هم في ضيقة، غير المعروفين، أو يعرفهم قليلون. إنه يقول: "بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت ٢٥: ٤٠).]

ويرفض العلامة أوريجينوس التفسير الحرفي لغسل أقدام القديسين، قائلاً بأن غسل الأقدام إنما هو عمل العبيد والخدم، لا يعنيه الرسول حرفيًا، إنما يعني تطهير النفس بالكلمات اللائقة. كما يقول: [تستحق هؤلاء الأرامل أن يُكرمن في الكنيسة، هؤلاء اللواتي يغسلن أقدام القديسين خلال التعليم الروحي، لا أقصد بالقديسين الرجال بل النساء، "إذ لا أسمح للمرأة أن تعلم أو يكون لها تسلط على الرجل" (١ تي ٢: ١٢). إنه يريد من النساء أن يعلمن ما هو صالح بمعنى أنهن يلقن الحدثات العفة دون الأحداث... إنهن يدربن الحدثات على العفة ومحبة رجالهن وأولادهن.]

من هذا النص نكتشف أن الأرامل في القرن الثاني كن بكنيسة الإسكندرية يقمن بعمل تعليمي بين الحدثات دون الشبان، يدربن إياهن على الحياة التقوية والحياة الروحية المملوءة حبًا، والسلوك الأسري المسيحي.

ز.في اختصار يقول الرسول: "اتبعت كل عمل صالح"، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم [إن الأرملة يلزمها أن تتمم كل عمل صالح وإن لم تستطع فلتساهم فيه]، كما يقول: [هكذا يتطلب الرسول التدقيق في الأرامل أكثر مما يتطلبه في العذارى، يتطلب فيهن أن يكن أكثر دقة وأعظم فضيلة.]

أخيرًا يحذر الرسول بولس من اكتتاب الأرامل الحدثات بقوله: "أما الأرامل الحدثات فارفضهن، لأنهن متى بطرن على المسيح يردن أن يتزوجن، ولهن دينونة لأنهن يرفضن الإيمان الأول". يخشى الرسول من العثرة التي تصدر عن الأرامل الحدَثات لئلا يبطرن على المسيح، أي بعد قبولهن حالة الترمل كحالة زواج مع السيد المسيح روحيًا، يعدن فيردن الزواج، فينقضن عهدهن من جهة تكريس كل وقتهن وطاقاتهن لخدمة الله وإرضائه. إنهن لا يسقطن تحت الدينونة بسبب زواجهن بعد الترمل، وإنما لانحراف فكرهن بعد تعهدهن بالتكريس لخدمة الرب. فكان الأفضل لهن أن يتزوجن قبل أن يكتتبن في قوائم الأرامل ليعملن في الكرم ثم يرجعن عن حياتهن المقدسة.

مثل هؤلاء الحدثات، إذ يتركن عريس نفوسهن يدخلن في حالة من البطالة، إذ يقول الرسول: "ومع ذلك أيضًا يتعلمن أن يكن بطالات يطفن في البيوت، ولسن بطالات فقط، بل مهٍذارات أيضًا وفضوليات يتكلمن بما لا يجب. فأريد أن الحدثات يتزوجن ويلدن الأولاد ويدبرن البيوت لا يعطين علة للمقاوم من أجل الشتم. فإن بعضهن قد انحرفن وراء الشيطان". ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك بقوله: [البطالة هي معلم كل خطية.] فالله لا يهان بزواج الأرامل وانجابهن أولادًا، إنما يهان ببطالتهن الروحية وفراغهن الداخلي، فلا يرضين الله بسلوكهن. الزواج ليس ممنوعًا، بل هو حصن للأرامل والحدثات حتى لا يترك مجالاً للمقاوم أن يغلبهن.

هكذا يكشف الرسول عن كرامة الأرامل كعرائس للسيد المسيح، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بقوله هذا جعلنا نفهم أن اللواتي فقدن رجالهن هن عرائس المسيح بدلاً من رجالهن... هذا أنت ترين أن كرامة عظيمة تُمنح للأرامل! هذا في العهد الجديد حيث أضاء نور البتولية أيضًا بوضوح. وبالرغم من شدة بهاء هذه الفئة (البتوليين) إلاَّ أنها لا تطغي على أمجاد الأرامل، حيث تضيء للكل محتفظة بقيمتها.]

يختم الرسول حديثه عن الأرامل بتأكيد التزام العائلات بأراملهم: "إن كان لمؤمن أو مؤمنة أرامل فليساعدهن، ولا يثقل على الكنيسة، لكي تساعد هي اللواتي بالحقيقة أرامل". نفهم من هذه العبارة بأن الكنيسة تلتزم أن تدبر الأمور المادية وتنظمها، لتعطي من في عوز وليس لهم من يعولهم، بينما تترك أمور المحتاجين ولهم من يعولهم في أيدي القادرين من أولادهم أو أحفادهم الخ. التنظيم لا يتنافى مع الروحانية، وكما يقول القديس أغسطينوس: [كان للرب صندوقًا (يو ١٣: ٢٦–٣١) يحتفظ فيه بتقدمات المؤمنين ليستخدمه في ضرورياته وضروريات من هم في عوز... فلا نفهم وصيته الخاصة بعدم الاهتمام بالغد (مت ٦: ٣٤) بمعنى إلاَّ يكون لقديسيه مالاً، وإنما لا يخدم الله بهدف كهذا.]

3. الاهتمام بالكهنة

"وأما الشيوخ المدبرون حسنًا،

فليحسبوا أهلاً لكرامة مضاعفة،

ولاسيما الذين يتعبون في الكلمة والتعليم،

لأن الكتاب يقول: لا تكم ثورًا دارسًا،

والفاعل يستحق أجرته".

لا يتحدث الرسول هنا عن الكرامة بمعنى تمجيد الخدام، وإنما التزام الكنيسة بسد احتياجاتهم المادية حتى يتفرغوا للكرازة بالكلمة والتعليم. يرىالقديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول هنا يحث الكهنة لا لنوال الأجرة، وإنما للتفرغ للعمل دون ارتباك من جهة ضروريات الحياة. من يعيش في كسلٍ وترفٍ لا يستحق الكرامة ما لم يصر كالثور الدارس الذي يحمل النير بالرغم من الحر، ووجود الأشواك دون توقف، حتى يُحمل المحصول إلى المخزن.

إن كان الكهنة يدبرون شئون المؤمنين الروحية لأجل خلاصهم فإنهم لا يحرمون من نوالهم نصيبًا مضاعفًا من الأمور الزمنية، لا ليعيشوا في ترفٍ، في حياة أرستقراطية، إنما لكي يستطيعوا خلال الفيض مما لديهم أن يقدموا للمحتاجين. الكاهن كصاحب تدبير لا تخاف عليه من المكافأة المضاعفة، لأنها تعجز عن أن تسحبه نحو الأرضيات، وذلك كما أعطى الله أبانا إبراهيم خيرات متكاثرة، فكان إبراهيم يزداد في سخائه وشكره لله وعفته عن الأمور الزمنية. هذا من جانب الكنيسة والمؤمنين، أما من جانب الكاهن نفسه، فيلزمه أن يخاف على نفسه من النصيب المضاعف، لئلا يبتلعه حب العالم وسط خدمته، وتلهيه محبة الناس وكرمهم عن بذله وعطائه في المسيح يسوع ربنا.

4. أسلوب التوبيخ

"لا تقبل شكاية على شيخ إلاَّ على شاهدين أو ثلاثة شهود". هذه الوصية ليست بجديدة، فقد ألزمت الشريعة الموسوية عدم إدانة إنسان بدون شهادة شاهدين أو ثلاثة شهود. وكأن الوصية إنما جاءت لتؤكد الوصية القديمة خاصة بالنسبة للشيوخ، والكلمة اليونانية ل "شيخ" تعني "الكاهن الشيخ" غير أنالقديس يوحنا الذهبي الفم يرى أن الرسول لا يقصد هنا الوظيفة إنما كبر السن. فلا يليق بنا أن نتسرع في تصديق اتهام كبار السن في ارتكاب أية خطية. ولعل هذه الوصية قد ركزت على كبار السن لأنهم متى جرحوا باتهام ما حتى وإن ثبتت براءتهم تبقى نفوسهم مجروحة زمانًا طويلاً بعكس صغار السن.

يكمل الرسول: "الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع، لكي يكون عند الباقين خوف". لعله كان يتحدث عن الكهنة والشيوخ لذلك أمر بعدم التسرع في الحكم، لكن إن ثبت عليهم شيء وكان له خطورته على إيمان الشعب لذا وجب توبيخهم علنًا حفظًا على سلامة إيمان الكنيسة.

ولما كان لهذا الأمر حساسيته الشديدة وخطورته الفادحة، لهذا يشهد عليه الله الآب والابن الوحيد يسوع المسيح والملائكة القديسين ألا يتصرف في هذه الأمور متأثرًا بدوافع شخصية لتحقيق أهواء في نفسه أو بمحاباة، إذ يقول: "أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين، أن تحفظ هذا بدون غرض، ولا تعمل شيئًا بمحاباة".

إن أخطر ما يمكن أن يحدث في الكنيسة أن تتم محاكمات أو إدانة بدوافع شخصية خفية تحت ستار الحق، الأمر الذي ينزع نعمة الله ويشق الكنيسة ويقسمها. لعل التاريخ قد قدم لنا أمثلة ولو قليلة جدًا – كيف حملت بعض المحاكمات الكنسية دوافع خفية على خلاف ما تظهر في الخارج فقدمت لنا مرارة!

5. عدم التعجل في السيامات

"لا تضع يدًا على أحد بالعجلة،

ولا تشترك في خطايا الآخرين.

احفظ نفسك طاهرًا".

بعد أن تحدث عن التدقيق الشديد في محاكمة الكهنة، وعدم التسرع فيها، وبحث دوافعها الخفية يحدثنا هنا عن سيامة الكهنة بكل درجاتهم بوضع اليد (أع ٦: ٦) ألا تتم بعجلة حتى لا يشترك معهم في خطاياهم، مقدمًا حسابًا عنهم أمام الله. يليق بنا عدم التسرع في اختيار الكاهن، حتى لا يُسام وعندئذ نلومه على أخطائه.

حديث الرسول بولس موجه للقديس تيموثاوس كأسقف، لكنه مقدم لكل من يساهم في اختيار رجال الكهنوت. يوبخنا القديس چيروم بقوله: [في هذه الأيام كثيرون يبنون كنائس، حوائطها وعمدها من رخام غالٍ، سُقفها متألقة بالذهب، مذابحها محلاة بالجواهر، أما بالنسبة لاختيار خدام المسيح فلا يعطون اهتماما.]

يربط الرسول بين عدم التسرع في وضع اليد وحفظ حياته طاهرًا، وكأنه باشتراكه في اختيار كهنة طاهرين في كل شيء يشترك معهم في طهارتهم، وإلا فإن كل شر أو شبه شر يرتكبونه يدينه هو، فيُحسب في عيني الله كمن هو غير طاهر.

6. وصية خاصة بصحته

"لا تكن فيما بعد شراب ماء،

بل استعمل خمرًا قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة".

أظهر الرسول أبوة حانية نحو تلميذه، فألزمه ألا يشرب بعد ماءً، بل يستعمل القليل من الخمر كدواء لمعدته وأمراضه الأخرى. حقًا يظهر الرسول بولس كإنسانٍ متسع القلب، لا يُستعبد للحرفية القاتلة. عندما يجد إنسانًا يتعثر بسبب أكله اللحم المستخدم كذبائح وثنية يحرم نفسه من اللحم، قائلاً: "حسن أن لا تأكل لحمًا ولا تشرب خمرًا ولا شيئًا يصطدم به أخوك أو يعثر أو يضعف" (رو ١٤: ٢١)، وعندما يجد أسقفًا يمتنع عن الخمر نهائيًا بالرغم من حاجته إلى استخدام القليل منه لظروفه الصحية يلزمه بالشرب.

يقول العلامة ترتليان أن تيموثاوس [كان ممتنعًا عن الخمر ليس عن قانون، وإنما بسبب تكريسه.] فالخمر في ذاتها ليست محرمة بقانون لكنها غير لائقة خاصة بالنسبة للمكرسين لخدمة الرب. ويرى القديس إكليمنضس السكندري أن تيموثاوس استخدم الخمر كمقوٍ يناسب جسده المريض الخائر، أما تأكيد استخدام "القليل" منه فخشية أن ينسى المرضى بكثرة الخمر.

يتساءلالقديس يوحنا الذهبي الفم: لماذا لم يشفه الرسول من أمراض معدته بدلاً من السماح له بشرب القليل من الخمر؟ وجاءت الإجابة: [لكي إذا ما رأينا عظماء وفضلاء مصابين بالضيقات لا نعترض، فإن هذه بالنسبة لهم افتقاد مفيد. إن كان بولس قد أرسل إليه ملاك الشيطان حتى لا يفتخر فوق القياس (٢كو ١٢: ١١) فبالأكثر يليق أن يصاب تيموثاوس بالضعف. لقد كانت المعجزات التي فعلها كافية أن تسقطه في الكبرياءk لذا ترك للخضوع لعمل الدواء (دون الشفاء المعجزي) حتى يتواضع، وحتى لا يتعثر الغير إذ يتعلمون أن الذين يقومون بأعمال عظيمة هم أناس يشاركونهم طبيعتهم الضعيفة.] هكذا ترك القديس تيموثاوس الذي وهبه الله صنع الآيات والعجائب يئن من المرض ويلتزم بشرب القليل من الخمر علامة ضعفه الشخصي.

7. الخطايا الواضحة والخفية

"خطايا بعض الناس واضحة تتقدم إلى القضاء،

وأما البعض فتتبعهم.

كذلك أيضًا الأعمال الصالحة واضحة

والتي هي خلاف ذلك لا يمكن أن تُخفى" [٢٤: ٢٥].

إذ كان يتحدث عن السيامات يعلن الرسول هنا أن بعض الخطايا واضحة وأيضًا الأعمال الصالحة، وبعض الخطايا خفية وأيضًا الأعمال الصالحة. وكأن الرسول يؤكد لتلميذه التزامه بعدم السيامة لمن كانت خطاياه ظاهرة تتقدمه للحكم الكنسي حيث تفحص الكنيسة من يُرشحون للعمل الكهنوتي. لا يقف الأمر عند عدم وجود خطايا ظاهرة، وإنما يلزم أن تزكيهم أعمالهم الصالحة. حقًا يوجد من يظهرون غير ما يبطنون، فأعمالهم الحقيقية مخفية، لذا كثيرًا ما نخطيء في الاختيار. لذا نحتاج في السيامات إلى تدخل الله نفسه فاحص القلوب والكلى. ما أحوجنا إلى الصلاة مع التقديس حتى يختار الله رعاة قلوبهم مثل قلبه!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

 تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر تيموثاوس الأولى     تفسير سفر تيموثاوس الأولى  Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 08, 2010 8:06 pm

الاصحاح السادس

العلاقات الاجتماعية

بعد أن تحدث عن التنظيمات الكنسية موضحًا علاقة الراعي بفئات الشعب من شيوخ وأحداث وعجائز، ومسئولية الكنيسة نحو الأرامل والكهنة، وسيامة الكهنة الخ. يقدم لنا الرسول صور حية عن العلاقات الاجتماعية خاصة بين العبيد والسادة في الرب.

1. وصايا للعبيد ١ – ٢.

2. الاهتمام بالجانب العملي ٢ – ٥.

3. توجهيات للأغنياء ٦ – ١٩.

4. وصية ختامية ٢٠ – ٢٢.

1. وصايا للعبيد

يقدم الرسول الخطوط العريضة لتلميذه في توجيهاته للعبيد كما للسادة الأغنياء لكي تكون خدمته عملية ومثمرة، بعيدة عن المماحكات الكلامية الباطلة. "جميع الذين هم عبيد تحت نير، فليحسبوا سادتهم مستحقين كل إكرام، لئلا يُفتري على اسم الله وتعليمه".

اهتم الرسول في كتاباته بالعبيد الذين قبلوا الإيمان المسيحي، مقدمًا لهم وصايا يلتزمون بها كما قدم للسادة المسيحيين وصايا تجاه العبيد. إن كان الرسول لم يقم بثورة علنية ضد نظام العبيد، لكنه بالحب والإيمان كان يهدم النظام من جذره. لقد رفع من معنوية العبد، وقدم له رسالة إيمانية خلال حياته التقوية حتى تجاه سيده القاسي.

يوجه الرسول حديثه إلي العبيد الذين هم "تحت النير"، وكأنه يعلن لهم أنه يتحدث معهم كمن يشعر بآلامهم وأثقالهم، ويدرك أنهم تحت نير، يتحدث خلال الواقع العملي لا الفكر الفلسفي النظري. حقًا ليس في مقدوره أن يرفع عنهم هذا النير، لكنه إذ يقدم لهم إمكانية الحياة الجديدة في المسيح يسوع يرفع نفوسهم فوق كل ما هو مادي أو نفسي. فلا يتطلع العبد إلى نفسه وهو تحت نير العبودية كمن هو في مذلة ومرارة، لكنه إذ يحمل فيه "المسيح يسوع" يرتفع بقلبه وفكره وأحاسيسه فوق النير، ليعلن الحق الإنجيلي لسيده العنيف، لا خلال المماحكات الكلامية، ولا العنف، وإنما خلال الحياة الإنجيلية وسلوكه الإيماني المملوء حبًا. فيأسر سيده بالحب، ويجتذبه بالحياة العملية. بهذا يعيش العبد في طاعة لسيده العنيف، لا عن خوف أو قسر، إنما خلال إيمانه بالله في المسيح يسوع ربنا. وقد كشف لنا التاريخ عن عبيدٍ كثيرين استطاعوا أن يجتذبوا سادتهم إلى الإيمان، بل وخرج من السادة أنفسهم من ثار على هذا النظام الجائر.

بهذا المنظار الروحي يرفع الرسول الإنسان فوق كل الظروف المحيطة به، فيحقق غايته حتى وإن كان عبدًا لسيدٍ عنيفٍ. في هذا يقول القديس أمبروسيوس: [مع أن يوسف جاء عن أسرة البطاركة الشرفاء لكنه لم يخجل من عبوديته الوضيعة، بل زينها بخدمته الحاضرة، وجعلها مجيدة بفضائله. لقد عرف كيف يتواضع، ذاك الذي صار سلعة في يدي المشتري والبائع، ودعاهما "سيدي". أنظر إلى تواضعه وهو يقول: "هوذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت، وكل ما له قد دفعه إلى يدي، ليس هو في هذا البيت أعظم مني، ولم يمسك عني شيئًا غيرك لأنك امرأته، فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطىء إلى الله؟" (تك ٣٩: ٨-٩). كلماته مملوءة تواضعًا وعفة، مملوءة تواضعًا، إذ كان مطيعًا لسيده بروحٍ كريمة يعترف بجميله، ومملوءة عفة، إذ حسبها خطية مرعبة أن يتدنس بجريمة عظيمة كهذه.]

لقد رفع السيد المسيح روح العبيد، فإنه وهو ابن الله الكلمة جذب إليه البشرية لا بالكشف عن أمجاده الإلهية، وإنما بقبوله "العبودية". فجاء يغسل الأقدام بيديه كعبدٍ والقلوب بدمه الطاهر! لهذا لم يستنكف الرسول بولس أن يعلن أنه قد استعبد نفسه لكثيرين، حتى يرفعهم من حالة العبودية للخطية إلى البنوة الحرة لله! إذن في حبنا للغير لا نستنكف من خدمهتم، بل بكل فرح نستعبد أنفسنا لهم في المسيح يسوع، نحبهم ونطيعهم ونخضع لهم في الرب، حتى نأسر عنفهم وقسوتهم وندخل بهم إلى حرية الحب الإلهي.

هذا بالنسبة للعبيد في علاقتهم بسادتهم غير المؤمنين أو المرؤوسين في معاملاتهم مع الرؤساء العنفاء، فما هو موقفهم مع المؤمنين اللطفاء؟ يقول الرسول: "والذين لهم سادة مؤمنون لا يستهينوا بهم لأنهم إخوة، بل ليخدموهم أكثر، لأن الذين يتشاركون في الفائدة هم مؤمنون ومحبون، علّم وعظ بهذا".

إن كان العبد المؤمن يخضع بالطاعة للسيد غير المؤمن من أجل تمجيد الله وإعلان إنجيله حتى لا يجدف على الله، فإنه ملتزم أيضًا بالخضوع للسيد المؤمن من أجل الأخوة والحب. حقًا في الإيمان يدخل الكل في أخوة صادقة إذ "ليس عبد ولا حرّ في المسيح يسوع" (غل ٣: ٢٨، ١ كو ٣: ١١). لكن هذه الأخوة لا تعني أن نسلب الكرامة ممن لهم الكرامة أو نهضم حق إخوتنا من نحونا. إيماننا في المسيح يسوع يهبنا المساواة في الروح والحق أمام الله والكنيسة، لكنه لا يعفينا من التزاماتنا الزمنية سواء الخاصة بالعمل أو القرابة، كخضوع الابن لأبيه، وأمانة العامل لحساب صاحب العمل. الأخوة لا تعني استهتارًا أو استحقاقًا بحقوق المؤمنين، إنما بالعكس تدفع المرؤوس للأمانة في تقديم واجباته نحو المؤمنين بجدية صادقة. يقول الرسول: "بل ليخدمونهم لأنهم مؤمنون ومحبوبون"، ويعلقالقديس يوحنا الذهبي الفم: [كأنه يقول: إن كنتم تحسبونه نفعًا عظيمًا أن يكون سادتكم إخوة لكم، فعلى هذا الأساس يلزمكم بالأكثر أن تخضعوا لهم.]

إن كان هكذا يليق بالعبيد أن يطيعوا سادتهم ويحبونهم فكم بالحري يليق بنا أن نخضع لسيد البشرية كله ونحبه. يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [لنخجل أيها الأحباء ولنخف! ليتنا نخدم سيدنا كما يخدمنا عبيدنا.] كما يقول عن العبيد: [خوف سادتهم أمام أعينهم، وخوف سيدنا ليس أمامنا على الإطلاق.]

2. الاهتمام بالجانب العملي

"علم وعظ بهذا.

إن كان أحدًا يعلم تعليمًا آخر

ولا يوافق كلمات ربنا يسوع المسيح الصحيحة

والتعليم الذي هو حسب التقوى،

فقد تصّلف، وهو لا يفهم شيئًا،

بل هو متعلل بمباحثات ومماحكات الكلام التي فيها يحصل الحسد

والخصام والافتراء والظنون الردية،

ومنازعات أناس فاسدي الذهن وعادمي الحق يظنون أن التقوى تجارة.

تجنب مثل هؤلاء".

يوصي الرسول تلميذه أن يعلم ويعظ، لعله قصد بالتعليم تقديم الإيمان المستقيم والعقيدة المسيحية، وبالوعظ أي تحويل العقيدة إلى حياة عملية وتطبيقات سلوكية. كأن الرسول يوصيه أن يمزج العقيدة بالسلوك، والإيمان بالعمل! ويرىالقديس يوحنا الذهبي الفم أن امتزاج التعليم بالوعظ إنما يعني امتزاج السلطة كمعلم بالحنو كواعظ، قائلاً: [لا يحتاج المعلم إلى السلطان وحده وإنما إلى اللطف أيضًا، وليس إلى اللطف وحده وإنما إلى سلطان أيضًا.]

يقول الرسول: "علّم وعظ بهذا" ماذا يقصد "بهذا"؟ أي بما سبق فأعلنه بروح المسيح، روح التقوى العملية في المسيح يسوع ربنا. هذه التي إن انحرف عنها أحد ليتكلم من عنده حسب الحكمة البشرية وليس بما يعلمه الروح القدس (١ كو ٢: ١٣) يكون متصلفًا ومتكبرًا. فإن الكبرياء يحوّل الإيمان إلى مماحكات ومباحثات غبية تفسد حياة الإنسان الروحية، وتنزع منه روح التقوى، بل وتدفع الكنيسة كلها إلى الحسد والخصام والافتراءات والظنون الرديئة، فتنشأ منازعات فاسدة كلها خبث ودهاء واحتيال، ليس فيها شيء من الحق. بهذا تتحول التقوى إلى تجارة، إذ يعمل أصحاب المنازعات لا لحساب المسيح وبنيان الكنيسة، وإنما لحسابهم الخاص. لذا يؤكد الرسول: "تجنب مثل هؤلاء".

يعلقالقديس يوحنا الذهبي الفم على العبارات السابقة: [لا ينبع التصلف عن المعرفة، إنما عن عدم المعرفة، فمن يعرف تعاليم التقوى يميل بالأكثر إلي التواضع. من يعرف الكلمات المستقيمة لا يكون غير مستقيم]، كما يقول: [من يعرف ما لا يلزم معرفته فهو عديم المعرفة، والكبرياء تنشأ عن عدم المعرفة.]

يتحدث القديس كبريانوس عن خطورة هؤلاء الهراطقة المتصلفين الذين يقسمون الكنيسة ويفسدون الإيمان، قائلاً: [يقول الرسول: "لا يغركم أحد بكلام باطل، لأنه بسبب هذه الأمور يأتي غضب الله على أبناء المعصية فلا تكونوا شركاءهم" (أف ٥: ٦-٧). ليس هناك علة للانخداع بكلماته الباطلة والاشتراك معه في فساده. اهرب من مثل هذا. أتوسل إليك وأرجوك يا من تسكب صلوات يومية للرب، يا من ترغب في أن تنسحب إلى الكنيسة خلال رأفات الله، يا من تصلي من أجل سلام الله الكامل (الكنيسة) الأم وللأولاد (المؤمنين). لتلتحم طلباتك وصلواتك مع طلباتنا وصلواتنا، ولتختلط دموعك بنحيبنا. لنحذر الذئاب التي تفصل القطيع عن الراعي. تجنب لسان الشيطان السام، الذي هو مخادع وكذاب منذ بدء العالم، يكذب لكي يخدع، ويداهن لكي يضر، يعد بالحسنات لكي يبث شرورًا، يعد الحياة ليقدم موتًا... يعد بالسلام لكي لا يتحقق السلام، وبالخلاص حتى لا يبلغ الخاطيء للخلاص، ويعد بالكنيسة مع أنه يبذل كل الجهد لكي يدفع كل من يؤمن به إلى الهلاك تمامًا خارج الكنيسة.]

3. توجهيات للأغنياء

"وأما التقوى مع القناعة فهي تجارة عظيمة". إذ يسقط أصحاب المناقشات الفاسدة والمماحكات في محبة الأرضيات، محولين التقوى إلى تجارة، مستغلين الروحيات لصالحهم الخاص، إذ بهم في الحقيقة يخسرون، لأن "التقوى مع القناعة هي تجارة عظيمة". كلما ترك الإنسان محبة العالم وراء ظهره أشبعه الله روحيًا ونفسيًا وماديًا أيضًا. كلما زهد الإنسان فيما هو للعالم يعطيه الله بالأكثر، إذ لا يخشى عليه من أمور العالم، وذلك كما حدث مع أبينا إبراهيم. بقدر ما ترك كان يأخذ، وعلى العكس بقدر ما طمع لوط في الأرضيات خرج فارغ اليدين حتى زوجته فقدها. لذلك يقول مار اسحق السرياني بأن من طلب الكرامة هربت منه، ومن تركها جرت وراءه وتعلقت به.

بروح التقوى يدرك المؤمن الحقيقي هذه الحقيقة: "لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء، فإن كانت لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما". إدراكه أنه يدخل العالم بلا شيء، وخروجه منه بلا شيء، يجعل قلبه مقتنعًا بالقليل جدًا، فيعيش لا للترف وإنما لمجرد الحياة. يريد ما يكفي قوت جسده وما يستره ليحيا بقوة الروح حتى يخرج. أما من يشتهي غنى هذا العالم، فيعيش في حالة فقر داخلي لا تقدر أمور العالم أن تشبعه، إذ يقول الرسول: "وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة، تغرق الناس في العطب والهلاك، لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرةٍ".

وللقديس يوحنا الذهبي الفم تعليق هام، [يقول الرسول: "الذين يريدون أن يكونوا أغنياء" ولم يقل "الذين هم أغنياء" بل الذين يشتهون الغنى. فالإنسان الذي له مال يستخدمه حسنًا دون أن يبالغ في تقييمه له، مقدمًا إياه للفقراء، مثل هذا لا يُلام، إنما يلام من كان طماعًا.] لقد اهتم القديس إكليمنضس السكندري بمعالجة هذا الأمر فكتب مقالاً تحت عنوان "هل يخلص الغني؟" موضوعه الرئيسي تأكيد أن الغنى ليس شرًا في ذاته، إنما شهوة الغنى هي الشر. بدون المال ما كان يمكن تقديم العون للفقراء والمرضى والغرباء الخ.

ليس الغنى وإنما الاستعباد للغنى هو الذي يدفع الإنسان إلى الدخول في تجارب وفخاخ وشهوات كثيرة غبية مضرة تغرق الناس في الهلاك. يثقل الإنسان فيحطمه في الأعماق، فلا يقدر أن يرتفع على مياه العالم. أما النفس التي تحررت من محبة الغنى وشهوته، فتقدر أن ترتفع لتطأ أمواجه تحت قدميها، وتعلو فوق كل تياراته. النفس المتحررة من حب العالم تعيش في حرية صادقة لا يقدر أحد أن يقتنصها.

"لأن محبة العالم أصل لكل الشرور، الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرة". هكذا يرى الرسول محبة المال أصل كل الشرور، إن أسر قلبًا ينحرف به عن الإيمان المستقيم، يطعن الإنسان الداخلي بآلام كثيرة. بسبب المال قد ينكر الإنسان إلهه، أو يعصى وصيته الإلهية، فيلجأ إلى السرقة أو القتل أو إثارة الانقسامات الخ.

يعلقالقديس يوحنا الذهبي الفم على هذا القول الرسولي هكذا:

[انزع محبة المال تنتهي الحروب والمعارك والعداوة والصراعات والنزاعات. لذا يجب طرد محبي المال من العالم، فإنهم كالذئاب والأوبئة. وكما أن الرياح العنيفة المضادة إذ تكتسح بحرًا هادئًا تثيره من أعماقه، فتجعل الرمال الراكدة في الأعماق مختلطة بالأمواج العالية، هكذا يربك محبو المال كل شيء، ويسببون اضطرابًا. الإنسان الطامع لا يعرف له صديقًا قط. ولماذا أقول صديقًا، فإنه لا يعرف حتى الله نفسه!...

إنه كالنار التي تمسك في الخشب فتدمر كل ما حولها (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). هكذا يحطم هذا الألم (محبة المال) العالم.

يتعرض لهذا الألم الملوك والعظماء، الشرفاء والفقراء، النساء والرجال والأطفال، مع أننا نسمع في الأماكن العامة والخاصة عظات عن الطمع، لكن ليس منهم من ينصلح حاله. إذن ماذا نفعل؟ كيف نطفيء هذا اللهيب؟ فإنه وإن كان قد ارتفع حتى السماء لكن يلزم إطفائه. لتكن لنا الإرادة، وعندئذ يمكننا السيطرة على الحريق الهائل!

كما أنه بإرادتنا التهب هكذا بإرادتنا يجب إخماده!... إذن لتكن لنا الإرادة. ولكن كيف تتولد هذه الإرادة؟ إن أدركنا بطلان الغنى وعدم نفعه، وعرفنا أنه لا يرحل معنا من هنا، بل سيتركنا حتى ونحن بعد هنا. إنه يتراجع وراءنا، تاركًا إيانا في جراحات ترافقنا عند رحيلنا.

إن أدركنا وجود غنى هناك (في السماء) إن قورن به غنى هذا العالم يظهر الأخير أكثر حقارة من الروث. إن أدركنا أنه محفوف بمخاطر لا حد لها، فمع ما فيه من لذة مؤقتة لكنه مرتبط بالحزن. إن تأملنا غنى الحياة الأبدية الحقيقية نقرر احتقار غنى العالم، إن تذكرنا أنه لا ينفع شيئًا سواء من مجد أو صحة أو شيء آخر، بل على العكس يغرق الناس ويدفع بهم إلى الهلاك والدمار.]

يربط الرسول بين محبة المال والانحراف عن الإيمان، إذ يقول: "الذي إذا ابتغاه قوم، ضلوا عن الإيمان". وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [يجتذب الطمع أعينهم إليه، ويسرق أذهانهم، ولا يسمح لهم أن ينظروا طريقهم. وذلك كما لو أن إنسانًا يسير في طريق مستقيم غالبًا لا يعرفه، فيعبر على المدينة التي يسرع إليها وتتعب قدماه بطريقة عشوائية، إذ يسير بلا هدف. هذا هو ما يعمله الطمع.]

يتحدث القديس كبريانوس عن رباطات شهوة الغنى، إذ يقول: [كيف يقدرون أن يتبعوا المسيح من تثقلوا بأغلال غناهم؟ أو كيف يقدرون أن يطلبوا السماء، ويتسلقون المرتفعات السامية العالية، هؤلاء الذين تثقلوا بالشهوات الأرضية؟ يظنون أنهم يملكون مع أنهم مملوكون، إنهم عبيد لأرباحهم وليسوا سادة على ما لهم!]

ربما يتساءل البعض: لماذا تحسب محبة المال أصل لكل الشرور، مادمت لا أطلب مال الغير بل ما هو لي؟ يجيب العلامة ترتليان: [يعلن روح الرب بالرسول: "محبة المال أصل لكل الشرور". ليتنا لا نفسر "محبة المال" هذه بكونها مجرد اشتهاء ما للغير، وإنما محبة ما يبدو أنه ملك لنا، فإن هذا أيضًا هو ملك للغير، فإنه ليس شيء ملكًًا لنا مادام كل شيء هو لله، بل حتى أنفسنا هي ملك له.]

نختم حديثنا عن "محبة الغنى" بقول القديس إكليمنضس السكندري: [أفضل الغنى هو الافتقار في الشهوات.] لنطلب الغنى الحقيقي والأفضل حيث لا يكون في القلب شهوات، بل يكون في حالة فقرٍ فيها، ذلك إن كان القلب في حالة شبع حقيقي في المسيح يسوع مصدر الغنى الحقيقي، كقول الرسول لأهل كورنثوس: "إنكم في كل شيء استغنيتم فيه" (١ كو ١: ٥).

يقدم لنا الرسول بولس في الجانب الإيجابي للهروب من محبة الغنى الزمني بطلب الغنى فيما للمسيح، بل الغنى في المسيح نفسه، إذ يقول: "وأما أنت يا إنسان الله، فاهرب من هذا، واتبع البرّ والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والوداعة".

إذ يريد تحريرنا من محبة الغنى الزمني يذكرنا بمركزنا الحقيقي، قائلاً: "يا إنسان الله" فإن رجل الله يطلب غناه فيما هو لله لا فيما هو زمني وزائل. يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [يا له من قلب عظيم الكرامة! إننا جميعًا نُحسب كأناس الله، لكن البار على وجه الخصوص هو "إنسان الله"... إن كنت إنسان الله فلا تطلب الأمور الكمالية التي لا تقودك لله، بل "اهرب من هذا واتبع البرّ". لا تكن طماعًا، بل اتبع "التقوى" أي سلامة التعليم، والإيمان الذي هو ضد المباحثات، والمحبة، والصبر، والوداعة.]

هكذا يعالج الرسول الطمع بكل وسيلة إيجابية وسلبية، فبعد أن أبرزه كأصل لكل الشرور وعلة الانحراف الإيماني كما السلوكي، أبرز مركز المؤمن كإنسان الله، تعلو نفسه فوق الزمنيات المؤقتة، ليطلب الأحضان الأبوية الأبدية. فإنه لن يقدر أن يهرب من الطمع مادامت نظرته ملتصقة بالسفليات، وقلبه يزحف على الأرض، أما إن أدرك مركزه يرتفع قلبه إلى حيث كنزه في حضن الآب. هذا والهروب من الطمع ومحبة الزمنيات ليست خسارة أو فقدان بل هي حالة امتلاء وشبع من المسيح يسوع نفسه بكونه "البرّ" الحقيقي، والحب الإلهي الخ. ففيه تختبر النفس حياة التقوى لتعيش في غنى داخلي خلال القناعة، ولا تشعر بالعوز إلى شيء. إذن عوض محبة الزمنيات ننعم بالحياة الجديدة في المسيح يسوع بواسطة روحه القدوس، لندخل في حضن الآب.

هذه الحياة الغنية والمجيدة، التي ترفعنا فوق الزمنيات تتطلب في المؤمن الجهاد المستمر، والتمسك بالوعود الأبدية، وإعلان اعترافنا أو شهادتنا الإيمانية أمام الجميع، إذ يكمل الرسول: "جاهد جهاد الإيمان الحسن، وأمسك بالحياة الأبدية التي إليها دُعيت أيضًا، واعترف الاعتراف الحسن أمام شهود كثيرين". هكذا ينتقل الرسول بولس من حديثه عن محبة المال أو الطمع الذي يأسر محبي الغنى إلى ما هو أعمق، أي الدخول في آلام الجهاد، فلا يقف المؤمن عند عدم اشتهائه للزمنيات، وإنما يتقبل الآلام من أجل المكافأة السماوية الموعود بها. يضع أمامه الجعالة العليا التي هي الحياة الأبدية المدعو إليها حتى يقدر أن يجاهد جهاد الإيمان الحسن، ويعترف الاعتراف المستقيم عمليًا أمام شهودٍ كثيرين. بهذا نكون كالمشتركين في مباريات الألعاب الرياضية الذين من أجل نوالهم المكافأة يحرمون أنفسهم من الكثير من الملذات الجسدية لتهيئة أجسامهم وتدريبها على الألعاب.

هذه الوصية الخاصة بالجهاد الإيماني الحسن أمام الشهود لا تخص الشعب وحده، وإنما يلتزم بها الراعي نفسه أيضًا. إذ يقول الرسول: "أوصيك إمام الله الذي يحيي الكل والمسيح يسوع الذي شهد لدى بيلاطس بنطس الاعتراف الحسن أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا يسوع المسيح".

إذ هي وصية خطيرة يشهد عليه الله الآب وابنه الوحيد يسوع المسيح لكي يحفظها بلا دنس حتى النهاية، أي حتى المجيء الأخير إلى ملاقاة السيد نفسه.

يوصيه لا بعدم الطمع فحسب، وإنما احتمال الآلام أيضًا، مشهدًا عليه الله الآب واهب الحياة ومعطي القيامة من الأموات، وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [هنا يقدم له تعزية وسط المخاطر التي تنتظره، مذكرًا إياه بالقيامة التي تعمل فيه.]

يشهده أيضًا أمام السيد المسيح الذي قدم نفسه مثالاً لنا في الشهادة الحقيقية أمام بيلاطس بنطس. وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [تنبع الوصية عن مثال السيد، فيلزمكم أن تعملوا ما فعله السيد. لهذا السبب أشهد المسيح حتى تتبع خطواته (١ بط ٢: ٢١). يقول "الاعتراف الحسن"، متحدثًا مع تلميذه تيموثاوس ما قاله أيضًا في رسالته إلى العبرانيين: "ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مستهينًا بالخزي، فجلس عن يمين عرش الله. فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه، لئلا تكلوا وتخوروا في أذهانكم (نفوسكم)" (عب ١٣: ٢-٣). وكأنه يقول: لا تخف الموت مادمت خادم الله واهب الحياة. ولكن أي اعتراف حسن يشير إليه الرسول؟ ذاك الذي صنعه عندما سأله بيلاطس: أفأنت إذن ملك؟ (يو ١٨: ٣٧) قال: "لهذا قد ولدت"، كما قال: "ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق. انظروا إنه يسمع لي". ربما قصد الرسول هذه الشهادة، أو قصد ما حدث عندما سأله: "أفأنت ابن الله؟" فأجاب: "أنت تقول" (لو ٢٢: ٧٠)، وشهادات أخرى كثيرة واعترافات قدمها.]

هذه الشهادة التي قدمها السيد المسيح أمام بيلاطس بقوة هي التي تدفع المؤمن – كاهنًا أو من الشعب – لحفظ الوصية، سواء من جهة التعليم أو السلوك، شاهدًا للحق سواء من جهة العقيدة الإيمانية أو العمل الروحي. هذه الشهادة التي يعلنها المؤمن هنا تتجلى عند ظهور السيد المسيح، إذ يقول الرسول: "الذي سيبينه في أوقاته، المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب". ففي الوقت المناسب يعلنه رب المجد، المبارك أي الذي نقدم له تسبحة البركة بكونه واهب البركات، والعزيز، أي صاحب العزة والقوة والسلطان، ملك الملوك ورب الأرباب. إنه صاحب السلطان الذي لا يعلو عليه سلطان، فإن كان يسمح لنا هنا بالآلام ذلك ليس عن ضعف، وإنما كطريق لدخولنا معه إلى أمجاده.

"الذي وحده له عدم الموت،

ساكنًا في نور لا يُدنى منه،

الذي لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه،

الذي له الكرامة والقدرة الأبدية. آمين".

مرة أخرى إذ قدم لنا السيد نفسه كمثالٍ للشهادة الحسنة فدخل إلى الآلام، ليس عن عجزٍ أو ضعفٍ، إذ هو ملك الملوك ورب الأرباب، الذي وحده لا يقدر الموت أن يغلبه، ولا الظلمة أن تقترب إليه، إذ هو وحده له عدم الموت وساكن في نورٍ لا يُدنى منه، بل هو فوق كل الإدراكات، لم يره أحد قط في جوهره ولا يقدر أن يراه. هذا الإله يحمل اعترافًا حسنًا أمام بيلاطس الضعيف، فكيف يخاف المؤمن من الشهادة الحسنة؟ لقد شهد بالحق حتى يسندنا، فنشهد نحن للحق خلال اتحادنا به. بهذا نقدم له الكرامة واالقدرة الأبدية، حينما نحمل اعترافه الحسن وتظهر سماته فينا.

ولعل الرسول في وصفه للسيد أن له وحده عدم الموت، وأنه ساكن في نورٍ لا يُدنى منه الخ. أراد أن يكشف عن شخص ذاك الذي ننعم به خلال شهادتنا الحسنة معه وبه ولحسابه. فإن كنا بالشهادة الحسنة نتقبل الألم حتى الموت، إنما لكي ننعم بذاك الذي له وحده عدم الموت، وندخل فيه حيث النور الذي لا يُدنى منه. وكما يقول القديس إكليمنضس السكندري: [ماذا يطلب الإنسان بعد أن ينال النور الذي لا يُدنى منه؟]

ولئلا يُفهم حديثه السابق أنه هجوم ضد الغنى والأغنياء، قدم الرسول وصايا للأغنياء المؤمنين، إذ يقول: "أوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا، ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع، وأن يصنعوا صلاحًا، وأن يكونوا أغنياء في أعمالٍ صالحة، وأن يكونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع، مدخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا، لكي يمسكوا بالحياة الأبدية".

يمكننا تلخيص الوصايا السابقة في النقاط التالية:

أ. عدم الاستكبار: يوصي أغنياء هذا الدهر ألا يستكبروا، مميزًا بين أغنياء الدهر الحاضر وأغنياء الدهر الآتي. فهو مطمئن من جهة الآخرين أنهم متواضعون إذ هم أغنياء بالسيد المسيح واهب التواضع، لكنه يخشى على أغنياء الدهر الحاضر من الكبرياء، حيث يسحبهم المال إلى الاعتداد بالذات. هذه هي أولى ضربات الأغنياء، إذ يتكلون على أموالهم، حاسبين أنهم قادرون على فعل كل شيء بالمال، فيسقطون في الكبرياء.

لقد تمتعت القديسة مريم بغنى الدهر الآتي في تواضع عجيب، حيث صار لها مسيحها كنزها الخفي، في أحشائها الجسدية والروحية. وكما يقول القديس أغسطينوس أن السيد المسيح المتواضع لن يعلم أمه الكبرياء. إذن لنحمل مسيحنا في داخلنا كما فعلت القديسة مريم فيهبنا الغنى الحق دون كبرياء!

ب.يحذرهم من الاعتماد على ثروتهم، مؤكدًا ضرورة وضع الرجاء كله في الله لا المال.

ج.الغنى الحق هو التمتع بالأمور التي لا تفنى، لذا يليق بهم إن أرادوا أن يكونوا أغنياء، فليمارسوا أعمال الحب التي يبقى رصيدها سرّ غناهم الأبدي.

د. السخاء في العطاء، فالغنى وزنة مقدمة لهم لا لاكتنازها بل لإضرامها بالعطاء المستمر، حتى يتحول الكنز من الأرض إلى السماء. وقد سبق لنا عرض كثير من أقوال الآباء في العطاء.

4. وصية ختامية

"يا تيموثاوس احفظ الوديعة،

معرضًا عن الكلام الباطل الدنس،

ومخالفات العلم الكاذب الاسم،

الذي إذا تظاهر به قوم زاغوا عن الإيمان.

النعمة معك. آمين".

يختم الرسول حديثه مع تلميذه مطالبًا إياه بحفظ الوديعة، الإيمان الحي، التي سُلمت مرة للقديسين. هذه الوديعة التي ندعوها "التقليد" أو "التسليم الرسولي".

أما علامة اهتمامنا بحفظ الوديعة فهو الإعراض عن الكلام الباطل الدنس، أي المباحثات الغبية تحت اسم "العلم" أو "المعرفة"، (الغنوسية)، فيتحول الإيمان الحي إلى تعبيرات وألفاظ لغوية بلا حياة ولا خبرة، هذا الذي يفقد الإنسان حياته. ولعله قصد بذلك الغنوسيين الذين كما سبق فقلنا، استبدلوا الإيمان بالمعرفة، فسقطوا في العلم الكاذب.

يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [حسنًا يدعوها الرسول هكذا "العلم الكاذب الاسم"، فإنه حيث لا يوجد الإيمان لا توجد المعرفة (الحقة).]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير سفر تيموثاوس الأولى
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير سفر تيموثاوس الثانية
»  تفسير سفر صموئيل أول
» تفسير سفر الجـامعــة
» أصالة نص رسالة يوحنا الأولى ( الجزء الاول )
» تفسير سفر طوبيا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: منتدى الكتاب المقدس :: دراسة اسفار الكتاب المقدس-
انتقل الى: