| تفسير سفر يشوع | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 4:20 pm | |
| سفر يشوع كاتب السفر... يؤكد التلمود اليهودي أن يشوع بن نون هو كاتب السفر، فيما عدا العبارات الخمس الأخيرة، التي غالبًا ما أضافها فينحاس بن العازر بن هرون (24: 33)، وجاء أغلب الدارسين يؤكدون أن الكاتب هو يشوع فيما عدا الفقرات التي حدثت بعد موت يشوع. ومما يؤكد أن يشوع هو الكاتب أن السفر يسجله لنا شاهد عيان لكثير من الأحداث، فيقول: "عندما سمع جميع ملوك الأموريين الذين في عبر الأردن غربًا وجميع ملوك الكنعانيين الذين على البحر أن الرب قد يبس مياه الأردن من أمام بني إسرائيل حتى عبرنا ذابت قلوبهم" (5: 11) (راجع 5: 6)، وأن راحاب كانت حيّة أثناء كتابة السفر، إذ يقول الكاتب: "وسكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم" (6: 25). وإن السفر سجل قبل سليمان كما يظهر من (يش 16: 10) بمقارنته ب (1 مل 9: 16)، ففي سفر يشوع يذكر أن بني إفرايم لم يقدروا أن يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، بينما في ملوك الأول يذكر أن فرعون مصر أخذ جازر وأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين فيها وأعطاها مهرًا لابنته امرأة سليمان. بل وكتب السفر قبل داود النبي إذ جاء فيه أن بني يهوذا لم يقدروا على طرد اليبوسيين من أورشليم إلى ذلك اليوم (يش 15: 63)، بينما جاء في (2 صم 5: 5-9) أن داود ضرب اليبوسيين الذين في أورشليم. سُجل السفر قبل القرن 12 ق.م حيث فيه يذكر إسم الصيدونيين (يش 13: 4-6). وقد صار "الفينيقيين" في القرن الثاني عشر بعد أن صعدت صور على صيدون؛ وقبل سنة 1200 ق.م أي قبل غزو الفلسطنيين للأرض، إذ لم يُذكر الفلسطنييون بين سكان المنطقة أيام غزو يشوع أما الحوادث التي تحققت بعد يشوع فهي موته ، وغلبة كالب على حيرون (يش 15: 13، 14؛ قض 1: 20)، وعثينيئل على دبيسر (يش 15: 15- 19؛ قض 1: 11- 15)، ودان على لشم (يش 19: 47؛ قض 18)... ولعل هذه الفقرات أضافها رئيس الكهنة بعد نياحة يشوع بن نون. موضوعه... عند سفح جبل موآب، وقف شعب بني إسرائيل بخيمة الاجتماع وتابوت العهد مع كهنة الرب واللاويين يتطلعون إلى أرض الموعد عبر الأردن التي طالما كانوا يترقبون نوالها، يأملون في القائد الجديد يشوع أن يعبر بهم إليها فتتحقق فيهم مواعيد الله لآبائهم حقًا لقد استطاع موسى في عهده أن ينعم بأرض جلعاد شرقي الأردن، وهي أرض تصلح لرعاية الغنم، وطلب السبطان والنصف (رأويين وجار ومنسي) أن يمتلكوها، ولكن لم يكن ممكنًا أن ينال أحد شبرًا واحدًا من الميراث سواء شرقي الأردن أو غربه في أيام موسى، بل كان يلزم أن ينتظر الكل القائد الجديد الذي وحده له حق تقديم الميراث. وكأن هذا السفر هو سفر الميراث يعلن أن بيسوع المسيح وحده ينال رجال العهدين القديم والجديد الميراث الأبدي. يشمل هذا السفر تاريخ نحو 31 عامًا من موت موسى إلى موت أليعازر بن هرون، أي بعد موت يشوع بحوالي 6 سنوات. وبحسب التقليد الكنسي تمت هذه الأحداث حوالي عام 1450 ق.م وقد رأى البعض أن ذلك تم في حدود 1200 ق.م بحجة أن بعض المستندات الأثرية تكشف عن أن هذه المنطقة كانت خاضعة لفرعون سنة 1600 ق.م وأيضًا سنة 1200 ق.م... لكن بعض الدارسين يرون أن الغزو المصري كان يتم في فترات متقطعة على مناطق محددة، فيمكن أن يكون قد حدث غزو سابق لامتلاكهم الأرض في أيام يشوع، وأن غزوًا جديدًا قد حدث على مناطق معينة بعد عصر يشوع. مركز السفر... في الدراسات العلمية للعهد القديم يضع بعض الدارسين هذا السفر مع أسفار موسى الخمسة كمكمل لها، حيث تسمى بالسداسيات أما في التقسيم العبري فينقسم العهد القديم إلى أسفار موسى الخمسة، وأسفار الأنبياء الأولين الذي يفتتح بهذا السفر، ثم الأنبياء المتأخرين. ويلاحظ أن هذا السفر يبدأ بكلمة "وكان" وكأنه يربط ما بينه وبين السفر السابق "التثنية" بحرف العطف "الواو". على أي الأحوال يعتبر هذا السفر يمثل حلقة متكاملة مع الأسفار الخمسة خاصة سفري الخروج والعدد. فإن كان الخروج يمثل العبور من أرض العبودية إلى البرية متجهين نحو كنعان، فإن سفر العدد هو سفر الجهاد في البرية بقصد التمتع بالميراث. وإذ يأتي سفر يشوع يحقق غاية الخروج وغاية العدد بقصد الدخول إلى أرض الموعد وتوزيع الميراث على الأسباط. يمكننا أن نقول أن سفر يشوع هو سفر "القيامة مع المسيح" الذي لا ينفصل عن سفر الخروج الذي يمثل "صلب السيد"، ولا عن سفر العدد الذي يمثل "الجهاد"! مركز هذا السفر بالنسبة لأسفار موسى الخمسة كمركز سفر الأعمال بالنسبة للأناجيل الأربعة. فإن كانت الأسفار الخمسة في جوهرها إنما تقدم وعود الله للآباء بمتلاك الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، وقد قدمت الشريعة الموسوية ليمارس المؤمن الطاعة لله ويتعرف على العبادة الحقة والخلاص خلال الذبيحة، فإن سفر يشوع يعتبر بحق هو بداية تاريخ الكنيسة في أرض الموعد، حيث بدأت فعلاً في نوال الميراث، وتمتعت بشيء من الاستقرار في الأرض المقدسة لتلهج في شريعة الرب وتتعبد له في هيكله المقدس وتقدم الذبيحة بغير انقطاع. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إنه سفر كنيسة العهد القديم في بدء انطلاقها بعدما استقرت في كنعان لتحيا ممثلة للعبادة الحيّة وسط عالم أممي دنّسته رجاسات الوثنية. إنه يشبه سفر أعمال الرسل بكونه سفر كنيسة العهد الجديد في بدء إنطلاقها بعدما استقرت بالروح القدس في المسيح يسوع ميراثها الحق، خلاله تمارس طاعة الشريعة الجديدة التي وردت في الأناجيل الأربعة وتمارس العبادة بالروح والحق، وتقدم ذبيحة المسيح الفريدة! إنها تنعم بما حملته إلينا الأناجيل المقدس من بشارة الفرح الجديدة! سمات السفر... 1. شمل هذا السفر أعمال بني إسرائيل في بدء حياتهم الجديدة حيث عبروا نهر الأردن واستقروا في أرض الموعد، حتى يحين الوقت لإقامة هيكل الرب الذي يقدم ظلاً للسماويات. حقًا لقد ضم هذا السفر الحروب العديدة عن دخولهم الأرض ونصرتهم على الأمم ليملكوا هناك، لكن في الحقيقة هو سفر "أمانة الله" في تحقيق مواعيده للإنسان بالرغم من عدم أمانتنا. لقد رأينا في سفري الخروج والعدد عصيان الإنسان المستمر ومقابلته عطايا الله بجحود ومرارة، واستخدم الله كل وسيلة لإعلان غضبه ليس انتقامًا لنفسه ولكن عدم قبوله كقدوس رجاساتهم وعصيانهم، وأخيرًا اضطر أن يحرم الجيل الأول كله من التمتع بالميراث عدا يشوع وكالب (عد 14: 30). ومع ذلك فبفرح حقق الله وعده مع أبنائهم، مقدمًا لهم كل ما سبق فوعد به آبائهم. إن الله يبقى أمينًا بالرغم من عدم أمانتنا، ويترجى خلاصنا، وشتهي مجدنا بالرغم من جحودنا المستمر. 2. كشف لنا هذا السفر "مفهوم الخلاص"، فإن كان الله قد عبر بالشعب الأردن إنما ليملكوا مع يشوع عوض الأمم أصحاب الرجاسات. إنها بحق صورة حية لمفهوم الخلاص، ألا وهو أننا بالرب نطرد من قلبنا كل الرجاسات لنتحرر من سلطان الخطية كمن يطرد ملوكًا من مدنهم ويهدم حصونهم ويبدد جيشهم ويغتصب أرضهم، أما غاية هذا العمل فهو أن يملك يشوع الحيقيقي كملك الملوك، يملك فينا فنصير نحن به ملوكًا، وأصحاب سلطان في الرب. يعبر القديس يوحنا الدرجي عن هذا السلطان الذي يصير لنا بالرب، قائلاً: [كن متسلطًا على قلبك مثل ملك، لكنك تجلس في عمق الاتضاع! تأمر الضحك أن يذهب فيذهب، وتدعو البكاء العذب أن يأتي فيأتي، والجسد العبد العاصي أن يفعل هذا فيفعل (مت 8: 9)]. الله لا يُريد أن يملك فينا لكي يستعبدنا، ولا يطلب عبادتنا كعبيد أو حتى كأجراء، ولكنه وهو يملك يجعلنا ملوكًا... يُريدنا أبناء أصحاب سلطان داخلي في النفس إنه ليس كما صوره الوجوديين يُريد أن يحطم حريتنا أو يكتم أنفاسنا. 3. أبرز هذا السفر "قداسة الله" إذ لا يطبق الخطية، ولا يقدر أن يهادنها. لقد استخدم شعبه في تأديب الوثنيين المصريين على الرجاسات المُرّة، هؤلاء الذين قال عنهم الرسول: "لأنهم لم عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي، وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات... الذين استبدلوا حق الله بالكذب، وأتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق" (رو 1: 21- 25). وفي نفس الوقت ألزم شعبه كأداة تأديب أن يكونوا مقدسين، أن انحرفوا عن قداسته سقطوا تحت التأديب ليس لمجرد عقابهم وإنما بغية تقديسهم بالعودة إلى "سرّ قداستهم". 4. يُشير هذا السفر إلى الخلاص بيسوع المسيح ربنا بدخل الإنسان إلى الحياة الجديدة تحت قيادة قائد جديد في أرض جديدة وينعم بطعام جديد. إنه سفر الميراث الذي ننعم بعربونه هنا خلال تمتعنا بالحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع، والذي وهبنا سلطانًا على قوات الشر وإمكانية طرد كل شر وشبه شر لننعم بالراحة السماوية فيه. وكأننا نقول مع الرسول بولس: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع، ليُظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع" (أف 2: 6). 5. إن كان هذا السفر هو "سفر الخلاص المجاني" حيث يحقق الله وعوده من أجل أمانته ولأجل اسمه الذي دعي علينا، لكنه هو سفر الطاعة لله، فلا نصرة بدون طاعة، ولا تمتع بالميراث خلال العصيان! إيماننا بنعمة الله المجانية يجب أن يلتحم بالطاعة لله، فيُعلن كإيمان حيّ عامل بالمحبة. 6. يعتبر سفر يشوع أيضًا هو سفر قبول الأمم، فإن كان لابد للشعب أن يرث كنعان بعد طرد الوثنيين، لكن الله لا يرفضهم، إنما يرفض وثنيتهم وشرهم، وحينما أعلنت راحاب الكنعانية الزانية إيمانها تمتعت وعائلتها بالخلاص، وصار لها الشرف الذي حُرم منعه كثير من العبرانيات أن من نسلها يأتي المسّيا المخلص. لقد سُجل اسمها في سلسلة نسب السيد (مت 1: 25)، الأمر الذي حُرم منه كثير حتى من أبطال الإيمان والأنبياء! الله لا يرفض إنسانًا في البشرية، بل يطلب خلاص الجميع: "يُريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4). 7. معاملات الله مع الإنسان حملت وسيلة جديدة. قبلاً كان الله يتحدث مع أولاده خلال الأحلام والرؤى وخدمة الملائكة، أما الآن فقد تسلم موسى الشريعة، لذا صار حديث الله مع شعبه خلال الوصية المسلمة أو المكتوبة. كان الوصية الرئيسية للقائد الجديد هي: "كن متشددًا وتشجع جدًا لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي. لا تمل عنها يمينًا أو شمالاً لكي تفلح حيثما تذهب. لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك..." (يش 1، 7، . وعندما زحف يشوع إلى أرض الموعد اختار جبل عيبال كمركز لهم في ذلك الحين، عليه بنى مذبحًا للرب وكتب على الحجارة نسخة من توراة موسى (يش 8: 32)، ثم "قرأ جميع كلام التوراة البركة واللعنة حسب ما كُتب في سفر التوراة، ولم تكن كلمة من كل ما أُمر بها موسى لم يقرأها يشوع قدام كل جماعة إسرائيل والنساء والأصفال والغريب السائر في وسطهم" (يش 8: 34-35). 8. بدأ سفر يشوع بموت موسى كممثل الناموس حتى يتسلم يشوع القيادة ويدخل بهم إلى أرض الموعد، كما انتهى السفر بموت يشوع ليعلن أنه لا يمكن التمتع بالميراث ولا الاستقرار والراحة إلاَّ بموت ربنا يسوع عنا فنموت معه ونحيا معه وبه. | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| |
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| |
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 4:58 pm | |
| | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 5:11 pm | |
| الاصحاح الرابع
حجارة نهر الأردن
لما كان نهر الأردن يشير إلى سرّ المعمودية المقدسة في جانبها الإيجابي، لهذا انتخب يشوع إثنى عشر رجلاً من الشعب يحملون اثنى عشر حجرًا من أعماق الأردن ليقيموها في الجلجال إعلانًا عن قيام الكنيسة المقدسة خلال المعمودية.
1. الحجارة التذكارية [1-8].
2. الحجارة التي نصبت في القاع [9].
3. الإسراع في العبور [10-11].
4. عبور الجند المتجردين [12-13].
5. مهابة يشوع [14].
6. الصعود إلى الجلجال [15-24].
1. الحجارة التذكارية...
"وكان لما انتهى جميع الشعب من عبور الأردن أن الرب كلم الشعب، قائلاً: انتخبوا من الشعب إثنى عشر رجلاً، رجلاً واحدًا من كل سبط وأمرهم قائلاً: احملوا هنا من وسط الأردن من موقف أرجل الكهنة راسخة إثني عش حجرًا وعبروها معكم وضعوها في المبيت الذي تبيتوا فيه الليلة".
لقد أمر الله يشوع أن ينتخب من الشعب 12 رجلاً، هؤلاء الذين بحق إذ يحملون إثني عشر حجرًا من قاع الأردن من موقف الكهنة إنما يعلنون قيام الكنيسة بكونها جسد المسيح الخفي، الذي تمتع بوجوده خلال مياه المعمودية. وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن رقم 12 يشير إلى الكنيسة المقدسة هذه التي تجتمع من الأربع جهات المسكونة (مر 13: 27) خلال المعمودية باسم الثالوث المقدس (3 × 4)]، أو يمكننا القول أن الثالوث القدوس يملك على البشرية في المشارق والمغارب والشمال والجنوب، فيكون رقم 12 إنما يشير إلى ملكوت الله على البشرية كلها، أي إلى الكنيسة التي تضم أعضاءً من كل الأمم والشعوب.
أُعلنت هذه الكنيسة خلال هذا الرقم في العهد القديم حيث كان عدد الأسباط الممثلين لشعب الله أو ملكوته على الأرض في ذلك الوقت إثني عشر (تك 35: 12)، وفي العهد الجديد إختار السيد إثني عشر تلميذًا يدينون الإثني عشر سبطًا (مت 19: 28)، حتى أورشليم السماوية التي في جوهرها تعني ملكوت الله فينا إلى الأبد، أو كما يلقبها معلمنا يوحنا "مسكن الله مع الناس" (رؤ 21: 3). لها إثنا عشر بابًا (رؤ 21: 12)، ثلاثة أبواب في كل اتجاه. وفي إيليم وجد الشعب إثني عشر عين ماء (خر 15: 27)، إشارة إلى الكنيسة التي صار لها الروح القدس (عين الماء) سرّ حياتها وتعزيتها وسط برية هذا العالم، وإذ أقام موسى مذبحًا للرب أقام إثني عشر عمودًا (خر 24: 4). كشفًا عن أن الكنيسة إنما هي أعمدة حية في هيكل الرب السماوي ومذبحًا روحيًا عليه وفيه تقدم ذبيحة الصليب الفريدة الأبدية. وبنفس الفكر أقام إيليا النبي مذبحًا من إثني عشر حجرًا عند تقديم الذبيحة (1 مل 18: 31). وفي الطقس اليهودي يضع رئيس الكهنة إثني عشر حجرًا كريمًا على الصدرية التي يلبسها عندما يقف في حضرة الله، وكأنه بيسوع المسيح رئيس الكهنة السماوي الحامل كنيسته في قلبه وعلى كتفيه، ويقدمها لدى الآب على الدوام. ويرى القديس إيريناؤس أن ملابس الكهنة في العهد القديم كانت تحمل إثنى عشر جرسًا (خر 28: 2)]، نحن نعلم أن الثوب يُشير إلى الجسد، وكأن كاهننا يسوع المسيح إنما يرتدي كنيسته كثوب أبيض بلا دنس يُضيء كالنور (مت 17: 2)، تتحرك معه أينما تحرك لتعطي أصوات أجراس الفرح والتهليل لقديسيه والإنذار للمهملين خلاصهم!
2. الحجارة التي نصبت في القاع...
"ونصب يشوع إثنى عشر حجرًا في وسط الأردن تحت موقف أرجل الكهنة حاملي تابوت العهد". في الوقت الذي فيه أخذ الرجال إثنى عشر حجرًا من القاع، جاءوا إلى القاع أيضًا بإثنى عشر حجرًا ونصبوها هناك. ويرى الأسقف قيصريوس: [إن الإثنى عشر حجرًا الذين جاءوا بها إلى القاع إنما هي آباء العهد القديم، بينما الإثنى عشر حجرًا التي حملوها من القاع إنما تشير إلى تلاميذ المسيح]. الحجارة المحمولة إلى القاع تُشير إلى اليهود الذين دفنوا في البرية واختفوا، أما الحجارة التي رُفعت من القاع فتٌشير إلى الأمم الذين انطلقوا إلى أرض الموعد خلال المعمودية.
في الواقع لا نستطيع أن نفصل بين الحجارة التي رُفعت إلى الجلجال على الأكتاف لتبنى في الجلجال، والحجارة التي أُقيمت في قاع الأردن، فالأولى إنما تُشير إلى الكنيسة بكونها جسد المسيح الذي اجتاز الأردن واحتمل الصليب والموت والدفن كل يوم ليقوم أيضًا مع رأسه ويختبر معه كل يوم الحياة الجديدة المقامة، أم الحجارة الأخرى فتُشير إلى استمرار الصليب مع المسيح. كأن المؤمن الحقيقي يلزمه أن يقوم مع السيد ويختبر كل يوم الجلوس معه في السماويات ليحيا بفكر ملائكي في حياة علوية مقدسة، وفي نفس الوقت يقف على شاطئ الأردن ليرى نفسه مدفونًا في أعماقه مع مخلصه ليختبر معه القيامة.
والعجيب أن الكتاب المقدس يحدثنا عن الحجارة المرفوعة إلى الجلجال حيث الملكوت (أرض الموعد) قبل الحديث عن الحجارة التي تنصب في وسط الأردن، مع أن الدفن يسبق القيامة، والألم يسبق الرحة، والهوان يسبق المجد، لكن في الواقع الروحي لا انفصال بين الصليب والقيامة، والألم مع السيد المسيح والتمتع براحته، واحتمال الهوان من أجله لنوال مجده. كان السيد معلقًا على الصليب وهو القيامة قبل أن تتحقق قيامته، وكان يدخل الآلام مع أن أمجاده أزلية! والمسيحي لا يقدر أن يقبل الدفن والألم والهوان ما لم يدرك بروح الله قيامة المسيح وراحته ومجده! لهذا يقول الرسول بولس: "لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهًا بموته لعلى أبلغ إلى قيامة الأموات" (في 3: 10-11). فإنه لا يقدر أن يدخل إلى شركة آلامه ما لم يعرف قوة قيامته، وحينئذ يقبل الموت بفرح على رجاء يوم القيامة العظيم!
ليت قلبنا يجول كل يوم في الجلجال - أرض الموعد - ليجد لنفسه موضعًا بين الحجارة الحية، مدركًا قوة السيد العاملة فيه لترفعه من مجد إلى مجد، وتدخل به إلى أعماق السماويات، وعندئذ ينطلق إلى شاطئ الأردن ليدرك أنه لا يقدر أن ينطلق إلى الجلجال الحقيقي ما لم يدفن في أعماق الأردن! إنه يتهلل بقوة القيامة لكنها ليست خارج الصليب والدفن مع رب المجد يسوع!
أخيرًا يؤكد لنا الكتاب المقدس أنه لا تمتع بهذه الهبات الإلهية إلاَّ في يسوع المسيح، الذي قيل عنه: "وأما أنه صعد فما هو إلاَّ إنه نزل أيضًا إلى أقسام الأرض السفلى، الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل" (أف 4: 9-10).
3. الإسراع في العبور...
"وأسرع الشعب فعبروا، وكان لما انتهى كل الشعب من العبور أنه عبر تابوت الرب". يقدم لنا العلامة أوريجانوس صورة حية لمفهوم العبور السريع، إذ يقول: [يبدو ليّ أن الكلمات: "وأسرع الشعب فعبروا" ليست إضافية وضعها الروح القدس بلا ضرورة، إنما يليق بنا نحن الذين نقبل إلى معمودية الخلاص ونتلقى أسرار كلمة الله ألا نسلك برخاوة أو تهاون، بل نسرع بالعمل حتى نعبر تمامًا. والعبور "تمامًا" إنما يعني تنفيذ كل الوصايا. لنسرع بالعبور خلال تتميم ما هو مكتوب: "طوبى للمساكين بالروح" (مت 5: 3)، فإذ نترك كل كبرياء ونحتضن إتضاع يسوع نستحق التطويب الموعود به. وإذ تتمم هذه الوصية لا نتوقف بل نعبر إلى بقية الوصايا مثل: "طوبى للجياع والعطاش إلى البر" (مت 5: 6)، وطوبة للحزانى (الباكين) الآن في هذا العالم... "طوبى للودعاء" (مت 5: 4)، "طوبى لصانعي السلام" (مت 5: 9). وبهذا نستحق أن نسمع أننا أولاد الله (مت 5: 9). ولنسرع بالعبور خلال فضيلة الصبر واحتمال الاضطهادات. بهذا البحث النشط والحار للبلوغ إلى كل كمال غايته نصرة الفضيلة، يتم عبور الأردن بسرعة... لكننا إذ ننتهي من هذا العبور نكون قد بلغنا مرامنا، وعندئذ يليق بنا أيضًا أن نكون في يقظة وحذر لئلا خلال الإهمال الزائد في سيرتنا نتعثر: "أما أنا فكادت تزل قدماي" (مز 73: 2). كأن النبي يقول يلزمنا ألا نكون أقل حمية في الاحتفاظ بالفضائل عنه عندما كنا نبحث عنها].
إذن لنسرع بالعبور خلال الإيمان العامل، فنحيا مجاهدين في تتميم الوصايا الإلهية، وفي الاحتفاظ بما نلناه من عطايا وفضائل من قبل الله. ففي القديم إذ تباطأ لوط وعائلته أمسك الملاكان "بيده وبيد إمرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة. وكان لما أخرجهما إلى خارج أنه قال: أهرب لحياتك، لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة، أهرب إلى الجبل لئلا تهلك" (تك 19: 22). وبالفعل أسرع لوط وإمرأته وبنتاه وهربوا، ولكن إمرأة لوط لم تقدر أن تحتفظ بعطية الخلاص فبعدما أسرعت عادت بقلبها إلى الوراء فصارت عمود ملح!!
يحذرنا القديس يوحنا الدرجي من التباطؤ في العبور وعدم الإسراع، خاصة في بدء حياتنا الروحية، إذ يقول: [التباطؤ في بداية المعركة الروحية بالذات يؤكد موتنا العتيد أن يحدث، وهذا أمر مكروه وخطير. البداية الحازمة بالتأكيد تفيدنا، حتى وإن تراخينا فيما بعد. فالنفس القوية في بدايتها، عندما تتوانى تذكر حماسها السابق، الأمر الذي يدفعها إلى التقدم، وبهذا تحصل على أجنحة].
والعجيب أن الكهنة حاملي تابوت العهد لم يخرجوا من القاع حتى يسرع كل الشعب بالعبور . يا لها من أبوة حقة، فإن الراعي الصالح لا يطلب ما لنفسه بل ما للآخرين، فإن كان هو الذي يفتتح الطريق ويمهده لهم، لكنه يبقى محتملاً آخر الصفوف حتى يطمئن على أولاده جميعًا، لقد بدأ الكهنة بالعبور وختموا العبور، وكأنهم يحملون سمة سيدهم الذي وهو فوق الكل احتل آخر الصفوف ليحتضن كل البشرية، هذا الذي هو البداية والنهاية، الأول والآخر (رؤ 22: 13).
4. عبور الجند المتحاربين...
"وعبر بنو رأوبين وبنو جاد ونصف سبط منسى متجهزين أمام بني إسرائيل كما كلمهم موسى نحو أربعين ألفًا متجردين للجند، عبروا أمام الرب للحرب إلى عربات أريحا.
في دراستنا لسفر العدد طلبت هذه الأسباط من موسى النبي أن تُترك لهم أرض جلعاد شرقي الأردن ميراثًا ولا يكون لهم نصيب غرب الأردن مع بقية الأسباط، ووافق موسى على ذلك بشرط أن ينزل الرجال مع إخوتهم (عد 32). وهنا يؤكد الوحي الإلهي أن نحو أربعين ألفًا من هذه الأسباط متجهزين ومتجردين للحرب خرجوا أمام الشعب وأمام الرب للعمل. ويلاحظ في النص الذي بين أيدينا الآتي:
أولاً: أن عدد الخارجين للعمل أو الحرب من هذه الأسباط هو نحو أربعين ألفًا، فإن كان رقم 4 يُشير للجسد الذي هو من الأرض "أربع جهات المسكونة"، فإن رقم 1000 يُشير للحياة السماوية أو الروحية كما سبق فذكرنا في دراستنا السابقة. وكأن هؤلاء الرجال قد نزلوا لمشاركة الجماعة جسديًا وروحيًا، يشاركونهم في الأمور الزمنية والأمور السماوية. ما أسهل أن نشارك الآخرين جسديًا بحضورنا أفراحهم أو مناسبات الحزن، لكن مع هذه المشاركة الجسدية يلزم أن نشاركهم روحيًا بالقلب والفكر. على سبيل المثال عند مشاركتي لإنسان في حفل نجاحه لا أكتفي بالحضور أو تقديم هدية ولكن ما هو أعظم أن أشاركه قلبيًا وروحيًا، مشتهيًا نجاحه الروحي وتمتعه بالعطايا الإلهية. لتكن شركتنا مع بقية الأعضاء خلال الرأس يسوع المسيح الذي يهتم بنا روحيًا وجسديًا ونفسانيًا وإجتماعيًا وثقافيًا... إنه يريدنا ناجحين في كل جوانب حياتنا.
ثانيًا: يؤكد الوحي أنهم عبروا "أمام بني إسرائيل" وأيضًا "أمام الرب"، فلا يكفي أن نعمل لحساب الجماعة المقدسة لنموها روحيًا وغلبتها على ظلمة الشر، وإنما يلزم أن يكون عملنا داخليًا لحساب رب هذه الجماعة. كثيرون يخدمون في الكنيسة ويعملون أعمالاً مجيدة "أمام بني إسرائيل"، لكنهم لا يقدمون العمل لحساب الله ولا يظهرون "أمام الرب"... إنما يخدمون الناس أو يخدمون كرمتهم ومجدهم الذاتي لا الله.
ثالثًا: يصفهم الكتاب "متجهزين" و"متجريدين للحرب". يقول العلامة أوريجانوس: [من هم هؤلاء الرجال الذين يقدمهم الكتاب كمتمنطقين أو متجهزين تجهيزًا خفيفًا؟ لا أستطيع أن أقدم من ذاتي شيئًا، لكننا نتعلم هذا من رسائل الرسول... "ممنطقين أحقاءكم بالحق" (أف 6: 14). أترى كيف أن بولس يعرف هؤلاء المتمنطقين أنهم يرتدون منطقة الحق؟! هكذا يليق بنا أن يكون "الحق" هو منطقتنا، إن كنا بالحق أمناء نحو هذا السر الممثل بهذا السلاح الحربي (الروحي). فإن كان الحق هو منطقة الجندية الخاصة بالمسيح ففي كل مرة نخطيء في الحديث وننطق بالكذب نكون قد خلعنا عنا منطقة جندية المسيح. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). أما إن كنا بالفعل نحيا في الحق فإننا نكون مسلحين للجهاد. إن كنا نسلك بالكذب فنحن عزل من السلاح! آه! ليتنا نمتثل بهؤلاء الأربعين ألفًا الممنطقين للحرب، الذين عبروا أمام الرب، فنكون ممنطقين بالحق، ليتنا أيضًا لا ننسى ما يقوله الكتاب "ممنطقين أمام الرب"، فلا يكفي أن نجعل الحق ظاهرًا أمام الناس، إذ يمكننا أن نخدع الناس ونبدو كصادقين، لكننا لا نُحسب ممنطقين بالحق إلاَّ إن حفظناه أمام الرب، لا أقصد الحق الذي يسمعه الناس في أقوالنا بل الذي يراه الله في أعماق قلوبنا. فلا يكون في شفاهنا غشًا، ولا يكون في قلوبنا خداعًا، إذ يلوم النبي هؤلاء "المخاطبين أصحابهم بالسلام والشر في قلوبهم" (مز 28: 3)].
5. مهابة يشوع...
"فهابوه كما هابوا موسى كل أيام حياته". يقول العلامة أوريجانوس: [كل إنسان تحت الناموس يهاب موسى، لكنه متى انطلق من الناموس ليعبر إلى الإنجيل تتغير عبادته وتتغير مهابته، كقول الرسول: "لأنيّ مُت بالناموس للناموس لأحيا لله، مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (غل 2: 19)].
الذين يعيشون تحت الحرف القاتل يهابون الناموس ويرتعبون، أما الذي يحيا في حرية الروح فيهاب يسوعنا الحيّ مخافة الابن الذي يخشى جرح مشاعر أبيه! إننا نهابه خلال الحب الذي يرفعنا من مخافة العبيد إلى مخافة البنين المقدسة. فقد قيل عن السيد المسيح نفسه: "ولّذته تكون في مخافة الرب" (أش 11: 3).
6. الصعود إلى الجلجال...
كلم الرب يشوع أن يأمر الكهنة حاملي تابوت العهد أن يصعدوا الأردن بعد أن أطمأن أن جميع الشعب قد صعد أمامه، وعندئذ رجعت مياه الأردن إلى مكانها وجرت إلى كل شطوطه، وكان صعود الشعب من الأردن ليحلوا في الجلجال في اليوم العاشر في الشهر الأول، وهنا نلاحظ الآتي:
أولاً: أن الشعب قد صعد من الأردن إلى أرض الموعد في نفس الموعد الذي فيه اقتنى كل واحد شاه لتقديمها ذبيحة فصح للعبور (خر 12: 3). وكأنه في اليوم الذي كانوا فيه يحتفلون بسر الفصح هو بعينه الذي فيه يتحقق صعودهم من الأردن لتطأ أقدامهم أرض الموعد؛ وكأن صعودهم إلى الميراث إنما يتحقق خلال الفصح، أي سر الصليب, فلا نصرة لنا ولا ميراث لنا خارج دائرة الصليب!
هذا وأن اليوم الذي فيه بدأ التحرك بالخروج من العبودية هو بعينه اليوم الذي فيه بدأ التحرك بالدخول إلى الحرية، وكأن الخروج والدخول يمثلان عملاً واحدًا متكاملاً لا يفصل بينهما زمن. ففي الصليب كما في المعمودية أنطلق من عبودية فرعون الحقيقي لأدخل إلى حرية مجد أولاد الله في يشوع الحق؛ أخلع بالروح القدس الإنسان القديم بأعماله الشريرة التي ربطتني كل زمانيّ لألبس بالروح القدس الإنسان الجديد بطبيعته المقدسة في المسيح يسوع لأكمل أيام غربتي حرًا في الرب!
ثانيًا: تحقق ذلك أي الصعود إلى أرض الميراث في العاشر من الشهر الأول، ولما كان الشهر الأول يُشير إلى بداية سنة جديدة، فإن هذا الصعود يُشير إلى الدخول في الحياة الجديدة خلال تمتعنا بالإنسان الجديد الداخلي لنحيا بفكر المسيح (في 2: 5) ونحمل سماته فينا. أما رقم 10 فيُشير إلى الكمال الزمني كما يُشير إلى الوصايا العشر، وكأننا ندخل إلى الميراث في كماله حين نكمل جهادنا على الأرض ونعلن بالمسيح يسوع متمم الوصايا أننا غير كاسرين للناموس... حقًا كنا قبلاً كاسرين الناموس، لكننا في المسيح يسوع الذي صار تحت الناموس (غل 4: 4) من أجلنا، صرنا غير كاسرين له. بالحياة الجديدة (الشهر الأول) نرتفع من تحت الناموس إلى فوق الناموس لنحيا في برّ الله بروحه القدوس!
ثالثًا: لقد دعى أول معسكر للشعب بعد عبورهم الأردن ودخولهم كنعان بالجلجال أي "متدحرج" أو "دائرة"، وجاء هذا الاسم يعلن عن دحرجة عار العبودية القديم (يش 5: 9). فمع أنهم انطلقوا من عبودية فرعون منذ حواليّ 40 عامًا لكنه لم يُنزع عنهم عار العبودية إلاَّ بوطأة أقدامهم أرض الجلجال (في كنعان)، وكأنه لا ينزع عنا عار الخطية إلاَّ بدخولنا "دائرة الأبدية"وتمتعنا بعربون الميراث الأبدي في داخلنا.
في حديث الله عن أعماله مع شعبه يتحدث عن تحريرهم من أرض العبودية والانطلاق بهم إلى الجلجال (في 6: 5) وكأنها آخر موضع يستقر فيه الشعب، مع أنه من الجانب الجغرافي هي أول موقع داخل كنعان استقروا فيه... فبنوالهم الجلجال حسبهم الله كأنهم تمتعوا بكل كنعان. وللجلجال ذكريات كثيرة تكشف عن أعمال الله معهم في هذه الأرض الجديدة، منها:
أ. كان الجلجال مركز عمليات يشوع، فيه أقام الإثنى عشر حجرًا تذكاريًا (يش 4: 19)، وفيه اختتن الشعب ثانية (يش 5: 9)... وهكذا إذ نعبر إلى الحياة السماوية (الدائرة) يتسلم يسوعنا حياتنا ويدبر كل أمورنا حتى يكمل انتصارنا به.
ب. يظهر الجلجال كموضع مقدس حتى أيام صموئيل (1 صم 7: 6)، فيه أُقيم شاول ملكًا (1 صم 10: 8، 11: 14 إلخ)، وغالبًا ما كان به هيكل. هكذا يصير قلبنا الجلجال الحق الذي يقدسه روح الله، فيجعل منه هيكلاً له، ويقيمنا ملوكًا متحدين بملك الملوك، لنا سلطان روحي على قوات الظلمة (الشياطين) وكل أعمالهم.
ج. كان الجلجال أيضًا مركز لعمليات شاول الحربية ضد الأمم خاصة عماليق... فحينما يتقدس القلب يتحول إلى موقع حربي روحي ضد الشر والخطية، لحساب الله!
أخيرًا هناك أحداث كثيرة حدثت في الجلجال، فإليه ذهب رجال يهوذا لمقابلة داود عندما رجع من جلعاد (2 صم 19: 16)... وللأسف تحول هذا الموضع فيما بعد كمركز للعبادة الوثنية أيام الملوك الذين تولوا الحكم بعد يربعام، فهجاه الأنبياء ولعنوه (هو 4: 15، 9: 15؛ 12: 11؛ عا 4: 4؛ 5: 5).
يحتمل أن تكون هي بيت الجلجال المُشار إليه بعد السبي (نح 12: 29). أما موقع الجلجال فغير معروف بدقة، يرى البعض أنه قرابة النتلة (خرابة الأثلة) بجوار بركة جلجولة على بعد حوالي ثلاثة أميال وعن جنوب شرق عين السلطان، ويقترح آخرون أنها خرابة مفجير على بعد ميل وربع شمال شرق أريحا القديمة (عين سلطان). | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 5:18 pm | |
| | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 5:26 pm | |
| الاصحاح السادس
سقوط أريحا
إذ قدم الله لشعبه تحت قيادة يشوع كل إمكانية للتمتع بالميراث، واجتاز بهم الأردن ووقفوا أما أريحا المدينة التي لها شهرتها عبر الأجيال والمحصنة بأسوار، وكان لابد أن تنهار أريحا أمام الشعب لكي تتحقق مواعيد الله... هنا أيضًا يقدم لهم الله إمكانيات جديدة للغلبة والنصرة!
1. مدينة أريحا
2. الدوران حول المدينة [1].
3. الضرب بالأبواق [4].
4. هتاف الشعب [5-16].
5. ناموس المحرم [17-21].
6. خلاص راحاب [22-25].
7. لعنة أريحا [26-27].
1. مدينة أريحا...
"أريحا" تعني "مدينة القمر" أو "مكان الروائح العطرية"، تقع على بعد خمسة أميال غرب نهر الأردن، وعلى بعد 17 ميلاً شمال شرقي أورشليم. أما أريحا المذكورة في هذا السفر فموضعها الآن "تل السلطان" على بعد ميل من غرب أريحا الحديثة، والتي تدعى الآن الريحا وتلال أبو العليق.
اشتهرت أريحا منذ العصور القديمة بزراعة النخيل (تث 34: 1، 3، قض 3: 13) والموز والبرتقال والورد (سيراخ 24: 14)، وأشجار الجميز (لو 19: 4)، والبلسم وكثير من أشجار الفاكهة.
أعطيت أريحا ضمن نصيب بنيامين، على الحدود بين بنيامين وإفرايم (يش 16: 1، 7؛ 18: 12-13). وكان عجلون ملك موآب يسكن فيها حين ضرب إسرائيل وأذلهم بسبب شرهم (قض 3: 12-13). وفيها أقام رسل داود الذين أرسلهم إلى حانون ملك بني عمون فحلق لهم لحاهم وقص ثيابهم من الوسط، وقد بقوا حتى نبتت لحاهم ورجعوا (2 صم 10: 1-5). وفي أيام آخاب بن عمري ملك إسرائيل بنى حيئيل البيتئيل أريحا ففقد بكره عند وضع الأساسات وصغيره عند نصب الأبواب بسبب نبوة يشوع (1 مل 16: 34، يش 6: 26). وفي أريحا زار إيليا وأليشع جماعة الأنبياء قبل انتقال إيليا، ورجع أليشع إلى هؤلاء الأنبياء (2 مل 2: 4، 15)، ويبدو أن النبع الذي أبرأه أليشع بعد طرح الملح فيه (2 مل 2: 21) هو عين السلطان، وعندما أُطلق سراح أسرى يهوذا الذين أسرهم جيش إسرائيل بقيادة فقح بن رمليا أتوا بهم إلى أريحا (2 أي 28: 15). وبالقرب منها قبض البابليون على صدقيا ملك يهوذا (أر 52: 5)، وقد رجع مع زربابل من السبي 345 نفسًا من سكان أريحا السابقين ونسلهم (عزرا 2: 34، نح 7: 36) وساعد البعض منهم في بناء سور أورشليم (نح 3: 2).
بنى هيرودس الكبير قلعة بالقرب من أريحا، وقد مات هناك. وفي أيام السيد المسيح كانت فرقة من الكهنة تسكن في أريحا، وكانوا يسافرون كثيرًا من أورشليم إلى أريحا، كما يظهر ذلك من مثل السامري الصالح (لو 10: 30-31). وفي أريحا أعاد السيد المسيح البصر لبرتيماوس ورفيقه (مت 20: 29، مر 10: 46، لو 18: 35)، وفيها أيضًا زار السيد المسيح بيت زكا (لو 49: 1-10).
2. الدوران حول أريحا...
أريحا كأول مدينة حصينة تواجه الشعب القديم للتمتع بالميرث تمثل العالم وقد وضع في الشرير، أو بمعنى أدق تمثل محبة العالم الزمني كعائق يعوق النفس عن انطلاقها نحو الأبدية للتمتع بالميراث الحقيقي، يثقلها فلا ترتفع بأجنحة الروح القدس من مجد إلى مجد. وفي نفس الوقت أيضًا تمثل الأنا بكونها أخطر عائق يقف أمام المتدينين - إن صح هذا التعبير- لكي يفقدهم شركتهم مع الله واهب النصرة ومانح الميراث الأبدي. خطران يواجهان الإنسان في جهاده الروحي: محبة العالم أو الزمنيات وهذه تمثل الضربة الشمالية، والأنا أو الذات وهي تمثل الضربة اليمينية حيث يحسب الإنسان نفسه أفضل من غيره وأبر منه!
يتحدث العلامة أوريجانوس عن أريحا بكونها تمثل العالم وقد وضع في الشرير أو تمثل الشر ذاته، قائلاً: [جاء في الإنجيل: "إنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوص" (لو 10: 30). هنا نتعرف جيدًا على صورة آدم الساقط من أورشليم منحدرًا إلى منفى هذا العالم. والأعميين اللذين كانا من أريحا (مت 20: 30) هذين اللذين قابلهما يسوع ووهبهما البصر ألم يمثلا رجال هذا العالم الذين أصابهما عمى الجهل، والذين من أجلهم جاء ابن الله؟! إذن، مدينة أريحا هي هذا العالم الذي نحن فيه، والذي يجب أن ينهدم ويتحدث عن معركة أريحا بكونها معركة ضد شر هذا العالم ميدانها القلب، قائلاً: [لنذهب إلى الحرب ولنهاجم أخطر مدينة في هذا العالم، أي الشر، ولندمر أسوار الخطية المتعجرفة، هل تنظر حولك لتعرف الطريق الذي يلزمك أن تسلكه، وميدان القتال الذي يليق بك أن تختاره؟!... أحصر بحثك في داخلك، فالمعركة التي تقاتل فيها هي فيك، هناك يوجد بناء الشر الذي يجب هدمه! ليُطرد عدوك من أعماق قلبك! لست أقول هذا من عندياتي بل من المسيح. إستمع له: "لأنه من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنا، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف" (مت 15: 19). ألعلك تعي عظمة هذا الجيش المعادي لك، والذي يتقدم نحوك في أعماق قلبك؟ هؤلاء هم أعداؤنا الذين يجب أن نذبحهم في المعركة الأولى، ونطمسهم في التراب في الخط الأول، إن كنا قادرين أن نهدم أسوارهم ونستأصلهم ولا تبقى منهم نسمة (يش 11: 14)، ولا يبقى منهم فرد واحد يستريح فينا ويحيا من جديد ويبرز في أفكارنا. بهذا يعطينا يسوع الراحة العظمى: "يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته ولا يكون من يرعب أمناء إسرائيل" (في 4: 4)].
يصف الكتاب المقدس أريحا هكذا: "وكانت أريحا مغلقة مقفلة بسبب بني إسرائيل، لا أحد يخرج ولا أحد يدخل". إنها تمثل الإنسان المنغلق على ذاته، لا ينفتح قلبه بالأخذ والعطاء، إنما يكون كمدينة مغلقة ليس من يخرج منها ولا من يدخل فيها. إنها منعدمة الحب! أما الإنسان المتسع القلب بالمسيح محب البشر، فإنه يعيش بفكر منفتح يفتح أعماقه لكل إنسان بحكمة إلهية، ويخرج من قلبه كل محبة مشبعة للآخرين.
هذه هي أريحا ممثلة العالم الموضوع في الشرير، أو الشر ذاته، خاصة الأنا، وقد استخدم الله طريقة فريدة في الغلبة على أريحا لم تتكرر في بقية الحروب أو الاستيلاء على المدن. فإن موقعة أريحا - إن صح هذا التعبير- تعتبر أول موقعة في أرض الموعد بعد عبور نهر الأردن، وقد أراد الله أن يعلن بطريقة ملموسة أن الحرب له والنصرة هي من عنده، وأن سلاحهم الحقيقي والجوهري هو الإيمان. يقول الرسول بولس: "بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام" (عب 11: 30).
في سقوط أريحا لم يستخدم الله التدبيرات العسكرية والحكمة البشرية ولا رجال الحرب ولا الأسلحة، مع أنه ألزم الشعب باستخدام هذه الأمور في المواقع التالية، ليؤكد لهم منذ البداية أنه وإن كان يُقدّر الحكمة البشرية ويستخدم العمل البشري متى تقدّس لكنه يبقى الله وحده سرّ نصرتنا على الخطية! لقد أمرهم أن يدوروا حول المدينة مرة كل يوم لمدة ستة أيام حتى تنهك قواهم، أما في اليوم السابع فيدورون حول المدينة سبع مرات حتى لا تبقى لهم قدرة على المشي وعندئذ يهتفون هتافًا عظيمًا إعلانًا عن إيمانهم بالله واهب النصرة، فيدافع عنهم ويهبهم ما وعدهم به.
لعل الدوران يُشير إلى "الدخول إلى الأبدية" بكونها تمثل الحياة التي بلا نهاية كالدائرة. فبالحياة الأبدية التي صارت لنا في المسيح يسوع ربنا نستطيع أن نهدم أسوار أريحا المتشامخة وبيوتها الشاهقة، فلا يقدر العالم بكل إغراءاته أن يجتذب قلوبنا، ولا الشر بكل خداعاته أن يسحب أفكارنا إليه، والذات بكل صولجانها أن تأسر النفس وتغلق عليها. "الأبدية" أو "الحياة مع المسيح الأبدي" هو طريق الغلبة أو النصرة الداخلية، خلالها يُبتلع الزمن المائت، ومن أمامها تهرب كل أوهام العالم الشرير والمجد الباطل... حقًا إن دخولنا إلى السماء ونحن بعد على الأرض يرفعنا فوق كل ضعف ويقتلع من داخلنا جذور الشر الدفينة!
أيضًا الدوران مرة كل يوم خلال الستة أيام الأولى إنما يُشير إلى العمل الدائم كل أوقاتنا (أيام العمل الأسبوعية)، أما الدوران سبع مرات في اليوم السابع فمعناه أنه في يوم راحتنا، اليوم السابع، نعمل لحساب الرب مضاعفًا، ونجاهد جهادًا كاملاً (رقم 7 يُشير إلى الكمال)، فبهذا الجهاد يتحقق حفظ السبت روحيًا، أي الراحة في يوم الرب. حقًا إن يوم الرب أو يوم الراحة فيه، ليس يوم تراخ أو كسل إنما يوم جهاد مستمر بالنعمة المجانية العاملة فينا حتى تنهدم الحصون الشيطانية تمامًا، وتصلب فينا الأنا، ويملك يشوعنا الحقيقي في داخلنا، ويستريح في قلبنا كما في عرشه ونحن نستريح فيه، ولا يكون للخطية سلطان علينا، يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بإن السبت قد كسر هنا حرفيًا، لكنه حُفظ روحيًا، إذ تزايد العمل جدًا فتزايدت النصرة أكثر من كل يوم]. ويقول القديس أغسطينوس: [من لا يخطئ، فهذا بحق يحفظ السبت]، يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [إننا نتمسك بالسبت الروحي حتى مجيء المخلص، إذا استرحنا من الخطية]، ويقول القديس جيروم: [لم يكن يشعل اليهود نارًا في السبت، أما نحن فعلى العكس يلزمنا أن نشعل نار الروح القدس ونحرق كل رذيلة وخطية]، وللعلامة أوريجانوس تعبير رائع عن مفهوم يوم الرب: [الإنسان الكامل هو ذاك الذي ينشغل دومًا بكلمات الرب وأعماله وأفكاره، بهذا يحيا في أيام الرب على الدوام وتصير كل أيامه أيامًا للرب]. لقد كان بالحق يومًا للرب حين داروا حول أريحا سبع مرات وضربوا بالأبواق وهتفوا وهتفوا للرب الذي حطم قوى الشر وسلطانه ليملك يشوع وكل أولاده معه!
3. الضرب بالأبواق...
في اليوم السابع إذ يدورون سبع مرات حول المدينة يضرب الكهنة بالأبواق في الدورة السابعة . وقد سبق لنا في دراستنا لسفر العدد (10: 1-10) أن تحدثنا عن لغة الأبواق بكونها كلمة الله التي ينطق بها الكهنة على الدوام، القادرة أن تهب المؤمنين حياة النصرة الروحية وتبعث فيهم الفرح الداخلي وتهليل القلب. يقول القديس أمبوسيوس: [ليس كل أحد له الحق أن يضرب بالبوق، ولا يدعو الآخرين للاجتماع المقدس، إنما مُنح هذا الامتياز للكهنة وحدهم].
يتحدث العلامة أوريجانوس عن أبواق الكهنة التي ضُربت لتهدم أسوار أريحا، قائلاً: [أريحا تمثل العالم الحاضر، قوة أسوارها تُهدم عندما يبوق الكهنة. السور القوي الذي يخدم هذا العالم هو عبادة الأوثان ونسب الألوهية للمصنوعات بخداع شيطاني وأعمال العرافين الكذبة والمجوس... نضيف إلى ذلك أفكار الفلاسفة المختلفة (الإلحادية)، وأيضًا التعاليم التي نشأت عن المجادلات... هذا كله كان كسور مرتفع يسند العالم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لكن إذا جاء الرب يسوع - الذي يمثله يشوع بن نون - أرسل الكهنة والرسل لضرب بوق من فضة (عد 10: 2، مز 98: 6)، أي تقديم التعاليم السامية السماوية في الوعظ، لقد ضُرب البوق الكهنوتي الأول في إنجيل متى وأيضًا في مرقس ولوقا ويوحنا، كل ضرب بأبواق الكهنة. ضرب أيضًا بطرس بوقين في رسالتيه، وأيضًا يعقوب ويهوذا، ويوحنا في رسائله، ولوقا في سفر أعمال الرسل. أما الأخير (بولس) فقد ضرب بالأبواق خلال رسائله الأربعة عشر، ملقيًا بالصواعق على أسوار أريحا لينزل بها حتى الأرض، هادمًا أبنيتها ومحطمًا كل آلات الحرب التي لها من عبادة أوثان وآراء الفلاسفة].
ويتحدث الأسقف قيصريوس عن أبواق الكهنة، قائلاً: [تُشير أريحا إلى هذا العالم، وكما سقطت أسوارها عند ضرب الأبواق هكذا تسقط الآن مدينة هذا العالم أي الكبرياء بأبراجها التي هي الطمع والحسد والخلاعة مع كل شعبها؛ أي يجب أن تتحطم كل شهوة شريرة وتُباد خلال كرازة الكهنة المستمرة. لهذا يليق بالكهنة ألا يصمتوا في الكنيسة بل بالحري يتممون قول الرب: "نادِ بصوت عالي، لا تمسك، ارفع صوتك كبوق وأخبر شعبي بتعديهم" (إش 58: 1). إننا مطالبون أن نصرخ وننادي بصوت عالِ دون توقف حتى نستبقي على خلاصنا. يقول: "ناد ولا تمسك" لئلا تهلك بصمتك بسبب شر الخاطئ. بينما تراعى إحساساته في حياء تفشل في الاهتمام بصحته (الروحية). لا تجعل جراحاته تسوء بسبب صمتك، إذ يجب أن تُشفى خلال التصويت. هذا ما يلزمنا أن ننادي، وننادي بصوت عالِ حتى لا يقل أحد إنه لم يسمع الصوت أو أن صوت الكاهن غير معروف لديه]. كما يقول: [البوق هام بالنسبة للخطاة لا ليخترق آذانهم فحسب وإنما ليهز قلوبهم، لا ليفرحهم فحسب وإنما ليوبخهم. يليق بصوت البوق أن يشجع السهارى على صنع الخير، ويرعب المهملين على خطاياهم. وكما في المعركة يرعب البوق الجندي الخائف بينما يلهب روح الشجاع، هكذا بوق الكاهن يهين فكر الخاطئ ويشجع روح البار... هذا هو عمل البوق يبدد فعل الخطاة ويثبت أعمال الأبرار]. وأيضًا يتحدث عن أبواق الكهنة، قائلاً: [يقول الطوباوي بولس: "إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون، هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح" (2 كو 10: 4-5). ألا ترى أن ألسنة الكهنة حسب كلمات الرسول هي أسلحة كلامية تبدد الأفكار الباطلة وتأسر الكبرياء المتشامخ؟!].
4. هتاف الشعب...
طلب الله من يشوع أن "جميع الشعب يهتف هتافًا عظيمًا"عند سماعهم صوت البوق الذي يضربه الكهنة، "فيسقط سور المدينة في مكانه ويصعد الشعب كل رجل مع وجهه". وقد ترجم البعض كلمة "هتاف" بمعنى "صيحات الفرح"، بينما يراها البعض مثل العلامة أوريجانوس كهتاف الوحدة التي يصرخ بها الجنود معًا بروح واحدة عندما يتحمسون في المعركة. وكأنما سقوط أسوار أريحا، أو هدم مملكة إبليس لا يتطلب حياة الفرح للفرد منعزلاً عن الجماعة، وإنما هتاف النصرة المنطلق من الجماعة كلها بروح واحد. حقًا إنه هتاف الجهاد الروحي ضد الخطية ومملكة إبليس المملوء رجاءً وفرحًا خلال الوحدة معًا. لهذا يقول المرتل: "اهتفي للرب يا كل الأرض، اعبدوا الرب بفرحٍ" (مز 100: 1)، وأيضًا: "طوبى للشعب العارفين الهتاف" (مز 89: 15).
إذ داروا حول أريحا سبع مرات أُرهقوا جسديًا وصاروا كمن في حكم الموت، عاجزين تمامًا لا عن الحرب وإنما حتى على السير على الأقدام، وهذا إذ يشير إلى الدوران إلى الحياة الأبدية نقول بأن موتهم قد ابتلعته غلبة الأبدية ونصرتها كقول الرسول: "فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة أُبتلع الموت إلى غلبة" (1 كو 15: 54). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). وكأن الكل إذ تمتع بالأبدية في المسيح يسوع ينطلق بهتاف الفرح والتهليل علامة الغلبة على الموت والتمتع بنصرة الأبدية، قائلين مع الرسول: "أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هوية؟!... شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1 كو 15: 55، 57). هكذا يمتزج جهادهم المضني بتهليل قلوبهم. وتلتحم الحرب الروحية بخبرة الفرح السماوي!
لهذا تحدث آباء الكنيسة - حتى النساك منهم - عن حياة الفرح الداخلي في المسيح يسوع، والتهليل وسط دموع التوبة وأتعاب الجهاد الروحي، محذرين من السقوط تحت روح الغم الذي يدخل بنا إلى اليأس فيحطم إيماننا. إنهم يؤكدون التزامنا بالهتاف الداخلي العظيم وسط جهادنا المضني. يقول الأسقف أغناطيوس بريانشاينتوف: [إن جاءك فكر أو إحساس بالغم فمن المفيد أن تتذكر قوة الإيمان، وكلمات الرب الذي منعنا من الخوف والغم، معلنًا ومؤكدًا لنا مواعيد الله بأنه حتى شعور رؤوسنا محصاة، وأنه ليس شيء يمكن أن يحدث لنا بدون عنايته وسماحه]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الخطية لا تحطم كاليأس، فإن من يخطئ متى كان ساهرًا بسرعة يتوب ويصلح ما قد حدث، أما من تعلم اليأس وعدم التوبة فيفشل في إصلاح الأمر بعدم قبوله علاجات التوبة]. كما يتحدث أيضًا عن ارتفاعنا على حزن الضيقات ومرارتها بتقديم هتافات الشكر المفرحة، قائلاً: [ليتنا لا نغرق في ضيقاتنا بل نقدم التشكرات في كل شيء، فنقتني نفعًا عظيمًا، إذ نرضي الله الذي يسمح بالضيقات، الضيقة هي صلاح عظيم. هذا ما نتعلمه من أطفالنا الذين بدون ضيقة لا يتعلمون شيئًا نافعًا، أما نحن ففي حاجة إلى الضيق أكثر منهم].
يركز العلامة أوريجانوس على وحدة الروح في الهتاف المفرح، إذ يعلق على قول المرتل: "طوبى للشعب العارفين الهتاف" (مز 89: 15)، قائلاً: [لم يقل طوبى للشعب الذي يمارس البر، ولا للشعب العارف الأسرار، ولا لمن له معرفة بالسماء والأرض والكواكب، وإنما "طوبى للشعب العارفين الهتاف". أحيانًا مخافة الله تهب الإنسان فرحًا (هتافًا)، لكنها تهب ذلك لشخص واحد؛ لهذا على سبيل المثال قيل: "طوبى للرجل الخائف الرب" (مز 112: 1)... أما التطويب هنا فيقدم بفيض... لماذا؟ لأن كل الشعب يشترك فيه، الكل يعرف صحبة التهليل. لهذا يبدو ليّ أن هتاف الفرح يعني وحدة القلب وترابط الروح معًا... عندما يرفع الشعب صوته باتفاق واحد، يتحقق فيه ما جاء في سفر الأعمال من حدوث زلزلة (أع 1: 13)... فينهدم كل شيء ويبطل هذا العالم].
إن كانت أبواق الكهنة تُشير إلى كلمة الله وعمل الكرازة الذي لا ينقطع، فإن هتاف الشعب يعني وحدانية القلب الذي يولد فرحًا وتهليلاً خلال الغلبة على مملكة الظلمة. الكهنة يكرزون بالتوبة والشعب ينعم بعطايا الله وغلبته على العالم خلال وحدة الحب الحقيقي! لهذا يقول الكتاب: "جميع الشعب يهتف هتافًا عظيمًا". مسيحيتنا إذن تقوم على أساس العلاقة الشخصية بين الله والنفس البشرية، ولكنها ليست في عزلة وانفرادية وإنما خلال اتحادها مع بقية الأعضاء بروح واحد خلال الرأس الواحد.
يربط العلامة أوريجانوس بين أبواق الكهنة وهتافات الشعب داخل النفس، إذ يرى يشوع الحقيقي يدخل النفس لكي يفتتحها مملكة له، محطمًا أسوار أريحا الداخلية. يقول إنه يليق بنا ككهنة أن نحمل في داخلنا الأبواق، ونضرب بها لكي نستبعد الأفكار والكلمات غير اللائقة، نضرب بالأبواق أي نسبح بمزامير وتسابيح وأغاني روحية (1 كو 3: 16)، أو نضرب بأبواق أسرار الناموس ورموز الأنبياء وتعاليم الرسل التي تعمل معًا بانسجام في داخلنا... هذه جميعها تفجر في داخلنا شعبًا يهتف هتافًا عظيمًا، فتهتف أفكارنا وعواطفنا وكل ما بداخلنا بفرح ولا يكون فيها دنس أو غش أو كذب؛ يهتف ما فينا بروح متناسق ومتكامل، عندئذ تنهدم أسوار محبة العالم فينا ويملك يسوعنا في داخلنا، لنقول مع الرسول: "أما أنا فحاشا ليّ أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم ليّ وأنا للعالم" (غل 6: 14).
إن ضرب أبواق العهد القديم (الناموس والأنبياء) في انسجام مع أبواق العهد الجديد، أي دراسة الكتاب المقدس في وحدة واحدة بطريقة روحية بناءه، يخلق أيضًا هتافًا منسجمًا في الإنسان، فيهتف الجسد بقدسية أعضائه مع النفس بقدسية طاقاتها والأحاسيس والعواطف والمواهب... تعمل جميعًا بروح الوحدة تحت قيادة الروح القدس، بفرح حقيقي حيث يملك ربنا يسوع عليها.
5. ناموس المحرّم...
"فتكون المدينة وكل ما فيها محرمًا للرب... وأما أنتم فاحترزوا من الحرام لئلا تحرموا وتأخذوا من الحرام وتجعلوا محلة إسرائيل محرمة وتكدروها، وكل الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد تكون قدسًا للرب وتدخل في خزانة الرب".
لقد أراد الرب في بدء ميراثهم ألا ينصرف قلبهم وفكرهم ووقتهم إلى الغنيمة والمكسب المادي، لهذا حرم عليهم نوال شيئًا من أريحا، لكنه في المواقع التالية يسمح لهم بالغنائم مؤكدًا لهم أنهم إذ ينصرفون عن الزمنيات في أريحا يعطيهم الروحيات والزمنيات أيضًا في الحروب التالية، وكما يقول الرب نفسه: "أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم".
يُعلق العلامة أوريجانوس على شريعة المحرم هذه هكذا: [حقًا إن يشوع قال: "أما أنتم فاحترزوا من الحرام لئلا تحرموا وتأخذوا من الحرام وتجعلوا محلة إسرائيل محرمة وتكدروها" ها هو معنى هذا الكلام: إحرصوا ألا تحفظوا شيئًا من العالم في داخلكم، لئلا يصير في وسط جماعة المؤمنين العادات الرذيلة... لا تخلط أمور العالم مع ما للمسيح، ولا تدخلوا بحاجات العالم إلى مقدسات الكنيسة. يحذرنا يوحنا من ذات الأمر إذ يضرب بالبوق في رسالته، قائلاً: "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم" (1 يو 2: 15). ويقول بولس نفس الشيء: "لا تشاكلوا هذا الدهر" (رو 12: 2)، فإننا إذ نسلك على منوال أهل العالم نكون قد رحبنا بالمحرمات. نذكر على سبيل المثال: الاشتراك في أعياد الوثنيين بعد أن صرنا مسيحيين يعني دخول المحرم إلى الكنيسة، وأيضًا دراسة التنجيم ودراسة طير الطيور... هو دخول المحرم من أريحا إلى معسكر السيد وتدينه، مما يؤدي إلى هزيمة شعب الله...
6. خلاص راحاب...
"وقال يشوع للرجلين اللذين تجسسا الأرض: أدخلا بيت المرأة الزانية وأخرجا من هناك المرأة وكل ما لها كما حلفتما لها... واستحيى يشوع راحاب الزانية وبيت أبيها وكل ما لها، وسكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم".
بالإيمان خلصت راحاب وحدها مع كل بيت أبيها من الدمار، بل ودخلت هذه الأممية إلى وسط إسرائيل لتغرس في شجرة الزيتون الحقيقية.
يقول العلامة أوريجانوس: [بأي طريقة نفهم أن راحاب "سكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم؟" عادة يستخدم الكتاب هذا التعبير "إلى هذا اليوم" عندما يتحدث عن بقاء الشيء إلى نهاية الحياة. على سبيل المثال عندما يقول: "هو أبو الموآبيين إلى اليوم" (تك 19: 37) يعني "إلى نهاية العالم". وأيضًا في الإنجيل: "فشاع هذا القول إلى هذا اليوم" يعني إلى نهاية العالم وتكميله. لكن كيف نقول أن راحاب "سكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم؟" ألا نفهم من هذا أنها انضمت إلى إسرائيل الحقيقي (كنيسة العهد الجديد) إلى هذا اليوم؟! إن أردت الاستنارة لفهم الطريقة التي بها انضمت راحاب إلى إسرائيل فلتلاحظ كيف أن "زيتونة البرية طُعمت فيها فصرت شريكًا في أصل الزيتونة ودسمها" (رو 11: 17)... فإننا نحن الذين كنا أغضان زيتونة برية جئنا من أمم مختلفة وتثبتنا في الأصل. نحن الذين كنا نعيش في الزنا ونعبد الحجارة والخشب عوض الله الحقيقي (تث 4: 28) داخلنا إلى الإيمان بالسيد المسيح وصرنا إلى هذا اليوم الشعب الذي من فوق، بينما الشعب الآخر (اليهود) فبسبب قلة إيمانه صار من أسفل... الذين كانوا أولين صاروا آخرين (مت 19: 30)].
7. لعنة أريحا...
إذ صارت أريحا تمثل الشر الذي يلزم هدمه تمامًا وإبادته، لذلك "حلف يشوع في ذلك الوقت، قائلاً: ملعون قدام الرب الرجل الذي يقوم ويبني هذه المدينة أريحا، ببكره يؤسسها وبصغيره ينصب أبوابها". وقد تحقق ذلك حرفيًا عندما قام حيئيل البيتئيلي ببنائها إذ يقول الكتاب: "بأبيرام بكره وضع أساسها، وبسجوب صغيرة نصب أبوابها حسب كلام الرب الذي تكلم به عن يد يشوع بن نون" (1 مل 16: 34).
لقد تحطمت أريحا بأسوارها الشامخة إلى الأبد علامة تحطيم الشر وهدم عدم الإيمان. يقول القديس أغسطينوس: [إلى متى تقوم هذه الأسوار؟ لا تبقى على الدوام! فإن التابوت يدور حول أسوار أريحا، ويأتي وقت - في المرة السابعة لدورانه - فيه تنهدم كل أسوار مدينة عدم الإيمان والتناقضات. ولكن إلى أن يتحقق هذا يليق بالإنسان أن يتعب في ممارساته محتملاً المقاومين ليختار أجنحة ينطلق بها...].
حقًا لتُدمر أريحا إلى الأبد وتخلص راحاب الزانية، أي ليزول الشر الذي غلب العالم كقول الكتاب: "العالم كله قد وضع في الشرير" (1 يو 5: 19)، الآن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة" (1 يو 2: 16)، فينهدم الشر ولا يقوم حتى تحيا راحاب التي كانت زانية عروسًا مقدسة وعفيفة للرب (2 كو 11: 2). بهذا لا تعود الزانية تسلك في زناها بل في قداسة الرب كقول الرسول: "هكذا كان أُناس منكم، لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1 كو 6: 11). | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 5:38 pm | |
| الاصحاح السابع
الهزيمة في عاي
انتصر الشعب على أريحا المدينة الضخمة المحصنة، لكنهم انهزموا أمام قرية عاي الصغيرة، لأنه في وسطهم حرام، ولم يعد الله في وسطهم حتى ينزعوا الخميرة الفاسدة ويتقدسوا له.
1. خيانة عخان [1].
2. الهزيمة أمام عاي [2-5].
3. يشوع الشفيع [6-9].
4. سرّ الهزيمة [10-15].
5. نزع الخميرة الفاسدة [16- 26].
1. خيانة عخان...
"وخان بنو إسرائيل خيانة في الحرام، فأخذ عخان بن كرمي بن زبدي بن زارح من سبط يهوذا من الحرام، فحمى غضب الرب على بني إسرائيل".
ليس عجيبًا أن تنتهي النصرة الفائقة على أريحا بارتكاب عخان هذا الحرام وقيامه بهذه الخيانة وسط شعب الله، فإن هذا العمل يمثل بشاعة الطبيعة البشرية التي تُقابل عطايا الله الفائقة والمجانية بالجحود عوض الشكر. أمام أسوار أريحا الشاهقة تقف في مذلة تنتظر خلاص الله العجيب، وإذ تنهار الأسوار ويخضع لها الأعداء تعود فتقدم خيانة عهد الله!! حقًا كثيرون كانوا جبابرة واستطاعوا بالنعمة أن يهزموا أريحا ويحطموا جبروتها، لكنهم في فساد قلبهم الداخلي تحطموا أمام قرية عاي الصغيرة بسبب الحرام الذي تسلل إلى القلب في الداخل.
على أي الأحوال لقد سمح الله أن يبدأ الميراث بالنصرة القوية تلوها مباشرة الهزيمة المؤلمة ليكون ذلك درسًا للأجيال كلها، ان الغلبة هي من عند الله والفشل هو بسبب شرنا. وأنه كلما انتصرنا بالنعمة الإلهية يلزمنا بالحري ونحن نشكر الله على عطاياه أن نحذر لئلا يتسلل الشر إلينا خلال تهاوننا فندخل إلى الهزيمة أمام خطايا تبدو لنا صغيرة وتافهة. في هذا يقول الرسول بولس: "أقمع جسدي وأستبعده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 27). ولهذا السبب يحذرنا كاتب النشيد: "خذوا لنا الثعالب الصغار المفسدة الكروم، لأن كرومنا قد أقعلت" (نش 2: 15)، وكأنه كلما كرز الرسول وأثمر في حياة الآخرين بالأكثر أقمع جسده واستعبده خوفًا من سقوطه، وكلما أقعل الكرم وظهرت الثمار يخشى الكرام عليه من الثعالب الصغار لئلا تفسده… كلما نلنا نصرة على أريحا في داخلنا أو في حياة الآخري وتمتعنا بالنعم الإلهية المجانية ونحن نقدم الشكر لله ويزداد يقيننا في عمله الإلهي نحذر لئلا يتسلل العدو إلينا خلال الصغائر. يقول القديس مرقس الناسك: [يقدم لنا الشيطان خطايا صغيرة تبدو كأنها تافهة في أعيننا، لأنه بغير هذا لا يقدر أن يقودنا إلى الخطايا العظيمة].
ويلاحظ في النص الذي بين أيدينا (يش 7: 1) أن عخان أخطأ فإذا بغضب الرب يسقط على كل الشعب. يقول العلامة أوريجانوس: [يليق بنا ألا نهمل هذه العبارة فإنه إذ يرتكب شخص واحد خطية يُجلب الغضب على الشعب كله. كيف تحدث هذه الكارثة؟ عندما يُريد الكهنة - مدبروا الشعب - أن يظهروا متسامحين مع الخطاة، لأنهم يخشون لسانهم لئلا يثور ضدهم، ناسين الحزم اللائق بكهنوتهم. إنهم بهذا يرفضون تنفيذ ما هو مكتوب: "الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع لكي يكون عند الباقين خوف" (1 تي 5: 20)، وأيضًا: "اعزلوا الخبيث من بينكم" (1 كو 5: 13). هؤلاء الكهنة غير ملتهبين بغيرة الرب ولا يمتثلون بالرسول الذي يأمر: "أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح" (1 كو 5: 5). إنهم يسلكون بغير مبالاة لنصائح الإنجيل من جهة الخطاة. عندما نرى خاطئًا فلنذهب إليه بمفردنا، ثم نحدثه على فم شاهدين أو ثلاثة، أما إن استهتر حتى بعد لوم الكنيسة له ولم يتب فليفرز من الكنيسة ويحسب كالوثني والعشار (مت 18: 5)].
2. الهزيمة أمام عاي...
لم يكن ممكنًا أن يحدث تحركًا نحو أريحا المحصنة إلاًّ بعد أن أعلن الله ليشوع "قد دفعت بيدك أريحا وملكها جبابرة البأس" (6: 2)، أما هنا فإذ تسلل الحرام إلى وسط الشعب، وعاي قرية صغيرة، لم نسمع صوت الرب يعلن شيئًا ليشوع، ولا استشار يشوع الرب قبل إصعاد رجال للتجسس أو تحديد عدد رجال الحرب... ولو أن يشوع استشار الرب لكان الرب منعه من القيام بأي عمل قبل تنقية الفساد الذي تسلل إلى شعبه خفية، وبالتالي ما كانت قد حدثت الهزيمة أمام عاي.
استهتر الجواسيس بقرية عاي، إذ قالوا ليشوع: "لا يصعد كل الشعب بل يصعد نحو ألفي رجل أو ثلاثة آلاف رجل ويضربوا عاي. لا تكلف كل الشعب إلى هناك لأنهم قليلون". حقًا إن سكان عاي قليلون، لكن شعب الله بعد أن تخلى الله عنهم وفارقهم صاروا ليس فقط قليلين بل وكلا شيء. وكما يقول الحكيم: "الشرير يهرب ولا طارد، أما الصديقون فكشبل ثبيتٍ" (أم 28: 1). هذا ما حذر به الله شعبه على فم موسى النبي "ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك... يجعلك الرب منهزمًا أمام أعدائك، في طريق واحدة تخرج عليهم وفي سبع طرق تهرب أمامهم وتكون قلقًا في جميع ممالك الأرض. وتكون جثتك طعامًا لجميع طيور السماء ووحوش الأرض وليس من يزعجها" (تث 28: 15، 25-26). هكذا أخطأ الجواسيس في حساباتهم إذ تطلعوا بمنظار بشري وتجاهلوا فقدانهم سرّ نصرتهم الخفي، ألا وهي الحياة المقدسة في الرب! لقد ظنوا أن ألفين أو ثلاثة آلاف قادرون على ضرب عاي، مع أن عاي كانت تحتاج أولاً إلى ضرب الفساد الداخلي في الشعب وإلى قيام جميع الشعب مع يشوع إلى المدينة وإقامة كمينين من ثلاثين ألف جبار بأس ومن خمسة آلاف (يش 8: 5، 3، 12).
ضرب أهل عاي نحو ستة وثلاثين رجلاً من الشعب، وهو ذات رقم الرشومات لسرّ الميرون حيث يدهن الكاهن 36 رشمًا على كل أعضاء المعمد حديثًا من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، وكأن عاي الضعيفة استطاعت أن تقتل كل الأعضاء الإنسان وتبددها بسبب الحرام المختص في داخل القلب! إن فكرة شريرة نظنها بسيطة وهينة إذ نستسلم لها تفقدنا طهارة كل الجسد، بل وتفقدنا كل حياتنا!
أما ثمر هذا كله فهو: "ذاب قلب الشعب وصار مثل الماء". هذا هو عمل الخطية، لقد حطمت الشعب كله وأفقدته كل شجاعة وقوة وصيرت قلبه كالماء يسيل وليس من يقدر أن يعين أو يسند. لهذا لا تعجب إن كان إرميا النبي إذ يدرك فاعلية الخطية المرّة يقول: "أحشائي أحشائي، توجعني جدران قلبي، يئن فيَّ قلبي، لا أستطيع السكوت لأنكِ سمعتِ يا نفسي صوت البوق وهتاف الحرب" (إر 4: 19). وإذ حمل السيد خطايانا قال على لسان النبي: "كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي" (مز 22: 14)، يا لبشاعة الخطية!
3. يشوع الشفيع...
"فمزق يشوع ثيابه، وسقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى المساء هو وشيوخ إسرائيل ووضعوا ترابًا على رؤوسهم".
وقف يشوع كشفيع عن الشعب أمام الله، فمزق ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض أمام التابوت إلى المساء، يحمل صورة رمزية لشفاعة ربنا يسوع المسيح الكفارية الذي أخلى ذاته وكأنه قد نزع عنه ثوب مجده من أجلنا، ونزل إلى الأرض هذا الذي ترتعب أمامه القوات السمائية وأعلن كمال حبه محققًا المصالحة على الصليب عند المساء. يقول عنه أشعياء النبي: "سكب للموت نفسه، وأُحصى مع الأثمة وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين" (53: 12)، وأيضًا يوحنا الحبيب: "وإن أخطأ أحدنا فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، هو كفارة لخطايانا، ليس خطايانا فقط بل وخطايا العالم أيضًا" (1 يو 2: 1). كما يقول الرسول بولس: "فمن ثمَّ يقدر أن يخلص إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم" (عب 7: 25).
إن ثمن شفاعته ليس تمزيقًا لثوبه أو سقوط وجهه على الأرض كما فعل يشوع، وإنما هو الحيّ الأبدي حمل جسدًا ليسكب للموت نفسه، حاملاً آثامنا وضعفاتنا ليدينها في جسده، فيُحصى مع الأثمة هذا الذي لا يعرف خطية! يقدم حياته عن البشرية التي حملت العداوة ضده بإرادتها، إذ هو وحده قادر أن يسلم نفسه للموت وفي نفس الوقت قادر أن يقوم، صار لنا شفيعًا حيًا يقدمنا إلى أبيه كأعضاء جسده الحيّ، فنجد لنا موضع راحة في أحضانه الأبوية. شفاعته ليست كلامًا ولا مجرد صراخ لكنه دخول بنا، فيه نتبرر بدمه ونحسب موضع سرور الآب!
يقول القديس أغسطينوس إن ربنا يسوع يُصلي من أجلنا، ويُصلي فينا في الوقت الذي فيه نحن نصلي إليه: [يوجد مخلص واحد، ربنا يسوع المسيح ابن الله، الذي يُصلي من أجلنا، ويصلي فينا، وإليه نحن نصلي، يُصلي عنا ككاهننا، ويصلي فينا بكونه رأسنا، ونُصلي إليه بكونه إلهنا.
4. سرّ الهزيمة...
أعلن الله ليشوع سرّ الهزيمة، مقدمًا له العلاج:
"قم، لماذا أنت ساقط على وجهك:
قد أخطأ إسرائيل بل تعدوا عهدي...
لأنهم محرومون ولا أعود أكون معكم إن لم تبيدوا الحرام من وسطكم.
قم، قدس الشعب...
في وسطك حرام يا إسرائيل،
فلا تتمكن للثبوت أمام أعدائك حتى تنزعوا الحرام من وسطكم".
يلاحظ في العبارات السابقة الآتي:
أولاً: يقول الله ليشوع "قم" مرتين، في المرة الأولى: "قم لماذا أنت ساقط على وجهك"، وفي الأخرى: "قم قدس الشعب". وكأن الآب إذ يرى الابن حاملاً الموت عنا بإرادته يطلب منه أن يقوم... وبقيامته يقدس الشعب. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). يقوم الابن المتجسد فيقيمنا معه بلا خطية!... سفر يشوع هو سفر القيامة، لأنه بدونها لن يتحقق لنا الميراث ولا يكون لنا نصيب في المواعيد الإلهية.
ثانيًا: سرّ الهزيمة إن المؤمنين صاروا محرومين وقد فارقهم الرب حتى يبيدوا الحرام من وسطهم. إذ استولى أحدهم على ما هو محرم حمل في داخله طبيعة هذا المحرم، فصار محرومًا وأصغى بهذا على كل الشعب. إقتناء الشر يعطينا طبيعته، وإقتناء المقدسات يجعلنا قديسين. من يقتني الخطية الباطلة يصير باطلاً، ومن يقتني الله يحمل فيه الحياة الإلهية وتصير له السمات الجديدة على صورة خالقه.
ثالثًا: إن كان دخول الحرام في وسطنا هو سرّ هزيمتنا فالعلاج يحمل جانبين متكاملين: إبادة الحرام من وسطنا، إقتناء القداسة، لا يكفي الجانب السلبي وهو نزع الشر وإنما يلزم العمل الإيجابي وهو اقتناء القدوس ذاته. لذا يقول الله ليشوع أن يبيد الحرام وأن يقوم فيُقدس الشعب.
5. نزع الخميرة الفاسدة...
ما كان يمكن للشعب أن يتمتع بالحياة المقامة المقدسة إن لم تُنزع عنهم الخميرة الفاسدة التي تفسد العجين كله (1 كو 5: 6)؛ كان لابد من إبادة الحرام تمامًا لكي يعودوا فيتمتعوا بمعية الله الدائمة. وهنا نلاحظ الآتي:
أولاً: للأسف السبط الذي أنجب لنا القديسة مريم التي تحني رأسها بالطاعة لله لتقبل حلول الكلمة في أحشائها فيخرج مخلص العالم الأسد الخارج من سبط يهوذا، يخرج عخان بن كرمي الذي أعثر الشعب وحطمه. لعل الله سمح بذلك لكي نحذر السقوط ولا نستهين بالعثرة مهما بدت بسيطة، فالسبط الذي أُعطيت له الوعود خرج منه هذا الذي استحق الإبادة، مواعيد الله الأمينة وعطاياه الإلهية المجانية تهبنا رجاءً ويقينًا لكن مع حذر فإن عخان رأى فاشتهى ثم أخذ وطمر، إذ يقول: "رأيت في الغنيمة رداء شنعاريا ومئتي شاقل ولسان ذهب وزنه خمسون شاقلاً فاشتهيتها وأخذتها، وها هي مطمورة في الأرض في وسط خيمتي والفضة تحتها". تبدأ العثرة بالرؤية غير المقدسة فالشهوة فالعمل ثم إخفاء الشر في الأرض وسط الخيمة حتى لا يبقى للشر أثر يمكن إدراكه.
ثانيًا: لم يصفح الله عن عخان ربما لعدة أسباب. السبب الأول لأن هذا التصرف كان الأول من نوعه بعد دخولهم كنعان. فأراد الله من البداية أن يعطيهم درسًا يبرز فيه بشاعة الخطية مؤكدًا ضرورة بترها. هذا ما حدث مع الحطاّب الذي كان يجمع الحطب يوم السبت فكان أول كاسر للسبت، وقد جاء حكم الرب عليه، "قتلاً يقتل الرجل، يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج المحلة" (عد 15: 35)، وأيضًا مع حنانيا وسفيرة كأول عائلة تكذب على الروح القدس في عصر الرسل (أع 5: 3). أما السبب الثاني فهو أن عخان قد تمتع بالبركات الإلهية ورأى بنفسه في نهر الأردن الطريق ينفتح ليعبر، وأسوار أريحا تنهدم لكي يرث، لذلك كان جزاؤه مُرًا وقاسيًا. لو أنه انتظر لنال نصيبه من غنائم عاي وغيرها من المواقع كما ورث أرض الموعد، لكنه إذ احتقر بركات الله مهتمًا بالأمور الأرضية فقد هذه وتلك! السبب الثالث أن عخان لم يشعر بالتوبة ولا اعترف في البداية وانتظر حتى كشف الله السبط الذي أخطأ فالعشيرة ثم عُرف البيت وأخيرًا عُرف اسمه وعندئذ اضطر أن يعترف... لقد أخفى الجريمة ولم يقدم التوبة حتى بعد انكسار الشعب...
على أي الأحوال، صار عخان درسًا للكنيسة كلها عبر الأجيال، من جهة كشف أن سرّ الهزيمة في حياة المؤمن أو الجماعة هو "الحرام" الذي يجد له موضعًا في وسطنا! من جهة أخرى صار عبرة لكل من يخطئ... ليس له ما يقدمه من عذر وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [عندما أُتهم عخان بالسرقة لم يحتج أنه كان غيورًا في الحروب، لكنه إذ ثبتت معصيته رجمه الشعب كله بالحجارة]، وأخيرًا صار درسًا حيًا لكل الأجيال من جهة التزام المؤمن أن يبيد كل أثر للخطية في حياته دون مناقشة. لقد أباد يشوع بن نون كل أثر لعخان وكل ماله، حتى نُسلم حياتنا الداخلية وسلوكنا بين يدّي الله يسوعنا الحيّ الذي وحده يقدر أن يقتلع جذور خطايانا، فلا يترك فينا أثرًا للشر أو شبه الشر، لنتمسك بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به تُقطع كل عثرة فينا فلا نهلك، متذكرين وصية السيد لنا: "إن كانت عينك اليمين تعثرك فاقلعها والقها عنك، لأنه خيرٌ لك أن يُهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم. وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقلعها والقها عنك..." (مت 5: 29، 30).
ثالثًا: كانت مادة الجريمة هي:
أ. رداء شنعاريًا نفسيًا، أي رداء مستوردًا من شنعار (بجوار بابل) وهي المنطقة التي أُقيم فيها برج بابل (تك 11: 2)، وإليها سبى بعض اليهود (إش 11: 11، زك 5: 11).
إن كان الرداء يُشير إلى الجسد، فإن اشتهاء الرداء البابلي أو الشنعاري إنما يُشير إلى شهوة الجسد للتنعم بأمور الأمم وملذاتهم. ففي سفر حزقيال يوبخ الله يهوذا لأن إسرائيل أختها "عشقت بني أشور الولاة والشحن الأبطال الملابسين أفخر لباس" (حز 23: 12). لقد حمل عخان البذار الأولى لشهوات الجسد مع الأمم، لذلك كان لابد من إبادتها في بداية انطلاقها... لقد دنس الجسد الذي خلقه الله مقدسًا!
ب. مائتي شاقل فضة، إن كان الرداء يُشير إلى شهوات الجسد، فإن المائتي شاقل فضة تُشير إلى محبة المال... الذين يقتنون الفضة على حساب إخوتهم المحرومين. والفضة تُشير أيضًا إلى كلمة الله، وكما أن الإنسان الشرير يسيء إلى جسده المقدس بتدنيسه إياه فإنه أيضًا يسيء فهم كلمة الله فيطمرها في الأرض تحت خيمته، أي يستخدمها بمفهوم أرضي لحساب خيمة جسده بدلاً من أن يتقبلها لترفعه إلى السماويات لحساب روحه كما لخلاص جسده!
ج. لسان ذهبي ، يُشير إلى لسان الفلاسفة الملحدين الذي يبدو ذهبيًا وبراقًا. يقول العلامة أوريجانوس: [لست أظن أن سرقة القليل من الذهب كانت خطية كافية لتدنيس كنيسته العظيمة... لسان الذهب هي مذاهب الفلاسفة الفاسدة التي تبدو لامعة. احرص لئلا يغريك بهاء صنعتهم وتخدعك حلاوة لسانهم الذهبي. تذكر أمر يشوع بأن كل ما هو ذهبي في أريحا فليكن محرمًا. إن كنت تقرأ مقالات الشعراء البراقة التي تحكي عن الآلهة فلا تترك نفسك تسحرها فصاحتهم. فإنك إذ أخذتها ووضعتها في خيمتك، أي تركت تعاليمهم تدخل إلى قلبك، تتدنس الكنيسة كلها. هذا ما فعله فالنتينوس وباسيليدس البائسين. فقد سرقا اللسان الذهبي الذي في أريحا وحاولا أن ينقلا المبادئ الفلسفية الرديئة إلى الكنيسة فيدنسوا كل كنيسة الله].
د. خمسين شاقلاً: رقم 50 يُشير إلى روح الحرية والوحدة، ففي خيمة الاجتماع كانت الستارتان تتحدان معًا خلال خمسين عروة في إحدى الجانبين من كل ستارة (خر 26: 4-5) ترتبط العرى كلها بواسطة خمسن أشظة ذهبية إشارة إلى سرّ الوحدة بين الشعبين (اليهودي والأمم) إنما بحلول الروح القدس في يوم الخمسين حيث ينالون روح الحرية في المسيح يسوع والذي يهب الوحدة أيضًا. وفي اليوبيل - في السنة الخمسين - كان العبيد من اليهود يتحررون، والأرض المرهونة يفك رهنها، ويشعر الكل بالحرية... هنا عخان يتسلم الحرية لطمره في الأرض تحت خيمته، أي يستخدم الحرية المقدسة لحساب جسده ومطالبه الزمنية فتصير إباحية واستهتارًا.
في اختصار إن ما فعله عخان هو تدنيس للمقدسات أو المواهب التي قدمها الله له لراحته وسلامه فاستخدمها لتحطيمه وهلاكه:
استخدم الجسد (الثوب) للشهوات عوض أن يكون معينًا للنفس في الحياة المقدسة،
واستخدم كلمة الله بفكر خاطئ عوض أن ترفعه للسمويات،
واستخدم الفكر في الفلسفات البراقة غير البناءة عوض أن يكون عمله لمجد الله،
واستخدم الحرية كفرصة للجسد عوض أن تكون سرّ انطلاقه إلى حضن أبيه بلا عائق أو قيود | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| |
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 6:22 pm | |
| الاصحاح التاسع
حيلة بني جبعون
إذ ملك القسم الأوسط (أريحا وعاي) بدأ الزحف تجاه الجنوب (ص 9، 10)، لكن أهل جبعون إذ يقطنون جنوب غرب أريحا اسرعوا بتدبير حيلة لإقامة عهد مع يشوع ورجاله حتى لا يهلكوا، فسقط يشوع ورجاله معه في شباك الحيله:
1. هياج الأمم عليهم [1-2].
2. حيلة بني جبعون [3-13].
3. انخداع يشوع ورجاله [14-20].
4. إذلال بني جبعون [21-27].
1. هياج الأمم عليهم...
"ولما سمع جميع الملوك الذين في عبر الأردن في الجبل وفي السهل وفي كل ساحل البحر الكبير إلى جهة لبنان الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحويون اليبوسيون، إجتمعوا معًا لمحاربة يشوع وإسرائيل بصوت واحد.
عبور نهر الأردن لم يكون خاتمة الجهاد بل بدايته، فإذ سمع الأمم الساكنون بكنعان هاجوا معًا وإجتمعوا لمحاربه يشوع وإسرائيل بصوت واحد، وكان هذا الهياج يزداد كلما دخل يشوع والشعب في نصرة جديدة. هكذا أيها الحبيب دخولنا المعمودية إنما هو تمتع بامكانيات الله التي صارت لنا لا لنفخر بها ونتباحث فيها وإنما لنستخدمها في جهادنا الروحى، ومع كل نصرة روحيه نتوقع حربًا أشد وضيقات أكثر. حينما وجد يسوع رب المجد ليملك خلال أعضاء جسده يهيج عدو الخير وكل ملائكته الأشرار!
لقد سمع الملوك بعبورهم الأردن وإستيلائهم على أريحا وعاى فاجتمع الكل معًا لمحاربة يشوع وإسرائيل... أي يسوع ومملكته. وقد حدد الوحى مواضع الملوك أنهم في الجبل وفي السهل وفي كل ساحل البحر الكبير إلى جهة لبنان. هذه كلها تكشف عن مقدار هياج الشياطين كملوك وقوات ظلمة ضد رب المجد يسوع ومؤمنيه، بعضها يقطن في الجبال العاليه والمتشامخة حيث تبث روح العظمه الباطلة والكبرياء الفارغ في الانسان، والأخرى تقطن في السهول حيث النفوس التى إنحلت باليأس وتحطمت بصغر النفس، وجماعه ثالثه تقطن عند ساحل البحر الكبير حيث تدفع النفوس إلى بحر هذا العالم لكى تربكه بأمواجه وقلاقله، أما القلطنه فى لبنان فتُشير إلى روح الترف والتدليل حيث تفقد النفس جديتها في الخلاص. على أى الأحوال تجتمع هذه جميعها معًا ضد النفس المجاهدة، لكى تتقدم بالحرب حسب ظروف كل إنسان وإمكانياته، فقد تبدأ الحرب بالكبرياء إن كان الإنسان متدينًا وله تاريخ طويل في عبادته أو خدمته، وقد تبدأ باليأس إن رأته في رعب من الخطية إلخ... الكل ليحارب يشوعنا الداخلى ويحطم كل مواهبنا وقدراتنا بالفساد.
لكن ما يجب علينا ملاحظته في سفر يشوع هو أنه ليس فقط تشتد الهجمات بعد عبور المعمودية ونوال نصرات متوالية، إنما كان يشوع ورجاله هم المتحفزين ضد الشر والمقاومين له. فالمسيحي إذ يدرك أن قلبه أرض الموعد الذي يجب أن يملك يشوع الحقيقي عليه لذا لا يكف عن مقاومة كل شر حتى لا يكون له موضع فيه. في هذا يقول الأسقف قيصريوس: [قبل أن يخطئ أدم كان جسدنا ونفسنا كلاهما أرض الموعد، لكن بعد الخطية صارت أرض الكنعانيين. ما كان مسكنًا للفضائل صار مغارة للصوص فإذ طُردت الفضائل إلى الخارج ملكت الرذائل فينا. على أي الأحوال، بمجيء ربنا يسوع المسيح يلزمنا أن نسرع ونستعين به لطرد الأمم المقاومة. فإن لم ينزع الغضب لا نعطي مكانًا للصبر، وبالمثل ما لم نستبعد الكبرياء والطمع والحسد والخلاعة عنا، أي عن أرض الموعد، لا نقدر أن نعد مكانًا فينا للفضائل المقدسة.
أن لم تنزع بمعونة الله الرذائل من داخلك، أي من أرضك التي تقدست بنعمة المعمودية لا يمكنك قبول كمال الميراث الموعود به. حقًا توجد في داخلنا عروش الرذائل تهاجم النفس على الدوام بلا توقف، الكنعانيون الروحيون في داخلنا يشنون حربًا يومية ضدنا. وإذ يعرف الرسول هذا يقول: "الجسد يشتهى ضد الروح، والروح ضد الجسد" (غلا 5: 17). لهذا يلزمنا أيها الأحباء أن نتأمل كيف نعمل ونسهر ونثابر في الأعمال الصالحة حتى نقتلع كل الأمم الرذ يلة عنا، من ارضنا، فنتحرر من الحرب].
2. حيلة بني جبعون...
شعر بنو جبعون بالخطر يحدق بهم فقد اقترب يشوع وشعب الله إليهم، وسمعوا بكل ما فعله الله معهم لذلك دبروا حيلة إذ "عملوا بغدر ومضوا وداروا وأخذوا جوالق بالية لحميرهم وزقاق خمر بالية مشققة ومربوطة ونعالاً بالية ومرقعة في أرجلهم وثيابًا رثة عليهم وكل خبز زادهم يابس قد صار فتاتًا، وساروا إلى يشوع إلى المحلة في الجلجال وقالوا له ولرجال إسرائيل: من أرض بعيدة جئنا، والآن اقطعوا لنا عهدًا... هوذا خبزنا سخنًا تزودناه من بيوتنا يوم خروجنا لكي نسير إليكم وها هو الآن يابس قد صار فتاتًا، وهذه زقاق الخمر التي ملأناها جديدة هوذا قد تشققت، وهذه ثيابنا ونعالنا قد بليت من طول الطريق جدًا".
لقد أدركوا بنو جبعون ما أدركته راحاب الزانية، وأراد الكل الخلاص إذ رأوا يدّ الله القوية تعمل لحساب شعبه، أما بنو جبعون لم يبلغوا لما بلغته راحاب، وإن كانوا قد إرتفعوا عن بقية الأمم المحيطة بهم. لقد إستطاعت راحاب بالإيمان ليس فقط أن تخلص هي وأهل بيتها من الموت وإنما أن تدخل إلى العضوية الكنسية، لتمثل كنيسة العهد الجديد القادمة من الأمم كعروس مقدسة وبتول للرب. لقد صار لها الشرف العظيم أن يُسجل إسمها في سلسلة نسب السيد الأمر الذي لم ينعم به كثير من المؤمنات العظيمات، وحسبها الرسول بين رجال ونساء الإيمان (عب 11: 31). أما بنو جبعون فبالخوف مع المكر خلصوا من الموت، لكنهم دخلوا وسط الشعب كعبيد يحتطبون حطبًا ويسقون ماءً لكل الجماعة ولبيت الله (يش 9: 21، 23). حقًا إنهم لم يبادوا كبقية الأمم لكنهم لم يقدروا أن يرتفعوا إلى مجد راحاب. هم سلكوا بروح الخوف والمكر، أما هي فبروح الإيمان والحب. هم التصقوا بكل ما هو قديم وبالٍ من خبز يابس ونقاق خمر بالية مشققة ومربوطة ونعال بالية ومرقعة وثياب رثة، أما هي فالتصقت بالجاسوسين وإرتفع قلبها معهما إلى فوق السطح بين عيدان الكتان (النقاوة) وأوصتهما أن يسيرا على الجبال وليس في الوديان المنحطة. وكأن بني جبعون حتى في التصاقهم بشعب الله كانوا مرتبطين بأمور العالم البالية، أما راحاب فارتفع قلبها إلى السماويات إلى الحياة العلوية النقية. بمعنى آخر صار بنو جبعون مثالاً للإنسان الذي يعبد الله خوفًا لئلا يفقد البركات الزمنية ويعيش في ضياع أما راحاب فتمثل الإنسان الذي يلقي شهوات جسده القديمة تحت قدميه، خالعًا إنسانه القديم بكل أعماله طلبًا للمجد الأبدي، وإشتياقًا للتشبه بالله نفسه، لقد استخدم بنو جبعون المكر على أولاد الله لينعموا بالحياة الزمنية الأمر الذي افقدهم الكثير من البركات، أما راحاب فإنها وإن كانت قد سلكت بالكذب مع رسل ملك أريحا وبمكر. الأمر الغير مستحب لكنها كانت صريحة وواضحة في تعاملها مع أولاد الله.
يرى العلامة أوريجانوس أن بني جبعون يمثلون أدنى درجات الإيمان وأقل المتمتعين بالمجد، إذ يعلق على هذا الأصحاح هكذا: ["في بيت أبي منازل كثيرة" (يو 14: 2). ففي قيامة الأموات تكون الأجساد الممجدة مختلفة فيما بينها، فإنه "ليس كل جسد جسدًا واحدًا، بل للناس جسد واحد، وللبهائم جسد آخر، وللسمك آخر، وللطير آخر وأجسام سموية وأجسام أرضية، لكن مجد السمويات شيء ومجد الأرضيات آخر. مجد الشمس شيء ومجد القمر آخر ومجد النجوم آخر" (1 كو 15: 39-41). كم من تشبيهات أخرى مختلفة قدمت لأظهار وجود إختلاف فيما بين الذين يحصلون على الخلاص! ففي اعتقادي أن هؤلاء الجبعونيين يمثلون الذين ينالون القليل من مجد الخلاص، الأمر الذي لا ينزع اللوم والمذمة عنهم. أنظر كيف حُكم عليهم أن يصيروا محتطبي حطبًا ومستقي ماء للجماعة ولبيت الرب، لأنهم صنعوا خدعة، جاءوا بنعال بالية ومرقعة في أرجلهم وثياب رثة وكان خبز زادهم يابسًا قد صار فتاتًا، جاءوا ليروا يشوع... ولم يطلبوا منهم سوى الخلاص الجسدي]. ويكمل العلامة أوريجانوس تعليقه موضحًا أن بني جبعون يشيرون إلى المؤمنين بالله وأعماله الخلاصية لكنهم لا يترجمون هذا الإيمان إلى حياة عملية يعيشونها إذ يقول: [يوجد في الكنيسة مسيحيون مؤمنون حقيقيون، يؤمنون بالله ولا يناقشون وصاياه ويتممون واجباتهم الدينية ويشتهون الخدمة، لكنهم في سلوكهم وحياتهم الخاصة ليسوا أنقياء بل دنسين؛ لم يخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله (كو 3: 9). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إنهم كالجبعونيين الذي يرتدون ثيابهم القديمة ونعالهم البالية. إنهم يؤمنون بالله ويظهرون احترامًا نحو خدام الرب والكنيسة، لكنه لا توجد فيهم أي علامة للإصلاح أو التجديد الداخلي في سلوكهم. هؤلاء يريدون من الرب يسوع أن يهبهم الخلاص، لكن هذ الخلاص لا يجنبهم علامات العار الذي يقع عليهم. في الكتاب المسمى بالراعي نجد صورة مشابهة لهذه الفئة من الشعب، فهو يتحدث عن الشجرة التي لا تنتج ثمارًا لكنها تحمل الكرمة التي تأتي بعنب كثير. فالشجرة مجدية، لكن يبدوا أن دورها هام ونافع إذ تخدم الكرمة! هكذا في قصة الجبعونيين، نجدهم لا يخلعون الإنسان العتيق بكل أعماله ومع هذا فهم يقومون بخدمة القديسين (احتطاب الحطب واستقائهم ماءً)، مما يجعل لهم أهمية. بهذا يتقبلون الخلاص من يشوع حسب العهد الذي قطعه معهم. أما نحن فلا نريد أن نتقبل الخلاص هكذا على مثال الحبعونيين. ولا نريد أن نكون من محتطبي الحطب أو مستقي الماء، بل نكون إسرائليين بحق. ننعم بالميراث، ويكون لنا نصيبًا في أرض الموعد].
3. انخداع رجال يشوع...
"فأخذ الرجال من زادهم، ومن فم الرب لم يسألوا. فعمل يشوع لهم صُلحًا، وقطع لهم عهدًا لإستحيائهم، وحلف لهم رؤساء الجماعة. وفي نهاية ثلاثة أيام... سمعوا أنهم قريبون إليهم وأنهم ساكنون في وسطهم".
للمرة الثانية يسقط يشوع ورجاله في ذات الخطأ وهو التصرف دون طلب مشورة الله. حقًا لقد شك الإسرائيليون في أمر بني جبعون، وكان يمكنهم أن يستشيروا الله، لكنهم اكتفوا باستخدام الحكمة البشرية، إذ دخلوا معهم في حوار، قائلين لهم: لعلك ساكن في وسطي وكيف أقطع لك عهدًا؟!"... وجاءتهم الإجابة من أفواه البشر، لكنهم "من فم الرب لم يسألوا". اعتمدوا على الفكر البشري دون الالتجاء الله فانخدعوا!
في الموقعة الأولى، إذ دخلوا في لقاء مع أريحا إِستطاعوا بالإيمان والطاعة لله أن يحطموا حصونها الضخمة، وفي الموقعة الثانية إذ إِلتقوا بعاي أستهانوا بها كقرية صغيرة غير محصنة وقليلة العدد، وباتكالهم على ذراعهم البشري سقطوا وإِنهاروا حتى تقدسوا وأطاعوا الله فغلبوها. أما هنا ففي "موقعة الخداع" حيث يتظاهر العدو كصديق يطلب الدخول في عهد، أمام هذه الحيلة سقط الجبابرة غالبوا أريحا وعاي. لهذا يقول الرسول بولس: "ولكني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11: 3). ويقول القديس يوحنا: "لا تصدقوا كل روح، بل إِمتحنوا الأرواح هل هي من الله، لأن أنبياء كذبة كثيرون قد خرحوا إلى هذا العالم" (1 يو 4: 1).
كثيرًا ما تحدث آباء الكنيسة عن خداعات العدو ومكره حتى نحذره؛ تارة يظهر عنيفًا وقويًا وصاحب سلطان ومحاط بأسوار ضخمة كأريحا حتى يرهبنا فنيأس، وتارة يتصاغر جدًا في أعيننا لكي نستهين به كعاي ولا نستعد روحيًا لملاقاته، وثالثة يبدو كصديق أو حتى كملاك نور لكي يخدعنا وندخل معه في عهود كما فعل بني جبعون. يقول القديس أُغسطينوس: [لا تظن الشطان قد فقد شراسته، ولهذا فحين يُمالقك يجب أن تزيد خشيتك منه]. كما يقول: [هوذا المجرب يأتيني في شكل ملاك نور، لكنه باطلاً يحاول أن يخدعني لأنك أنت توبخه، إذ تهبني قدرة على ادراك ضياء نور إلهي]. وأيضًا يقول: [أنه عدو ماكر ومخادع، بدون نورك لا يمكننا ادراك طرقه الملتوية، ولا معرفة أشكال وجهه المتعدده، تارة نراه هنا وتارة هناك تارة يظهر كحمل وأخرى كذئب، تارة يظهر كنور وأخرى كظلام، يعرف كيف يتغير ويغير خططه مع تغير ظروف الإنسان وأوقاته وأماكنه. فلكي يخدع المتعبين يحزن معهم، ولكي يجتذب القلوب يلوث أجواء فرحهم، ولكي يقتل الحارين في الروح يظهر لهم في شكل حمل، ولكي يفترس ذوي الحياء يتحول إلى ذئب... من يقدر أن يميز طرق مكره المختلفة؟! من يقدر أن يكتشف دائمًا ذاك المتنكر خفية؟! من ذا الذي أحصى عدد أنيابه المرعبة؟! سهامه يخفيها في جبعته، وحيله يخبئها إلى اللحظة المناسبة للسقوط. إلهي، يا من أنت هو رجائي، بدون نورك الذي نعاين به كل شيء علينا اكتشاف مناورات الشيطان وحيله!].
لقد أخطأ يشوع أذ صدقهم وحلف لهم، لهذا يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم من إستخدام القسم، قائلاً: [حقًا كان هذا القسم فخًا من الشيطان!... ليتنا نفلت من كل شرك ومن كل فخ شيطاني].
ومع أن القديس أمبروسيوس انتقد يشوع لتصديقه الرجال بسرعة دون استشارة الله، لكنه رأى في تصرفه علامة طيبة قلبه، إذ حكم عليه حسب قلبه البسيط. إنه يقول: [من يقدر أن يجد خطأ في القديسين في هذا الأمر؟ إنهم يظنون أن الآخرين يحملون ذات المشاعر التي لهم، ويفترضون أن ليس فيهم من يكذب، ذلك لأن الصديق هو في صحبتهم على الدوام. لا يعرفون ما هو الخداع، وبفرح يصدقون الغير، لأنهم هم أنفسهم صادقون. لا يتسرب الشك إليهم في الآخرين فيما هم ليسوا عليه... ليتنا لا نلوم فيه سرعة تصديقه بل بالحري نمدح صلاحه].
إِكتشف يشوع ورجاله حيلة بني جبعون بعد ثلاثة أيام، وأدركوا أنهم قريبون منم جدًا وأنه ساكنون في وسطهم. نعود إلى سرّ الأيام الثلاثة التي كثيرًا ما تحدثنا عنه في هذا السفر كما في الأسفار السابقة، فخلال إيماننا بالثالوث القدوس تنفضح حيل إبليس وخداعاته. عندما نقبل الله كأب لنا ندخل إلى أحضانه الأبوية بثبوتنا في إبنه الوحيد كأعضاء جسده المقدس، خلال عمل روحه القدوس فينا بالمعمودية كما في التوبة إلخ... لا يقدر العدو أن يخدعنا ولا أن يحسب قلبنا من أبينا السماوي. إيماننا العملي الحّي، وتمتعنا بسرّ الثالوث لا كفكر فلسفي أو عقيدة ذهنية وإنما كسرّ شركتنا معه يحمينا من كل هجمات شيطانية. والأيام الثلاثة أيضًا تُشير إلى سرّ قيامتنا مع المسيح حيث نُدفن معه أيضًا ثلاثة أيام لنقوم معه. فالإنسان الذي له الحياة المقامة في الرب وينعم ببهجتها يحيا دومًا فوق كل حيل العدو وخداعاته!
إذن لنهرب من خداعات بني جبعون بقبولنا الثالوث القدوس كسرّ حياة لنا، وتمتعنا بالحياة المقامة في المسيح يسوع ربنا القائم من الأموات.
4. إذلال بني جبعون...
إذ قطع إسرائيل عهدًا مع بني جبعون، قال الرؤساء لكل الجماعة: "إننا قد حلفنا لهم بالرب إله إسرائيل، والآن لن نتمكن من مسهم...، يحيون ويكونون محتطبي حطبًا ومستقي ماء لكل الجماعة" لقد استدعى يشوع رجال بني جبعون، وقال: "لماذا خدعتمونا...؟! فالآن ملعونون أنتم، فلا ينقطع منكم العبيد ومحتطبوا الحطب ومستقوا الماء لبيت إلهي".
لقد اضطر يشوع أن يستحييهم كما سبق فإستحيا راحاب وأهل بيتها، لكن كلّ أخذ قدر إيمانه، هؤلاء بقوا كعبيد: "ملعونو أنتم فلا ينقطع منكم العبيد" لأنهم جاءوا إليهم عن خوف، أما هي فبقت كعضوة من إسرائيل الجديد إذ قبلت رسالته بالحب، حقًا لقد صار من جبعون من يستقون الماء لبيت الله، فنالوا كرامة عوض الموت، وإنطبق عليهم القول: "عوضًا من الشوك ينبت سروٌ، عوضًا عن القريِس يطلع آسُ، ويكون للرب إسمًا علامة أبدية لا تنقطع" (إش 55: 13).
أخيرًا يحذرنا العلامة أوريجانوس من الدخول إلى الإيمان على مستوى بني جبعون فنحيا كعبيد نحتطب حطبًا ونستقي الماء عوض أن نكون على مستوى الأبناء لله، العاملين إرادته، والسالكين بروحه متشبهين به. يقول: [لو كان إيمان واحد من الشعب محدودًا بحضوره الكنيسة والإنحناء أمام الكاهن وتكريم خدّام الرب والاشتراك في تجميل الهيكل والكنيسة دون أن يصنع شيئًا لاصلاح سلوكه، وتصحيح عاداته، فيدفن الشر، ويمارس الحياة الطاهرة، ويضبط غضبه وطمعه واشتهاء ما لغيره ويبتعد عن النميمة والسب والإدانة الهدامة، فإن مثل هذا ينسبه الرب إلى بني جبعون... إنني أتوسل إليكم كسفراء عن المسيح (2 كو 5: 20) أنه مادام يوجد وقت وإمكانية للتصحيح فلتجاهدوا ولتسرعوا بإلقاء الثياب البالية والنجاسات التي لا تليق بحرية الإسرائيليين (الجدد). أتريد أن تعرف عظمة هذه الحرية؟ حسب الشريعة لا يمكن لخادم عبراني أصبح عبدًا أن يبقى هكذا في العبودية أكثر من ست سنوات، ففي السنة السابعة تأمر الشريعة برده إلى الحرية (خر 21: 2)، إذ تهتم الشريعة بالحرية. فلو أخذنا هذا النص بمعناه الروحي نجد أن الخادم العبراني إنما هو أنت، إذ سقطت في العبودية التي قال عنها الكتاب: "من يفعل الخطية فهو عبد للخطية" (يو 8: 34) هذه العبودية لا تسقط تحتها النفس العذراء الكاملة، إنما يسقط فيها النفس المتراخية الطفلة، فإن كنت أنت هو الخادم العبراني الذي نلت المعمودية في الكنيسة ثم عدت فسقطت كعبد للخطية فإن رقم 7 يشير إلى الوصايا (الإنجيلية)، فيليق بك أن تسترد الحرية سريعًا في سبع سنوات، أي خلال الوصايا، ولا تكن بعد عبدًا. إن كان رقم 7 يشير إلى الوصايا فإن رقم 6 يشير إلى تكوين العالم (تك 1: 31)، فمادمت تشتهي ما على الأرض (كو 3: 2)، وتهتم بما للجسد "العالم" (رو 8: 5)، فإنك حتمًا تعيش عبدًا للخطية. أما إذ بلغت رقم 7، فإنك تطلب حريتك وترجع إلى شرف أبيك... إني أسألك: إن كنت ابنًا لعائلة من طبقة عالية فهل تريد أن تكون عبدًا لهذا العالم؟ بلا شك تقول: لا... فإن كان لا يوجد في هذه الحياة من يريد أن يبقى عبدًا بل الكل يشتهي الحرية والغنى والشرف، ليس فقط لنفسه بل للآخرين... لذلك يجب علينا كما قال القديس يوحنا أن نعمل أعمال أبينا الذي أرسلنا مادام نهار (يو 9: 4)، حتى نكون أهلاً لروح التبني (رو 8: 15)، ويكون لنا موضعًا مع أولاد الله، لكي يتمجد الله في كل شيء بيسوع المسيح الذي له المجد والسلطان إلى أبد الأبد آمين (1 بط 4: 11)]. | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| |
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 7:34 pm | |
| | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 7:40 pm | |
| الاصحاح الثانى عشر
حدود أرض الميراث
بعد أن سجل لنا الكتاب المقدس الأرض التي استولى عليها الشعب تحت قيادة موسى قبل عبور الأردن، وأرض كنعان التي استولى عليها الشعب تحت قيادة يشوع بعد العبور، ختم هذا بتسجيل حدود الأرض غرب وشرق الأردن.
1. تحديد الأراضي شرق الأردن [1-6].
2. تحديد الأراضي غرب الأردن [7-24].
1. تحديد الأراضي شرق الأردن...
في دراستنا لسفر العدد، رأينا أن طلب السبطين والنصف من موسى النبي الإستيلاء على أرض جلعاد شرقي الأردن لم يكن جذافًا، لكنه كشف عن نصيب كنيسة العهد القديم التي لم تتمتع بأردن المسيح، لكنها خلال الرموز والنبوات نالت نصيبًا مع كنيسة العهد الجديد (غرب الأردن) في الميراث الأبدي. إن نهر الأردن هو الفاصل الذي يميز بين الإثنين، أو بمعنى أصح بين النوعين من الأعضاء المنتمين لكنيسة واحدة تمتذ منذ آدم إلى آخر الدهور.
لقد أراد الوحي الإلهي أن يضم الحديث عن الميراث شرقي وغربي الأردن معًا ليعلن وحدة الكنيسة؛ وإن كان أعضاؤها الأولون قد تمتعوا بالميراث خلال موسى (الناموس) الذي قادهم إلى الرجاء في مجيء يشوع الحقيقي، والأعضاء الآخرون تمتعوا بالميراث خلال يشوع نفسه.
2. تحديد الأراضي غرب الأردن...
ذكر الكتاب المقدس المنطقة التي استولى عليها السبعة أسباط ونصف غرب الأردن وقد ذُكرت أسماء المدن وملوكها القدامى الذين غلبهم يشوع بن نون ليُسلمها للأسباط وكأن الوحي يؤكد أنه عند الآب منازل كثيرة لكي يكون لكل منا منزله المقدس أو موضع راحة وميراث خاص به في المسيح يسوع. لقد طرد الملوك الأشرار (الشياطين) لكي نرث إلى الأبد! كل مدينة لها معناها الرمزي الذي يُشير إلى ميرثنا الأبدي، وكل ملك باسمه له أيضًا معناه الرمزي الذي يُشير إلى خطية معينة أو شيطان معين يلزمنا أن نسحقه حتى لا يرث شيئًا فينا بل نسترد الميراث الذي لنا في المسيح يسوع ربنا. | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 8:07 pm | |
| الاصحاح الثالث عشر
تقسيم الأرض
التقسيم شرق الأردن
ختم الوحي الإلهي الفصل السابق بتحديد الأراضي التي استولى عليها الشعب سواء تحت قيادة موسى أو يشوع، مظهرًا الملوك الذين طُردوا أو قتلوا لكي يحتل يشوع مواقعهم إشارة إلى تحول مملكة إبليس التي إِغتصبها في قلوبنا إلى مملكة يشوع الحقيقي، والآن إذ شاخ يشوع بدأ يُقسم الأراضي على الأسباط، مبتدئًا بتقسيم شرق الأردن بين السبطين ونصف:
1. شيخوخة يشوع [1].
2. الأرض الباقية للإمتلاك [1-6].
3. التقسيم بالقرعة [6-7].
4. نصيب السبطين ونصف [8-33].
1. شيخوخة يشوع...
"وشاخ يشوع، تقدم في الأيام، فقال له الرب: أنت قد شخت. تقدمت في الأيام".
إن كان يشوع رمزًا ليسوع المسيح، فلماذا قيل عن يشوع أنه قد شاخ وتقدم في الأيام، مع أن رب المجد يسوع لم يشخ قط؟ يمكننا أن نفهم الشيخوخة من جانبين:
أولاً: الشيخوخة بمعنى تقدم الأيام، ودخول الإنسان في حالة من القدم والضعف والعجز تنتهي بموته، هذه هي شيخوخة العجز التي لم تصب رب المجد يسوع، فإنه صعد وهو بعد رجل ناضج من جهة الجسد، حتى إِذ تتحد به كنيسته وتحمل سماته لا تحمل في داخلها شيخوخة روحية أو ضعفًا روحيًا. إنها كعريسها تحمل نضوجًا لا يشيخ، يُجدد مثل النسر شبابها. بمعنى آخر المسيحي الحق، وإن شاخ في الجسد وضعف لكنه يبقى في روحه وقلبه شابًا حيًا بلا ضعف في المسيح يسوع الذي لا يشيخ.
ثانيًا: الشيخوخة بمعنى الحكمة... "حكمة الشيوخ"، وهي لا ترتبط بالسن وإنما بنضوج الفكر والروح. لقد عاش آدم سنين طويلة على الأرض، لكنه بسبب إنحداره إلى إنحداره إلى الخطية لم ينل لقب "شيخ" ولا قيل عنه أنه "متقدم في الأيام"، لأنه لم يستفد من أيامه وإنما خسرها. أول من تمتع بهذا اللقب هما إبراهيم وسارة زوجته، إذ قيل "وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام" (تك 18: 11) وذلك عندما استضافا كلمة الله والملاكين في خيمتهما، فصارت حياتهما سماء يقطن فيها الله وملائكته، تأهلا لينال الوعد بإسحق رمز المسيح يسوع. وكأن الإنسان يصير بحق شيخًا ومتقدمًا في الأيام حينما يحمل في داخله الطبيعة السماوية، يستضيف الله ليملك فيه وينفتح على السمائيين كأحباء له! هنا أيضًا إذ يبدأ أيضًا يشوع في تقسم أرض الميراث، وكأنه خلال الرمز يقدم الميراث السماوي للمؤمنين، عندئذٍ يُقال عنه أنه شيخ ومتقدم في الأيام. في هذا يرمز يشوع ليسوع المسيح، ليس كشيخ في عجز، إنما كحكمة الله الذي يهبنا فيه الميراث الأبدي.
وللعلامة أوريجانوس تعليق جميل على عبارة "شاخ... وتقدم في الأيام"، إذ يقول: [هنا نجد الروح القدس هو الذي يعلن أن يشوع شيخ ومتقدم في الأيام... عبارة لا يمكن تطبيقها على خاطئ، لأن الخاطئ غير متقدم في الأيام، إذ لا يفعل هذا: ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13)، وإنما على الدوام ينظر إلى الوراء (لو 9: 62)، لهذا فهو لا يصلح لملكوت الله (لو 9: 62). على العكس إذ نمتد إلى قدام ساعين نحو الكمال نكون متقدمين في الأيام].
إن هذا اللقب الذي أُعطي ليشوع بن نون من الرب نفسه إنما هو بمثابة شهادة تكريم له، علامة إمتداده إلى قدام لا لينعم بالميراث فحسب وإنما ليقدم الميراث للآخرين. إنه ليس فقط يحمل الطبيعة السماوية إنما يقدمها لإخوته وأولاده.
هذا ومن جانب آخر فإن يشوع صار متقدمًا في الأيام، لأنه كرمز ليسوع شمس البر، كان في كل تصرف تشرق الشمس عليه فتعطيه يومًا جديدًا مقدسًا مليئًا بالأعمال المجيدة، وكأنه يقتني هذه الأيام الروحية العاملة بالرب لتصير لحسابه، فيدعى بالمتقدم في الأيام.
2. الأرض الباقية للإمتلاك...
يقول الرب ليشوع: "قد بقيت أرض كثيرة جدًا للإمتلاك".
كيف يقول الكتاب: "استراحت الأرض من الحرب" (يش 11: 23)، ليعود فيقول: "بقيت أرض كثيرة جدًا للإمتلاك"؟ الأرض التي وطأها يشوع بقدميه ملك عليها طاردًا المقاومين لتستريح من الحرب. إنها جماعة المؤمنين التي قبلت دخول السيد المسيح إلى حياتهم الروحية والجسدية، فغفر كل خطاياها، وأعطاها سلامًا مع الآب، بل وسلامًا مع بعضهم البعض، وسلامًا داخل الإنسان نفسه بين الروح والجسد بتقديس الكل! هذه هي الراحة الحقيقية التي صارت لكل مؤمن حقيقي في علاقته بالله أبيه وإِخوته البشريين بل وفي علاقته حتى بجسده ومشاعره وأحاسيسه الداخلية... إنه ينعم براحة فائقة في المسيح يسوع. أما الإعلان عن وجود أرض كثيرة جدًا للإمتلاك، فهذا أمر طبيعي لأن أرض كثيرة لم يكن بعد قد دخلها يشوع... لا يزال حتى الآن يوجد ملحدون كثيرون لم ينعمون بدخول الرب إلى حياتهم ليملك فيهم. يؤكد المرتل أنه يجب أن يملك السيد المسيح، قائلاً: "كل الأمم تتعبد له" (مز 72: 11)، وأيضًا: "ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض، أمامه تجثو أهل البرية" (مز 72: 8-9).
يمكننا أيضًا أن نقول أن السيد المسيح - يشوع الحقيقي- إذ إِرتفع على الصليب دخل الجحيم ليملك على الذين ماتوا على الرجاء منطلقًا بهم إلى فردوسه، بهذا نفهم العبارة: "استراحت الأرض من الحرب". لقد غلب المسيح الرأس نيابة عن البشرية كلها بصليبه. لكن هذه الغلبة إنما هي الإمكانية التي قُدمت للكنيسة عبر الأجيال لكي بغلبته تغلب، وبنصرته تحطم الجحيم وتنطلق بكل نفس إلى الفردوس... بهذا نفهم العبارة الثانية: "قد بقيت أرض كثيرة جدًا للإمتلاك". لقد ملك الرب حين كان بالجسد على الأرض، ولا يزال يملك وهو قائم وسط كنيسته عبر الأجيال مقدمًا النصرة للمؤمنين، فاتحًا باب الخلاص لكل الأجيال.
3. التقسيم بالقرعة...
"إنما أقسمها بالقرعة لإسرائيل ملكًا كما أمرتك".
أُستخدمت القرعة في الكتاب المقدس في العهدين القديم والجديد، ولم تكن تُمارس كحظ يُصيب الإنسان كيفما كان، وإنما تُمارس بعد صلوات مرفوعة لله، لكي تتوقف الإرادة البشرية وتنتظر الإرادة الإلهية. وينتقد العلامة أوريجانوس. رجال عهده، أي رجال القرن الثاني الميلادي، لأنهم لا يستخدمونها في سيامات الأساقفة والكهنة والشمامسة، مقدمًا من العهدين دلائل على إستخدامها.
أولاً: في العهد القديم: جاء في سفر اللاويين "ويلقي هرون على التيسين قرعتين، قرعة للرب وقرعة لعزازيل، ويقرب هرون التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويعمله ذبيحة خطية، وأما التيس الذي خرجت عليه القرعة لعزازيل فيوقف حيًا أمام الرب ليكفر عنه ليرسله إلى عزازيل إلى البرية" (لا 16: 8-10). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). واستخدامها يشوع عند تقسم الأرض الذي أعطاها الرب لشعبه. وفي سفر يونان إذ شعر الملاحون بالعجز التام عن التصرف صرخوا إلى آلهتهم وأخيرًا ألقوا قرعة، فعرفوا أنه بسبب يونان كانت هذه البلبلة (يونان 1: 7). وجاء في سفر الأمثال: "القرعة تبطل الخصومات وتفضل بين الأقوياء" (أم 18: 18)، وكأن إلقاء القرعة بين الأقوياء روحيًا يكشف عن الحق وينزع من بينهم كل خصومة أو إختلاف في الرأي.
ثانيًا: في العهد الجديد: إذ كان يجب إقامة واحد عوض يهوذا كرسول للرب، "أقام (الرجال) إثنين يوسف الذي يدعى بارسابا الملقب يوستس ومتياس، وصلوا قائلين: "أيها الرب العارف قلوب الجميع عيّن أنت من هذه الإثنين أيا اخترته ليأخذ قرعة هذه الخدمة والرسالة الذي تعداها يهوذا ليذهب إلى مكانه، ثم ألقوا قرعتهم فوقعت القرعة على متياس فحُسب مع الأحد عشر رسولاً" (أع 1: 23-26). ويعلق العلامة أوريجانوس على ذلك بقوله: [إستخدام الرسل لها يبين أنه إذا استخدمناها بإيمان مطلق مع الرجوع إلى الصلاة، فإنها تكشف للناس عن إرادة الله الخفية بوضوح]. لكن البعض يفترض بأن ذلك إنما تم قبل حلول الروح القدس الذي يُعطي الكنيسة روح التمييز وإدراك إرادة الله بالصلاة مع الحياة المقدسة دون الحاجة إلى قرعة، كما حدث في إِختيار الشمامسة (أع 9: 2-3)].
لعل الله سمح باستخدام القرعة في تقسم الأرض حتى لا تتدخل العوامل الشخصية في التوزيع، لكي لا يشعر أحد الأسباط أن ما ناله هو بفضل إنسان، إنما هو هبة من الله نفسه، عطية الله المجانية، فلا يمكن لعظيم أو صغير أن يذل سبطًا بأنه قد وهبه شيئًا من عندياته.
4. نصيب السبطين والنصف...
لم يكن ممكنًا للسبطين والنصف - الذين يمثلون رجال العهد القديم - أن يرثوا
قبلنا، وإنما يستلمون الميراث من يد يشوع نفسه، كما يقول الرسول بولس: "فهؤلاء كلهم مشهودًا لهم، بالإيمان لم ينالوا الموعد إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يكملوا بدوننا" (عب 11: 39-40).
لقد تحدد ميراثهم في أيام موسى، لكنهم عبروا يحاربون مع بقية الأسباط حتى يملك الكل معًا في الوقت المحدد، حين يشيخ يشوع وتستريح الأرض من الحرب. في هذا - كما يقول العلامة أوريجانوس- [إشارة إلى جهاد أحبائنا الراقدين معنا خلال الصلاة عنا حتى نرث جميعًا]. | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 8:15 pm | |
| الاصحاح الرابع عشر
نصيب كالب
إذ قُسمت الأراضي الواقعة شرق الأردن على السبطين ونصف، طالب كالب بن يفنة بالجبل الذي وعده به موسى بسبب أمانته وإيمانه عندما جاء للتجسس منذ حوالي 45 عامًا. لقد طالب بالجبل قبل أن يقوم يشوع بتوزيع الأراضي الواقعة غرب الأردن.
1. مقدمة عن كيفية التقسيم [1-5].
2. كالب يطلب نصيبه [6-9].
3. كالب فوق الزمان [10-11].
4. كالب المجاهد [11].
5. كالب والجبل المقدس [12].
6. تمتعه بحبرون [13-15].
1. مقدمة عن كيفية التقسيم...
يرى العلامة أوريجانوس أنه يستحيل أن يهتم الكتاب الإلهي بعرض أبعاد الأرض ميراث كل سبط بدقة وبشيء من التفصيل لمجرد التعرف على واقع كل سبط في الأرض الجديدة، وإنما كما جاءت الطقوس اليهودية شبهًا للسماويات وظلاً لها (عب 8: 5)، فإن تقسيم الأرض وأسماء المناطق ومدن الملجأ ومدن اللاويين وإقامة الهيكل فيما بعد في أورشليم إلخ... هذه الأمور في تفاصيلها الدقيقة تحمل أسرارًا سماوية يكشفها الروح لنا. يقول العلامة: [عندما تأتي أيها اليهودي إلى أورشليم وتجدها مدمرة، وقد تحولت إلى تراب ورماد، لا تبكي كطفل (1 كو 4: 20). لا تحزن إنما اطلب مدينة في السماء عوض التي تبحث عنها على الأرض! أرفع نظرك إلى فوق فستجد "أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا" التي هي حرة (1 كو 14: 20). لا تكتئب لأن الهيكل متروك، ولا تيأس إذ لا تجد كاهنًا، ففي السماء مذبح ويوجد كهنة للخيرات العتيدة يجتازون أمام الرب على رتبة ملكي صادق (عب 5: 10). إنها محبة الله ومراحمه أنه رفع عنكم الميراث الأرضي لتطلبوا السماوي].
وإنني لا أُريد الدخول في تفاصيل كثيرة وإنما أكتفي بعرض بعض المفاهيم الروحية للتقسيم تاركًا روح الرب يسندك ويرشدك، محولاً حتى ما يبدو خاصًا بالأرض القديمة إلى ما يخص خلاصهم وأبديتهم.
في هذا الأصحاح يميز الوحي الإلهي بين ثلاث فئات عند التقسيم :
أ. الفئة الأولى: وهي التي قبلت أن ترث الأرض التي تملكوها في أيام موسى، أي خلال الناموس، وتضم سبطي رأويين وجاد ونصف سبط منسى، لكن هذه الفئة لن تتسلم الميراث إلاَّ على يدي يشوع. إنها تمثل فئة رجال العهد القديم الذين عاشوا أيضًا خلال يشوع الجديد. وفي شيء من التجاوز نستطيع أن نقول بأن هذه الفئة أيضًا تضم الذين هم في عهد النعمة لكنهم للاسف يسلكون كمن هم تحت الناموس، حرفين في فهمهم للكلمة, وناموسيون في تصرفاتهم، وضيقون في فكرهم. مساكين هؤلاء الذين عبروا مع يشوع نهر الأردن لكن بحياتهم وفكرهم ارتدوا إلى ما هو وراء الأردن ليعيشوا كأطفال روحيين عوض النضوج الروحي. إنهم يمثلون الشاب المريض الذي يحّن إلى تصرفت الطفولة، يلهو باللبن واللعب عوض التمتع بالطعام القوي والجدية في التصرف.
ب. الفئة الثانية: هي التي قبلت أن ترث الأرض التي تملكوها في أيام يشوع، أي في عهد النعمة، تضم تسعة أسباط ونصف، وهي تمثل الإنسان الذي ارتفع من تحت الناموس لينطلق من الحرف إلى الروح. هؤلاء لا يرثون مع السبطين والنصف أرض جلعاد الخاصة برعاية الغنم، بل يرثون الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا، فينطلق المؤمن من رعاية الغنم حيث الفكر الحيواني الجسداني إلى الميراث الأبدي حيث الطعام الجديد.
ج. أما الفئة الثالثة: فهي جماعة اللاويين الذين لا ينالون نصيبًا في وسطهم، ولا يكون لهم نصيب في الأرض. لأن الرب نفسه نصيبهم (13: 14). هذه إن صح لنا التعبير أن نقول "فئة الكاملين" الذين يعيشون مع يشوع ليس طمعًا في أرض أو بركات حتى السماوية، وإنما يطلبون الرب نفسه نصيبهم. فإن كانت الفئة الأولى تمثل العابدين من أجل البركات الزمنية (الذين تحت الناموس)، والثانية تمثل العابدين من أجل البركات الروحية، فإن الثالثة لا تطلب شيئًا غير الله وحده الذي هو كل حياتهم وفرحهم وإكليلهم. يقول العلامة أوريجانوس: [لم يحصل اللاويين على الميراث من موسى ولا من يشوع لأن الرب إله إسرائيل هو نصيبه... فإن عددًا كبيرًا من شعب الله لديهم الإيمان البسيط في خوف الله، يرضون الله بأعمالهم الطيبة وعاداتهم الأمينة، لكن قليلون ونادرون من تُوهب لهم الحكمة والعلم ويحفظون قلبهم نقيًا ويزرعون في نفوسهم أجمل الفضائل، ويكون لعلمهم الإمكانية لإنارة الطريق للآخرين... هؤلاء بلا شك يُقال عنهم أنهم لاويون وكهنة، نصيبهم هو الرب، الذي هو الحكمة التي اختاروها فوق كل شيء].
ليتنا نصير كاللاويون والكهنة لا يكون لنا نصيب في أرض الميراث، إنما يكون هو نصيبنا، نقبله فينا بكونه حكمة الله (1 كو 1: 30)؛ فهو برّنا (أر 33: 6، 1 كو 1: 30) وسلامنا (أف 2: 14) وفداؤنا (1 كو 1: 30).
2. كالب يطلب نصيبه...
"فتقدموا بنوا يهوذا إلى يشوع في الجلجال، وقال له كالب بن يفنة القنزي: أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله من جهتي ومن جهتك في قادش برنيع كنت ابن أربعين سنة حين أرسلني موسى عبد الرب من قادش برنيع لأتجسس الأرض...".
قبل أن يبدأ يشوع في القرعة لتوزيع الأرض بين الأسباط التسعة والنصف، تقدم كالب بن يفنة القنزي ليشوع ليذكره بالوعد الذي ناله منذ خمسة وأربعين عامًا حين عاد معه إلى موسى بعد التجسس يتحدثان بأمانة وإيمان عن أرض الموعد على خلاف بقية الجواسيس الأخرى الذين أذابوا قلب الشعب من الخوف. لم يدخل كالب في القرعة مع بقية الشعب إنما طالب بامتياز خاص به ناله من الرب شخصيًا على فم موسى النبي، أما سرّ هذا الامتياز فهو:
أولاً: في دراستنا لسفر العدد رأينا أن كلمة "كالب" إنما تعني (قلب)، وأن التحام يشوع بكالب إنما يعني التحام الإيمان بيسوع المخلص بنقاوة القلب العملية للتمتع بالميراث الأبدي]. ويرى العلامة أوريجانوس أن "يفنة" تعني (تحوّل) وأن "قنزي" تعني (المحتقر). يمكننا إذن أن نقول أن امتياز كالب إنما لأنه يمثل القلب المتولد عن التحول عن الاحتقار. بهذا سبق الكثيرين في نوال الميراث، ليس لأنه أفضل منهم، وإنما لأنه وهو المحتقر قد تحول عن هذه الحياة ليعيش قلبًا نقيًا في الرب. كلنا أبناء القنزي أي ابناء المحتقر، إذ "بإنسان واحد (بأبينا آدم) دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5: 12). لكن كالب يعرف أن يستبدل هذا الإنسان الواحد الذي جلب إليه الاحتقار والموت بإنسان آخر هو ربنا يسوع فصار له عطية البرّ وتمتع بحق الامتلاك، وكما يقول الرسول عن هذا التحول: "لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البرّ سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح" (رو 5: 17). وكأن الرسول يقول في هذا الأصحاح (رو 5) بعد أن كنا بسبب أبينا آدم مملوكين للموت، صرنا بيسوع المسيح ربنا نملك الحياة فيه! بعد أن كنا موضوع ميراث للخطية صرنا نحن وارثين الملكوت الأبدي.
حقًا لقد نُسبنا جميعًا للقنزي أي المحتقر، لكن إن صار لنا في نسبنا يفنة أي (التحول)، فإننا بهذا ننتقل من أبوة آدم الجسدية إلى الأبوة الروحية التي لله في ابنه يسوع المسيح فننعم بالميراث الأول.
ثانيًا: ارتباط كالب بيشوع، وقد سبق لنا الحديث عن ارتباط القلب بالإيمان، فلا نقاوة للقلب خارج الإيمان بيسوع، ولا غلبة له بدونه. حين نرتبط نحن كقلوب بيشوعنا الحق، إنما ننفتح له فيملك في إنساننا الداخلي ويتربع على القلب كعرش له، وكما يملك فينا نحن نملك به في ميراثه الأبدي. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لنرتبط بيشوعنا، ولنسلم له حياتنا فيملك فينا ونحن نملك فيه. وكما يُناجي القديس أغسطينوس ربه قائلاً: [لتستلم كل قدراتي لكي تمتلكها بكمالها... لتُعيد إليَّ سيادتي بكاملها].
ثالثًا: كان لقاء كالب بيشوع في قادش برنيع، و"قادش" إنما تعني (قداسة)، فإن لقاءنا مع ربنا يسوع لا يكون بحق إلاَّ خلال الحياة المقدسة كثيرون يظنون أنهم يعرفون السيد ويلتقون به ربما خلال الكرازة به وربما خلال صنع المعجزات باسمه، لكنهم إن لم يلتقوا به في الحياة المقدسة يقول لهم: "ابعدوا عنيّ يا ملاعين لأنيّ لا أعرفكم"...
رابعًا: إن كان كالب قد نال الوعد من الله خلال موسى ممثل الناموس، لكن تحقيق الوعد لن يتم إلاَّ بيشوع الذي وحده يقدر أن يهب المكافأة. يقول العلامة أوريجانوس: [لقد تعلم كالب أولاً من موسى وبعد ذلك من يشوع الذي عاونه. إنه يقول ليشوع: "أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله". أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب، فإنه ليس من يقدر أن يدرك الكلمة التي نطق بها الرب لموسى إلاَّ يشوع وحده ليس من له إدراك للناموس مثل يسوع في تعليمه، إذ هو الذي علمنا وكشف لنا كل شيء، وهو الذي أوحى لبولس أن "الناموس روحي" (رو 7: 14)]. فيشوعنا هو الذي يعرف الوصية التي خلالها ننال المكافأة ليست كاستحقاق ذاتي لنا وإنما خلال يسوع ربنا، الذي يُقدم لنا الوصية والذي يسندنا في تنفيذها والذي يهبنا المكافأة عنها.
خامسًا: أدرك كالب أن ميراثه إنما هو شركة ميراث مع يشوع، إذ يقول له: "أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله من جهتي ومن جهتك". إن امتيازنا الحق في التمتع بالميراث هو أننا "وارثون مع المسيح" (رو 8: 17)، ما نناله إنما هو ميراث المسيح نفسه، وأمجاده التي ننعم بها فيه، أي خلال عضويتنا في جسده. ليس لنا في أنفسنا استحقاق الميراث، لكن ثوبتنا في المسيح وهبنا هذا الاستحقاق. يقول الرسول بولس: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح" (أف 1: 3)، مؤكدًا أن مجد نعمته التي أنعم بها علينا إنما هي في المحبوب (أف 1: 6)، فإن كان المسيح هو محبوب الآب الذي له المجد، فإننا إذ صرنا فيه صارت لنا نعمة هذا المجد الذي له! وبأكثر إيضاح يُكمل الرسول: "الذي في نلنا نصيبنا" (أف 1: 11).
سادسًا: إن كان ميراث كالب هو ثمرة اتحاده مع يشوع لينعم به وفيه بالمجد، فإن هذا لا يعني سلبية كالب أو تراخيه في تكميل الوصية، إذ يقول: "وأما أنا فاتبعت تمامًا الرب إلهي". وكأنه يقول: من جانبي قبلت وصية الرب إلهي الذي التقي معه على مستوى شخصي فصار منسوبًا ليّ "إلهي" وتممت وصيته تمامًا. إن كانت نعمة الله غنية جدًا في العطاء، لكنها لا توهب للمتراخين في تنفيذ الوصية الإلهية.
أخيرًا نقول أن كالب يدعو الله "إلهي"، فمن يقبل الله إلهه شخصيًا، منسوبًا إليه، إنما أيضًا يقبل أمجاد الله أمجاده، وسمات الله سماته، ونوالنا الميراث إنما هو ثمرة ملكيتنا لله وملكية الله لنا: "أنا لحبيبي وحبيبي ليّ" (نش 6: 3).
3. كالب فوق الزمان...
"والآن فها قد استحيانيّ الرب كما تكلم هذه الخمس والأربعين سنة من حين كلم الرب موسى بهذا الكلام حين سار إسرائيل في القفر. والآن فها أنا اليوم ابن خمسو وثمانين سنة، فلم أزل متشددًا كما في يوم أرسلني موسى".
إن كان الميراث الذي ينعم به المؤمن هو الحياة الأبدية التي تعلو فوق الزمن، وهذا الميراث إنما هو امتداد لحياة يعيشها الإنسان هنا، لهذا يليق بنا لكي ننعم بالميراث أن ندخل الآن في دائرة الأبدية فلا نلتصق بدائرة الزمن التي بدورانها ترفعنا وتهبط من وقت إلى آخر. نعيش ونحن بعد على الأرض بفكر سماوي لا يقدر الزمن أن يفسده أو يضعفه. لقد نال كالب الوعد وهو في سن الأربعين وكان متشددًا في عمل الرب، والآن يتقدم ليشوع وهو في الخامسة والثمانين ولا يزال متشددًا كما كان منذ خمس وأربعين سنة. وكما سبق فتحدثنا في الأصحاح السابق أن المؤمن لا يعرف الشيخوخة العاجزة قط، فإنه وإن كان إنسانه الخارجي يفنى فالداخل يتجدد من يوم إلى يوم (2 كو 4: 16).
يعلق العلامة أوريجانوس على كلمات كالب بن يفنة: "كما كانت قوتي حينئذ هكذا قوتي الآن" ، قائلاً: [القديس في الحقيقة يحمل ذات القوة في الحاضر كما في الماضي، في الأمور الجديدة كما في العتيقة، في الأناجيل كما في الناموس. كأنه يقول أنه يحمل ذات القوة في أيام يشوع كما كانت له في أيام موسى، فإن القلب اليقظ يدرك أسرار العهدين بذات الفوة.
4. كالب المجاهد...
"كما كانت قوتي حينئذ هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول". إن كان كالب قد نال الوعد في زمان موسى فإنه تمتع بذلك لأنه في قوته الروحية بالرب يقول: "تبعت تمامًا الرب إلهي"، فكان متشددًا في تنفيذ وصية الرب؛ نواله الوعد لم يزده إلاَّ قوة روحية فلم يقدر الزمن أن يثبط من همته أو يرخي ذراعيه ، بل يقول: "هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول". كأنه يقول: لست أطلب الميراث وأنا مسترخِ لكنني تدربت بالروح كيف أجاهد روحيًا، محاربًا قوات الظلمة، كيف أخرج من البرية وأدخل أرض الموعد. لقد نجحت حين أخرجني موسى للتجسس، والآن ليّ ثقة في الرب أنني أنجح في الدخول إلى الموضع الذي أرثه... هذه الثقة، وهذه القوة، ليست من ذاته، إذ يقول: "لأنك أنت سمعت في ذلك اليوم أن العناقيين هناك والمدن عظيمة محصنة، لعل الرب معي فأطردهم كما تكلم الرب".
إن قوة كالب دائمًا متشددة للحرب وللخروج وللدخول، أي للحرب الروحية خلالها يخرج من عار العبودية ليدخل في مجد الحرية. إن حياته خروج ودخول كعملية واحدة متكاملة وبغير توقف. خروج مستمر عن أعمال الإنسان العتيق أي صلبه، ودخول إلى أعمال الإنسان الجديد أي التمتع بقيامته. خروج عن الأنا بصلبها ودخول في المسيح يسوع واهب القيامة. خروج عن محبة الأمور الزمنية ودخول في الحياة السماوية.
5. كالب والجبل المقدس...
"فالآن اعطني هذا الجبل الذي تكلم عنه الرب في ذلك اليوم". يقول العلامة أوريجانوس: [القديس لا يطلب شيئًا منخفضًا أو دنيئًا، ولا يسأل أمرًا في قاع الأدوية، إنما يطلب جبلاً مرتفعًا، جبلاً على قمته مدن عظيمة محصنة. يقول الكتاب بالحق: "إن العناقيين هناك والمدن عظيمة محصنة". إذن هذا هو موضوع طلبه، إذ كان يعرف فن الحرب، كما هو مكتوب: "الحكيم يتسور مدينة الجبابرة ويُسقط قوة معتمدها" (أم 21: 22). هل تظن أن سليمان بقوله هذا أراد منا أن نتعلم بأن الحكيم يستولى على مدن ويهدم أسوار مبنية بالحجارة؟! إنه قد عنى بالمدينة والأسوار أي العقائد والبراهين التي بها يبني الملحدون الفلاسفة كل الأراء الدنسة المضادة للناموس الإلهي والتي يستخدمها الوثنيون والبرابرة... ما هي المدن التي يهدمها الحكماء عند إعلاء كلمة الحق؟ إنها مدن الكذب التي يجب بالحق هدمها، كقول الرسول: "هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله" (2 كو 10: 5). اليوم يقف كالب الحكيم جدًا أمام يشوع ويعده أنه سيكون قويًا في الحرب مستعدًا للصراع، طالبًا منه الإذن بالجدال، لكي يهاجم حكماء الدهر الذين يؤكدون الكذب عوض الحق، ولكي ينقضهم ويقهرهم ويقلب كل أبنية مغالطاتهم، لهذا إذ نظر يشوع نشاطه "باركه"؛ بلا شك باركه بإرادة وجرأة! وأنت أيضًا إن كرست حياتك للدراسة والتأمل في ناموس الله بروح الحكمة تصير قلبًا (كالب) يلهج في ناموس الله، قادرًا على هدم المدن العظيمة المحصنة، أي هدم أقوال مخترعي الكذب، بهذا تستحق بركة يشوع وتتسلم فيه حبرون].
هذا الجبل الذي اقتناه كالب إنما هو الجبل المقدس الذي يُعلن في آخر الأيام، فيأتي إليه الأمم ويصعد عليه الأبرار (إش 2: 2-4، مز 24: 63). أي السيد المسيح نفسه! هذا هو ميراثنا الحقيقي الذي نشتهي التمتع به!
6. تمتعه بحبرون...
"فباركه يشوع وأعطى حبرون لكالب بن يفنة ملكًا... لأنه اتبع الرب إله إسرائيل". أثناء حديثنا في الأصحاح العاشر عن المدن التي استولى عليها يشوع، رأيناه يغتصب حبرون من ملكها (10: 37)، وقلنا أن "حبرون" تعني (قران) أو (زواج)، فبعد أن كانت النفس مرتبطة بالشيطان كعريس لها تحمل سماته الشريرة وتشترك معه في أفكاره الخبيثة وأعماله المهلكة، صارت تحت ناموس يشوع، عروسًا له تتحد به لتحمل فكره وسماته! هذه المكافأة التي ينالها كالب الأمين في تبعيته للرب، يدخل في حالة زواج روحي مع ربنا يسوع المسيح!
وللعلامة أوريجانوس تعليق آخر إذ يقول: [حبرون معناها اتحاد أو زواج، ولعل هذا هو معنى هذه المقاطعة. فالمغارة المزدوجة التي أعدها الأب إبرآم موجودة في هذه المدينة حيث يرقد فيها باقي الآباء مع زوجاتهم؛ فيرقد فيها إبراهيم مع سارة (تك 23: 19)، واسحق مع رفقة، ويعقوب مع ليئة، إذًا استحق كالب أن ينال ميراثًا هو رفات هؤلاء الآباء, فبالحكمة التي اتسم بها كالب كانت قوته في أيام يشوع كما في أيام موسى، ففهم ماذا تعني هذه الوحدة بين الآباء وزوجاتهم. أدرك لماذا استراحت هنا سارة وحدها مع إبراهيم بينما حُرمت هاجر وقطورة من هذا الشرف، ولماذا رقدت ليئة وحدها بجوار يعقوب...]. لعل العلامة أوريجانوس يرى أن كالب قد أدرك بحكمته بنواله حبرون أن ينال الميراث الأبدي مع المسيح يسوع على مستوى الوحدة بين الآباء وزوجاتهم، ولكن بمفهوم روحي أعمق وأعظم. | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 8:23 pm | |
| الاصحاح الخامس عشر
نصيب يهوذا
إن كان غرب الأردن يمثل كنيسة العهد الجديد، فإن يهوذا يحتل مركز الصدارة، بكونه السبط الذي منه جاء ابن الله متجسدًا، فجاءت القرعة أولاً له. وكان لكالب بن يفنة قسمًا في وسط بني يهوذا...
1. نصيب يهوذا [1-12].
2. كالب وقرية أربع [13-14].
3. كالب وقرية دبير [15-19].
4. أسماء المدن [20-62].
5. بقاء اليبوسيين في وسطهم [63].
1. نصيب يهوذا...
في تقسيم أرض جلعاد شرق الأردن التي تملكوها خلال الناموس (أي في عهد موسى) بدأت القرعة بروأيين، لأنه البكر جسديًا. أما هنا فإذ يُشير التوزيع إلى ميراث العهد الجديد فلا إلتزام ببكورية الجسد بل بباكورة الروح، لهذا وقعت القرعة أولاً على السبط الملوكي "سبط يهوذا" الذي منه خرج ربنا يسوع المسيح حسب الجسد، "الأسد الخارج من سبط يهوذا" (رؤ 5: 5). كان لابد أن تختفي باكورية الجسد لتظهر باكورية الروح، وذلك إعلانًا عن احتلال ربنا يسوع مركز الصدارة كبكر البشرية عوض آدم الأول الجسداني، الأمر الذي هيأ له الكتاب المقدس برموز كثيرة كاحتلال يعقوب الباكورية عوض عيسو البكر جسديًا، وإسحق ابن الموعد عوض إسماعيل البكر حسب الجسد إلخ... الآن إذ عبرنا الأردن وصارت لنا الأرض الجديدة ميراثًا يتقدم بكرنا الروحي كقائد الكنيسة كلها وواهبًا سمته إذ هي أيضًا به قد صارت "كنيسة الأبكار". باكورة الروح في العهد الجديد لا تفقد الآخرين نعمة الباكورة، كما في الجسد حيث يحتلها المولود أولاً وحده!
ليتنا لا نطلب أن يكون موضعنا وسط سبط رأويين هذا الذي مزق ثيابه (تك 37: 29) ففقد باكوريته، إنما في سبط يهوذا الروحي بثبوتنا في الأسد الخارج منه، لنتأهل لنوال النصيب الأول من ميراث العهد الجديد. لنتقدم مع يهوذا إلى يشوع لننال نصيبنا فيه، ونأخذ قرعتنا بعد أن توقفت الحرب وتمتعنا بالسلام، وقيل عن جسدنا: "استراحت أرض من الحرب"!
لقد أوضح الوحي الإلهي حدود نصيب يهوذا من كل اتجاه، الأمر الذي يحمل مفاهيم روحية عميقة. هنا نردد ما يقوله العلامة أوريجانوس: [بالرغم عن عجزنا فهم كل سرّ وشرحه، لكننا نحاول ذلك بالقدر الذي تهبنا إياه نعمة الله].
من جهة فإن حدود نصيب يهوذا هي "تخم أدوم برية صين من جهة الجنوب". في دراستنا لسفر حزقيال رأينا أن أدوم مأخوذة عن آدم الذي يعني (ترابي)، (دموي) وأن آدم إنما يُقصد به عيسو أو سعير]، وهو يُشير إلى عدو الخير الذي ينزل بقلبنا إلى التراب لنحيا بفكر أرضي، وبطبعه الدموي المحب لمقاتلتنا. يقول القديس أغسطينوس: [لا تنتظر أمانًا فالعدو يلاحقك باستمرار. إن لم يكن غضبه علنيًا فهو يسعى بمكر، ولذلك فقد سُمي الأسد والتنين، سموه أسدًا لما يبديه من غضب، وسموه تنينًا لما يخفي من مكره], فإن كنا في المسيح ننعم بالميراث لكن العدو يقف عند الحدود كأدوم عل حدود يهوذا، يقف كَمن عند الأبواب مشتاقًا أن يسلبنا طبيعنا السماوية، منحدرًا بنا إلى محبة الأرضيات، إنه يقف كمقاوم يطلب هلاكنا ولا يستريح إلاَّ بسفك دمنا روحيًا.
يبدأ حدود نصيب يهوذا بالكشف عن وجود تخم أدوم وبرية صين، والأخيرة تُشير إلى التجربة. فلا يمكن العبور إلى أرض يهوذا والتمتع بميراثه ما لم يجتاز أولاً برية التجارب، فالطريق كرب وضيق تحوط به التجارب بغير توقف، لكن هذا كله يزيد جهادنا قوة، حيث نترنم وسط الدموع، قائلين: "عند كثرة هموميّ في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي". وسط الضيق يعلن السيد عن ذاته كسرّ راحتنا الحقيقية الأبدية. لهذا يقول القديس أغسطينوس: [التجارب والضيقات، وإن كثرت، سبيل لك إلى الكمال، وليست سبيلاً للهلاك]، كما يقول: [العنقود مدّلى في الكرمة وحبة الزيتون على أمها، وطالما هما على أمهما يتمتعان بالهواء الطلق. فلا العنقود يصير خمرًا ولا حبة الزيتون تصير زيتًا ما لم يمر فوقها حجارة المعصرة. تلك هي حالة البشر الذين دعاهم الله قبل الأجيال ليجعلهم شبيهين بابنه الذي ظهر، بنوع خاص، في آلامه، وكأنه كرمة ثمينة].
يكمل الكتاب حديثه عن حدود يهوذا، هكذا: "وكان تخمهم الجنوبي أقصى بحر الملح من اللسان المتوجه نحو الجنوب، وخرج إلى الجنوب عقبة عقربيم وعبر إلى صين وصعد من جنوب قادش برنيع وعبر إلى حصرون، وصعد إلى أدار إلى القرقع". وكأنه يقول إن من يُريد التمتع بالسبط الملوكي يجتاز أولاً هذه الأماكن المُرّة حتى يعبر إلى الميراث في آمان. ليعبر أدوم وأيضًا صين، وليجتز البحر المالح وعقبة عقربيم! ماذا يعني "البحر المالح" إلاَّ التغلب على قلاقل الحياة ودوراناتها؟! ففي مياه البحر المالح يكمن التنين البحري (مز 104: 26) الذي حطمه السيد المسيح بدخوله إلى المياه ليصلبه في عقر داره! إذن لنحطم التنين خلال صلبنا مع ربنا يسوع المسيح فنعبر أرض ميراثنا بسلام. أما "عقبة عقربيم" فتُشير أيضًا إلى محاربات العدو ضدنا لأن "عقربيم" تعني في العبرية (عقارب)، وقد وهبنا الله سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوت العدو ولا يضرنا شيء (لو 10: 16). يقول العلامة أوريجانوس: [إن كنا نرغب في الدخول إلى ميراث سبط يهوذا، يلزمنا أن نمارس هذا النوع من الصعود, فنطأ العقارب ونسحقها، هذه هي التي تقطع الطريق وتهرب. إنه بلا شك الطريق الذي سلكه حزقيال، إذ يقول له الرب" "أنت ساكن بين عقارب" (حز 2: 6)].
هذه هي المناطق المحيطة بميراث يهوذا، إنها تجارب (صين) مستمرة وقلاقل (البحر المالح) وحروب من الشيطان كالعقارب (عقبة عقربيم) وشراسة منه (أدوم)، أما الداخل فمفرح للغاية ومبهج، حيث نلتقي بمياه عين (ينبوع) شمس، وأورشليم مدينة الملك العظيم ورمز الحياة السماوية.
يقول العلامة أوريجانوس: [ماذا تعني هذه الشمس؟ إنها تلك التي كُتب عنها: "ولكم أيها المتقون إسمي تشرق شمس البر" (ملا 4: 2)؟ فإن بدأت تتجاوز البحر المالح تجد نفسك في أرض يهوذا حيث ينبوع الشمس. ما هو هذا الينبوع؟ بالتأكيد ذاك الذي قال عنه يسوع: "ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 14). وإذ نلتقي بنبع الشمس الذي تكلمنا عنه نجد المدينة، كما هو مكتوب أنه يوجد "بيت شمس". هذا ويقال أن بمصر أيضًا "بيت شمس"، لكن مدينة مصر أخذت اسم "الشمس" عن تلك التي يشرق بها الآب السماوي على الأبرار والأشرار (مت 5: 45) أما مدينة يهوذا فتخص القديسين وحدهم، لأنها مدينة الله، التي بها الينبوع إذ "نهر سواقية تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي" (مز 46: 4)]. يمكننا أيضًا أن نميز بين بيت شمس التي لمصر وتلك التي في تخوم يهوذا، الأولى تقوم داخل النفس المتعبدة لتمثال الشمس الحجري، التي لها صورة الشمس دون نورها أو بهائها. أما بيت شمس التي ليهوذا فتمثل النفس التي صارت بيتًا لشمس البر، أي هيكلاً للرب الذي يُنير حياتنا، هذا الذي يفيض ينبوع مياه الروح القدس فيه، إذ يقول حزقيال: "ثم أرجعني إلى مدخل البيت وإنما بمياه تخرج من عتبة البيت نحو المشرق، لأنه وجه البيت نحو الشرق، والمياه نازلة من تحت جانب البيت الأيمن عن جنوب المذبح" (حز 47: 1). هذا ما دعاه سفر يشوع "مياه عين شمس"، أي المياه التي تنبع خلال بيت المسيح، شمس البر!
إن كانت أورشليم قد صارت في ميراث سبط بنيامين (18: 27) لكنها على حدود السبطين خاصة أنهما كونا مملكة مستقلة فيما بعد (مملكة يهوذا)، وقد تمتع يهوذا بالسكنى في أورشليم ، هذه التي يقول عنها القديس أغسطينوس: [أورشليم الأرضية هذه إنما هي ظل أورشليم السماوية]. فقد اختار الله أورشليم بكونها الموضع الذي يسكن فيه اسمه (1 مل 11: 13، 2 مل 21، 4)، المدينة المقدسة التي يقطن فيها عرش الله (إر 3: 16 إلخ)، وعلامة لحلوله وسط شعبه، لذلك حينما يؤدب شعبه يهدد بتدميرها وخرابها (إر 9: 11، 13: 9، 27؛ خر 4، 5، ميخا 3: 12). تحدث عنها الأنبياء كمركز للعمل المسياني، إليها يعود كل الأمم (إش 2: 2 إلخ، 60: 1 إلخ، 66: 18- 20، ميخا 4: 1-3، حج 2: 7 إلخ). وفي العهد الجديد أعلن السيد المسيح اشتياقه لخلاص المدينة، وقد صارت في الكنيسة الأولى بعد حلول الروح القدس مركزًا للمسيحية فيها يلتقي الرسل والتلاميذ... لكن أنظار المؤمنين كانت بالأكثر تلتقي نحو أورشليم العليا (غلا 4: 26، عب 12: 22، رؤ 14: 1، رؤ 21) كغاية عبادتهم].
والعجيب أن الكتاب يضف ميراث يهوذا هكذا: "هذا تخم بني يهوذا مستديرًا حسب عشائرهم" . لم ينعم يهوذا فقط بالبكورية الروحية وبمياه عين شمس وإنما أيضًا بأن يكون نجمه "مستديرًا". نحن نعلم أن الدائرة تُشير إلى الأبدية حيث ليس لنا نقطة بداية ولا نهاية... فما ورثه يهوذا إنما هو الحياة الأبدية، أي التمتع بالسمة السماوية التي فوق كل حدود العالم وكأن من يدخل في هذا السبط روحيًا باتحاده مع الأسد الخارج منه، إنما ينطلق إلى ما هو فوق الميراث الزمني، ويرتفع فوق كل الأرضيات، ليصير قلبه وكل تخمه مستديرًا!
حقًا لقد كان سبط يهوذا كسبط ملوكي يحمل القوة في داخله بحمله الطبيعة السماوية، حتى وإن أحاط به الأعداء من كل جانب: موآب من الشرق، وأدوم من الجنوب، وعماليق من الجنوب الغربي وإن كان من بعيد، والفلسطينيون من الغرب!
2. كالب وقرية أربع...
في الأصحاح السابق طالب كالب بن يفنة القنزي حقه الذي وعده به الرب على لسان موسى، وهو امتلاك الجبل حيث المدن الحصينة وحبرون التي تعني (قران) أو (زواج). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). والآن إذ تسلم كالب "حبرون" والتي تدعى أيضًا "قرية أربع"، "طرد من هناك بني عناق الثلاثة: شيشاي وأخيمان وتلماي أولاد عناق".
إن كان كالب بن يفنة القنزي الذي يُشير- كما قلنا- إلى القلب الذي تحوّل عن الاحتقار ودخل إلى المجد، قد نال حبرون مكافأة له، فدخل في زواج أو قران مقدس وروحي، فيه تتحد النفس مع عريسها إلى الأبد، فإن حبرون من جانب آخر تدعى قرية أربع. رقم 4 يُشير إلى العالم باتجاهاته الأربعة: الشرق والغرب والشمال والجنوب، فإنه أيضًا يُشير إلى الجسد المأخوذ من هذه الأرض أو هذا العالم. فصاحب القلب المقدس، الذي تحول إلى عريسه الأبدي يملك على جسده طاردًا منه بني عناق الثلاثة ليملك الرب أيضًا فيه. لا يكفي أن تكون قلوبنا أو حياتنا الداخلية مقدسة، وإنما يلزم أن نتطلع إلى أجسادنا بنظرة مقدسة، فكما نقدم للعريس قلوبنا الداخلية هكذا نقدم له أجسادنا، فيعمل الإنسان في كليته بنغم متوافق. يُشبه القديس غريغوريوس النيصي الإنسان في كليته بالقيثارة التي تحمل أوتارًا مختلفة لكنها تفدم بالروح القدس قطعة موسيقية متناسقة تُفرح قلب الله.
يرى العلامة أوريجانوس أن "عناق" تعني متعجرف أو غير متضع، و"شيشاي" تعني خارج عن، أي خارج عن القديسين وخارج عن الله الحق ذاته، "أخيمان" تعني أخي بعيد عن الحكمة، و"تلماي" يعني معلق هاوية. خلال هذه المعاني يمكننا أن نقول أن حبروننا أي جسدنا الترابي متى سيطر عليه عناق أي روح الكبرياء وعدم الاتضاع إنما يسيطر عليه ثلاثة من مواليده يعملون معًا كملوك عليه ألا وهم: الخروج عن الله الحق وبالتالي البعد عن الحكمة مما يدفع الإنسان إلى أن يكون معلقًا في الهاوية أو منحدرًا إليها. ليتنا نكون ككالب، نطرد عنه الكبرياء أصل الداء، فلا نعود بعد نكون خارج الله سرّ حياتنا، ولا نحرم من الحكمة الإلهية وبالتالي لا ننحدر إلى الهاوية، بل على العكس نعود إلى الله فننعم بحكمته ونرتفع به من الهاوية إلى الحياة الأبدية.
3. كالب وقرية دبير...
"صعد من هناك (حبرون) إلى سكان دبير، وكان اسم دبير قبلاً قرية سفر. وقال كالب: من يضرب قرية سفر ويأخذها أعطيه عكسة ابنتي امرأة. فأخذها عثنئيل بن قناز أخو كالب، فأعطاه عكسة ابنته امرأة وكان عند دخولها أنها غرته بطلب حقل من أبيها، فنزلت عن الحمار، فقال لها كالب: مالك. فقالت: اعطني بركة، لأنك أعطيتني أرض الجنوب فاعطني ينابيع ماء، فإعطاها الينابيع العليا والينابيع السفلى".
لقد سأل كالب كممثل للقلب المقدس إن كان أحد يضرب قرية سفر "الكتاب" ويأخذها، فإنه يقدم له ابنته عكسة امرأة، وقد قام أخوه عثنئيل بن قناز بذلك، فأخذ قرية سفر التي صارت دبير أي (نطق) أو (تدبير)، فتزوج بعكسة. إن عثنئيل تعني (استجابة الرب)، فإنه لا يستطيع أحد أن يتقدم إلى قرية الكتاب المقدس ولا أن يفهم أسرارها العميقة ما لم يستجب الرب له، ففهمنا للكتاب هو عطية الله ونعمته التي يهبها لسائليه وإذ نال عثنئيل الكتاب أي قرية سفر، صارت بالنسبة له دبير، أي تحولت من كتاب حرفي إلى نطق وفهم داخلي وتدبير حيّ فيه... أي تحول من حرفية الناموس القاتلة إلى الروح واهب الحياة. أما زواجه بعكسة ابنة كالب، إنما تعني التصاقه بابنة الحياة المقدسة، التي تسأل البشرية أن يدخلوا إلى قرية الكتاب ليكشف الله لهم أسرارها. وعكسة نفسها كابنة الحياة المقدسة في الرب إنما تُشير أيضًا إلى معرفة الأسرار الروحية، وكأن عثنئيل التصق بأسرار الكتاب ليس كقرية يعيش فيها فحسب وإنما كزوجة شريكة حياته!
ماذا فعلت عكسة أو أسرار الكلمة الإلهية بزوجها عثنئيل الذي استجاب له الرب طلبته؟ لقد أخذت من أبيها حقلاً كبركة تقدمها لزوجها، ثم عادت فنزلت عن الحمار لتطلب ينابيع ماء لرجلها فأعطاها أبوها الينابيع العليا والينابيع السفلى. يا لها من صورة رائعة للنفس التي تلتصق بالمعرفة الروحية التي هي ابنة الحياة المقدسة، فإنه خلال هذه الابنة تنعم النفس بالحقل أي الدخول إلى الكتاب المقدس بكونه الحقل الذي تعمل فيه لحساب الله وتفرح بثمر الروح، كما ترى المعرفة الداخلية قد نزلت عن الحمار، أي نزلت عن الاهتمام بالجسد، لتطلب ينابيع ماء أي ثمار الروح، فيوهب لها ثمارًا على مستوى سماوي علوي، كما تنعم بالثمر الذي تعيش به هنا على الأرض، يرافقها زمان غربتها أي (الينابيع السفلى).
4. أسماء المدن...
حصر الكتاب المقدس أسماء المدن التي في تخم يهوذا، وكأن الوحي الإلهي يُريد أن يؤكد أن الميراث متسع لمن يريد، وأن عند الآب منازل كثيرة... ليتنا نؤمن ونجاهد برجاء شديد أننا نجد لنا في إحدى هذه المدن – السماوية - موضعًا لنا.
5. بقاء اليبوسيين في وسطهم...
"وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم".
"إلى هذا اليوم" في الكتاب المقدس تعني (إلى إنقضاء يوم هذا العالم)، فهل يسكن اليبوسيون في أورشليم مع بني يهوذا إلى إنقضاء العالم؟ إن فسرنا ذلك روحيًا، فإن هذه الحقيقة مُرّة لكنها واقعية أن الزوان (اليبوسيين) يبقى مع الحنطة (بني يهوذا) في الكنيسة، أي أورشليم، إلى نهاية العالم، حيث يأتي وقت وقت الحصاد ويفرز الزوان عن الحنطة. لقد نصحنا السيد المسيح: "دعوهما ينميان كلاهما معًا إلى الحصاد لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان وأنتم تجمعونه" (مت 13: 29). يقول العلامة أوريجانوس: [إذ نسمع في الإنجيل بأن الحنطة تنمو مع الزوان، فإنه بنفس الطريقة يوجد في أوشليم أي الكنيسة اليبوسيون الذين يسلكون بحياة رديئة، هؤلاء الفاسدون في إيمانهم كما في أعمالهم وكل طريقة حياتهم. من المستحيل تتنقى الكنيسة بالكلية طالما هي على الأرض. يستحيل تتنقى فلا يكون ولا خاطئ واحد أو غير مؤمن، بل يكون الكل فيها قديسين، ليس فيهم أدنى خطية، هذا يمكن تطبيقه بخصوص من كانت خطاياهم مختفية، أو نتشكك في أمرهم، لكننا لا نقول أننا لا نطرد من الكنيسة الأشرار الظاهرين].
إن كانت كلمة "يبوسي" تعني "يدوس بالأرجل". فليحذر كل واحد منا لئلا يوجد في قلبه شيء يدوس علينا بالأقدام، أي خطية معينة تذل القلب وتدنس مقدسه الخفي. ليته لا يكون في داخلنا يبوسيون، هؤلاء الذين يسلكون في القلب كالخنازير التي تدوس دررنا بارجلها وتلتفت لتمزقنا، كقول رب المجد (مت 7: 6)! | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 8:26 pm | |
| الاصحاح السادس عشر
نصيب أفرايم
بعد يهوذا جاءت القرعة على أفرايم:
1. نصيب أفرايم بعشائره [1-9].
2. بقاء الكنعانيين في وسطهم [10].
1. نصيب أفرايم بعشائره...
كلمة "أفرايم" تعني (الثمر المتكاثر)، كأن هذا السبط إنما يضم جماعة المؤمنين الذين قبلوا عطية المسيح لهم، روحه القدوس ساكنًا فيهم يهبهم ثمره المتزايد. هؤلاء بحق يستحقون الالتصاق بإخوتهم بني يهوذا، لأنه إن كان يهوذا يُشير إلى التمتع بالاتحاد مع السيد المسيح الخارج من هذا السبط، والانتساب له، فإن بني أفرايم يمثلون أصحاب الثمار المتكاثرة في المسيح يسوع بواسطة روحه القدوس، الذي يأخذ مما له ويخبرنا (يو 16: 15). إنه يهبنا سمات السيد المسيح نفسه، فيعطينا محبة المسيح وفرحه وسلامه وصلاحه وطول أناته إلخ... (غلا 5: 22) وذلك خلال دخوله بنا إلى الثبوت في المسيح، أو إتحادنا معه وفيه. إذن فثمر الروح لا ينفصل عن الوحدة مع الآب في المسيح يسوع، وكأن أفرايم إنما يجب أن يلتصق بيهوذا ويصحبه! بمعنى آخر، ليت كل مؤمن من انتسب لأفرايم، وصار له ثمر الروح القدس ينطلق خلال هذا الثمر إلى إتحاد أعمق مع السيد المسيح.
يشجعنا القديس جيروم أن نلتصق بهذا السبط إذ لنا معه نصيب في الميراث الإلهي أو الإكليل، قائلاً: [كن أفرايم أيضًا، كن مثمرًا، لتنتج الأعمال الصالحة، وعندئذ يكون لك إكليل الرب].
ويلاحظ في تقسيم أرض الموعد أن أفرايم ونصف منسي أخذا منتصف كنعان (السامرية)، لأن شكيم كان قد عينها يعقوب ليوسف (تك 48: 21-22، يش 42: 32)، فيها دُفنت عظام يوسف، وقد صارت من نصيب منسي، بينما صارت شيلوه من نصيب أفرايم ولكلا البلدين ذكريات روحية خاصة لدى الشعب القديم، نكتفي هنا بالحديث عن شيلوه بكونها نصيب أفرايم. فإن "شيلوه" غالبًا ما تعني (موضع الراحة)، تبعد حوالي 9 أميال شمال شرق بيت إيل وحوالي 17 ميلاً شمال أورشليم، ربما تكون سيلون الحالية.
تمتع أفرايم بشيلوه بكونها المدينة التي تمثل الحضرة الإلهية وسط شعبه، فقد اختارها يشوع مقرًا للتابوت والخدمة، وفيها قسم يشوع الأرض ووزعها على الأسباط (18: 1، 8-10)، وقد بقيت الخيمة حوالي 300 عامًا في شيلوه. وفي عهد القضاة كان الشعب يجتمع معًا سنويًا في شيلوه للتعييد وربما لتقديم الذبيحة كعلامة فرح بالله الساكن في وسطهم، وكانت بنات شيلوه يرقصن ابتهاجًا بالعيد. وفي إحدى تلك الأعياد، خطف البنياميون 200 منهن وتزوجوا بهن (قض 21: 19-23؛ 1 صم 1-3). وكانت شيلوه مسكن عالي الكاهن وصموئيل. لكن الله رفض شيلوه فصارت عبرة أمام كل الشعب، إن الله إن كان قد أحب شيلوه هذه القرون لكنها إذ اصرت على الشر هجرها وسمح بخرابها، لهذا كان يُهدد الله أورشليم فيما بعد أن تصير كأختها شيلوه! إنها مثل الإنسان الذي ينعم بفيض حب الله وعطاياه المجانية فتكون دينونته أشد إن أصر على العصيان والحياة الدنسة. لقد رفض الله مسكن شيلوه ولم يعد التابوت هناك، بل أصعده داود إلى أورشليم (2 صم 6)، ونقلت الخيمة إلى نوب في الجنوب (1 صم 21: 1-9)، ومن هناك إلى جبعون ثم أورشليم (2 أي 1: 3-4). هناك سكن أخيا النبي (1 مل 14: 1-16). ويظهر أن شيلوه كانت خربة في أيام إرميا النبي (إر 7: 12، 14؛ 26: 6، 9) وفي أيام القديس جيروم. وقد أظهرت الحفريات الدنمركية (1930-1932) أن شيلوه قد خربت حوالي عام 1050 ق.م، وبقيت هكذا لعدة قرون، لهذا فغالبًا ما يكون قد تم على يدّي الفلسطينيين بعد غلبتهم على أفيق.
إن كان لنا ثمر روح الله وحسبنا أعضاء في سبط أفرايم الروحي، إنما تقوم شيلوه في داخلنا، التي ينبغي أن نحذر لئلا تخرب وتنهدم بسبب تراخينا وفساد حياتنا، فينزع الرب بركته ويبحث عن أورشليم عوضًا عنها! لنخف عن موضع استقرار الرب فينا فلا نحرم من حضرته الدائمة فينا إلى الأبد في داخلنا!
2. بقاء الكنعانيين في وسطهم...
كما ترك يهوذا اليبوسيين في وسطهم، هكذا ترك أفرايم الكنعانيين يسكنون في
وسطهم في جازر، إذ يقول الكتاب: "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم وكانوا عبيدًا تحت الجزية".
يحذرنا العلامة أوريجانوس من هؤلاء الكنعانيون الساكنين مع أفرايم، قائلاً: [إن كنت تحمل بالحق ثمار الرب (كأفرايم) وترى إنسانًا يعيش في إهمال وعدم نظام فاعلم أنه من الكنعانيين. فإن لم تستطيع أن تطرده من الكنيسة، كما لم يطرد بنو أفرايم الكنعانيين، فاتبع مبدأ الرسول: "ثم نوصيكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب" (2 تس 3: 6)].
ويرى العلامة أوريجانوس أن جازر تعني (اتحاد ضيق)، وأن الكنعانيين يمثلون الجسد، وأفرايم يمثل الروح، فإنه متى تركت النفس للجسد أن يطلق شهواته الشريرة تكون قد اتحدت في جازر، أي خلال (اتحاد ضيق) يجعلنا كعبيد تحت الجزية. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لهذا ليت نفوسنا في اتحادنا بالجسد لا تدخل معه في جازر، أي في اتحاد ضيق، إنما تقبله مقدسًا في الرب، ليعيش الإنسان بكليته حرًا جسديًا وروحيًا، لا يتمرر من الشهوات الجسدية ولا أخطاء الروح.
على أي الأحوال، إن كان نصيب أفرايم يعتبر أغنى المناطق خصوبة وأروعها جمالاً لكنها كانت تحمل خطرًا إذ وُجد فيها الكنعانيون، وهكذا مع غنى العطية توجد مقاومة! | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 8:32 pm | |
| الاصحاح السابع عشر
نصيب منسي
وقعت القرعة بعد أفرايم على منسي، وقد طالبت بنات صلفحاد بنصيبهن كما أمر الرب موسى النبي، وقد إمتاز بنو يوسف بحبهم للكفاح وغيرتهم لنوال نصيب أعظم خلال الجهاد.
1. نصيب منسي بكر يوسف [1-12].
2. نصيب بنات صلفحاد [3-4].
3. بقاء الكنعانيين بين سبط منسي [13].
4. غيرة بني يوسف [14-18].
1. نصيب منسي بكر يوسف...
في الميراث الروحي لا يوجد التزام ببكورية الجسد بل الروح، فاحتل يهوذا مركز الصدارة مع أنه ليس بكرًا حسب الجسد، والآن نجد منسي يأتي بعد أفرايم الأصغر منه حسب الجسد، لقد نُزعت بكورية منسي ليسبقه أفرايم في التمتع بالميراث، لأن أفرايم يعني ثمر الروح المتكاثر، أما منسي فيعني نسيان العالم. يمكننا القول بأن ابني يوسف أفرايم ومنسي يمثلان عملاً واحدًا متكاملاً، أفرايم يُقدم الجانب الإيجابي وهو الشبع بثمر الروح والدخول إلى الحياة السماوية، أما منسي فيُمثل الجانب السلبي، وهو نسيان هموم العالم وملذاته. حقًا لا شبع بالسماويات دون التخلي عن محبة الزمنيات، ولا نسيان دون التمتع بالسماويات، ولكن الجانب الإيجابي يُعطى له الأولوية.
في أكثر من موضع يرتبط السبطان معًا أفرايم ومنسي فيقول المرتل: "قدام أفرايم وبنيامين ومنسي أيقظ جبروتك وهلم لخلاصنا" (مز 80: 2) ويقول القديس أُغسطينوس: [يظهر الله أمام أفرايم ومنسي... إنك تظهر أمام من هو مثمر، كما تظهر أمام من ينسى حتى لا يعود بعد بل تكون له الذاكرة التي تنقذه].
ويعلق القديس جيروم على كلمة "منسي"، قائلاً: [تعني (نسيان)... فإن الابن الذي أخذ ميراثه وبدده، نسى ما يخصني، وها هو الآن يتذكرني. إني أدعوه منسي، من "النسيان"، لأنه لم ينسى بل رجع إلى أبيه]. وكأن سبط منسى إنما يُشير إلى الإنسان الراجع إلى حضن ابيه بعد أن نسيه زمانًا، لكنه عاد فتذكره ولا يعود ينساه.
يتمتع الابن الراجع إلى أبيه بنصيب منسي الذي يضم في تخمه مدينة شكيم، التي أُعطيت للاويين وقد اختيرت كإحدى مدن الملجأ (يش 20: 7). لشكيم ذكريات مقدسة في ذهن الشعب القديم فبالقرب منها خيم إبراهيم (تك 12: 6)، وهناك ابتاع يعقوب حقلاً نصب فيه خيمته (أع 7: 16)، وبالقرب منها رعى إخوة يوسف أغنامهم (تك 37: 12-13)، وفيها قرأ يشوع سفر الشريعة (يش 8: 30)، وقدم للشعب خطابه الوداعي (يش 24: 1)... وكما أبغض الله شيلوه لانحرافها هكذًا أيضًا بالنسبة لشكيم التي أقيم فيها مذبح للبعل (قض 8: 33، 9: 4)، وهناك ثار عشرة أسباط بني إسرائيل وأقاموا يربعام بن نباط ملكًا عليهم (1 مل 12: 1-9)، فصارت عاصمة إسرائيل في عهده (1 مل 12: 25) ومركزًا للسامريين... قد صارت رمزًا لانقسام الشعب وانتزاع روح الحب والوحدة.
"شكيم" في العبرية تعني (كتف - الجبل)، ربما لأنها عند سفح جبل جرزيم (قض 9: 7) في الوادي بين هذا الجبل وجبل عيبال. مع بداية القرن العشرين لا يُشكْ في أنها كانت في موقع "تل البلاطة" التي تبعد ميلاً ونصف شرق نابلس، والتي يرى البعض أنها أيضًا شكيم القديمة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). والأخيرة "نابلس" تبعد حوالي 41 ميلاً شمال أورشليم، خمسة أميال ونصف جنوب شرق السامرة. يوجد في هذه المنطقة قليل من السامريين ولهم معبد خاص بهم، فيه يمارسون عبادتهم أيام السبوت، ولهم مدرسة لتعليم اللغة السامرية ].
2. نصيب بنات صلفحاد...
في دراستنا لسفر العدد. رأينا كيف إستطاعت بنات صلفحاد أن يتمتعن بميراث أبيهن، وبسببهن تغيرت شريعة الميراث عند بني إسرائيل. وقد حملت قصتهن رموزًا روحية سبق الحديث عنها بشيء من التفصيل.
3. بقاء الكنعانيين بين سبط منسي...
إن كان سبط أفرايم لم يقدر أن يطرد الكنعانيين فسكن الكنعانيون في جازار وسط السبط، فإن إخوتهم بني منسي أيضًا امتثلوا بهم وتركوهم، حيثما تشددوا لم
يطردوهم بل جعلوهم تحت الجزية.
4. غيرة بني يوسف...
إلتقى السبطان معًا بكونهما بني يوسف وتكلما مع يشوع، قائلين: "لماذا أعطيتني قرعة واحدة وحصة واحدة نصيبًا، وأنا شعب عظيم لأنه إلى الآن قد باركني الرب". التقاء السبطين معًا وإدراكهما أنهما من أب واحد هو يوسف، وحديثهما بروح الوحدة "أنا شعب عظيم" أعطاهما نعمة في عيني يشوع، فإنه ليس شيء يجعل صلواتنا مقدسة في عيني الله وطلباتنا مقبولة لديه مثل التقائنا معًا بروح واحد في الرب، وحديثنا مع الله بقلب واحد، كأعضاء متحدة بالرأس الواحد! بهذا تغتصب مراحمه لننعم بنصيب أعظم! هذا ما يؤكده السيد نفسه بقوله: "إن اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في وسطهم".
امتاز بنو يوسف بالغيرة المقدسة في الرب، فإذ اتحد أفرايم مع منسي، التقى الثمر الروحي المتكاثر مع نسيان محبة العالم وهمومه، اتقد القلب نارًا مشتاقًا إلى نصيب أعظم في السماويات. خلال هذه الغيرة يُغتصب ملكوت السموات، والغاصبون يختطفونه (مت 11: 12). ملكوت السموات لا يوهب للمتراخين والفاترين بل للقلوب المؤمنة بحقها في الرب، المجاهدة بلا انقطاع لتنعم بالنصيب السماوي الأعظم.
سر نجاح بني يوسف ليس فقط وحدتهم في الرب وجهادهم المملوء غيرة مقدسة، وإنما أيضًا إدراكهم مركزهم الجديد في الرب ومعرفتهم لحقهم فيه، إذ يقولون: "أنا شعب عظيم، لأنه إلى الآن قد باركني الرب". حقًا ما أعظم أن يدرك المؤمن أنه وإن كان بذاته لا شيء، لكنه في المسيح يسوع شعب عظيم قد باركه الرب. يحمل في قلبه وجسده شعبًا عظيمًا هو المشاعر المقدسة والأحاسيس المقدسة والإرادة المقدسة في الرب والمواهب المقدسة إلخ... فيه طاقات جبارة هي عطية الله له الذي يباركه. خلال هذا الفهم يطلب المؤمن كابن لله له حق التمتع بما هو أكثر، لأن "الذي له يُعطي فيزداد، والذي ليس له فالذي عنده يؤخذ منه".
"قال لهم يشوع: إن كنت شعبًا عظيمًا فإصعد إلى الوعر واقطع لنفسك هناك في أرض الفرزيين والرفائيين إذ ضاق عليك جبل أفرايم".
يقول العلامة أوريجانوس إن الفرزيين تعني (تُعطي ثمرًا)، والرفائيين تعني (أمهات مُرتخيات). فإن كان بنو يوسف قد طالبوا يشوع بنصيب أكبر، فقد فتح لهم الوعر ليصعدوا فيقطعوا الأشجار التي بلا ثمر "أو ذات الثمار غير الصالحة ويغرسوا الأشجار الصالحة المثمرة. فالميراث لا يتحقق إلاَّ بجانبين: سحق الشر وممارسة الصلاح في الرب، رفض أعمال الإنسان العتيق والتمتع بأعمال الإنسان الجديد! لنطرد الفرزيين الذين "يعطون ثمارًا" لكنها أثمار الشر المُهلكة ليقوم عوضه "أفرايم" الذي به الروح المتكاثر. ولنطرد الرفائيين أي الوالدات المتراخيات اللواتي ينجبن محبة العالم وملذاته وليقم عوضًا عنهم بنو منسي الذين ينسون كل محبة زمنية!
إن كان قلبنا لازال وعرًا فلأنه تحت حكم الفرزيين أصحاب الثمر الشرير والرفائيين والدو الأفكار الضعيفة المتراخية في الجهاد الروحي... لكننا بيسوع عوض الوعر يُقام فردوس الله الذي ليس فيه ثمر شرير ولا موضع للتراخي، بل فيه بنو أفرايم وبنو منسي، الثمر الصالح والزهد في الزمنيات!
يعلق العلامة أوريجانوس على كلمات يشوع هذه، قائلاً: [لنحييّ الجبل فينا، فنقتلع الأشجار التي بلا قيمة وبلا ثمر لكي نزرع حقلاً جديدًا، يتجدد باستمرار، فنحصد الثمار: "بعضًا مئة وآخر ستين وآخر ثلاثين" (مت 13: 8-23). هذا التعليم نجده في الكتاب المقدس إذ يقول: "والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع وتلقى في النار" (مت 3: 10). هذا ما علّم به يشوع بن نون أجدادنا بخصوص الأشجار العقيمة التي يجب اقتلاعها، وهذا ما يأمرنا به السيد الرب في إنجيله]. | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 8:38 pm | |
| الاصحاح الثامن عشر
نصيب بنيامين
للأسف بقدر ما كانت الأسباط الثلاثة "يهوذا وأفرايم ومنسي" تتسابق على التمتع بالميراث ونوال أكبر نصيب ممكن، إذا ببقية الأسباط متراخية.
1. تراخي الأسباط السبعة [1-10].
2. نصب بنيامين [11-28].
1. تراخي الأسباط السبعة...
"واجتمع كل جماعة بني إسرائيل في شيلوه ونصبوا هناك خيمة الاجتماع، وأخضعت الأرض قدامهم، وبقى من بني إسرائيل ممن لم يقسموا نصيبهم سبعة أسباط، فقال يشوع لبني إسرائيل: حتى متى أنتم متراخون عن الدخول لامتلاك الأرض التي أعطاكم إياها الرب إله آبائكم...؟!.
إذ صارت شيلوه تمثل الحضرة الإلهية وسط الشعب، فيها أُقيمت خيمة الاجتماع، وهناك تُقدم ذبائح الرب وتقدماتهم، لذا اجتمع الكل مع يشوع في حضرة الله ليروا أن الأرض قد أخضعت قدامهم والميرث قد أعد. إنها صورة حية لالتقائنا جميعًا ككنيسة الله وشعبه، نجتمع مع الرأس يشوع الحقيقي وفيه كأعضاء جسده (أف 5: 3) لندرك إمكانياتنا الجديدة، إن الأرض قد أخضعت، فصار جسدنا مقدسًا لله، وصارت حياتنا بكليتها له، يرثها كملك له، ونرث نحن أمجاده. في شيلوه الحقيقية - كنيسة العهد الجديد- لا تنصب خيمة اجتماع إنما يحل روح الله القدوس فينا، ويجعلنا هيكله المقدس، فلا نرث أرضًا نُزعت من ملوك بشريين وإنما يصير كل شيء خاضعًا لنا، نرث السماويات وننعم بالملكوت الأبدي.
كم كان قاسيًا على قلب يشوع بن نون أن يرى بعضًا من شعبه قد عبر الأردن، وانهارت حصون أريحا أمامهم، وانهزمت عاي بملكها ورجالها، وانهارت المدن المقاومة... كل شيء قد أعد ولم يبق شيء سوى أن يتسلم الأسباط الميراث! ألم يعد الرب الوليمة، وأرسل إلي المدعوين، ولم يُكلفهم الأمر بعد إلاّ الحضور للتمتع بها، لكنهم في استخفاف اعتذروا (مت 22: 3). هكذا يحزن قلب عريسنا يشوع الحقيقي، الذي أعد كل شيء لنا، ولم يتركنا في عوز إلى شيء...، حارب عنا وغلب، ومات وقام ليقيمنا معه، وأفتتح أبواب الفردوس للطبيعة البشرية التي تغربت عن السماء زمانًا (2 كو 5: 2، عب 11: 16)، وقدم لنا روحه القدوس سندًا ومعينًا، ولم يعد بعد لنا عذر... صار الملكوت قريبًا إلينا لكننا مع هذا كله فنحن متراخون عن الدخول إلى ميراثه الذي وهبنا إياه.
لقد طلب يشوع أن ينتدب عن كل سبط ثلاثة رجال يمثلون السبط يقومون ويسيرون في الأرض ويكتبونها بحسب أنصبتهم ثم يأتون إليهم. لقد حدد يشوع عملهم "يقومون، يسيرون في الأرض، يكتبونها، يأتون إليَّ يقسموها". من هم هؤلاء الرجال؟ وما هي هذه الأعمال؟ بلا شك هؤلاء الرجال المنتدبون عن الأسباط أنما يمثلون في حياة الإنسان ثلاثة أمور: الفكر والقول والعمل، هكذا تقف الكنيسة كلها - وكأنها بالسبعة أسباط - ويقدم كل عضو فيها فكره وكلماته وتصرفاته بين يدي يسوعنا الحيّ القادر أن يُقدسنا، فيصير هؤلاء الرجال الثلاثة علامة تقديسنا في المسيح يسوع بروحه القدوس. إن كنا نُحاسب عن كل فكر خفي وشهوة خفية أو نظرة مستترة (مت 5: 28) وعن كل كلمة بطالة (مت 12: 36) وكل تصرف شرير، فتكون هذه سرّ حرمان الإنسان ميراثه الأبدي، فإنه على العكس إذ تتقدس هذه الطاقات تصير أداة مقدسة خلالها نُكلل ونرث إلى الأبد!
أما أعمالها فهي أولاً "يقوموا"... فإننا إذ نتقدم إلى يشوعنا بفكرنا الداخلي ولساننا وبقية أعضاء جسدنا، يقيمها فيه أدوات مقدسة تمارس حياته المقامة كحياة لها. لنبعث كل ما لنا لدى يشوع الحق القادر أن يهبنا القيامة كعمل يومي مستمر، فنحيا بحياته، ونحمل سماته فينا، ويحق لنا شركة أمجاده! وكما سبق فكررت أكثر من مرة أن سفر يشوع كسفر الميراث هو سفر القيامة، فلا ميراث بدون الحياة الداخلية المقامة فيه وبه!
أما بعد القيامة فيقول "يسيرون في الأرض"، أي ينطلقوا إلى أرض الميراث، فنحن مدعوون بعد أن تمتعنا في المعمودية بسرّ الدفن والقيامة، ونتمتع بالقيامة مع كل يوم جديد خلال التجديد اليومي المستمر، أن نسير في الأرض المقدسة أي نتذوق عربون السموات ونحن بعد على الأرض. عندئذ "يكتبوها"، أي يدركون أبعادها قدر استطاعتهم ويتعرفون على أسرارها غير المدركة. وأخيرًا يعودون إلى يشوع... ففي كل مرة نكتشف أسرار الحياة الأبدية إنما نرجع بالأكثر إلى يسوعنا، ندخل أعماقه ونعيش فيه على أعماق جديدة حتى نلتقي به أخيرًا وجهًا لوجه. ولعله قصد بالعودة إلى يشوع لتقسيم الأرض الرجوع إليه في اليوم العظيم لنلتقي به كواهب الميراث، وينعم كل منا بنصيبه الأبدي!
2. نصيب بنيامين...
يُحسب سبط بنيامين أصغر الأسباط وأقلها عددًا، لكن آخرين يصيرون أولون، فقد جاءت قرعته بين السبعة أسباط: الأول. وقد جاءت "قرعتهم بين يهوذا وبني يوسف", كان لبنيامين أصغر أولاد يعقوب معزة خاصة لدى أخيه يوسف، الذي أعطاه نصيبًا مضاعفًا عندما جاء مع إخوته إلى مصر في قصر فرعون، والذي لم يحتمل أن يراه فتوارى ليبكي بمرارة! إنه الأخ الوحيد له من أبيه وأمه، يحمل له مشاعر حب خاصة، وقد انتقلت هذه المشاعر بين أبنائهم أيضًا. لكن فيما بعد التحم سبط بنيامين بالأكثر مع سبط يهوذا ليكونا معًا مملكة يهوذا، عاصمتها أورشليم التي كانت من نصيب بنيامين. التحام بنيامين بيهوذا ليس أمرًا غريبًا، فإن بنيامين يعني (ابن اليمين) فيُشير إلى السيد المسيح الجالس عن يمين أبيه، والخارج من سبط يهوذا. | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 8:45 pm | |
| الاصحاح التاسع عشر
أنصبة بقية الأسباط
بعد أن نال بنيامين نصيبه بالقرعة، جاءت القرعة تحدد دور بقية الأسباط، وأخيرًا نال يشوع بن نون نصيبه وسط إسرائيل.
1. أنصبة بقية الأسباط [1-48].
2. نصيب يشوع بن نون [49-51].
1. أنصبة بقية الأسباط...
قلنا أن العلامة أوريجانوس يرى في كل ما حدث في أرض الموعد يحمل رمزًا خاصًا بالحياة السماوية حتى وإن لم ندركه الآن. على أي الأحوال قسمت بقية الأرض على بقية الأسباط الستة بالترتيب: سبط شمعون، سبط زبولون، سبط يساكر، سبط أشير، سبط نفتالي وأخيرًا سبط دان.
إن لم تجد لك موضعًا في الأسباط السابقة فاطلب أن تكون منتميًا إلى أحد هذه الأسباط فإن "شمعون" الذي يعني (مستمع) إنما يضم جماعة المستمعين للوصية والطائعين لله. وسبط "زبولون" الذي يعني (مسكن) إنما يضم من تنفتح قلوبهم لله مسكنًا له. وسبط "يساكر" أي (الجزاء) يُشير إلى طالبي المكافأة السماوية، وسبط "أشير" أي (سعيد) يحوي المغبوطين بالرب المملوئين من فرح الروح القدس، وأخيرًا "دان" أي (يدين) يضم الذين يدينون أنفسهم لا الآخرين.
2. نصيب يشوع بن نون...
"ولما انتهوا من قسمة الأرض حسب تخومها أعطى بنو إسرائيل يشوع بن نون نصيبًا في وسطههم". ليس عجيبًا أن ينتظر يشوع لينال نصيبه في وسط شعب الله بعد أن يتمتعوا هم بالأنصبة، ليس تهاونًا منه بالميراث، لكنه يُحسب أن ما يناله كل واحد منهم إنما قد ناله هو، وينتظر ليحتل نصيبه في وسطهم ليكون الشعب نفسه هو نصيبه. هذه صورة حية لفكر المسيح نفسه الذي يُحسب كل ما نملكه إنما يملكه هو بكونه رأسنا الذي يتمجد في جسده المُكرم... إنه يبقى كمن هو آخر الكل حتى يفرح بكل مختاريه شركائه في الميراث الأبدي.
في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [أي جمال وأي اتضاع تظهره هذه العبارة بخصوص يشوع، فقد كان بحق جديرًا أن يحمل اسم يشوع ربنا ومخلصنا. يقول الكتاب: "أعطى بنو إسرائيل يشوع بن نون نصيبًا في وسطهم، حسب قول الرب: أُعطوه المدينة التي طلب تمنة سارح في جبل أفرايم، فبنى المدينة وسكن بها". إنه هو الذي أعطى الميراث لكل بني يهوذا، ولأفرايم ولنصف سبط منسى، وهو الذي أعطى الميراث للشريف كالب بن يفنة، وهو الذي بعث ثلاثة رجال من كل سبط ليطوفوا في كل البلاد ويصنعوا الخطة ويعرضونها عليه بعد عودتهم. هو الذي حدد مصير الكل، وترك نفسه للموضع الأخير! لماذا أراد أن يكون آخر الكل؟ ليؤكد أنه هو الذي يصبح أول الكل (مت 19: 30). لم يأخذ نصيبه من الميراث من نفسه، إنما استلمه من الشعب، إذ يقول الكتاب: "أعطى بنو إسرائيل يشوع بن نون في وسطهم"، لكن "هذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً" (1 كو 10: 11). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لقد عُرضت علينا كصورة لكي نلاحظ بدورنا المبادئ التي تممها يشوع في هذه الأعمال، ويقول: "إزداد تواضعًا تزداد عظمة وتنال خطوة لدى الرب" (سيراخ 3: 7)، وأيضًا: "إذا اختاروك رئيسًا فلا تتكبر ولكن كن بينهم كواحد منهم" (سيراخ 32: 10). أنظر بأي وسيلة كان رئيسًا للشعب؟! هو الذي أدخلهم الأرض المقدسة، أرض الموعد، وكان خليفة موسى ومع ذلك لم يسمح لنفسه أن يأخذ نصيبه من الأرض وإنما انتظر أن يتسلم من الشعب قطعة أرضه. أنه رئيس الشعب، ومع ذلك فإنه إذ استلمها يشوع الجدير بهذا الاسم بنى الأرض التي أُعطيت له، وأقام فيها الأبنية حتى تكون جديرة بهبة الله والميراث الروحي].
إن كان يشوع يرمز للسيد المسيح فليتنا نصنع ما فعله بنو إسرائيل، نقدم ليشوعنا أرضًا أو نصيبًا في وسطنا، نقدم له قلبنا مركز حياتنا كنصيب الرب، يتسلمه أرضًا فيُقيم فيها مدينته المقدسة ويسكن فيها. إن كنا لا نقدر أن نبني له مدينة فينا، فإن العلي لا يسكن في مبانٍ من صنع الأيدي، فإنه بروحه القدوس يُقيم مدينته الروحية الحصينة ليسكن فيها، محولاً قلبنا إلى سمائه المقدسة. هذا ما أكده السيد نفسه بقوله: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي عنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 8:49 pm | |
| الاصحاح الحادى والعشرون
مدن اللاويين
حُرم اللاويون من النصيب الأرضي ليكون الرب نفسه هو نصيبهم وميراثهم الوحيد، وكما قلنا إنهم يقتنون الله حكمتهم وبرّهم وفداءهم إلخ... والعجيب أنهم إذ يحرمون من الأرض يقدم لهم الله 48 مدينة بين جميع الأسباط ليعيشوا وسط الكل يشهدون له بناموس الرب، أو كأنهم بالسرج التي استنارت بالنور الإلهي فتضيء على كل الأسباط لتكون الجماعة كلها مستنيرة بالرب الساكن فيهم.
1. اللاويون يطلبون المدن مع مسارحها [1-3].
2. توزيع الكهنة اللاويين [4-24].
3. إتمام تحقيق وعود الله [43-45].
1. اللاويون يطلبون المدن مع مسارحها...
"ثم تقدم رؤساء آباء اللاويين إلى ألعازر الكاهن وإلى يشوع بن نون وإلى رؤساء آباء أسباط بني إسرائيل، وكلموهم في شيلوه في أرض كنعان قائلين: قد أمر الرب على يد موسى أن نُعطى مدنًا للسكن مع مسارحها لبهائمنا، فأعطى بنو إسرائيل اللاويين من نصيبهم حسب قول الرب هذه المدن مع مسارحها" .
تقدم الكهنة واللاويون في أشخاص رؤساء آبائهم ليطالبوا بحقهم في السكن وسط الشعب كله. من جهة من حق الكاهن ألاَّ يعيش منعزلاً عن الشعب بل في وسطهم، بكونه عضوًا حيًا في الجماعة، وخادمًا لهم يعمل لحسابهم في الرب. حينما يعزل الكاهن نفسه عن شعب الله في برج عاجي، مقيمًا حاجزًا أدبيًا بينه وبينهم، يفقد الكاهن حيويته وتتوقف رسالته ويتعثر شعب الله فيه. إن كان هو كاهن الله، إنما كاهن عن شعب الله في الرب رئيس الكهنة الأعظم. وكما وصلّ رئيس الكهنة الأعظم بيننا كواحد منا حتى يحتضنا مرتفعًا بنا إلى سمواته، هكذا يليق بكل كاهن في الرب أن يعيش في غير معزل عن الجماعة المقدسة حتى ينعم الكل معًا بالميراث الأبدي. هذا ومن جانب آخر، إذ يسكن في وسطهم يلزمه ألا يحمل معهم نصيبًا في الأرض حتى لا تربكه عن رسالته الروحية. يقول العلامة أوريجانوس: [إذ لا يحصل الكهنة واللاويون على أرض، يسكنون مع بني إسرائيل الذين لهم أرض. لكي يحصلوا منهم على الأشياء الأرضية التي ليست لهم، وبدورهم يحصل الإسرائيليون منهم على الأمور السماوية التي ليست لهم... بهذا يكون هدف الكهنة واللاويون الوحيد في نشاطهم وابتعادهم من كل الارتباطات الخارجية حتى يتفرغوا لكلام الله. ولكي يتكرسوا يلزمهم أن يقبلوا خدمة الشعب، فإن لم يقدم الشعب للكهنة واللاويين ما يحتاجون إليه - أقصد الأمور المادية - فقد يعوقهم هذا عن تكريس حياتهم بالكامل لناموس الرب. وإن لم يكرسوا حياتهم بالكامل لناموس الرب تصير أنت نفسك في خطر. فقد يظلم نور العالم فيهم كمن يضع زيتًا في السراج، وعندئذ يتم قول الرب: "أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة" (مت 5: 14)، وأيضًا: "إن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟!" (مت 6: 23).
2. توزيع الكهنة واللاويين...
كما وزعت الأرض على الأسباط بالقرعة فكشفت عن مفاهيم روحية معينة، وظلالاً للحياة السماوية، حتى أن العلامة أوريجانوس اعتقد أن ما تم في أرض الموعد من تقسيم الأراضي والمدن على أسباط معينة إنما يحمل ظلالاً صادقة لمواقع روحية وأمجاد فائقة ينالها المؤمنون في الأبدية، أمور لا يسوغ لإنسان أن ينطق بها، هكذا أيضًا إذ وزعت مدن اللاويين على الأسباط بالقرعة لم يتحقق التوزيع جزافًا ولا بغير معنى، إنما نلاحظ الآتي:
أولاً: أن الكهنة واللاويين بعشائرهم: الكهنة، بقية بني قهات، بني جرشون، بني مراري، جاء ترتيبهم في التوزيع حسب درجة سموهم متناسقًا مع سمو الأسباط. فإن كل الكهنة يحتلون المركز السامي روحيًا، فإن مدنهم قد جاءت في نصيب يهوذا وزملائه، السبط الذي يمثل القيادة الروحية الجديدة بتجسد الكلمة منه، والذي كان مركزه الشرق دائمًا في المحلة. وأما بنو قهات الذين منهم خرج الكهنة فتمتعوا بمدنهم وسط نصيب أفرايم وزملائه، حيث يمثل إفرايم الثمر الروحي المتكاثر. أما بنو مراري الذي يمثلون جانب المرّ في الصليب، فجاءت مدنهم وسط سبط رأوبين وزملائه حيث فقد رأوبين بكوريته واغتصبها منه سبط يهوذا إلخ... | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 9:09 pm | |
| الاصحاح الثانى والعشرون
مذبح بلا ذبيحة
دعا يشوع بن نون رجال سبطي رأويين وجاد ونصف سبط منسى الذين يمثلون كنيسة العهد القديم التي جاهدت في عصر موسى تحت الناموس، وبالمحبة اشتركت مع كنيسة العهد الجديد في جهادها. لقد دعاهم يشوع ليهبهم ميراثهم بعد أن نالت بقية الأعضاء ميراثها، هذا ولم يردهم يشوع فارغين، بل قال لهم: "بمال كثير ارجعوا إلى خيامكم وبمواش كثيرة جدًا بفضة وذهب ونحاس وملابس كثيرة جدًا. اقسموا غنيمة أعدائهم مع إخوتكم". إن رجال العهد القديم يشاركوننا الميراث وينعمون معنا بالعطايا الإلهية وشركة أمجاده.
ويرى البعض في هذا التصرف نبوة عن عودة اليهود إلى الإيمان المسيحي في الأيام الأخيرة بعد ملء كنيسة الأمم، كقول الرسول بولس: "فإنيّ لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا هذا السرّ لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء، إن القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم وهكذا سيخلُص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26).
أما إقامة المذبح العظيم المنظر على الجانب الآخر من الأردن حيث لا تقام فيه محرقة ولا مذبح يُشير إلى هيكل اليهود العظيم الذي بذبيحة العهد الجديد حمل المنظر دون الجوهر فصار منظرًا بلا محرقة ولا ذبيحة. لقد اعترفت الأسباط الممثلة للعهد القديم أن المذبح الحقيقي هو المقام حيث يوجد يشوع، أما هذا المذبح فهو مجرد (شاهد) بين رجال العهدين، علامة الوحدة بينهما... لكنه بالحق لا يوجد سوى مذبح حقيقي واحد، راعٍ واحد، ورعية واحدة حيث يقيم يشوع الحق بينهم. | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 9:15 pm | |
| الاصحاح الثالث والعشرون
وصَايا ختاميَّة
تسليم الوديعة
عمل الراعي الناجح يتمركز في تسليم وديعة الإيمان حية وعملية خلال خدمته، فتتسلم الأجيال منه روح الإيمان المستقيم مترجمًا في عبادة حية ملتهبة وسلوك عملي في الرب... وها هو يشوع في نهاية حياته يدعو جميع إسرائيل وشيوخه ورؤساءه وقضاته وعرفاءه ليسلمهم وصايا وداعية جاءت مطابقة لإيمانه وعبادته وسلوكه العملي، لذا كان لهذه الوصايا فاعليتها... حقًا إن رسالة الكنيسة هي الحفاظ على وديعة الإيمان لتسلمه عبر الأجيال فكرًا حيًا وعبادة روحية وسلوكًا في الرب.
1. تذكيرهم بأعمال الرب [1-5].
2. تذكيرهم بوصايا الرب [6-8].
3. بعث روح الرجاء [9-11].
4. تحذيرهم من النكسة الروحية [12-16].
1. تذكيرهم بأعمال الرب...
"وأنتم قد رأيتم ما عمل الرب إلهكم بجميع أولئك الشعوب من أجلكم، لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم، أنظروا قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين مُلكًا حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التي قرضتها والبحر العظيم حتى غروب الشمس...".
ما أجمل أن ينسى الراعي نفسه حتى في اللحظات الأخيرة من عمره، فإن يشوع لم يذكرهم بأمانته في رعايته ولا احتماله أتعابهم ولا سهره عليهم، لكنه يركز أنظارهم في الله الصانع معهم العجائب، المحارب عنهم، والمهتم بتقديم الميراث لهم.
حين يلتهب قلب الراعي بخلاص إخوته، مشتاقًا أن يراهم في المجد الأبدي أعظم منه، لا يتحدث عن نفسه بل عن عمل الله الخلاصي ليلهب كل قلب بمحبة الله، وينطلق بكل نفس نحو السماويات تشتاق أن تنال نصيبها في الميراث الأبدي.
2. تذكيرهم بوصايا الرب...
كانت كلمات الرب ليشوع عند إسلامه القيادة الروحية: "تشدد وتشجع... إنما
كن متشددًا وتشجع جدًا... أما أمرتك: تشدد وتشجع" (1: 6، 7، 9). وبقيت هذه الكلمات الإلهية تدوي في أذنيّ يشوع وتعمل في قلبه، يرددها على لسانه ويحفظها في فكره ويحتضنها في قلبه بكونه الكنز الإلهي الذي يحرص عليه، وها هو في لحظات خروجه من العالم لا يجد أثمن من تقديم الوديعة التي تسلمها كما هي، يقدمها بلسانه كما قدمها لهم خلال حياته، إذ يقول: "فتشددوا جدًا لتحفظوا وتعملوا كل المكتوب في سفر شريعة موسى حتى لا تحيدوا عنها يمينًا أو شمالاً".
إن جوهر التقليد أو التسليم المقدس أن نقدم للجيل القادم كلمة الله بلا انحراف، كما تسلمناها وعشناها، كما تسلمتها الأجيال وعاشتها بطريقة حية. ها هو يشوع يُقدم ما تسلمه من موسى، سفر الشريعة، لتبعث فيهم روح الرجاء والقوة: "تشددوا جدًا".
هنا نود أن نؤكد أن التقليد الذي نتسلمه ونسلمه ليس شيئًا جديدًا بجانب الإنجيل، إنما في جوهره هو الإنجيل المقدس معلنًا في الكتاب الذي تسلمناه في الحياة التعبدية التي نمارسها وفي السلوك العملي ومعاملاتنا مع الآخرين.
3. بعث روح الرجاء...
لا يقف عمل التقليد الكنسي أو التسليم المقدس عند تسليم الكتاب المقدس منعزلاً عن الحياة الكنسية التي تشهد للإنجيل، وإنما يليق تقديمه ككتاب موحي به من الروح، حيّ وفعّال، معلنًا في حياة الكنيسة، خاصة في روحها المملوء رجاء. هذا ما نلمسه من كلمات يشوع بن نون الوداعية، إذ يبعث في سامعيه هذا الروح الذي اختبره وعاشه، قائلا: "قد طرد الر من أمامكم شعوبًا عظيمة وقوية. أما أنتم فلا يقف أحد قدامكم إلى هذا اليوم. رجل واحد منكم يطرد ألفًا، لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم كما كلمتكم، فاحتفظوا جدًا لأنفسكم أن تحبوا الرب إلهكم" .
يبعث فيهمروح الرجاء خلال الخبرة التي عاشوها أن الله قد طرد من أمامهم شعوبًا عظيمة وقوية... حسن للإنسان أن أن يذكر ضعفاته التي لا تنقطع ليسلك بروح الاتضاع، لكنه في نفس الوقت لا يكن جاحدًا لأعمال الله معه، إذ طرد من أمامه خطايا عظيمة وقوية قد سيطرت عليه زمانًا! لنشكره من أجل احساناته علينا، حتى يكمله معنا. في هذا يقول الآب مار إسحق السرياني: [ليست عطية بلا زيادة إلاَّ التي بلا شكر]. لهذا يخطئ الكثيرون حينما يعترفون بخطاياهم وضعفاتهم دون أن يعترفوا بعمل الله معهم أيضًا! في هذا يؤكد القديس أغسطينوس أنه يليق بنا أن نعترف من زاويتين: نشكر الله على احساناته ونشكو أنفسنا، على ضعفاتنا. إنه يقول: [إننا نعترف في تسبيحنا له أو في إستذنابنا لأنفسنا، وكلاهما اعترف حسن، سواء في لومنا أنفسنا نحن الذين لسنا بلا خطية أو تسبيحنا لله الذي بلا خطية]. يقول القديس أمبروسيوس: [احذروا لئلا تقاوموا وصاياه، فتسقطوا فيما سقط فيه اليهود العصاه. الذين قال لهم: زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تبكوا](لو 7: 32)(251). إذن لنسمع مزمار الرب المفرح فنرقص روحيًا مسبحين إياه على كثرة إحساناته، هذا الذي طرد شعوبًا من قلوبنا الداخلية، ولنسمع نحيبه على خطايانا فنبكي لكي يتحنن علينا فيطرد كل بقية شاردة في داخل نفوسنا!
إذ قدم لنا يشوع صورة واقعية لعمل الله معنا ليعبث فينا الرجاء، عاد يؤكد: "وأما أنتم فلا يقف أحد قدامكم إلى هذا اليوم". وكأنه يردد وعد الله له في بدايةعمله القيادي: "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك" (1: 5). كان هذا الوعد الإلهي ليشوع لكنه في الحقيقة هو وعد لكل الشعب عبر كل الأجيال... وعد إلهي يجدد رجاءنا في الرب، الذي يدافع عنا ولا يترك لأحد سلطانًا أن يقف في وجوهنا ما لم يأخذ من فوق، كقول السيد المسيح لبيلاطس: "لم يكن لك عليَّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق" (يو 19: 11).
ماذا يعني: "رجل واحد يطرد ألفًا، لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم كما كلمتكم"؟ إن كان رقم 1000 كما سبق فقلنا يشير إلى السماويات أو الروحيات، فهو هنا يشير إلى ما عبر عنه بولس الرسول: "أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12)، فإن كنا بسبب ضعفنا إن قورنا مع إمكانيات إبليس نُحسب كواحد أمام ألف، لكن بالرب لا تقدر الألف أن تقف أمامنا بل نطردها بالرب المدافع عنا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). هذ هو إيمان اليشع النبي الذذ قال لتلميذه جيحزي حينما ارسل ملك الذين معنا أكثر من الذن معهم" (2 مل 6: 16)، وصلة اليشع وقال: "يا رب افتح عينيه فيبصر. ففتح الرب عيني الغلام فابصر وإذا الجبل مملوء خبلاً ومركبات نار حول اليشع" (2 مل 6: 17). ليتنا لا نخاف إبليس وكل جنوده لأن الرب إلهنا يحارب عنا حتى يدخل بنا إلى كمال مجده الأبدي. حقًا إن إبليس مرهب بعنف حيله وثقل خطاياه التي تضغط على الإنسان، لكنه بلا سلطان علينا إن كنا نسلك في الرب، ونحمل في داخلنا روح الله الناري، فنحمل السلطان أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوات العدو. يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن إمكانيات المؤمن في مواجهة إبليس وإغراءاتهوعنفه، قائلاً: [إن رآك الشيطان مرتبطًا بالسماء، ساهرًا، فأنه لن يجرؤ قط أن يحدق فيك، [السيرة الطاهرة تسد فم الشيطان نفسه وتبكمه].
أما سر رجائنا فهو الرب إلهنا الذي لزمنا أن نرد له حب بالحب: "فاحتفظوا جدًا لأنفسكم أن تحبوا الرب إلهكم".
4. تحذيرهم من النكسة الروحية...
بعد أن تحدث عن الجوانب الإيجابية من كشفه عن محبة الله لهم المعلنة خلال أعماله معهم بغير انقطاع، ووصاياه الإلهية كسند لهم وسر رجائهم، صار يحدثهم من الجانب السلبي عن التزامهم بالحذر من النكسة الروحية، فتتحول نصرتهم الروحية في الرب إلى هزيمة شعة بسبب ارتباطهم بالخطايا والرجاسات عوض التصاقهم بالرب سرّ الغلبة. إنه يقول "ولكن إن رجعتم والتصقتم ببقية هؤلاء الشعوب أولئك الباقين معكم وصاهرتموهم، ودخلتم إليهم وهم إليكم، فاعلموا يقينًا أن الرب إلهكم لا يطرد أولئك الشعوب من أمامكم، فيكونون لكم فخًا وشركًا وسوطًا على جوانبهم وشوكًا في أعينكم حتى تبيدوا عن تلك الأرض الصالحة التي أعطاكم إياها الرب إلهكم".
حين كانت هذه الشعوب برجاساتها العنيفة في كمال قوتها كان الشعب شعر بحاجته إلى رعاية الله وكان الرب محاربًا عنهم، إذ بقية الشعوب كعبيد ضعفاء في وسط يدفعون الجزية صار الخطأ محدقًا، حيث يدخلون معهم في علاقات زوجية فينحرف المؤمنون عن عبادة الله إلى الوثنية رجاساتها. على هذا النحو نقول حين تهاجم الخطية إنسانًا بكل عنفها يلجأ الإنسان إلى الله فيحمل سلطانًا عليها، لكنها حيت تتسلل إليه متذللة تدخل خلال الضعف إلى قلبه كأمور بسيطة بلا سلطان، غالبًا ما ينخدع الإنسان ويفقد إمكانيات الله الغالبة! لنخف من الخطايا التي نُخالها بسيطة وهينة فإنها أكثر قدرة على أسر النفس مما نظنها كبيرة وحسيمة! ليتنا إذ نطرد بالرب الرجاسات لا نترك لها بقيو في القلب تخاتلنا وتخدعنا، فتحسب قلبنا عن الله، وتفقدنا سر حياتنا!
إذ نقبل الخطية وندخل معها في علاقات أشبه العلاقات الزوجية، يسلمنا الله نفسه لها لإذلالنا فتكون شهوة قلوبنا هي بعينها سرّ تحطيمنا. تكون لنا فخًا وشركًا نسقط فيه، ففيما نظن أننا ننال شيئا إذا بنا تحت الأسر، داخل الفخاخ لا قوة. وفيما نظن أنها تقدم لنا لذة وفرحًا إذ بها كالسياط تنزل على جوانبنا فلا نعرف الراحة على جنبنا اليمين أو اليسار، أخيرًا فإنها كالشوك في الأعين تفقد الإنسان بصيرته الروحية، وتنزع عنه معاينة النور الإلهي الداخلي... إنها لا تتركنا حتى نبيد عن الأرض الصالحة التي وهبنا لله إياها، أي نفقد كل صلاح في الجسد، ونخسر كل طاقاته وأحاسيسه!
ولكي يشجعهم الرسول على الجهاد ليثبتوا فيما نالوه من أرض صالحة وتحطيم كل بقية باقية من الرجاسات، يقول لهم: "ها أنا اليوم ذاهب في طريق الأرض كلها". وكأنه يقول لهم إن الأيام المقصرة، ونحن جميعًا سنعبر من هذا العالم... هذا هو طريق الأرض كلها. الشعور بالغربة يسند النفس في جهادها، إذ ندرك زوال كل شهوة ونهاية كل أمر زمني، فلا تعمل لحساب حياتنا الزمنية بقدر ما تعتم بخلاص نفسها والتمتع الباقية إلى الأبد. لهذا يقول القديس يوحنا الدرجي: [يقول أحدهم أنه لا يمكن أن نصرف يومًا واحدًا في عبادة صادقة ما لم نعتبرة نهاية حياتنا كلها]. | |
|
| |
marcel solla العضو الملائكى
عدد المساهمات : 1895 نقاط : 4983 تاريخ التسجيل : 04/08/2010
| موضوع: رد: تفسير سفر يشوع الخميس ديسمبر 23, 2010 9:30 pm | |
| الاصحاح الرابع والعشرون
حجر الشهادة
بعد أن سلم القائد الروحي يشوع الوديعة خلال جهاده وفي لحظات انطلاقه من هذا العالم تقبل أيضًا الريالة الإلهية الوداعية ليسلها لشعب الله ويقيم حجر شهادة عند مقدس الرب الذي يذكرهم بأعمال ااه معهم قبل أن يرحل عنهم بالجسد.
1. معاملات الله معهم [1-13].
2. تقديس الإرادة البشرية [14-26].
3. إقامة حجر شهادة [27-28].
4. موت يشوع [29-33].
1. معاملات الله معهم...
بعد أن تحدث يشوع مع رجاله بكل صراحة، مقدمًا لهم كل ما في جعبته قبل الرحيل، عاد أيضًا ليدعو شيوخ إسرائيل ورؤساءهم وقضاتهم وعرفائهم ليمتثلوا أمام الرب، وينطق يشوع لجميع الشعب بالكلمات الإلهية قبل رحيله مباشرة، فيها يؤكد الله أمانته في تحقيق مواعيده. لقد سبق فوعد إبراهيم أب الآباء حين دعاه وصار به في كل أرض كنعان كغريب ونزيه مؤكدًا له أنه يهبه إياه في شخص نسله، وها هو اليوم يتحقق وعده. لقد أخرجهم من أرض فرعون وعبر بهم بحر سوف الذي فيه غرق فرعون وجنوده وأنقذهم من أيدي الأموريين والفرزيين والكنعانيين والحثيين والجاجاشيين والحويين واليبوسيين إلخ...
لقد أبرز يشوع بن نون أن إبراهيم نال المواعيد مع أن أباه كان يعبد آلهة أخرى، وكأنه يريد أن يؤكد لهم أن انتسابهم لآباء القديسين أو أشرار لن يفيدهم أو يضرهم، إنما ما يفيدهم طاعتهم للرب ويضرهم عصيانهم عليه. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هذه النصيحة أقدمها لكم... ليتنا لا نجعل من شر آبائنا حجة نتذرع بها، فإننا متى كنا حريصين لا يعوقنا شيء من هذا، فإنه حتى إبراهيم كان أبوه غير مؤمن لكنه لم يرث شره بل صار عزيزًا لدى الله!].
يقو لهم الرب: "وأرسلت قدامكم الزنابير، وطردتهم من أمامكم أي ملكي الأموريين لا بسيفك ولا بقوسك. وأعطيتكم أرضًا لم تتعبوا عليها، ومدن لم تبنوها، وتسكنون بها، ومن كروم وزيتون لم تغرسوها تأكلون".
ماذا يقصد بالزنابير التي أرسلها قدامكم؟ لعله قصد المصريين الذين هاجموا هذه المتطقة قبل العبرانيين إليهم بفترة حطمت قوى الملوك وهيأت لهم الطريق، إن التاريخ كله، بل والأحداث كلها إنما تسير بخطة إلهية غير منظورة تعمل لخلاصنا. رعاية الله فائقة وفوق كل إدراك! لقد سمح الله بهجوم فرعون، ولم يكن يعلم المؤمنون أن هذا لأجلهم، حتى يتمتعوا بالميراث بلا تعب!
2. تقديس الإرادة البشرية...
إن كان سفر يشوع إنما يضم معاملات الله الفائقة مع شعبه لكي يرثوا ويملكوا، إنما لأنه يقدم الحب الإلهي حتى يقبلوه بالحب من جانبهم. إنه لا يطلب عبادتهم كفريضة إلزامية قسرية لكن طلب الحب الخارج خلال كمال حرية الإنسان، فإن الله يقدس الحرية الإنسانية بكونها صورة حية لله، وإعلانًا عن بر الله وحبه العملي... فو يطلب الإنسان ليس كعبد بل كابن حرّ يلتصق بأبيه بفرح وسرور. لهذا يؤكد يشوع بن نون لهم: "إن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون...". وإذ قدم يشوع نفسه مثلاً، قائلاً: "أما أنا وبيتي فنعبد الرب"، أجابوا هم وقالوا: "حاشا لنا أن نترك الرب لنعبد آلهة أخرى".
مرة أخرى اراد يشوع أن تنبع العبادة لله عن حرية كاملة، إذ يقول للشعب: "لا تقدرون ن تعبدوا الرلأنه إله قدوس وإله غيور هو، لا يغفر ذنوبكم وخطاياكم"، مؤكدًا لهم إن عبدوه لكن في غير حياة مقدسة إنما يجلبون التأديب عليهم، وإن اختاروا الآلهة الغريبة نصيبهم... وقد أكد الشعب مرة أخرى: "لا، بل الرب نعبد".
يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم من حرية الإرادة، قائلاً: [لا يغصبنا الله ولا تلزم نعمة الروح إراداتنا، لكن الله ينادينا، وينتظرأن نتقدم إليه بكامل حريتنا، فإذا اقتربنا يهبنا كل عونه]، [الله لا يلزم الذين لا يريدونه، يهبنا معونته على الدوام وهو يدرك ما هو خفي في أعماق القلب. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إنه يرجونا وينصحنا وينهانا ويحذرنا من التصرفات الشريرة، لكنه لا يفرض علينا شيئًا قسرًا. يعرض الأدوية المناسبة، تاركًا الأمركله لقرار المريض نفسه].
3. إقامة حجر شهادة...
إذ قطع يشوع عهدًا للشعب في ذلك اليوم، يؤكدون التزامهم بعبادة الرب وحده بكامل حريتهم واختيارهم: "أخذ حجرًا كبيرًا ونصبه هناك تحت البلوطة التي عند مقدس الرب".
يقول القديس باسيليوس: [أقام يشوع بن نون حجرًا كشاهد على أقواله، وقد سبق يعقوب فأشهد كوم حجارة على كلامه (تك 31: 47)... ولربما كان يظن أن الحجارة ذاتها تنطق بقوة الله لخزي العصاه، أو على الأقل ليخز ضمير كل فرد بقوة التحذير].
يرى القديس كيريانوس أن حجر الشهادة هنا إنما تشير إلى السيد المسيح نفسه. لقد حدثنا الكتاب المقدس كثيرًا عن السيد المسيح بكزنه الحجر الحيّ التي تقوم عليه كنيسته، هذا الذي رفضه البناؤون وقد صار حجر الزاوية... رآه دانيالالنبي وقد صار جبلاً (دا 2: 31-35)، هذا الذي يقول عنه أشعياء النبي أن يعلن في آخر الأيام فيأتي إليه الأمم ويصعد عليه الأبرار (أش 2: 2-4).
4. موت يشوع...
أُفتتح هذا السفر بموت موسى حيث بدون موته لم يكن ممكنًا العبور والتمتع بالميراث، ويُختتم هذا السفر بموت يشوع إذ بدون موته وقيامته لن يتحقق الخلاص.
لقد أعلن السفر موت يشوع ودفن عظام يوسف وموت ألعازر رئيس الكهنة، إن كان يشوع يشير إلى يسوع المخلص فبموته استراحت عظام يوسف التي طال انظارها لذلك اليوم، إذ قال يوسف لإخوته: "أن أموت، ولكن الله سيفتقدكم ويصعدكم من هذه الأرض إلى الأرض التي حلف لإبراهيم ولإسحق ويعقوب"، واستحلف يوسف بني إسرائيل قائلاً: "الله سيفتقدكم، فتصعدون عظامي إلى أرض الميراث. وكأنه يمث الكنيسة المتغربة هنا التي لن تستريح تمامًا إلا حين تصعد أجسادنا في اليوم العظيم لتقيم حيث يشوع الجديد قائم. لكن في طبيعة جديدة تليق بالأبدية. أما موت ألعازر، الذي يعني "إلهي يعين" وهو رئيس كهنة، إنما يشير إلى أنه بموت السيد المسيح انطلق كرئيس كهنة، إلهنا الذي يعيننا بدمه، يشفع فينا لدى أبيه، مقدمًا إيانا أعضاء جسده المقدس.
| |
|
| |
| تفسير سفر يشوع | |
|