+++السلام والنعمة "الراعى يحبك الراعى ينتظرك"+++
+++السلام والنعمة "الراعى يحبك الراعى ينتظرك"+++
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
البوابةالبوابة  الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  الكتاب المقدسالكتاب المقدس  الكتاب مسموع و مقروءالكتاب مسموع و مقروء  تفسير الكتابتفسير الكتاب  مركز تحميل الصورمركز تحميل الصور  youtubeyoutube  جروب المنتدىجروب المنتدى  twittertwitter  rssrss  دخولدخول  

 

 تفسير سفر الامثال

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 03, 2011 9:16 pm

الاصحاح الاول

مشورات مقدمة للشباب


أمثال 1-9

يبدأ سفر الحكمة بأحاديث موجهة إلى الشباب، هؤلاء الذين يهتم بهم الله إذ عبروا من مرحلة الطفولة البسيطة وصاروا على أبواب الالتزام بمسئولية الحياة، لذلك يدعوهم الله لكي تمتزج حياتهم العملية بخبرتهم الحيّة مع خالقهم ومخلصهم. قيل: "أذكر خالقك في أيام شبابك". وفي هذا السن أيضًا يوجه عدو الخير ضرباته لكي يفسد أحاسيسهم النامية وعواطفهم المقدسة، بل ويحطم نظرتهم إلى الحياة الأبدية.

1. يكشف هذا السفر عن شوق الله إلى الشباب، فبينما تظهر الغباوة أو الجهالة أو الخطية كسيدة مزينة تُغوي بجمالها الظاهري وكلماتها المعسولة الشاب لكي تحتضنه فتهوى به إلى الجحيم، إذا بالله يرسل حكمته، كلمة الله الحيّ، ليُقدم ذاته هبة إلهية مجّانية للشاب. في حديث رمزي تظهر حكمة الله في شكل سيدة تدعو الشاب لكي يقتنيها فيقتني الفهم والمعرفة والتمييز مع الحياة الأبدية، ويدخل إلى وليمتها السماوية.

في هذا القسم تظهر الحكمة كسيدةٍ، وذلك لأن كلمة "حكمة" في العبرية اسم مؤنث. ترتبط النفس المقدسة بالحكمة، لذا يوصينا الحكيم: "قل للحكمة أنتِ أختي، وادع الفهم ذا قرابة" (4:7).

تظهر الحكمة كسيدة تدعو المؤمن للاقتراب منها لتقدسه، وتظهر الجهالة كزانية تدعو البشرية إليها لهلاكهم.

2. يُقدم هذا القسم مقابلات بين الحكمة والجهالة، وهي في الواقع مقابلة بين الصلاح والشر. يُقدم الصلاح بكونه الحكمة والأدب والفهم والعدل والحكم والاستقامة والمعرفة والتمييز والعلم والمشورات، لكن علي وجه الخصوص "الحكمة"، التي وردت 17مرة في هذا القسم من سفر الأمثال.

3. إن كانت عبارة "رأس الحكمة مخافة الرب" (7:1) هي مفتاح هذا القسم بل مفتاح السفر كله، فقد وردت حرفيًا في مز10:111، وجاء اصحاح 28 من سفر أيوب في صلبه يحمل نفس المعني:

"أما الحكمة فأين توجد؟! وأين مكان الفهم؟!

لا يعرف الإنسان قيمتها، ولا توجد في أرض الأحياء.

الغمر يقول ليست فيَّ، والبحر يقول ليست عندي.

لا يُعطي ذهب خالص بدلها، ولا تُوزن فضة ثمنًا لها.

لا تُوزن بذهب أوفير أو بالجزع الكريم أو الياقوت الأزرق…

الله يفهم طريقها، وهو عالم بمكانها.

لأنه هو ينظر إلى أقاصي الأرض، تحت كل السماوات يري

ليجعل للريح وزنًا ويعاير المياه بمقياس،

لما جعل للمطر فريضة ومذهبًا للصواعق.

حينئذ رآها وأخبر بها، وأيضًا بحث عنها.

وقال للإنسان: هوذا مخافة الرب هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم" (أي20:28-28).

رأس الحكمة مخافة الرب، وأما رأس الجهالة فهو اعتداد الشاب بذاته وعدم خضوعه بالطاعة للمشورة المقدسة في الرب. الموضوع الرئيسي لهذا القسم هو هذه المقابلة بين مخافة الرب وجنون الإرادة الذاتية التي تحتقر الحكمة الإلهية والتأديب حيث يظن الشخص في هذا تحطيمًا لإرادته وإهانة لشخصيته.

يُعلن الكاتب بوضوح أن الله يطلب المخافة الربانية ليُقدس إرادة الإنسان، فيسلك حسبما خلقه الله، كائنًا محبوبًا لديه صاحب سلطان، يسلك بتدبير ونظام في علاقته بالله وبوالديه ومرشديه وكل ما حوله، حتى علاقته مع نفسه في داخله. لقد ركَّز على الطاعة للوالدين بكونها صورة حيّة لخضوع النفس لله نفسه، وتمتعها بأُبوة الله الذي يحتضنها بحبه.

4. عالج هذا القسم الجانب الإيجابي الخاص ببركات التمتع بالحكمة الإلهية، والدخول إليها من باب مخافة الرب والطاعة للوالدين، كما عالج الجانب السلبي الخاص بخطيتين كثيرًا ما ينزلق فيهما الشاب، وهما: العنف والفساد.

فالإنسان الذي يفقد مخافة الرب يظن أنه يؤكد قوة شخصيته واستقلاليته باستخدامه للعنف وانغماسه في الشهوات الجسدية، ويرتبط الاثنان معًا. هذا ما شاهدناه في وقت الطوفان، إذ قيل أن الأرض قد فسدت أمام الله وامتلأت عُنفًا. وهذا أيضًا ما نلاحظه في العصر الحديث حيث تتزايد نسبة الجرائم في العالم جنبًا إلى جنب مع الانحلال الأخلاقي، وذلك تحت ستار الحرية الفردية، وأن الانحلال لا يضر أحدًا.

حقًا إننا في حاجة إلى سفر الأمثال كمرشدٍ إلهي يسندنا في إصلاح أعماقنا الداخلية ومفاهيمنا.


نداء الحكمة

يرى الملك سليمان أن أهم ما يجب أن نعرفه هو أنه يلزمنا أن نهاب الرب الذي يطلب أن يُقيم عهدًا مع الناس، نهابه كأبناء له. لذلك كثيرًا ما يربط سفر الأمثال بين الحكمة أو المعرفة الروحية ومخافة الرب؛ كل معرفة صادقة تنبع عن مخافة الرب، ومخافة الرب هي كمال المعرفة ومركزها.

في هذا الأصحاح أيضًا يُشار إلى العنف بكونه عصيانًا على الالتزامات التي تطلبها منا إرادة الله. لذلك تصرخ الحكمة بصوتٍ عالٍ لكي يُسمع صوتها، مُعلنة دينونة من يحتقر سبلها

إنه السيد المسيح الذي يبسط يديه للخطاة ويدعوهم إلى خلاصهم ومجدهم، لكنهم إذ يُصرّون على رفضه يدينون أنفسهم، لأنهم رفضوا حكمة الله. إنه يدعو نفسه الحكمة. وهو مركز كل إعلانٍ إلهيٍ، هو حكمة الله التي بها ينطق الآب السماوي متحدثًا مع الناس.

1. العنوان 1.

2. غرض الحكمة 2-7.

3. تحذير من الارتباط بالجماعات المُخرِّبة gangs 8-19.

4. نداء الحكمة 20-30.


1. العنوان

"أمثال سليمان بن داود ملك إسرائيل"

ظهر اسم سليمان في ثلاثة أجزاء من هذا السفر (1:1؛ 1:10؛ 1:25). وقد تطلع المفسرون القدامى إلى السفر كله أنه من وضع سليمان الحكيم. ورد في 1مل32:4 "تكلم بثلاثة آلاف مثلٍ، وكانت نشائده ألفًا وخمسًا"، ولا يزال بعض الدارسين يأخذون بهذا.

كلمة "مثل" كما سبق فرأينا تعني في العبرية "يحكم" أو "يدير" الأمر، ويري البعض أنها تعني "تقديم الشيء أو الشخص بما يشبهه". وكأنه السفر الذي فيه يقدم سليمان الحكيم الحياة الإيمانية كما يديرها الله فينا وبنا خلال الواقع العملي.

يذكر سليمان اسمه وانتسابه لوالده داود وصفته كملك إسرائيل، لكي يعلن شوقه أن نقتدي به فنصير أبناء سلام، ننتسب لابن داود الملك الحقيقي، ونصير به ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ8:1).

يُشير سليمان إلى نفسه في الآية 1 أنه الملك ابن داود. ونحن نتطلع إلى الحَكمة ذاته ابن داود، ملك الملوك، نقتنيه فنحمل الحكمة فينا.

إنه ابن حكيم لأب حكيم، لهذا أضاف اسم "داود"، الذي ولد سليمان. لقد تعلم من الطفولة الكتب المقدسة، ونال سلطانه ليس بالقرعة ولا بالعنف، ولكن بحكم الروح وبقرار إلهي

القديس هيبوليتوس


2. غاية الحكمة

تخبرنا الآيات 2-6 لماذا كتب سليمان هذه الأمثال. وفي اختصار تسندنا هذه الأمثال لممارسة الحكمة عمليًا، فننعم بالنجاح الحقيقي والسعادة الدائمة. متى كان الشاب مهتمًا بحياته، يريد أن يسلك كما يليق، مُدركًا جهله الذاتي، مُشتاقًا إلى التعلم والتمتع بالمعرفة، عندئذ ينال المعرفة والفهم والتمييز.

اُستخدمت عشرة كلمات في الآيات 2-4 تبدو كأنها مترادفات. حتمًا توجد علاقة بينها، لكن تختلف هذه المرادفات الواحدة عن الأخرى، من بين هذه الكلمات:

أ. الحكمة chochmah: في الكتاب المقدس تعني "القدرة على استخدام المعرفة باستقامة". اُستخدمت في هذا السفر وحده 37 مرة، وهي كلمة لها أهميتها في الكتاب المقدس. ربما الحكمة تعني ليس فقط العلم الإلهي الذي به يمكننا اكتشاف نهاية حياة الإنسان الفُضلى وكيف يمكننا البلوغ إليها بطرق لائقة، وإنما تعني التعليم السماوي الذي به نكتشف أنفسنا كما نتعرف على الله، فتوجهنا الحكمة إلى كل الحق، وتُشكل التدين الحقيقي بكامله. فالحكمة تدخل بنا إلى المعرفة الحقّة والعملية، إذ يوجد أُناس كثيرون موهوبون ذكاءً خارقًا ولهم معرفة، لكن تنقصهم الحكمة، فيُسيئون استخدام المعرفة.

الحكمة هو موضوع مدرسة الله وغايتها. والحكمة في العهد القديم تُعني يسوع المسيح بالنسبة للمؤمن المعاصر. "ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمةً من الله وبرًا وقداسة وفداءً" (1كو30:1).

إذ تتعرف على السيد المسيح ترفض اللهو بالجهالة والفساد، وتصير حكيمًا. وإذ تقبل السيد المسيح في حياتك تدخل في خبرات جديدة في المعرفة وتحسب بالحق حكيمًا

ب. أدب musar instruction: تظهر 26 مرة في سفر الأمثال. المعنى اللغوي يعني التعليم أو الإصلاح بالتأديب كما جاء في (أم24:13) "من يمنع عصاه يمقت ابنه، ومن أحبه يطلب له التأديب" (راجع أم11:3؛ 15:22).

التأديب هنا للتعليم وليس للعقوبة والانتقام(أف14:4؛ 2بط6:1). فالله في حبه للإنسان الخاطي يسلمه لثمرة أعماله إلى حين لا لينتقم منه، إنما ليختبر ما تقدمه الخطية من مرارة وموت، فيرجع إلى نفسه ويعود إلى الله مخلصه الذي ينتشله من الخطية، بهذا تُصلح النفس. هذا ما يجب أن نفعله نحن أيضًا كآباء أو قادة، أن نحمل روح الحب والبذل حتى مع من نؤدبه، فإنه للأسف أحيانًا يُلقى المجرمون في السجن لتهذيبهم، بينما نُعاقب أولادنا بغضبٍ وعنفٍ. نؤدب المجرمين لإصلاحهم، بينما نعاقب أولادنا كأننا ننتقم منهم. هذا نوع من التشويش وعدم اتساع قلبنا للأجيال الجديدة.

ج. المعرفة: هي معلومة صادقة ونافعة. اُستخدم الفعل "يعرف" حوالي ألف مرة في العهد القديم.

يؤكد الكتاب المقدس أن الإيمان لا يُضاد المعرفة، إذ يقدم الإيمان للإنسان ككائن عاقل يحرص على التمتع بالمعرفة الحقة. ويقول القديس اكليمنضس السكندري: "هنا توجد الملاحظات التي تشكّل غنوصيتنا (معرفتنا): أولاً التأمل، بعد ذلك إتمام الوصايا، وأخيرًا قيام الصالحين بالتعليم. عندما تتحقق هذه الأمور في شخصٍ ما يصير غنوصيًا (ذا معرفة)

د. الفهم: المؤمن الذي يقبل السيد المسيح "الحكمة" في حياته، ويتجاوب مع التأديب ينال فهمًا لخِطّة الله في حياته.

الفهم هو عين النفس، لذلك فإن كلمة "إسرائيل" معناها: "الذي يرى الله، أي ذاك الذي يفهم الله

القديس اكليمنضس السكندري

ه. العدل: وهو البرّ، ويعني السلوك باستقامة.

و. الحكم (الحق): تعني أن نصدر أحكامًا أو نأخذ قرارات حكيمة بكوننا أبناء الله نتمم إرادته. في كل يوم يقف المؤمن في مفترق الطرق ليأخذ قرارًا أين يسير في حياته. هذا يحتاج إلى عونٍ إلهيٍ وحكمةٍ سماويةٍ.

ز. الاستقامة equity: وتعني التكامل الروحي. هنا يُشير إلى مبدأ أكثر منه سلوك.

أولاد الله لا يخضعون لأحكام، بل تُوهب لهم مبادئ ترشدهم في الطريق. وكما جاء في رو22:14: "طوبى لمن لا يدين نفسه فيما يستحسنه". فالمؤمن يحمل مشاعر قوية داخلية تقوده نحو الحق، وإن كان يُدرك أنه في مرات كثيرة يسير على قشر بيض، فهو في حاجة إلى عون داخلي يقوده حتى لا يسقط.

ح. التدبير (التمييز): تعني التمييز بين الصالح والشرير، الثمين والتافه، النافع والضار. يلتحق المؤمنون بمدرسة الله لكي يصيروا أولاد الله الحكماء، والأبرار، والمكرمين.

"لمعرفة حكمة وأدب لإدراك أقوال الفهم"

يبدأ بالمعرفة لتأكيد ارتباط الإيمان بالمعرفة؛ ثم يربط بين الحكمة والأدب، فإن كانت الحكمة هي مدرسة الله التي تترجم المعرفة الحقة إلى سلوكٍ مستقيمٍ (حكمة عملية)، فإنه لن يبلغ المؤمن ذلك بدون الانحناء لتأديبات الله التي تقَّوم النفس وتنمي الفهم. فالمؤمن يحتاج إلى تعليم وتدريب وتهذيب، بهذا ينال فهمًا صادقًا لخطة الله بالنسبة له.

أما عن الحكمة والأدب قيل إن الحكمة هي علم كل الأمور البشرية والإلهية وعلاتها، لهذا من كان لاهوتيًا عاملاً يعرف الحكمة. "لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سرّ. الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا" (1كو6:2،7)

القديس باسيليوس الكبير

"لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة"

هنا يوضح العبارة السابقة مؤكدًا أن غاية الحكمة هي قبول التأديب بفرح لنوال المعرفة المشبعة للقلب والفكر، والبرّ الذي هو السلوك بروح الاستقامة، واقتناء الحق والاستقامة.

هكذا يكشف الحكيم عن العلاقة الحية بين المعلم الإلهي والتلميذ المؤمن. فإن غاية المعلم ليس مجرد اقتناء سلوكٍ نبيلٍ، وإنما تمتع بالمعرفة والبرّ الإلهي والحق السماوي في حياة متكاملة مستقيمة تمس كيان المؤمن كله: قلبه وفكره وإرادته وأحاسيسه وكل تصرفاته الخفية والظاهرة. هي تمتع التلميذ بأيقونة معلمه الإلهي، الحكمة ذاته!

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن هذه العطايا الإلهية من معرفة وعدل وحق واستقامة تحول النفس إلى بستانٍ مملوءٍ ثمرًا روحيًا ، أو إلى عروسٍ تحمل جمال عريسها.

يا لبهجة هذا البستان الذي ثماره تمثل جمال العريس!

إنه هو النور الحقيقي، والحياة الحقيقية، والبرّ الحقيقي وما إلى ذلك كقول الحكمة.

عندما يصير للشخص هذه الصفات بأعمال صالحة، ينظر إلى عنقود (الفضائل الذي) لضميره، ويرى العريس هناك يعكس نور الحق بحياته الطاهرة

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

"لتعطي الجهال ذكاء، والشاب معرفة وتدبيرًا"

جاءت كلمة "تدبير" في العبرية في الجمع "تدابير"، وهي تستخدم بالنسبة لربان السفينة الذي يمسك بيده دفّة السفينة يحركها ويوجهها كما يشاء. هكذا بالحكمة يصير المؤمن قائدًا لأفكاره ومدبرًا لحياته الداخلية، يقود سفينة حياته بروح الله القدوس في الطريق الملوكي.

وتستخدم الكلمة أيضًا بالنسبة لرعاية الغنم، حيث يرعى الإنسان كل طاقاته وإمكانياته كقطيع غنم يسمع إليه.

يرى آدم كلارك أن كلمة "الجهال simple" تُستخدم في أكثر من معنى. فهي تعني البسطاء، هؤلاء الذين يسلكون بوضوح وانفتاح، والذين يُظهرون في الخارج ما هم عليه في الداخل. هنا البساطة تحمل معنى البراءة وعدم الخبث، وعدم أذية الغير. لكن إذ صار قلة قليلة جدًا من الناس يحملون هذه السمة أُسيء استخدام الكلمة، فتحولت إلى مفهوم الغباوة وعدم الحكمة وعدم الخبرة. هنا تُستخدم الكلمة بالمعنى الأخير

"يسمع الحكيم فيزداد علمًا، والفهيم يكتسب تدبيرًا"

كُتبت هذه الأمثال ليس فقط للشباب وإنما أيضًا للحكماء، إذ يليق بهم أن ينموا في الحكمة بكونهم مستعدّين للتعليم. يليق بهم أن يكونوا راغبين في الاستماع وغير مكتفين بأنفسهم. فإنهم حتى في إرشادهم للغير يلزمهم أن يسمعوا ويتعلموا. وكما يقول القديس أمبروسيوس تحتاج البشرية كلها أن تتعلم، الله وحده يُعلِّم ولا يحتاج أن يتعلَّم.

الإنسان في اتضاع ينحني ليُنصت إلى صوت الحكمة، شاعرًا بالحاجة إلى النمو الدائم في المعرفة. بهذا يقول مع القديس بولس الرسول: "يتكلم بحكمة بين الكاملين" (1كو6:2). وكما يقول السيد المسيح أن الذي له يُعطى فيزداد، فالحكيم باشتياقه للتعلم يزداد حكمة، والجاهل برفضه التعلم يزداد جهلاً وغباوةً.

"لفهم المثل واللغز أقوال الحكماء وغوامضهم"

إن كانت الحكمة تنادي على المرتفعات وتنزل إلى الأسواق لتُقدم دعوة الخلاص المجانية في بساطة لكل إنسانٍ، فإنها تحتفظ ببعض الأسرار المخفية، تقدمها هدية للجادين في البحث عنها وطلبها من الله.

الله لا يبعثر اللآلئ على الأرض، والجواهر الثمينة يخفيها عن أعين البشر لكي يطلبوها فيجدوها. الذهب واللآلئ وكل ما هو ثمين يُبحث عنه في المناجم وأعماق الأرض، والبترول يُستخرج من الأعماق. هكذا يخفي الله أسراره لنُدرك أنها تستحق البحث عنها بالدراسة مع الصلاة. وكما يقول السيد المسيح: "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكن حياة فيها".

دعوة سفر الأمثال لنا اليوم: أحفر! ادرس بعمق لكي تُعلن لله اشتياقك الجاد في التمتع بعطية الحكمة والفهم، فيكشف لك أسرار كلمته".

ماذا يعني بالغوامض (chidoth) dark sayings؟ يعتقد البعض أنه يقصد بذلك الأمثال parables التي قدمها ربنا يسوع المسيح.

بعد أن استعرض غاية الحكمة، قدم لنا شعار السفر كله وهو:

"مخافة الرب رأس المعرفة، أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب"

هذه الآية هي مفتاح السفر. وقد سبق أن أشرت إلى معنى "مخافة الرب".

توجد هنا مقابلة بين مخافة الرب التي تحث المؤمن على التعلم، والجهالة التي لا تريد التعلم من الحكمة بل ترفضها كما ترفض الأدب.

الأساس الأول الذي يجب أن يوضع لإقامة البناء الروحي هو مخافة الرب. أما ما يحطمه فهو جنون الاعتماد على الإرادة الذاتية وعدم الرغبة في التعلم مع العصيان ورفض كل مشورة وكل تأديب. فبجانب معرفة ما هو صالح وما هو شرير، الأمر الذي تحققه مخافة الرب يلزم الخضوع للنظام الذي وضعه الله بضبط الإرادة وتقديسها بالخضوع للوالدين والقادة الحقيقيين والمشيرين.

ما هي العلاقة بين مخافة الرب والحكمة الحقة؟

أما يوجد بين الملحدين أو على الأقل منكري الإيمان من بلغوا درجات عالية من المعرفة؟ إننا لا ننكر أن بعضًا من الذين يتجاهلون وجود الله، بل ويُجدفون على اسمه، ويحتقرون كلمته، لهم معرفة عالية بكثير من اللغات، أو لهم باع في المعرفة العلمية أو نالوا درجات علمية في الفلسفة أو السياسة أو التاريخ الخ. هذه المعرفة قد تكون نافعة وأحيانًا تضر إن دفعت الإنسان إلى الكبرياء والتشامخ حتى على الخالق نفسه. أما المخافة الحقة فتسند الإنسان في علاقته بالله وباخوته، بل وحتى بجسده ونفسه، كما تفتح أمامه أبواب الرجاء في السماويات، فيعيش بروح الفرح والتهليل، بهذا يُحسب الإنسان حكيمًا حقيقيًا.

إن كان القانون يجلب خوفًا، فإن معرفة القانون هي بدء الحكمة، فالإنسان لا يكون حكيمًا بدون القانون. فمن يحتقر القانون غير حكيم وبالتالي يحسب شريرًا

القديس اكليمنضس السكندري

الشخص المتعجرف والغضوب يصير فريسة لأهوائه المتلاحقة بسبب فقدان الحكمة، لهذا يقول النبي: "ليست في جسدي صحة، جراحاتي فاحت وأنتنت بجهلي" (مز3:38،4)، مُظهرًا أن كل الخطايا تبدأ بالجهالة. هكذا الإنسان الفاضل الذي له مخافة الرب يفهم أكثر من غيره، وكما يقول الحكيم: "مخافة الرب بدء الحكمة". فإن كان من يخاف الرب ينال حكمة، والشرير ليس له هذه المخافة، لذا فهو محروم من الحكمة الحقيقية. وإذ يفقد ما يُدعى بالحكمة الحقة يصير أكثر جهالة من غيره. ومع هذا يُعجب الكثيرون بالأشرار ظانين أنهم قادرون أن يظلموا ويضروا الغير، ولم يعرفوا أن هؤلاء بالحق يجب أن نحسبهم أشقياء أكثر من كل البشر، هؤلاء الذين إذ يظنون أنهم يضرّون الغير يضربون بالسيف ذواتهم. هذا عمل غاية في الجهالة، أن يضرب إنسان نفسه وهو ولا يدري، ظانًا أن يؤذي الغير بينما هو يقتل نفسه

القديس يوحنا الذهبي الفم

"مخافة الرب بدء الحكمة"، الشعور بالخطية يقود إلى التوبة، ويهب الله حنوه على التائبين.

القديس إيرينيؤس

يقول (الفلاسفة) أنه يلزم ألا يُخاف من الله، ففي نظرهم كل الأشياء حرة وبلا ضابط يحكمها.

لماذا لا يُخاف من الله إلا لأنه غير موجود؟

إن كان الله غير موجود فالحق أيضًا لا يوجد…

لكن حيث يوجد الله توجد مخافة الله التي هي بدء الحكمة.

وحيث توجد مخافة الله تكون هناك الجدية، والاجتهاد المكرم المتزن، مع حرص بحذر، وارتباط معتبر (بالخدمة المقدسة)، وشركة معًا مملوءة أمانًا، تقدم خدمة صالحة، وخضوعًا (للسلطة)، وإنصاتًا تقويًا، وجريًا متضعًا، وكنيسة متحدة، ويكون الله في كل شيء

العلامة ترتليان

يرى كثير من الآباء حاجة المؤمن، خاصة في بدء الطريق إلى المخافة الربانية، فهي قائد الجسد والنفس مع الفكر وكل الطاقات للسلوك في الطريق الملوكي، والعبور بالشخص إلى الحضرة الإلهية، والتمتع بالشركة الحية مع الله. لهذا يحذرنا القديس غريغوريوس النزينزي من البدء في حياتنا الروحية بالتأمل في الإلهيات دون الالتزام بالمخافة.

يليق بنا ألا نبدأ بالتأمل ونترك المخافة (لأن التأمل دون ضابط ربما يدفعنا نحو التهور)، لكن يلزمنا أن نتأسس ونتنقى ونصير بالخوف خفيفين، فنرتفع إلى الأعالي. فإنه حيث يوجد الخوف تُحفظ الوصايا، وحيث تُحفظ الوصايا تُوجد طهارة الجسد الذي هو السحابة التي تغطي النفس وتحجب عنها رؤية الشعاع الإلهي. وحيث تُوجد الطهارة تكون الاستنارة، وحيث تُوجد الاستنارة تُشبع رغبات المشتاقين إلى الأمور العظيمة، وإلى أعظم الأمور، أي الله الذي يفوق كل عظمة

القديس غريغوريوس النزينزي

إن كان سفر المزامير قد دعي في العبرية "تهاليم" أي "التهليلات"، لأنه سفر النفس المتهللة بالرب حتى في وسط آلامها وأحزانها، لهذا كثيرًا ما يتكرر فيه تعبير "مخافة الرب". إذ يرتبط خوف الرب بالهتاف المفرح فيقول المرتل: "اعبدوا الرب بخوفٍ، واهتفوا برعدةٍ" (مز11:2). وفي المزمور 11:115 يُدعى المؤمنون الحقيقيون خائفي الرب: "يا خائفي الرب اتكلوا على الرب"؛ وقيل عن السيد المسيح نفسه كلمة الله المتجسد "ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب، ولذته تكون في مخافة الرب" (إش2:11،3). وكأن النبي يدعونا أن نشترك في هذه السمة باتحادنا بالكلمة، فنحمل روح مخافة الرب بلذة وفرح.

"أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب"

كلمة "الجهال" تعني الأشرار، أي الأشرار في قلوبهم وفي أفكارهم وفي طرقهم، هؤلاء الذين يعتمدون على إرادتهم الذاتية، وهم متحجرون لا يريدون أن يصغوا إلى أية نصيحة. وكما أن الحكيم يريد أن يتعلم بشغفٍ، فإن الجاهل أيضًا هو ذاك الذي لا يطيق أن يسمع إرشادًا يقوده نحو النجاح والسعادة الحقيقية.


3. تحذير من الارتباط بالجماعات المخربة gangs

"اسمع يا ابني تأديب أبيك، ولا ترفض شريعة أمك"

توجه الأصحاحات السبعة إلى: "ابني". هذا التعبير الذي اُستخدم حوالي 15 مرة. إذ نستمع في هذه الأصحاحات إلى ضربات قلب والدٍ يود لابنه أفضل حياة. إنه صوت الأب الروحي، كما هو صوت الوالدين، أي صوت الكنيسة وصوت كنيسة الأسرة.

يليق بنا أن ندرك أن العلاقة بين المعلم الحقيقي وتلميذه هي علاقة أبٍ بابنه. فالتعليم في الكنيسة الأولى هو عمل أسقفي، أو عمل أبوي. التعليم ليس مجرد تقديم لعقائدٍ وتعاليمٍ، بل هو تقديم خبرة حية للحياة الجديدة في المسيح يسوع، يختبرها التلاميذ مع آبائهم.

لقد دُعي إبراهيم وإسحق ويعقوب "آباء" (بطاركة)، أو آباء إسرائيل (تك24:1 LXX، خر13:3؛ تث8:1؛ أع13:3؛ 2:7،12؛ رو12:4،16؛ 2بط4:3). وبحسب التقليد اليهودي كان اللقب الرسمي للكتبة هو "أب". (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). وفي كنيسة العهد الجديد كان اليهود والوثنيون عند استشهاد القديس بوليكربوس أسقف سميرنا يصرخون: "هذا هو أب المسيحيين". وعندما أشار البابا أثناسيوس الرسولي إلى القديسين ديونسيوس السكندري وديونسيوس الروماني وغيرهما استخدم كلمة "الآباء".

كان التعليم والتلمذة لا ينفصلان عن بعضهما البعض. خلال الأبوة الصادقة كان الأساقفة والكهنة يتطلعون إلى التعليم ليس ثمرة لعقائد نظرية، بل هو ثمرة لمحبتهم الأبوية، حيث يرددون كلمات القديس بولس: "لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" 1كو15:4

عندما يتعلم شخص من فم آخر، يُقال عنه أنه ابن ذاك الذي يعلمه، ويُدعى الآخر والده

القديس إيرينيؤس

الكلام هو ابن للنفس، لذلك ندعو الذين يعلموننا آباءنا

القديس اكليمنضس السكندري

يشير هنا إلى الوالدين، وليس إلى الأب وحده. فقد قامت الأمهات والجدات بدورٍ رئيسي في كل عصرٍ حتى عصرنا الحاضر. كثير من عظماء الرجال تمتعوا بغنى البركات التي تعلموها من ركب أمهاتهم. من بين هؤلاء الأمهات والجدات العظيمات حنة وزوجة منوح وأم ليموئيل ولوئيس وافنيكي والأم دولاجي والقديسة رفقة والقديسة مونيكا.

ليس فقط يليق بالأبناء أن يُكرموا والديهم، وإنما يليق بالآباء أيضًا أن يُدركوا مسئوليتهم نحو تعليم أبنائهم وتدريبهم. يُفترض في الوالدين أن يكون لهما مخافة الرب، قادرين على تقديم أفضل نصيحة لأبنائهم، وأن يُقدما لهم مثالاً دقيقًا للحياة التقوية. فإن نصيحة الوالدين تكون باطلة إن كان سلوكهما غير مستقيمٍ.

عادة يُقدم الأب تعليمات ويوقع التأديبات لكنه غير موجود دائمًا في وسط الأسرة بسبب العمل، أما الأم فغالبًا ما تكون داخل الأبواب، لذلك فإن نظام الأسرة يرتبط بها، وهي التي تقدم لأبنائها الشريعة.

"لأنهما إكليل نعمة لرأسك وقلائد لعنقك"

جاءت هذه العبارة في الترجمة السبعينية: "فتنال إكليل نعم لرأسك، وقلائد عنقك"(LXX)

الاحترام والطاعة البنوية يخلقان كرامة ومجدًا وجمالاً روحيًا في حياة الابن الحكيم. تهب الطاعة زينة النعمة لرأسه إكليلاً وتاجًا وقلائد ذهبية ولآلئ.

كان أولاد النبلاء والأشراف يضعون قلادة حول أعناقهم لتمييزهم عن بقية الشعب. وهنا يوجه سفر الأمثال أنظارنا إلى أن من يستمع إلى أبيه ويقبل تأديباته يصير نبيلاً من النبلاء.

يُصنع الإكليل أيضًا من مادة عجيبة… من مراحم الله الحانية، إذ يقول المرتل": باركي يا نفسي الرب، الذي يتوجك بالمراحم والرأفات" (مز2:103،4).

ويُصنع أيضًا من المجد: "بالمجد والكرامة توجته" (مز6:Cool؛ "بالبركة تكللنا بتُرسٍ" (مز12:5 LXX).

وأيضًا من النعمة: "تنال إكليل نعمة على رأسك" (أم9:1 LXX).

انظروا هذا التاج من بين أكاليل كثيرة يفوق غيره في النعمة

القديس يوحنا الذهبي الفم

في سفر نشيد الأناشيد نرى العروس قد تزين عنقها بقلائد الطاعة والخدمة للآخرين فقيل عنها: "ما أجمل خديك بسموطٍ (كحمامة) وعنقك بقلائد" (نش9:1). عنق الإنسان بغير زينة غالًبا ما يشير إلى غلاظة الطبع البشري، أما إذا تزين بمواهب الروح القدس فيصير رمزًا للجمال الروحي والرقة في احتمال الآخرين... هذه هي القلائد الكنسية (الكردان أو العقد). فقد كان عنقنا يحمل عارًا وخزيًا بسبب عصياننا وكبريائنا ، أما الآن فيحمل نير المسيح، ويقبل طاعته، فصار يحمل الجمال الروحي الفائق

"ما أجمل خديك كخدي حمامة، وعنقك بقلائد" (نش9:1)...

لنفسر عنق العروس... أنها تشير إلى النفوس التي قبلت نير المسيح القائل: "احملوا نيري عليكم... لأن نيري حلو"(راجع مت29:11،30).

دٌعي"عنقا" من أجل طاعتها.

وقد صار عنقها جميلاً كما بقلائد، وبالحق هو هكذا.

فإن كان العصيان الذي للتعدي جعله قبلاً معيبًا، فإن طاعة الإيمان جعلته الآن جميلاً ورائعًا...

دُعي الخضوع والطاعة عنقًا، لأنه يُقال عن العنق أنه يقبل نير المسيح ويقدم طاعة الإيمان خزينة.

عنقها، أي طاعتها، هي المسيح. لأنه هو نفسه أولاً أطاع حتى الموت (في 8:2)، وكما بعصيان إنسانٍ واحدٍ، أي آدم، صار كثيرون خطاة، هكذا بطاعة واحدٍ، أي المسيح، يصير كثيرون أبرارًا (رو19:5).

هكذا فان زينة الكنيسة وقلادتها هي طاعة المسيح

العلامة أوريجينوس

"يا ابني إن تملقك الخطاة فلا ترضَ"

تشير الآيات 10-19 إلى أن الحياة مملوءة بالإغراءات. هنا نلاحظ جماعات (العصابات) الخاصة بالشباب في زوايا الطرق تدعو شابًا ليشترك معهم في سرقة مسلحة. فإن الأشرار متحمسون لخداع الآخرين حتى يسلكوا الطريق المدمر. يحب الخطاة الصحبة في الخطية، ولهم أسلوبهم المغري جدًا. لذلك يليق بالشباب أن يكونوا حذرين للغاية.

يقول: "لا ترضَ". إنهم لا يستطيعون أن يسببوا لك ضررًا ما لم ترتبط بهم بكامل إرادتك. فإن غاية الله السرمدية بالنسبة للإنسان أن يمارس حرية إرادته، أو بالأحرى الإرادة التي هي أساسًا حرة لا يمكن لقوةٍ ما أن تُلزمها بأمرٍ ما. فالشيطان نفسه لا يقدر أن يقود إنسانًا ما إلى الخطية ما لم يوافق الإنسان على ذلك. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه لا يقدر أحد أن يؤذي إنسانًا ما لم يوذِ الإنسان نفسه.

"إن قالوا: هلم معنا لنكمن للدم، لنختفِ للبريء باطلاً"

هذا هو أسلوب الأشرار في كل العصور، وهو دعوة الآخرين للاشتراك معهم في ممارستهم للشر ضد الأبرياء. يجدون لذتهم لا في اضطهاد الأتقياء فحسب، بل وفي اشراك الكثيرين معهم في هذا العنف.

ينطبق هذا القول على الشعب اليهودي الذي كرَّس كل طاقاته، خاصة على مستوى القيادات الدينية لقتل السيد المسيح البريء الذي بلا خطية وحده. لقد أرادوا قتله واغتنام ممتلكاته، أي الكنيسة، لا لكي يغتنوا بها، بل ليُحطموها.

لقد فهم (الحكيم) هذه الأمور عن شعب اليهود، وجريمتهم الخاصة بسفك دم المسيح، إذ ظنوا أن مواطنته هي على الأرض فقط

القديس هيبوليتس

ما نقرأه في الأمثال عن الأشرار القائلين: "لنختفِ للبريء..." ليس بالأمر الغامض الذي لا يُفهم. فإنه لا يحتاج إلى جهد في تفسيره إذ ينطبق على المسيح وما يمتلكه، أي الكنيسة. حقًا جاء المثال الوارد في الإنجيل عن الكرَّامين الأشرار يُظهر أن ربنا يسوع المسيح نفسه قال ما يشبه ذلك: "هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه" (مت38:21)

القديس أغسطينوس

اقبل نصيحتي يا صديقي وكن متباطئًا في صنع الشر ومسرعًا في خلاصك. فإن الاستعداد للشر والتباطؤ في عمل الخير كليهما متساويان في الرداءة.

إن دُعيت إلى التمرد لا تُسرع إلى ذلك.

وإن كان إلى الارتداد فأقفز هاربًا.

إن قال لك صحبة الأشرار: "هلم معنا لنكمن للدم، لنختفِ للبرئ باطلاً"، لا تمل إليهم حتى بأذنيك.

بهذا تنال مكسبين عظيمين: يعرف الآخر خطيته، وتُسْلِم نفسك من صحبة الأشرار.

إن كان داود العظيم يقول لك: "هلم نفرح في الرب"، أو نبي آخر يقول: "هلم نصعد إلى جبل الرب"، أو الرب مخلصنا نفسه يقول: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم"، أو "قم، اذهب فتُشرق بالبهاء وتتلألأ أكثر من الثلج، وأكثر بياضًا من اللبن وتُضيء أكثر من الياقوت الأزرق"، ليتنا لا نُقاوم ولا نتأخر

القديس غريغوريوس النزينزي

"لنبتلعهم أحياء كالهاوية،

وصحاحًا كالهابطين في الجب،

فنجد كل قنية فاخرة نملأ بيوتنا غنيمة"

إنهم "يسرعون كالموت، حيث تنشق الأرض وتبتلعهم فجأة".

يبدو أنه يشير هنا إلى دمار مدينة بأكملها، كأن الأشرار يقولون: "لنُهلِك الرجل والمرأة والطفل، وعندئذ نمد أيدينا ونحمل كل ممتلكاتهم فننال غنيمة عظيمة".

تشَّبه الجماعات المخربة نفسها بالأرض التي انشقت لتبتلع قورح وجماعته الذين قدموا نارًا غريبة (عد30:16، 33)، أو ما قيل بالمزمور: "ليبغتهم الموت، لينحدروا إلى الهاوية أحياء، لأن في مساكنهم في وسطهم شرورًا" (مز15:55). هكذا يبتلعون كل شخص يقبل مشورتهم مقدمين نارًا غريبة عن الله، فعوض نار الحب الإلهي يوقدون نار الشر والعنف.

لعله يشير هنا إلى الجماعات المخربة كقبور تنفتح علي الدوام لتبتلع النفوس الميتة بالشر دون أن تشبع! لهذا يليق بنا أن نصرخ مع المرتل: "إليك يا رب أصرخ يا صخرتي، لا تتصامم من جهتي لئلا تسكت عني، فأشبه الهابطين في الجب" (مز1:28). "بين الأموات فراشي، مثل القتلى المضطجعين في القبر الذين لا تذكرهم بعد، وهم من يدك انقطعوا" (مز5:88). أنهم يريدون أن يكون نصيبه مع إبليس الذي قيل عنه: "وأما أنت فقد طُرحت من قبرك كغصن أشنع، كلباس القتلى المضروبين بالسيف، الهابطين إلى حجارة الجب كجثة مدوسة" (إش19:14).

إنهم لن يشيروا قط إلى النتائج السلبية لجرائمهم، بل بالأحرى يقدمون ما يبدو مكافآت ومزايا. هذا هو طريق الخطية المغري. يُبرز الشيطان ما يبدو حسنًا، ويترك الجانب المُظلم بقبحه مخفيًا، يُكتشف بعد فوات الأوان.

"تُلقى قرعتك وسطنا،

يكون لنا جميعًا كيس واحد"

كيف يلقون قرعته وسطهم ليعرف نصيبه، وفي نفس الوقت لهم جميعًا كيس واحد؟ في بساطة يؤكدون له أمرين، الأول أنه سيكون كواحدٍ منهم، لا يظلمونه في شئ، إنما ينال نصيبه بالقرعة مثلهم. وفي نفس الوقت لن يُترك معتازًا إلى شيء حيث لهم كيس واحد، يأخذ كل منهم حسب احتياجه.

"يا ابني لا تسلك في الطرق معهم،

امنع رجلك عن مسلكهم"

تشير هذه الآية إلى طريقين أو سبيلين، وهذا يذكرنا بطريقي الحياة كما جاء في مزمور 1، طريق الأبرار الذي يعرفه الرب ويحبه، وطريق الأشرار الذي يقود إلى الهاوية.

بعد وصفه لإغراءات الأشرار المستمرة، يقدم الحكيم لابنه مشورة صالحة وتحذيرًا معطيًا لذلك ثلاثة أسباب.

· أما السبب الأول لتحذيره فهو:

"لأن أرجلهم تجري إلى الشر وتسرع إلى سفك الدم"

كلماته هنا تحمل نغمة السرعة. فالفعلان "تجري وتسرع" يضربان ناقوس "الطوارئ". وقد استخدم إشعياء النبي في 7:59 نفس التعبيرين عند وصفه للأشرار: "أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم". وهكذا أيضًا القديس بولس في رو15:3 "أرجلهم سريعة إلى سفك الدم".

· والسبب الثاني لتحذيره هو:

"لأنه باطلاً تُنصب الشبكة في عيني كل ذي جناحٍ"

يستخدم سليمان الحكيم هذا المثل بمعنى خاص. فإن الأشرار يترصدون خفية لاصطياد الأبرياء. بهذا وحده يأملون في تحطيمهم والاستيلاء عليهم، لأنه إن عُرفت خططهم، سيتخذ الأبرياء حظرهم منهم. إذ باطلاً تُنشر الشباك أمام أعين الطيور التي يريد الإنسان أن يقتنصها.

· والسبب الثالث لتحذيره هو:

"أما هم فيكمنون لدم أنفسهم، يختفون لأنفسهم"

يحصد الأشرار ما يزرعونه. الكامنون يكمنون لأنفسهم حيث يسقطون في الفخ. ومن يهاجمون في أماكن مختفية إنما يهاجمون أنفسهم. الخطط الشريرة تنفجر وتحمل أخبارًا شريرة للمجرمين، أما الأخبار الصالحة فتُقدم لمن يقاوم هذه الأعمال.

"هكذا طرق كل مولعٍ بكسبٍ، يأخذ نفس مقتنيه"

يحذرنا سليمان الحكيم من محاولة الاغتناء بواسطة العنف أو الخداع. فإن الطمع هو خطية كل ساعة.

إنك مسبي لأموالك وعبد لها، إنك مقيد بسلاسل الطمع ورباطاته، أنت الذي حلك المسيح مرة، صرت في قيود أشد. أنت تحتفظ بمالك، هذا الذي إذ تحفظه لا يحفظك

الشهيد كبريانوس

في اختصار يقدم لنا الحكيم صورة للصَديق الشرير تتلخص في النقاط التالية:

1. متملق يغري صديقه : يبدو من الخارج رقيقًا، لكنه في الداخل يقدم سمًا.

2. في داخله عنف: "لنكمن في الدم"

3. يخطط

4. طماع

5. يقيم فخًا لنفسه وهو لا يدري.


4. نداء الحكمة

في أمثال20:1، 1:8؛ 3:9 تقدم الحكمة دعوة. وكأن كلاً من الحكمة والجهل يطلبان لهما أتباعًا، ولكن بصفة عامة نرى الحكمة تقدم نداءها علانية في الشوارع، وميادين المدينة ومداخلها، أما الجهل والميل إلى الشر فهما مخفيان وسرّيان. تقف الحكمة لتنادي بصوتٍ عالٍ في مناطق استراتيجية هامة حتى يسمع الكل صوتها.

"الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تُعطي صوتها"

هنا تظهر الحكمة كشخصٍ، وصوتها يقف في مضادة لصوت الأشرار المخادعين، هؤلاء الذين سبق الإشارة إليهم في الآيات. يُسمع هذا الصوت في كل موضع، في الأماكن العامة والخاصة، في الشوارع كما في الحجرة الخاصة.

"تدعو في رؤوس الأسواق في مداخل الأبواب،

في المدينة تبدي كلامها، قائلة:

إلى متى أيها الجهال تحبون الجهل والمستهزئون يُسرّون بالاستهزاء،

والحمقى يبغضون العلم"

كثيرًا ما يشتكي الإنسان أن الله يتحدث إليه وهو في سمواته، لا يشعر بالضعف البشري ولا يلمس الحياة علي الأرض. لكننا هنا نجد حكمة الله تنزل إلى رؤوس الأسواق في مداخل الأبواب حيث يمارس البشر علاقاتهم الاجتماعية. فعند مداخل أبواب المدينة اعتاد القادة أن يجتمعوا للقضاء (23:31؛ را 11:4؛ أي7:29)، وفي رؤوس الأسواق يجتمع التجار والشعب معًا للمعاملات التجارية. وكأن حكمة الله تلتقي بالبشر في واقع الحياة، في مجالس القضاء كما في الأسواق، لتقودهم إلى الحق العملي. حكمة الله المتجسد، يسوع المسيح ، نزل إلينا، وحلّ بيننا كواحدٍ منا.

إذ أظهر سليمان الحكيم مدى خطورة الاستماع إلى صوت إبليس، يُعلن هنا عن خطورة عدم الاستماع إلى نداءات المسيح بكونه حكمة الله.

يُشير سفر الحكمة إلى أربعة أنواع من الجهال، سبق لنا الحديث عنهم في المقدمة (ص 20،21) وها هنا يدعو السيد المسيح ثلاثة منهم:

1. البسطاء أو الجهال pethayim، هؤلاء لا يستطيعون أن يميزوا بدقة بين الحق والباطل، لأنهم فاقدون القدرة على التمييز. يمكن بسهولة خداعهم لأنهم سذج، ويسهل التأثير عليهم في الأمور الصالحة كما في الشريرة.

2. المستهزئون: أناس متكبرون وساخرون، يحولون كل شيء إلى هزل. يضحكون على الحكمة، ويستخفون بمشورتها. ليس في نظرهم شيء ما مقدسًا أو جادًا. عندما يحذرهم أحد مما يرتكبونه من شر يقولون: "هذا لن يحدث لنا".

3. الحمقى: يبغضون التعلم، ويحملون كراهية دفينة للتقوى. بإرادتهم يجهلون الحكمة، ويعيشون حسب هواهم. إنهم لا يبالون في أي شيء إن كان صالحًا أو شريرًا. كل ما يهمهم هو: "ماذا ينفعني في هذا الأمر؟"

4. المتمردون: يكرهون الحكمة حتى يمكن القول بأنهم غير مؤمنين وثائرون.

"ارجعوا عند توبيخي.

هأنذا أفيض لكم روحين،

أعلمكم كلماتي"

عبارة "ارجعوا عند توبيخي" يُمكن فهمها بطريقتين.

الأولى ربما تعني: حيث أنكم لا تريدون أن تصغوا إلى دعوتي، ارجعوا الآن وأصغوا إلى توبيخي. إني أسكب روحي عليكم لتكتشفوا حكمي الذي يحل عليكم.

والمعنى الثاني هو: ارجعوا وتوبوا عند توبيخي. إني أسكب روحي عليكم ليعينكم في توبتكم.

"لأني دعوت فأبيتم،

ومددت يدي وليس من يبالي"

"بل رفضتم كل مشورتي ولم ترضوا توبيخي"

إنها لكارثة أن الله يريدنا أن نكون حكماء ونحن لا نريد. رفض الإنسان للحكمة الإلهية يجعل منه شخصًا عنيدًا، بل ويصير كما لو كان كائنًا غير عاقلٍ. في القديم رفض إسرائيل الله (إش4:1؛ 24:5)، وفي العهد الجديد رفضوا المخلص (مت37:23). إنه يبسط يديه على الدوام (إش 65:2).

"فأنا أيضًا أضحك عند بليتكم،

أشمت عند مجيء خوفكم"

"إذا جاء خوفكم كعاصفة،

وأتت بليتكم كالزوبعة، إذا جاءت عليكم شدة وضيق"

تبدو أن هذه الكلمات وما تليها تخص أولئك الذين سبق وصفهم في العبارات 10-19، هؤلاء الذين يرفضون التراجع عن طرقهم الشريرة حتى يسقطوا في قبضة العدالة الإلهية.

لا يحمل الضحك هنا أثرًا للقسوة أو الانتقام، إنما هو لغة رمزية تكشف عن غباوة الإنسان الذي يسخر بالله القدير فيكون كحشرة تسخر بلهيب النار.

إنهم صاروا على أبواب الدخول في المعاناة من متطلبات الشريعة. يلزم أن يموتوا، لأن جرائمهم صارت ضدهم، والعدالة تتركهم بين يديْ آثامهم التي لا تعرف الرحمة. يصير خرابهم كعاصفةٍ، كهبوب ريحٍ مقاومٍ.

حقًا إن محبة المسيح والوعود الإلهية الممتزجة معًا مع توبيخاته يجب أن تكون موضع انشغال كل أحدٍ.

الآن يعيش الخطاة في الحياة السهلة، لكن كارثتهم قادمة. الآن الله مستعد أن يستمع إلى صلواتهم، لكنهم فيما بعد يصرخون باطلاً. هل لازلنا نحتقر الحكمة؟ لننصت باجتهاد ولنطع ربنا يسوع المسيح حتى ننعم بالسلام والثقة في الله، نتحرر من الشر في هذه الحياة وننعم بالمجد الأبدي.

"حينئذ يدعونني فلا استجيب،

يبكرون إليّ فلا يجدونني"

كثيرون يدعونه لكن ليس في الحق.

القديس أغسطينوس

إن كان الله محب للخطاة، إنما لأجل توبتهم وتقديسهم ومجدهم برجوعهم إليه، لهذا فهو يرفض أن ينصت إلى الخطاة المُصرِين علي عدم التوبة، كما فعل مع إسرائيل (تث 45:1؛ إش 15:1). إنهم يبكرون إليه لا ليتمتعوا به، بل لنوال بركات زمنية دون التمتع به لذلك لن يجدوه، لأن من يجد الحكمة يجد الحياة والبركة (13:3؛ 17:8،35). برفضه صلواتهم يحثهم علي العودة إليه فيجدوا فيه قيامتهم من الموت ومجدهم الأبدي وفرحهم الدائم وشبعهم الداخلي.

"لأنهم أبغضوا العلم،

ولم يختاروا مخافة الرب".

الحياة الحاضرة هي فترة اختبار، أما في الأبدية فتصير الحياة ثابتة دائمًا بلا تقلب، هناك يبقى المذنب مذنبًا على الدوام.

ليته لا يقسي أحد قلبه بسبب طول أناة الله، لأنه إن مات في خطاياه لن يكون بعد مع الله. وعندما تُغلق عليه النيران التي لا تنطفئ لن يطلب رحمة، إذ يرى بوضوح ويشعر أن رجاءه في الخلاص قد انقطع تمامًا.

"فلذلك يأكلون من ثمر طريقهم،

ويشبعون من مؤامراتهم"

لكل إنسانٍ أن يحدد خياراته في الحياة، لكنه لا يصير حُرًا في اختيار نتائج هذه الاختيارات، فما يزرعه إياه يحصد (غلا7:6؛ أم20:18،31:31؛ أش10:3). كثيرًا ما نسمع عن الله الذي ينتقم أو الذي يميت. أنه يتحدث معنا بلغتنا البشرية. لكن الله الكلي الحب وواهب الحياة لا يشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع ويحيا. الذي ينتقم أو يميت في الواقع هو خطايانا التي تجلب ثمرها. فعندما ينزع الله نعمته عنا يرفع مراحمه، وإذ نُصر علي عدم تجاوبنا معه نشرب من كأس أعمالنا.

"لأن ارتداد الحمقى يقتلهم،

وراحة (غنى) الجهال تبيدهم".

صارت هذه الشهادة ضدهم، عندما صاروا في غناهم وفيما يظنوه أمانًا لهم إذا بهم يُسحبون بسهولة إلى ثمرة آثامهم ويفقدون حياتهم.

فإنه تحت رمز الأدوميين الذين سمحوا لأنفسهم أن ينهزموا بوفرة غناهم.

الذين يفرحون بنجاح هذا العالم يوبخون بالقول: "الذين جعلوا أرضي ميراثًا لهم بفرح كل القلب والفكر" (حز5:36). يُلاحظ في هذه الكلمات أنهم وُبخوا بعنف، ليس فقط لأنهم يفرحون، وإنما لأنهم يفرحون بكل القلب والفكر. لهذا يقول سليمان: "لأن ارتداد الحمقى يقتلهم، وغنى الجهال تبيدهم". ينصحنا بولس قائلاً: "الذين يشترون كأنهم لا يملكون، والذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه" (1كو30:7،31).

الأب غريغوريوس (الكبير)

"أما المستمع لي فيسكن آمنًا،

ويستريح من خوف الشر".

من هبات الله الفائقة الأمان الداخلي، إذ نجد فيه حصنًا لأعماقنا، فنكون فيه كما في مساكن السلام. هذا ما سبق فوعد به: "ويسكن شعبي في مسكن السلام، وفي مساكن مطمئنة وفي محلات أمينة" (إش18:32)، أما سّر الطمأنينة فهو فيض خيراته الروحية علينا مع تحريرنا من سبى الخطية: "وتعطي شجرة الحقل ثمرتها، وتعطي الأرض غلتها، ويكونون آمنين في أرضهم، ويعلمون إني أنا الرب عند تكسيرى رُبُط نيرهم، وإذا أنقذتهم من يد الذين استعبدوهم" (خر27:34).

من يستمع إلى صوت الحكمة، مفضلاً إياه عن إغراءات الأشرار يسكن آمنًا، أي يصير في أمانٍ تامٍ، ويستريح من خوف الشر، متمتعًا بغنى برّ المسيح وحمايته له.

ما هو صالح بالحقيقة يُرى أنه مبهج، وينتج ثمرًا شهيًا: هدوء النفس!

قيل: "أما المستمع إليّ فيسكن آمنًا، ويستريح من خوف الشر. "اتكل على الله من كل قلبك وكل فكرك على الله"

القديس اكليمنضس السكندري

"لكننا نشتهي أن كل واحدٍ منكم يظهر هذا الاجتهاد عينه ليقين الرجاء إلى النهاية... حيث دخل يسوع كسابقٍ لنا لأجلنا، صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد" (عب11:6-30). بنفس الطريقة بولس الرسول المملوء حكمة يقول: "أما المستمع لي فيسكن آمنًا واثقًا في رجاء"…

بالنسبة للتعبير "يسكن" أُضيف بطريقة جميلة "واثقًا"، مظهرًا أن من ينال راحة يتمتع بالرجاء فيما قد ترجى، لذلك أضيف: "يستريح من خوف الشر".
القديس اكليمنضس السكندري
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 03, 2011 9:58 pm

الاصحاح الثانى


مكافاءات الحكمة


خُتم الأصحاح الأول بالكشف عن أن الحكمة تهب تابعيها مكافاءاتها، وجاءت الأصحاحات الثلاثة التالية توضح هذه الحقيقة.

في هذا الأصحاح يقدم الله لمؤمنيه دعوة لكي يقبلوا وصاياه وحكمته لكي تدخل إلى أعماق النفس . في اللحظات التي ترى النفس جراحات السيد المسيح وجنبه المطعون أبوابًا إلهية للدخول إلى أحشاء الكلمة الإلهي، يشتهي الكلمة أن يدخل إلى أحشائنا خلال أبواب القلب المفتوحة له. يُقدم الله الكلمة نفسه ملجأ لنا وقوة وحكمة لكي نختفي فيه، ونقدم نحن له قلوبنا لكي يختفي هو فينا!

يدخل حكمة الله المتجسد - السيد المسيح - إلى أعماقنا، فيُقيم مملكته فينا، ويملك كما على عرش القلب ليُحرك عواطفنا وأحاسيسنا وأفكارنا وكل أعضاء جسدنا فتعمل لحساب ملكوته، لبنيان نفوسنا وخلاص الكثيرين، لامتداد الكنيسة جسد المسيح.

وفي هذا الأصحاح يكشف لنا سليمان الحكيم أن الذين يبحثون عن الحكمة باجتهاد يجدونها، واعدًا تلاميذه بالمكاسب العظيمة التي ينالها من يتبعون الحكمة . الطريق للتمتع بالحكمة الإلهية هو كلمة الله مع الصلاة والبحث عنها بغيرة متقدة ، فنتعرف على الإرادة الإلهية، ونُسر بها ونمارسها بنعمته الفائقة. هذا هو طريق الحكمة.

جاءت ال22 آية في هذا الأصحاح تطابق ال22 حرفًا للهجائية العبرية

1. الحث على طلب الحكمة 1-9.

2. مكاسب الحكمة 10-22.

أولاً: تهب لذة وسعادة لمن يسلكون بها [10،11].

ثانيًا: تنقذ الإنسان من سبل الأشرار الفاسدة [12-15].

ثالثًا: تحفظه من حبائل النساء الفاسدات [16-19].

رابعًا: تجعله في صحبة الأبرار، وفي طريق الصالحين [20].

خامسًا: يسكن آمنًا في الأرض التي يُقتلع منها الأشرار [21-22].


1. الحث على طلب الحكمة

يتحدث سليمان الحكيم في هذه الفقرة مع المؤمن كما مع ابنه الروحي، حيث يحثه على الإنصات إلى كلمة الله التي ينطق بها، ليُخبئها كنزًا في أعماقه، ويميل بأذنه إليها، ويفتح قلبه لها كي تستقر فيه. بهذا يتمتع بمخافة الرب وينال معرفة الله، ويتحصن بأسلحة الله الروحية، ويسلك الطريق الملوكي المستقيم.

"يا ابني إن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك..."

يتحدث "سليمان" كمعلمٍ مع تلميذه حاسبًا إياه ابنه، إذ يقدم له قلبه المملوء حبًا مع كلمة تعليم. ويقول القديس إكليمنضس السكندري: "كل شخص يتعلم، يخضع لمعلمه كابن.

ليتنا قبل أن نقدم كلماتنا للغير، نقدم قلوبنا المملوءة حبًا لهم، والملتهبة بالشوق الحقيقي إلى خلاصهم ومجدهم.

يطلب الأب من ابنه أن يقبل كلامه وأن يخبئ وصاياه. هذا هو أول درس في مدرسة هذه الحياة، وهو قبول الابن وتجاوبه مع كلمات والديه. وكأنه يرد الحب الأبوي الصادق بالحب البنوي العملي. ليس فقط أن يتجاوب معه، بل ويخفيه في قلبه بكل عناية واهتمام بكونها أثمن الكنوز وأفضلها. يقف المؤمن الحيّ من وقت إلى آخر متطلعًا نحو كنزه الداخلي، متأملاً في الكنوز التي اقتناها، وقام بتخزينها، معجبًا بها كهبات إلهية عاملة في حياته اليومية.

ينصحنا سليمان الحكيم أن نخبئ وصايا الوالدين تلك التي بلا شك في تناغم تام مع وصايا الكتاب المقدس. نخبئها في قلوبنا، حتى متى أتممناها يصدر سلوكنا ممتزجًا بمشاعر القلب الداخلية، نتممها بكامل حريتنا بفرح شديد، وليس كمن يمارسها قسرًا كمن يتمم واجبًا يلتزم به. من يضع الوصية في قلبه، يتممها بقلبه ويرافقه قلبه أينما ذهب، فيجد مسرته في إرادة أبيه السماوي.

يخفي المؤمن في قلبه وصية الله، كنزه الثمين، أثمن ما في حياته، مركز الحب والحياة، وموضع الأمان، فلا يقدر العدو أن يسطو عليه ليغتصبها منه. نخبئ وصية الله، فلا تقدر خطية ما أن تختفي في القلب أو تتسلل إليه، إذ لا يمكن للظلمة أن تجد لها موضعًا حيث يوجد النور. ولعل الحكيم يطلب منا أن نخفي الوصية في قلبنا كي نتأملها وننشغل بها فتهضمها معدتنا الروحية. فكما أن الطعام الذي لا يُهضم لا يفيد الجسم بشيء هكذا من يسمع الوصية ولا يتأملها وينشغل بها لا تنتفع بها نفسه

يقدم أنثيموس أسقف أورشليم ثلاثة أسباب لإخفاء كلام الله في القلب

[ا - إنه يخفي كلام الله في قلبه ذاك الذي يحذر من الخطأ؛ ليس فقط في العمل الظاهر وإنما أيضًا في الفكر الخفي. مثل هذا يجتنب ليس فقط الفسق وإنما انحراف شهوته وميلها الخفي...

ب - وأيضًا الذي يخفي في قلبه أسرار الإيمان ولا يبيح بها للكفار، عاملاً بقوله: "لا تطرحوا درركم أمام الخنازير".

ج - كذلك من يخفي أقوال الله في قلبه لئلا تخطفها طيور السماء، أعني بها الشياطين الساقطين من السماء، فلا تسلبها إياها بالشك أوالكبرياء أو بفكر شرير...]

من لا يقبل تعاليم الله سطحيًا وظاهريًا كما يخفيها في قلبه حتى يتقوَّم فكره وأيضًا نياته، فيصير خاليًا من الخطية أمام الله الذي يرى الخفيات، فإنه لا يرتكب فقط الزنا بل وكل شهوة شريرة. تطابق هذه الآية الكلمات: "يا ابني إن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك حتى تميل أذنك إلى الحكمة" (أم 1:2،2)

القديس ديديموس الضرير

إن لم نخفِ أقوال الله في قلبنا مثلما نخفي جوهرة يأتي الشرير ويخطفها (مت19:13)

القديس أثناسيوس الرسولي

طلب أولاً العون الإلهي لئلا تُخفى كلمات الله في قلبه بلا ثمر، حيث لا يتبعها أعمال البر. لهذا فإنه بعد قوله هذا أضاف: "مبارك أنت يارب، علمني برك"

لأنني أخفيت كلماتك في قلبي لكي لا أخطئ إليك يا من أعطيتني الناموس، هبني أيضًا بركة نعمتك، حتى بعمل ما هو مستقيم أتعلم ما أوصيت به...

القديس أغسطينوس

جيد للإنسان أن يدرس الكتاب المقدس مستعينًا ببعض المراجع الدراسية والتفاسير، لكن لا يوجد كتاب يمكن أن يحل محل كلمة الله. لذا يليق بالمؤمن أن تكون له جلسته الهادئة مع كلمة الله، طالبا من الله أن يتذوقها في أعماقه لكي يعيشها في حياته اليومية أينما وجد.

الاعتماد على الدراسات السابقة نافعة، خاصة كتابات الآباء في الكتاب المقدس ، إذ كانت حياتهم إنجيلاً عمليًا مفتوحًا، لكن إن لم يلتقِِ الإنسان مع الكلمة شخصيًا تصير هذه الدراسات جافة بلا ثمر روحي متجدد.

"حتى تميل أُذنك إلى الحكمة،

وتعطف قلبك على الفهم،

إن دعوت المعرفة،

ورفعت صوتك إلي الفهم"

يحثنا الحكيم أن نكرس كل حواس الجسد وأعضائه مع النفس لكي نطلب أن نتعلم الحكمة والمعرفة والفهم. هذا ما نطلبه بكل طاقاتنا، ونصغي إليه، ونحمله إلى قلوبنا. نميل بآذاننا ونفتح قلوبنا ونصرخ بلساننا حتى تدخل حكمة الله إلى أعماقنا، إلى الذهن كما إلى القلب. تهبنا فهمًا، وتشبع قلوبنا.

لنصرخ إلى الله بألسنتنا كما بأصواتنا الداخلية، فإن الله يُسر بصرخات القلب، وهو وحده واهب الحكمة. لقد عبر الرسول بطرس عن شوق المؤمنين إلى الحكمة الإلهية، قائلاً: "كأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به" (1بط2:3). حينما يرى الطفل أمه تعد زجاجة اللبن يتحرك بكل أعضاء جسمه، بلسانه وبيديه وقدميه ورأسه الخ.، ليعبر عن رغبته في الرضاعة. هكذا نحن كأبناء لله نعلن عن لهفتنا إلى لبن الكلمة صارخين إليه.

الصلاة خاصة من أجل التمتع بالمعرفة الإلهية هي لغة شوق النفس نحو الله. إنها المترجم لاشتياق القلب. لهذا يميز القديس أغسطينوس بين من يقدم بصلاته صوتًا ومن يقدم ضجيجًا لا معنى له. فيقول إنه عندما نصلي بدون حب تكون صلواتنا ضجيجًا لا يُسر الله بها. وعلى العكس فإنه يُسر بالصلاة التي تحمل صوتًا له معنى، إذ تحمل معها حبًا. لهذا كثيرًا ما يستخدم المرتل تعبير "الصوت" عند حديثه عن الصلاة:

"بصوتي إلى الرب أصرخ" مز4:3.

"يا رب بالغداة تسمع صوتي" مز3:5.

"فسمع من هيكله صوتي" مز6:18.

"بصوتي أدعو فارحمني" مز7:27.

"اسمع يا الله صوتي" مز1:64.

"اصغي إلي صوت صلاتي" مز66:19.

من يقدر أن يشك في أن الصرخات التي ترتفع إلى الرب في صوت sound صلاة تكون باطلة إن نطقت بصوت الجسد لا بصوت القلب الثابت في الله؟!

أما إذا صدرت عن القلب فإنها تفلت من ملاحظة البشر إن كان بسبب الضعف الجسداني يكون الشخص صامتًا، لكنها لا تفلت من ملاحظة الله. لذلك عندما نصرخ إلى الرب بصوت الجسد - حيث تتطلب الظروف هكذا - أو بالصمت يلزمنا أن نصرخ من القلب

يقول "صوت voice صلاتي" مز 7:140؛ أي حياة صلاتي، أو نفس soul صلاتي، وليس مجرد أصوات sounds كلماتي، إنما ما يهب الكلمات من حياة. لأن كل ضجيج آخر بلا حياة يمكن أن يُدعى أصواتًا sounds وليس كلمات.

الكلمات تخص من لهم نفوس، أي تخص الأحياء، ولكن كيف يصلى كثيرون لله وهم بلا فهم لائق بالله ولا أفكار مستقيمة نحوه؟ مثل هؤلاء ربما يكون لهم صوت sound الصلاة ولا يمكن أن يكون لهم الصوت المفهوم voice، لأن لا توجد حياة في صلواتهم

لا يتم الصراخ لله بصوت جسدي، بل بالقلب. كثيرون شفاهم صامتة، لكنهم يصرخون بالقلب، وكثيرون يقدمون ضجيجًا بشفاههم، أما قلوبهم فصارت عاجزة عن تقديم أي شيء. لذلك إن صرخت إلى الله، أصرخ إليه من الداخل حيث هناك يسمعك

يتحدث الفم خلال وساطة الكلمات؛ ويتكلم القلب خلال وساطة رغباته. صلاتك هي رغبة قلبك

الله لا يطلب الكلمات بل قلوبكم

إننا بالقلب نسأل، بالقلب نطلب، ولصوت القلب ينفتح الباب

من يصلي برغبة يسبح في قلبه حتى إن كان لسانه صامتًا. أما إذا صلى (الإنسان) بغير شوق فهو أبكم أمام الله حتى إن بلغ صوته آذان البشر

القديس أغسطينوس

"إن طلبتها كالفضة،

وبحثت عنها كالكنوز"

يُقارن البحث عن الحكمة بالبحث عن الفضة وغيرها من المعادن الثمينة في المناجم العميقة. فالحكمة مثل هذه الكنوز لا تُوجد مصادفة بواسطة عابر طريق، إنما يحتاج الأمر إلى مجهودات ضخمة واكتشاف وحفر. هكذا يليق بنا أن نبحث عن خلاص نفوسنا بغيرة متقدة كما يبحث محب المال عن الغنى. ونخجل من أنفسنا متى كان شوقنا للخلاص والتمتع بالحكمة كغنى حقيقي أقل من بحثنا عن غنى العالم. لنبحث عن الحكمة في اجتهاد غير منقطع النظير ورغبة متقدة وصبر عظيم.

يلاحظ أن كلمة "كنوز" هنا تعني امتلاك ما هو مخفي في الأرض وفي الكهوف، كما يُمكن أن تعني المعادن الثمينة والحجارة الكريمة التي توجد في المناجم. كيف نطلبها؟ بحفر المناجم حتى نبلغ إليها في باطن الأرض.

الله لا يريدنا أن نصغي إلى الكلمات والعبارات الواردة في الكتاب المقدس بإهمالٍ، بل باهتمامٍ شديدٍ. هذا ما دفع الطوباوي داود أن يضع العنوان "للفهم" في مواضع كثيرة لمزاميره. كما يقول: "افتح عن عينيّ، فأرى عجائب من شريعتك" (مز42:32، 18:119). ومن بعده جاء ابنه أيضًا يُظهر ضرورة أن نطلب الحكمة كالفضة، ونتاجر فيها كأثمن من الذهب (4:2؛ 14:3) [اقتبس أيضًا: "فتِّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي تشهد لي" يو39:5]. عندما يحث الرب اليهود أن يفتشوا الكتب يحثنا بالأكثر أن نبحث. فإنه ما كان يقول هذا لو كان ممكنًا أن ندرك الكتب تمامًا فور قراءتها. لا يُفتش أحد ما هو واضح وبين يديه، بل يفتش عمَّا هو مخفي في ظلٍ، والذي يلزم أن نجده بالبحث. هكذا لكي يحثنا على البحث يدعوها "الكنز المخفي" (أم4:2؛ مت44:13). قيلت لنا هذه الكلمات لكي لا نطبق كلمات الكتاب بتراخٍ أو بغير اكتراثٍ، وإنما بدقةٍ عظيمةٍ. فإنه إن أصغى أحد لما يُقال في الكتب دون أن يبحث عن المعنى الروحي بل يقبل المعنى الحرفي، يظن أمورًا غير لائقة بالله، مثل أنه غضوب وثائر، وما هو أردأ من هذا

القديس يوحنا الذهبي الفم

"فحينئذ تفهم مخافة الرب وتجد معرفة الله،

لأن الرب يُعطي حكمة،

من فمه المعرفة والفهم.

يُذخر معونة للمستقيمين.

هو مجن للسالكين بالكمال"

في سفر الأمثال يؤكد سليمان الحكيم العلاقة الوثيقة بين الحكمة ومخافة الرب. فقد سبق فرأينا أن مخافة الرب هي بدء الحكمة، وفي نفس الوقت من يبلغ الفهم ويتمتع بالمعرفة والحكمة يُدرك مخافة الرب ويتلامس معها عمليًا. مخافة الرب ليست شعارًا لسفر الأمثال وحده، بل هي شعار الكتاب المقدس كله. يقول القديس أمبروسيوس أنه يمكن بناء بيت الحكمة فقط إن تأسس خوف الله بعمق في النفس.

البحث عن الحق يجب أن يرافقه دائمًا سيرة في الحق الذي نجده. بهذا يقدم الله لأتقيائه مفاهيم متجددة للحق، وخبرة حية متزايدة لقوة الحق.

أريد أن يكون لي خوف مناسب مؤسس على العقل والإدراك... فلا يكون لنا خوف دون إدراك، ولا إدراك دون خوف

العلامة أوريجينوس

يرى سليمان الحكيم الحكمة صادرة كما من فم الله لتتجه نحو أًذنيّ المؤمن، وتنطلق إلي قلبه كما إلى فكره، وهناك تستقر حيث تُقدس إرادته وأحاسيسه ومشاعره، وبالتالي كلماته وتصرفاته.

الله هو ينبوع كل حكمة ومعرفة وفهم، والحكماء والفهماء الحقيقيون هم قنوات يفيض خلالها الله بالحكمة على كثيرين. الحكمة الإلهية هي مجن لأُناس الله الذين يسلكون باستقامة، أو معين لهم لنوال النصرة. فإننا إذ نتمسك بالحكمة ونحفظها، تتمسك هي بنا وتحفظنا.

بالنسبة للذين يتبررون بالفلسفة، تقودهم المعرفة إلى التقوى كمُعين لهم

القديس إكليمنضس السكندري

يعلق العلامة أوريجينوس على ما ورد في الترجمة السبعينية: "يجدون حاسة إلهية" للنص العبري: "تجد معرفة الله"، موضحًا أنه كما يحمل الجسد حواسه الخاصة بالأمور الزمنية هكذا تتمتع نفس المؤمن بحواسٍ إلهيةٍ تخص الأمور السماوية.

لكي تتعلم من الكتابات المقدسة أنه توجد حاسة إلهية غير حواس الجسد، اقرأ فقط ما يقوله سليمان الحكيم: "ستجد حاسة إلهية"

لئلا يُظن أن قولنا بأنه لا تُعرف الأمور العقلية بالحواس قول غير سليم استخدم سليمان الحكيم مثلاً، إذ يقول: "ستجد أيضًا حاسة إلهية"، مظهرًا بهذا أن هذه الأمور العقلية لا يُبحث عنها بحاسة جسدية، بل بحاسة أخرى معينة يدعوها "إلهية". (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). يليق بنا أن نتطلع خلال هذه الحاسة إلى كل كائن من الكائنات العاقلة التي نحسبها علوية. بهذه الحاسة تُفهم الكلمات التي ننطق بها، وبها توزن عباراتنا التي نكتبها. لأن الطبيعة الإلهية تعرف تلك الأفكار التي تدور في داخلنا ونحن في صمت

عرف (سليمان) أن في داخلنا نوعين من الحواس: حواس قابلة للموت، يمكن أن تفسد وهي بشرية، والأخرى خالدة وعاقلة، يدعوها "إلهية".

بهذه الحاسة الإلهية، ليست بحاسة العينين، بل حاسة القلب النقي، الذي هو العقل، يُرى الله للذين يستحقون ذلك. فإنه بالتأكيد تجد في كل الكتب المقدسة، القديمة والجديدة، تعبير "القلب" يتكرر عوض "العقل"، أي القوة العاقلة

العلامة أوريجينوس

يعلق القديس أغسطينوس على العبارة "من فمه (وجهه) المعرفة والفهم"، قائلاً:

الإيمان الحقيقي والتعليم الصادق يُعلنان أن كلا النعمتين هما من الله. يقول الكتاب المقدس: "من وجهه المعرفة والفهم"، وفي سفر آخر يقول: "المحبة هي من الله" (1يو7:4)

"الرب يُعطي حكمة، من فمه المعرفة والفهم". منه ينالون الرغبة ذاتها نحو المعرفة، إذا ما تلاحمت (تزوجت) بالتقوى

القديس أغسطينوس

"يذخر معونة للمستقيمين،

هو مجن للسالكين بالكمال.

لنصر مسالك الحق path of judgment

وحفظ طريق أتقيائه saints" [7،8].

الله نفسه يحفظ مسالك الحكم paths of judgment التي هي مسالك بره، لكي يسلك فيها مؤمنوه تحت رعايته وحمايته. وهو الذي يحفظ طريق قديسيه الذين يحفظون عهدهم معه. وكأن الله الذي يهب الحكمة والمعرفة والفهم يُعطي أيضًا نصرة لمؤمنيه ويقوم بحمايته إذ يسلكون طريقه.

"حينئذ تفهم العدل والحق والاستقامة،

كل سبيل صالح"

بقوله "حينئذ" يوضح أن الله وهو واهب كل هذه العطايا، إذ نتجاوب مع عطاياه بروح المخافة يهبنا فهمًا أكثر لنُدرك شريعة عدله وحقه وبره. وكأنه تدخل الحكمة أعماقنا فتنير ذهننا لإدراك إرادة الله وأسرار عمله.


2. مكاسب الحكمة

إذ ننصت بخوف الرب ونطلب منه الحكمة والمعرفة والفهم ننعم بهذه العطايا في أعماقنا، هذه التي تقدم لنا المكاسب التالية:

أولا: لذة قلبية وسعادة داخلية مع شبع فكري

"إذا دخلت الحكمة قلبك ولذَّت المعرفة لنفسك"

إذ نميل بآذاننا ونصرخ بأفواهنا إلى الله، تنفتح أبواب قلوبنا لتستقبل الحكمة الإلهية والمعرفة السماوية، فتصير وصايا الله ليست ثقلاً على النفس، ويصير نير المسيح هينًا وعذبًا للنفس. حكمة الله تهب النفس بهجة، إذ تجد في استقبالها للحكمة اتحادًا مع المسيح حكمة الله. هذا الاتحاد هو في ذاته مكافأة يتمتع بها المؤمن عربونًا للمكافأة السماوية. بالحكمة الإلهية يدرك المؤمن أن غاية حياته هي تمجيد الله والسرور به.

ثانيًا: تنقذ الإنسان من سبل الأشرار

"فالعقل (التمييز) يحفظك، والفهم ينصرك،

لإنقاذك من طريق الشرير ومن الإنسان المتكلم بالأكاذيب،

التاركين سبل الاستقامة للسلوك في مسالك الظلمة"

يُعلمنا سفر الأمثال أن أُناس الله يجب أن يكونوا حذرين من شخصين خطيرين: الرجل الشرير، والمرأة الغريبة الفاسدة.

أ. الإنسان الشرير، وهو يعطي القفا لله لا الوجه، يسير في طريقه بإرادته الذاتية، مستقلاً عن الله، شاعرًا أنه ليس في حاجة إليه.

ب. المرأة الزانية، وهي تقلب الموازين، فتحول الحب إلى شهوات، والجسد خليقة الله الصالحة إلى أداة للذة مؤقتة، والقلب المتسع إلى الأنانية! إنها تلبس قناع الحب والعاطفة والبشاشة مع شفتين تقطران عسلاً... وتخفي في أعماقها سمًا قاتلاً للنفس وسيفًا ذي حدين. إنها صيادة ماهرة للنفوس الحمقاء التي تحمل صورة البساطة.

نرى في الإنسان الشرير استقلالاً عن الله، وفي الزانية نرى إفسادًا للحياة التقوية الدينية. وكما يكشف لنا سفر الرؤيا عن مملكة ضد المسيح في أواخر الدهور أنها ستحمل هاتين السمتين، لذا يدعوها "بابل العظيمة أم الزواني".

متى دخلت الحكمة إلى قلوبنا، وصارت موضوع لذتنا، لا ننخدع سريعًا، بل نصير حذرين، قادرين على تجنب الصحبة الشريرة وعدم مشاركتهم في سلوكهم الشرير. بمعنى آخر تقودنا الحكمة بعيدًا عن طريق الأشرار وتحفظنا من عالمهم وإغراءاتهم.

إذ تملك الحكمة على القلب وتسيطر على العقل تحفظهما ضد كل فسادٍ داخلي أو خارجي. تسحب عنا كل رغبة أو ميل نحو طريق الظلمة، إذ ندرك أن هذا الطريق غير مريح ولا آمن.

سبق فرأينا في الأصحاح الأول كيف يجد الأشرار لذتهم في ارتكابهم الخطية كما في إغراء الآخرين على ارتكابها. أما دور الحكمة فهو تقديس القلب والعقل والحواس، فتحفظ المؤمن من الشهوات الجسدية والإغراءات الزمنية، فيتجاوب الجسد والنفس معًا مع عمل روح الله القدوس.

إذ نحب الحكمة الإلهية ننعم بالعقل أو التمييز الذي يحفظ المؤمن بكليته، ويجعله قادرًا على أخذ قرارات حكيمة تنقذه من حبائل الأشرار. هكذا يتمتع المؤمن بحياة مصونة من كل جوانبها، هاربًا من الفساد الذي في العالم خلال الشهوة

"الفرحين بفعل السوء،

المبتهجين بأكاذيب الشر.

الذين طرقهم معوَّجة،

وهم ملتوون في سبلهم"

كما يفرح المؤمنون الحقيقيون بعطايا الله الحيّة، خاصة الحكمة والمعرفة والفهم، يفرح الأشرار بفعل السوء ويبتهجون بالكذب، لكن يوجد فرق بين فرح داخلي ينمو ويكمل في السماء، وآخر مؤقت ينقلب إلى مرارة وحزن.

بينما يُدعى طريق الرب مستقيمًا وآمنًا؛ إذا بطرق الأشرار معوَّجة تنحرف يمينًا ويسارًا عن الطريق المستقيم، مملوءة بالزوابع المحطمة للنفس.

ثالثًا: تحفظ المؤمن من حبائل النساء الفاسدات

"لإنقاذك من المرأة الأجنبية،

من الغريبة المتملقة بكلامها،

التاركة أليف (قائد) guide صباها،

والناسية عهد إلهها"

يُقصد بالمرأة الأجنبية هنا "المرأة الزانية"، إذ أقام الله شريعة خاصة بالمرأة الإسرائيلية التي تُمارس الدعارة، فإنها تخرج بطريقة تلقائية خارج إسرائيل. وكأن "المرأة الأجنبية" هنا يقصد بها المرأة التي جاءت من الأمم تُمارس الدعارة في وسط إسرائيل.

المرأة الزانية المتملقة hechelikah هي التي تقدم كلمات معسولة لطيفة. فالكلمة العبرية تعني لسانًا زلقًا ينطق بالكلمات كالزيت اللين. بينما الأشرار يُحاولون إغراء الغير بروح الطمع (11:1-19)، إذا بالزانيات يُحاولن إغرائهم بالشهوات الجسدية.

إن كانت الزانية رقيقة بكلماتها المعسولة، لكنها خائنة لمن أحبته وتزوجت به في صباها؛ تنسى عهدها معه كما تكسر عهدها مع الله إلهها. من طبعها الخيانة والغدر حتى في تعاملها مع أقرب من لها، بل ومع الله نفسه. لقد تعهدت أمام الله أن تتزوج رجلها، وأن تترك بيت أبيها، وتخضع بروح الأمانة لمن اختارته قائدًا لها في صباها الذي يحبها ويبذل ذاته لأجلها، وهي تخضع له في الرب.

هنا يربط سليمان الحكيم بين الحياة الزوجية والدخول في عهد مع الله، لأن الزواج أيضًا هو عهد يُقيمه الله نفسه بين الزوجين، ويكون شاهدًا وقاضيًا لهذا العهد المقدس. يقول القديس غريغوريوس النزينزي في اعتذاره لغيابه عن حضور حفل الزواج بين أولمبياس ونبروديوس: "بالرغم من مرضي أشارككم احتفالكم، إذ أربط أيدي العروسين معًا في يديْ الله

"لأن بيتها يسوخ (يميل) إلى الموت،

وسبلها إلى الأخيلة (الموتى)"

إن كانت الحكمة كما الجهل قد رُمز إليهما بامرأتين، لكن من الواضح أن الحديث هنا ليس مجازيًا، إنما يقصد المرأة الزانية، والتحذير منها واضح وصريح، حيث تضم من تغريه إلى بيتها، أي إلى الموت الأبدي، وتسير به في طرق الموتى، فلا يشتم رائحة حياة. هذا ما يدفع المؤمن الحقيقي إلى الهروب من الزنا، متجنبًا المرأة الزانية مهما كلفه الأمر بينما يسير الإنسان معها إلى بيتها، إذا به ينحدر تدريجيًا نحو الموت الأبدي، يشاركها طريق الخطية المدمّر. واضح أن كلمة "الموت" هنا لا تُعني الموت الذي يخضع له الجميع بل المصير الأبدي

"كل من دخل إليها لا يؤوب (يعود)،

ولا يبلغون سبل الحياة"

يُسرع الزنا بالإنسان منحدرًا به إلى طريق الموت بلا رجعة. بمعنى أن من سقط في حبائل الزنا مع شخص ما يصعب بل ويستحيل الخلاص منه، ما لم تتدخل نعمة الله الفائقة لتسنده وتهبه روح التوبة الصادقة. لهذا ينصح كثير من الآباء من يسقط في خطية الزنا ألا يلتقي مع من سقط معه، ولا يذهب إلى الموضع الذي ارتكب فيه الخطية، معلنًا بهذا رغبته الأكيدة وتجاوبه مع روح الله القدوس واهب التوبة والغفران والتقديس.

رابعًا: تدخل به إلى طريق الصالحين

"حتى تسلك في طريق الصالحين،

وتحفظ سبل الصديقين"

لا تقف عطايا الحكمة عند السلبيات كالحفظ من طرق الأشرار وإنقاذ المؤمن من النساء الفاسدات، لكنها تقدم ما هو إيجابي، وهو الدخول بالإنسان إلى طريق الصالحين. لأن المسيح "حكمة الله" يحمل مؤمنين ويدخل بهم إليه بكونه "الطريق". فيه يلتقي المؤمن مع رجال الله القديسين، ويدخل في صحبة الآباء والأنبياء والرسل وجميع القديسين، بل ويشارك السمائيين تسبيحهم وحبهم!

خامسًا: يسكن آمنًا في الأرض التي يُقتلع منها الأشرار

"لأن المستقيمين يسكنون الأرض،

والكاملين يبقون فيها،

أما الأشرار فينقرضون من الأرض،

والغادرون يستأصلون منها"

في ظل الشريعة الموسوية نال الأبرار مكافأتهم، وهي أرض كنعان الآمنة. أما في العهد الجديد فقد صارت هذه الهبات رمزًا لهبات سماوية روحية. فالمؤمن وإن لم ينل أرضًا مادية كمكافأة لبره في المسيح يسوع، إلا أنه يرى كل الأرض وهي للرب ولمسيحه صارت له. يعيش عليها مختفيًا في المسيح ملك السماء والأرض، ليملك معه. يقول مع الرسول بولس: "كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء". ويترنم مع داود النبي قائلاً: "كل ما يصنعه ينجح. ليس كذلك الأشرار، لكنهم كالعصافة التي تذريها الريح... لأن الرب يعرف طريق الأبرار، أما طريق الأشرار فتهلك" (مز3:1-6).

في رسالة القديس اكليمنضس الروماني إلى أهل كورنثوس يسألهم أن يعيشوا بالاستقامة، بروح الوحدة واللطف حتى يتمتعوا بهذا الوعد الإلهي، إذ يقول:

[يصيبنا ضرر ليس بالقليل، بل نصير في خطر عظيم، إن كنا في اندفاع نخضع لإغراءات الناس الذين يهدفون نحو إثارة نزاعات وفتن لكي يسحبوننا مما هو صالح.

لنكن لطفاء الواحد تجاه الآخر على مثال حِنوّ مراحم خالقنا ولطفه، إذ مكتوب "طيبوا القلب يسكنون الأرض، والكاملون يبقون فيها، أما العصاة فينقرضون عن وجهها
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 03, 2011 10:17 pm

الاصحاح الثالث

طريق الحكمة العملي

في الأصحاح الثاني تحدث سليمان الملك على مكاسب الحكمة وبركاتها، وفي هذا الأصحاح يُحدثنا عن الطريق العملي للحكمة. وفي نفس الوقت يؤكد الحكيم أن الذين يُطيعون وصايا الله ويقبلون القيادة الإلهية بتعرفهم على الله والصلاة بإيمان يجدون صحة لنفوسهم، وممارسات صالحة للجسد، ونجاحًا صادقًا في كل جوانب الحياة.

في كل غنى العالم لا يوجد تذوق للسعادة الفائقة كتلك التي تُقتنى في المسيح يسوع، الذي فيه تُذخر كل كنوز الحكمة التي تُوجد في معرفة الله ومحبته.

في هذا الأصحاح يُقدم الحكيم الخطوط العريضة للسلوك في طريق الحكمة من جهة علاقتنا بالله والناس، خاصة مرشدينا والفقراء والمحتاجين والمحيطين بنا، وأيضًا نظرتنا للمادة كما للضيقات الخ.

1. الطاعة طريق النعمة في أعين الله والناس1-4.

2. الاتكال على الله يقوِّم سبل الإنسان5-6.

3. الاتضاع يهب شفاءً للنفس والجسد7-8.

4. العطاء يهب غنى9.

5. قبول تأديب الرب ممارسة عملية للبنوة11- 12.

6. البحث عن الحكمة طريق الطوبى والغنى والمجد13-20.

7. المشورة طريق آمن21-26.

8. المحبة الأخوية واللطف27-30.

9. اللعنة والبركة31-35.


1. الطاعة طريق النعمة في أعين الله والناس

"يا ابني لا تنسى شريعتي،

بل ليحفظ قلبك وصاياي.

فإنها تزيدك طول أيام وسني حياة وسلامة"

يبدأ سليمان الحكيم بالكشف عن الطاعة كطريق الحكمة. ولعل المتحدث هنا هو سليمان كأبٍ روحيٍ ومرشدٍ، أو المتحدث هو "الحكمة" أي "السيد المسيح". على أي الأحوال الطاعة هي مشاركة للسيد المسيح في طبيعته: "إذ أطاع حتى الموت موت الصليب" (في8:2). ونحن إذ نثبت فيه كأعضاء جسده نحمل روح الطاعة لله ولوصيته ولرجاله ولمن يقودنا في الرب، بل ونجد عذوبة في ممارسة الطاعة حتى لمن هم أصغر منا أو أقل منا في المعرفة ما دامت "في الرب”. لقد بكى القديس باخوميوس وناح زمانًا في توبةٍ لأنه لم يطع كلمات ابنه الروحي تادرس، إذ كان الأخير مسئولاً عن مخازن الملابس وطلب من أبيه أن يستبدل ثوبه الرث بثوبٍ جديدٍ، فرفض الأب... لكنه ندم على عدم طاعته لابنه!

في اختصار يدعو سليمان تلميذه بروح الأبوة الحانية، سائلاً إياه أن يتذكر شريعة أبيه الروحي، بل شريعة الرب التي ينطق بها أبوه. يرددها دائمًا في أعماقه وعلى لسانه حتى لا ينساها، ويُمارس ما يتذكره لكي تُحفظ بالأكثر داخل القلب. وكأنه يقول له: "لست أطلب فقط أن تتذكرها بفكرك، وتحفظها عن ظهر قلبك، لكن ما هو أهم أن تنقشها في قلبك وتمارسها. بهذا تدخل الوصية إلى القلب لا لكي يغلق عليها كجوهرة ثمينة يلزم إخفائها فحسب، وإنما لكي تملك عليه وتقوده في الطريق الملوكي، وتدخل به إلى حضن الله نفسه. هكذا يقتني القلب "حكمة الله"، السيد المسيح، واهب كل الكنوز والغنى، حاملاً شركة طبيعة الطاعة اللذيذة التي له.

في صلاة نصف الليل نردد ما يقوله داود النبي: "خبأت كلامك في قلبي لكي لا أخطئ إليك" (مز11:119). كما نردد دومًا ما قيل عن الكاهن الشاب عزرا: "لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليُعلِّم إسرائيل فريضة وقضاءً" (عز10:7).

عندما نسمع: "فإنها تزيدك طول أيام وسني حياة وسلامة"، لا نشتهي البقاء على وجه الأرض، وإن كان ذلك عطية إلهية صالحة، لكننا نطلب زيادة طول أيامنا المثمرة. كثيرون بقوا أحياء حتى بعد موتهم، وبقيت سيرتهم وصلواتهم وكلماتهم عاملة في حياة الناس، فهم وإن ماتوا لكنهم يعملون خلال نعمة الله التي قُدمت لهم.

يقول الحكيم: "سني حياة"، لأن البعض يعيشون "سني موت". ربما تطول أيام غربتهم على الأرض إلى عشرات السنوات، لكنها سنوات موت، لا تحمل حياة ولا حبًا، وجودهم على الأرض كعدم وجودهم...

أما عن السلامة فيطلب المؤمن "سلام" القلب الداخلي، حتى وإن أحاطت به النيران من كل جانب، فيمارس مع الثلاثة فتية تسبيحهم وهو في أتون النار.

بالطاعة في الرب، النابعة من القلب نسلك الطريق الملوكي، طريق الرحمة والحق.

"لا تدع الرحمة والحق يتركانك،

تقلدهما على عنقك"

بقوله: "لا يتركانك" واضح أنه لا يتحدث عن مجرد سمتين، بل عن علاقة شخصية مع الرحمة والحق اللتين في الواقع هنا أقنوم الكلمة الإلهي الذي يود ألا يتركنا ولا نتركه.

مسيحنا هو الطريق، نقتنيه فنحمل روح الحب والرحمة واللطف، هذا الروح الذي يسلك في الحق بلا انحراف يمينًا أو يسارًا. ففي حبنا نحمل الحق، وفي تمسكنا بالحق نمارس الحب. فالحب بدون الحق يتحول إلى ميوعة قاتلة للنفس كما للغير. والحق بلا حب يولد غضبًا يفسد العينين. الحب الصادق هو جانب آخر للحق، والحق الصادق هو الوجه الآخر للحب!

إذ نمارس الرحمة والحق تتحول الوصايا التي تبدو ثقيلة للغاية، وأحيانًا مستحيلة إلى قلادة ثمينة وجميلة تتزين بها عنق النفس بكونها أميرة سماوية، كما حدث مع يوسف في بيت فوطيفار (تك41:41) لذا يقول: "تقلدهما على عنقك"

وصيتا الرحمة والحق تدخلان إلى الأعماق، وهناك تُنقشان على لوحيْ القلب، فلا تستطيع الأحداث أن تميل بالمؤمن إلى جانب أو آخر، بل يسلك باستقامة. لذا قيل: "اكتبهما على لوح قلبك"

يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على القول: "لا تدع الرحمة والحق يتركانك"، قائلاً بأن علاقتنا بالله ووصاياه ليست علاقة مؤقتة لفترة قصيرة، إنما نتمسك بالرحمة والحق على الدوام بلا انقطاع ولا نتركهما قط فلا يتركانا، فإننا في حاجة إليهما على الدوام.

* يليق بنا أن نسر الله ليس مرة واحدة، بل على الدوام. الذي يدخل في سباق إن جرى عشرة أشواط وتوقف عن الجريّ آخر مسافة يفقد كل ما فعله. ونحن إن بدأنا الأعمال الصالحة ثم تهاونّا، نفقد كل ما صنعناه، ونفسد كل شيء.

لتصغِ إلى النصيحة النافعة: "لا تدع الرحمة والحق يتركانك". لا يقول افعل هذا مرة واحدة، أو مرتين أو ثلاث أو عشرة أو مائة مرة بل "لا تدعهما يتركانك"، مظهرًا أننا في حاجة إليهما، وليس هما في حاجة إلينا. إنه يُعلمنا أنه يجب أن نبذل كل الجهد لنحفظهما معنا

* لنطعهما الآن، ليس يومًا واحدًا، ولا ثلاثة أيام، بل يقول الحكيم: "لا تدع الرحمة والحق يتركانك". لم يقل: "لمرة واحدة أو مرتين". وكما نعرف كان لدى العذارى زيت يبقى معهن إلى النهاية (مت3:25،Cool. هكذا نحن في حاجة إلى زيت كثير، فنكون كشجرة الزيتون الخضراء في بيت الرب (مز8:52)

القديس يوحنا الذهبي الفم

تُوضع وصيتا الرحمة والحق حول العنق كي تكونا موضع نظرنا، لا نتجاهلهما قط، كما تُنقشان على لوح القلب كي تمتصا كل مشاعرنا وتملكا على أحاسيسنا؛ نشعر بهما بقلوبنا كما نراهما بعيوننا الداخلية.

أما ثمرة الطاعة التي تدخل بنا إلى هذا الطريق فهي: "تجد نعمة وفطنة صالحة في أعين الله والناس" يُسر الله بنا ويهبنا فهمًا مقدسًا أكثر فأكثر، وإن قاومنا البعض لكن كثيرين يكرموننا ويطلبون مشورتنا.

هكذا يحثنا الحكيم لكي نجاهد في التصاقنا بالرحمة والحق بنعمة الله على الدوام حتى نبلغ الكمال. ففي حديث الطوباوي إكليمنضس عن البتولية تحدث عن ضرورة الجهاد المستمر بلا توقف لبلوغ الفضيلة الكاملة، ولا يقف البتوليون عند مظهر البتولية.

* يليق بكل البتوليين من الجنسين من الذين بالحق عقدوا العزم لحفظ البتولية من أجل ملكوت السموات - كل واحدٍ منهم - أن يكون مؤهلاً لملكوت الله في كل شيء. فإنه ليس بالبلاغة ولا بالشهرة، أو بالمركز ، أو الأصل، أو الجمال أو القوة، ولا بطول الحياة نبلغ ملكوت السموات، إنما نناله بقوة الإيمان عندما يظهر الإنسان أعمال الإيمان. فمن كان بالحق بارًا أعماله تشهد لإيمانه، إنه بالحقيقة يؤمن، بإيمان عظيم، إيمان كامل، إيمان بالله، إيمان يشرق في أعمال صالحة، فيتمجد أب الكل في المسيح.

الآن الذين هم بالحقيقة بتوليون من أجل الله يخضعون للقائل: "لا تدع الرحمة والحق يتركانك، تقلدهما على عنقك. فتجد نعمة وفطنة صالحة في أعين الله والناس"

القديس اكليمنضس الروماني

أخيرًا بقوله: "لا تدع الرحمة والحق يتركانك" يدعونا أن نكون في رفقتهما الدائمة، فهما صديقان مخلصان نحتاج إلى صحبتهما المستمرة. بل هما صديق واحد، شخص السيد المسيح "الرحمة والحق"، نتمسك به، قائلين مع العروس التي جاهدت تبحث عنه فوجدته وأمسكت به ولم تُرْخِه (نش4:3). التصقت به كمن هو عريسها وحدها، قائلة لمن حولها: "أُحَلِّفَكُنَّ يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقل ألا تيقظْنَ ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء" (نش5:3).


2. الاتكال على الله يُقوِّم سبل الإنسان

"توكَّل على الرب بكل قلبك، وعلى فهمك لا تعتمد.

في كل طرقك أعرفه، وهو يقوِّم سبلك"

هذه هي أهم الوصايا، ترتبط بإيماننا بالله مصدر كل الخيرات، محب البشر والأب السماوي القدير والحكيم المهتم بنا، حتى بالأمور الصغيرة، يَعِد ويفي بوعده لنا. يليق بنا أن نثق في الرب بكل قلوبنا، فإنه يريد أن يقدم لنا ما هو أفضل، وقادر على ذلك. من يعرفون أنفسهم يُدركون أن فهمهم - بدون العون الإلهي - أشبه بقصبة مكسورة، إن اتكأوا عليها فشلوا. لذلك يليق بنا ألا نُخطط أمرًا ما إلا بما يتناغم مع الوصية الإلهية، طالبين من الله مشورته، كما نطلبه أن يقدس فكرنا ويقود سلوكنا. حقًا إن من يتكل على فهمه وخبراته وقدراته بغير العون الإلهي يكون غبيًا!

في كل طرقنا الخاصة والعائلية والخاصة بالعمل أو المجتمع المحيط بنا يليق بنا أن نعرف الله قائدًا لنا، فنخضع له، ونُعلن سرورنا بتتميم إرادته ووصاياه، حينئذ يوجه هو طرقنا ويُقوِّمها، فنعيش في سلام وسعادة، مفصلين كلمته في حياتنا باستقامة (1تي15:2).

نعرفه قائدًا لنا في بداية كل طريق نسلكه، مرافقًا لنا طوال رحلتنا، يتحدث معنا ونحن معه بلا انقطاع، ويعبر بنا حتى النهاية، عندئذ نقول مع تلميذيّ عِمْواس: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟!" (لو22:24).


3. الاتضاع يهب شفاءً للنفس والجسد

لا يمكننا ممارسة الطاعة ولا ننعم بالاتكال على الرب بطريق آخر غير الاتضاع، لذا يقول:

"لا تكن حكيمًا في عينيّ نفسك.

اتق الرب وابعد عن الشر،

فيكون شفاءً لسرتك، وسقاءً لعظامك"

الحكمة التي يهبها الله لنا تعطي ليس فقط شفاء للنفس وحدها، وإنما تقدم بركة خاصة للجسد، فينعم الإنسان بالشفاء لسرته أي لأمراض بطنه الخفية، كما تكون نخاعًا خفيًّا في داخل عظامه أي لهيكل جسمه، أو لقوته الجسمية. حينما نكرم الرب بروح الاتضاع يتقدم إلينا كطبيب لأنفسنا وأجسادنا يعمل في أعماقنا الخفية ليهبنا الحياة والنمو والقوة.

يشير الحكيم إلى شفاء السُرّة، لأن المؤمن يحسب نفسه كجنين في رحم الكنيسة أمه، لم يكتمل بعد نموه الروحي. إنه لا يتقبل الطعام بفمه أو بعضو آخر، إنما يتمتع بالحياة والنمو خلال حبل السُرّة، يكشف عن عمل الله معه خلال الكنيسة. بدون هذا العمل الإلهي يموت الجنين ولا يولد. هكذا بغير الحكمة الإلهية تموت النفس ولا يكون لها وجود في السماويات.


4. العطاء يهب غنى

"اكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلَّتك،

فتمتلئ خزائنك شبعًا،

وتفيض معاصِرك مِسْطارًا"

في العهد القديم كان المؤمنون يُقدمون البكور، أي بكور القطعان وبكور المحاصيل في وقت الحصاد. يُقدمونها في هيكل الله في يوم الخمسين (عد26:28). بهذا يُعلنون شوقهم نحو تقديم كل ما يملكونه لله، مكرمين الرب بكل قلوبهم ومن ممتلكاتهم وأعمالهم وأموالهم. لقد أعلن لشعبه أن الأرض بكاملها هي له، لهذا جاءت الوصية تؤكد ألا يبيعوا الأرض إلى الأبد، فإنها ملك لله (لا23:25). هكذا يشعر المؤمن انه قد تسلم أرض قلبه من يديْ الله، كما تسلم شعب إسرائيل أرض كنعان. إننا لا نكتفي بتقديم المتكأ الأول لله في القلب، بل نسلمه القلب كله، لنستلمه من جديد من يديه كوكلاء أمناء على ما هو له!

يحذرنا العهد الجديد من توقعنا أن يُكافئنا الله ببركات مادية مقابل تقوانا (1تي3:6-6). فإن الله لا يريد أن يستأجر المسيحيين، إذ لا يريدهم أُجراء، بل أبناء له على شبه السيد المسيح، وذلك في الحب والقداسة والطهارة. يريدنا أن نطلبه لأجل ذاته لا ليقدم لنا مكسبًا جسديًّا أو ماديًّا. مكافأة الطاعة لله هي الالتصاق به، والتمتع باتحاد أعمق معه، وسُكناه في داخلنا (يو15:14-18، 21-31). كما يريدنا أن نقتنع بما يمدنا به ولا نطمع فيما هو أكثر (1تي6:6).


5. قبول تأديب الرب ممارسة عملية للبنوة

"يا ابني لا تحتقر تأديب الرب، ولا تكره توبيخه،

لأن الذي يحبه الرب يؤدبه وكأبٍ بابنٍ يُسر به"

اقتبس الرسول بولس هذه العبارة في رسالته إلى العبرانيين ليربط بين تأديب الرب والبنوة له، قائلاً: "قد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين: يا ابني لا تحتقر تأديب الرب، ولا تخر إذا وبخك، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله. ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه (في التأديب) فأنتم نغول لا بنون" (عب5:12-Cool.

يقدم الرسول الحقائق التالية:

1. يقبل المؤمن كل ضيقة كتأديب من الرب وليس من الناس، فإن الله يؤدب من واقع طبيعته بكونه "الله محبة"، مؤكدًا طبيعته التي تشع علينا بالحب مهما بدا التأديب قاسيًا. إن أيّ تأديب، وإن صدر من قلب حنون، يُحسب قاسيًا إن قورن بالتأديب الإلهي. الرب يؤدب حسبما يرى فيه بنياننا وقدر ما نحتمل!

2. إن قبلنا التأديب بلا شكر يتحول إلى توبيخ مرّ فنخور. وكأن ما يحل بنا من متاعب يتوقف إلى نظرتنا للتأديب الإلهي، فالنظرة الخارجة من قلب بنوي يرى في التأديب بنيانًا فتتهلل نفسه، أما المتذمر فيرى فيه توبيخًا مرًا.

3. جميع الأبناء شركاء في التأديب... بدونه يكون الإنسان ابنًا غير شرعي (من النغول)!

الله في محبته الأبوية يفتقدنا أحيانًا بالضيقات والأمراض لأجل بنياننا لكي يجعلنا حكماء وصالحين. أما من جانبنا فإذ نُدرك بنوتنا له لا ننهار أمام التجارب، مهما ثقلت أو طال زمانها. لا نيأس قط ولا نُخطئ، بل ننتظر خلاص الرب بشكر.

الله لا يضرب بالسياط أبناء الشيطان، إنما يلطم أبناءه هو. فإن حلول التأديبات شهادة صالحة أنك تنتمي إليه، إذ يقول أليفاز التيماني في حديثه مع أيوب أثناء تجربته: "هوذا طوبى لرجل يؤدبه الله، فلا ترفض تأديب القدير، لأنه هو يجرح ويعصب، يسحق ويداه تشفيان. في ست شدائد ينجيك، وفي سبعٍ لا يمسك سوء" (أي17:5-19).

توجه الكلمات: "يا ابني لا تبتعد عن تأديب الرب" إلى إرادة الإنسان الحرة. قال الرب: "طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" (لو32:22)، حتى يستند الإنسان بالنعمة

القديس أغسطينوس

يعلمنا أن نشكر ونفرح أكثر فأكثر عندما نُحسب أهلاً للتأديب. يقول: "الذي أُحبه أؤدبه". يا لك من خادم طوباوي، إذ يهتم الرب بإصلاحك. إنه يتنازل ويغضب معك! إنه لا يخدعك فيخفي توبيخاته!

في كل الأحوال يلزمنا أن نرتبط بالالتزام بالصبر، سواء كانت (التجارب) بسبب أخطائنا أو صادرة عن شباك العدو، أو هي توبيخات من قبل الرب. فإن مكافأة هذا الواجب (الصبر) عظيمة، ألا وهي السعادة. لأنه من هو هذا الذي يدعوه الرب سعيدًا إلا الصابر، قائلاً: "طوبى للمساكين بالروح، فإن لهم ملكوت السموات"

العلامة ترتليان

هكذا تأديب الحكمة ("لأن الذي يحبه الرب يؤدبه" يسبب آلامًا لكي تجلب فهمًا وترد السلام والخلود

القديس اكليمنضس السكندري

إن كان الله يوبخ من يحبه، ويوبخه بقصد إصلاحه، هكذا فإن الاخوة، خاصة الكهنة، لا يكرهون من يوبخونهم بل يحبونهم، وذلك لأجل إصلاحهم. فإن الله أيضًا سبق فأنبأ خلال إرميا مُشيرًا إلى وقتنا هذا، قائلاً: "وأعطيكم رعاة حسب قلبي فيرعونكم بطعام التأديب" (إر15:3)

القديس كبريانوس

التوبيخ هو إحضار الخطية ووضعها أمام الشخص. هذا النوع من التعليم ضروري إلى أعلى الدرجات، وذلك بسبب ضعف إيمان الكثيرين... يستخدم الله لغة الألم والضرب التي للتوبيخ مع تقديم تعزياته بواسطة سليمان، فيلمح إلى المحبة بطريقة خفية نحو الأبناء الذين يتفاعلون مع تعليمه. "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب...". "الإنسان الخاطئ يهرب من التوبيخ" (ابن سيراخ 21:32). لهذا يقول الكتاب: "ليُوَبخني البار ويردني، أما زيت الخاطئ فلا يدهن رأسي"

القديس اكليمنضس السكندري

اسمع كلمات داود: "خير لي أنك أذللتني لكي أتعلم فرائضك" (مز71:119). ويقول نبي آخر: "جيد للرجل أن يحمل النير في صباه" (مرا 27:3). وأيضًا: "طوبى للرجل الذي تؤدبه يا رب" (مز12:94). وآخر يقول: "لا تحتقر تأديب الرب" (أم11:3). وأيضًا: "إن تقدمت لتخدم الرب أعدد نفسك للتجربة" (ابن سيراخ 1:11). كما قال السيد المسيح لتلاميذه: "في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن افرحوا" (يو33:16).

وأيضًا: "أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرح" (يو20:16). وأيضًا: "ما أضيق الباب" (مت14:7). أرأيتم كيف تُمتدح الضيقة في كل موضع؟!

القديس يوحنا الذهبي الفم

ليُنصح المرضى أنهم يدركون بأنهم أبناء الله عندما يُجلدون بسياط التأديب. لأنه لو لم يهدف الله إلى إعطائهم ميراثًا بعد إصلاحهم لما كان يهتم بتثقيفهم بالأحزان. لهذا يقول الرب ليوحنا بواسطة الملاك: "من أُحبه انتهره وأؤدبه" (رؤ19:3؛ أم11:3). كُتب أيضًا: "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب، ولا تخُر إذا وبّخك، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله" (عب5:12،6). يقول المرتل: "كثيرة هي أحزان الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب" (مز20:33). أيضًا يصرخ أيوب الطوباوي في حزنه ويقول: "إن تبرَّرت لا أرفع رأسي، إني شبعان هوانًا وناظر مذلتي" (أي15:10).

ليُقال للمرضى إنهم إن كانوا يؤمنون بالمدينة السماوية أنها مدينتهم، فإنهم يحتاجون أن يحتملوا أتعابًا في هذه المدينة كمن هم في أرضٍ غريبة. فإن كان يلزم ضرب الحجارة بالفأس في الخارج حتى تُوضع بدون صوت الفأس في مبنى هيكل الرب، هكذا أيضًا نحن الآن نُضرب بالسياط من الخارج حتى نوضع فيما بعد في مواضع داخلية بدون ضربات التأديب، في هيكل الله.

في النهاية تُنتزع هذه الضربات ما هو غير نافع ولا ضروري، وخلال وحدة الحب وحدها نرتبط معًا في البناء

الأب غريغوريوس (الكبير)

الآن يُعاقب الله بغضب ذأبناء الغضب، لكنه يُعاقب (يؤدب) برحمة أبناء النعمة

القديس أغسطينوس


6. البحث عن الحكمة طريق الطوبى والغنى والمجد

"طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة،

وللرجل الذي يجد الفهم"

يليق بالمؤمن أن يطلب الحكمة ويجد في البحث عنها ويسأل الرب لاقتنائها، فإنها تهب الحياة المُطوبة، كما تُقدم له الغنى والمجد الحقيقيين الدائمين.

يقول "طوبى"... لأن التمتع بالحكمة يجعلنا ننعم بالاتحاد مع الآب في ابنه بالروح القدس. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). هذه الحياة الجديدة هي شركة في الحياة الإلهية التي تستحق التطويب. لقد افتتح السيد المسيح عظته على الجبل بالدعوة إلى التمتع إلى هذه الحياة المُطوبة، مكررًا الكلمة "طوبى..." (مت5). فقد خلقنا الله لكي نختبر هذه الحياة المًطوبة التي ننالها في كمال صورتها في الحياة الأخرى.

يرى الحكيم أن البحث الجاد عن الحكمة أشبه بعمل تجاري أو مشروع خطير يُقدم عليه المؤمن لينال ربحًا. فالمؤمنون هم مستثمرون يتطلعون إلى مكاسب روحية.

يُقارن الحكيم بين الحكمة وما تجلبه من مكاسب وبين المشاريع الزمنية وما تجلبه من غنى، مؤكدًا أن الجواهر الثمينة وكنوز الأرض لا تُقارن بالحكمة الإلهية الحقيقية. فالأولى زمنية مؤقتة وأما الثانية فأبدية. الأولى هي تمتع ببعض العطايا أما الثانية فهي اقتناء واهب العطايا وخالق الكل. حقًا طوبى لمن يجد السيد المسيح، الذي هو الحكمة، يقود بروحه القدوس في حياتنا اليومية.

"لأن تجارتها خير من تجارة الفضة،

ربحها خير من الذهب الخالص"

هي أثمن من اللآلئ، وكل جواهرك لا تساويها"

هذه العبارة عينها من بين عبارات كثيرة خلالها يُمارس المستثمرون الروحيون حقهم في الخيارات من ذلك نمارس هذا الحق كأحرار مستندين على غنى نعمة الله.

"خذوا تأديبي لا الفضة، والمعرفة أكثر من الذهب المختار،

الحكمة خير من اللآلئ وكل الجواهر لا تساويها" (11:Cool.

"القليل مع مخافة الرب خير من كنز عظيم مع هوان،

أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بفضة" (16:15،17).

"ثمري (ثمر الحكمة) خير من الذهب ومن الإبريز،

وغلتي خير من الفضة المختارة" (19:Cool.

"تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين" (19:16).

"البطيء الغضب خير من الجبار، ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة" (32:16).

"لقمة يابسة ومعها سلامة خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام" (1:17).

"الفقير السالك بكماله خير من ملتوي الشفتين وهو جاهل" (1:19).

"الصيت أفضل من الغنى العظيم، والنعمة الصالحة أفضل من الفضة والذهب" (1:22).

"التوبيخ الظاهر خير من الحب المستتر" (5:27).

تعلن الحكمة: "طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة، والقابل الموت الذي يرى الفهم، فمن يخرج البر، ولسانها يحمل الناموس والرحمة" [13، 16 LXX]. فإن الناموس والإنجيل كلاهما عمل الرب الواحد، الذي هو رحمة لأن فيه خلاصنا

القديس إكليمنضس السكندري

يقول المرتل: "ناموس فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة" (مز 72:119). ويتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: هل كان القديس بطرس فقيرًا حينما لم يكن له ذهب ولا فضة ليعطي المقعد؟

هذا يعنى خير لي الناموس الصادر عن فمك؛ الذي هو المسيح. إني أستهين بالقطع الذهبية والفضية البَّراقة لكي أتلذذ بناموس فمك وأتنعم به.

يمكننا القول بأن "ناموس الفم" هو ترتيب الكلمات الصادرة عن فم الله: الكلمات الأولى قيلت للمبتدئين، بينما الكلمات التالية قيلت لمن تسلم الأولى حتى يبلغوا الكمال

العلامة أوريجينوس

يقول النبي أنه بالنسبة له خير له شريعة فم اللَّه أكثر من كل شهوات العالم، مشيرًا إلى الشهوات بالقطع الذهبية والفضية البَّراقة

القديس أغسطينوس

بالتفسير الرمزى، الفضة تمثل العقل، والذهب يشير إلى الروح، فمع وجود آلاف من القطع الذهبية والفضية التي يستخدمها المجادلون بحكمة العالم في مدارس الفلسفة، إلا أن الذي يعيش الحكمة الإلهية والحق الإلهي يقول: "ناموس فم الرب خير لي". حقًا إن الناموس الصادر عن فم اللَّه هو وحده الذي يمكنه أن يقدم المكسب الحقيقي للذين يتمسكون به

القديس ديديموس الضرير

ألوف الذهب أو الفضة قد تضيع أو تُسرق أو تسبب خطرًا على حياة صاحبها، أما ناموس فم الرب فيقدم غِنى ثابتًا إلى الأبد، لا يستطيع أحد أن ينتزعه منا.

يستخدم القديس إكليمنضس السكندري العبارة السابقة في توجيه النساء اللواتي ينشغلن بثقب آذانهم لوضع "حلقان" ثمينة للغاية فيها، ووضع مساحيق خاصة بزينة العينين، موضحًا أن استماع الأذن لصوت الحكمة أمر طبيعي وثمين أفضل من كل الجواهر، وانفتاح العينين لرؤية الإلهيات والمقدسات هو الجمال الحقيقي، حيث يرى المؤمن ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر.

لا تدعن آذانكن تُثقب على خلاف الطبيعة، لكي تلتصق بها "حلقان"، وتتدلى منها. فإنه لا يليق إلزام الطبيعة على عمل ما يضادها. ولا يمكن وجود حُليّ تزين الأذن أفضل من التعليم الذي يجد طريقًا طبيعيًا في ممرات السمع.

دهْن العيون بالكلمة وثقْب الآذان بالوصية يجعل من الإنسان مستمعًا ومتأملاً في الأمور الإلهية والمقدسات، فيُعلن الكلمة الجمال الحقيقي: "ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن" (1كو9:2)

القديس اكليمنضس السكندري

"في يمينها طول أيام،

و"في يسارها الغنى والمجد،

ومن فمها يخرج البرّ،

ولسانها يحمل الناموس والرحمة" (الترجمة السبعينية)

زينة يدها اليمنى هي امتداد الأجيال حيث يقول الكلمة :"في يمينها طول أيام".

وفي يسارها غنى الفضائل الثمينة مع بهاء المجد، "في يسارها الغنى والمجد"

يتحدث بعد ذلك سليمان عن رائحة فم العروس الذكية التي تبعث رائحة البرّ الصالحة:

"من فمها يخرج البرّ (الترجمة السبعينية)"

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

يري بعض الآباء أن اليد اليمنى هنا تشير إلى الخيرات والأمجاد الأبدية، بينما اليد اليسرى تشير إلى البركات الزمنية على الأرض، لهذا تترنم العروس في النشيد قائلة: "شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني" (نش 6:2)، هذا هو صوت الكنيسة الحيّ التي تطلب الأمجاد الأبدية كيدٍ يُمنى تحتضنها، أما البركات الزمنية فلا تنشغل بها كثيرًا.

تقول الكنيسة بصوت المختارين: "شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني" (نش 6:2).

اليد اليسرى لله تعني الخيرات الوفيرة في الحياة الحاضرة، تضعها الكنيسة تحت رأسها لكي تضغط عليها من أجل حبها السامي.

أما اليد اليمني لله فتحتضنها، لأنها في تكريسها الكامل تُشمل بالبركات الأبدية. لهذا مرة أخرى يقول سليمان إن طول الأيام (الأبدية) في يمينها، وأما في يسارها فالغني والمجد

بحديثه عن الغنى والمجد أنهما موضوعان في يسارها أظهر بأية طريقة نتطلع إليهما. لهذا يقول المرتل: "خلصني بيمينك" (مز 7:117). إذ لم يقل "بيدك"، بل "بيدك اليمنى"، لكي يشير باليمنى إلى الخلاص الأبدي الذي يبحث عنه. مرة أخرى كُتب: يمينك يا رب تحطم العدو" (مز 6:15)، لأن العدو وإن كان مزدهرًا في يد الله اليسرى إلا انه يتحطم في يده اليمنى، لأنه كثيرًا ما يرتفع الأشرار في الحياة الحاضرة، لكن مجيء البركات الأبدية (في يوم الرب العظيم) يدينهم

البابا غريغوريوس (الكبير)

جاء في الترجمة السبعينية "لسانها يحمل الشريعة والرحمة"، ويعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة قائلاً:

هكذا بخصوص حكمة (الله) قيل: "لسانها يحمل الشريعة والرحمة". الشريعة التي تحكم على المتكبرين، والرحمة التي تبرر المتواضعين

لسنا نُبطل الناموس بالإيمان، بل نثبّته (رو3:3)، فالخوف يقود إلى الإيمان. هكذا بالتأكيد ينشئ الناموس غضبًا، حتى تهب مراحم الله نعمة للخاطي، فيرتعب ويتحول إلى تحقيق برّ الناموس بيسوع المسيح ربنا الذي هو حكمة الله التي قيل عنها: "لسانها يحمل الناموس والرحمة".

بالناموس تخيف، وبالرحمة تعين.

قُدم الناموس خلال عبيده، وأما الرحمة فيقدمها بنفسه.

كان الناموس كعصا إليشع (2مل 29:4 الخ) بُعث بها لإقامة ابن الأرملة، ففشلت في إقامته. "لأن لو أُعطي ناموس قادر أن يُحي لكان بالحقيقة البرّ بالناموس" (غلا 21:3). أما الرحمة فكانت كاليشع نفسه، الذي حمل رمز المسيح؛ وبتقديمه الحياة للميت ارتبط بسرٍّ عظيم كما بالعهد الجديد

عندما قيل: "لنحب بعضنا بعضًا"، هذا ناموس! وعندما يُقال: "لأن المحبة من الله" هذه نعمة!

فإن لسان حكمة الله يحمل الناموس والرحمة. لهذا جاء في المزمور: "الذي يعطي الناموس يهب أيضًا البركات" ( راجع مز 6:84)

القديس أغسطينوس

"طرقها طرق نِعمْ، وكل مسالكها سلام"

الحكمة ليست فقط كنزًا، نقتنيها باقتنائنا خالق الكنوز، لكنها أيضًا تحمل نوعًا من الأبوة أو من الوالدية، تحمل المؤمنين كأطفال صغار، ليتكئوا على صدرها، وتسير بهم في الطريق الملوكي، حيث ينعم المؤمنون بالبركات السماوية والسلام الفائق.

هي شجرة حياة لممسكيها،

والمتمسك بها مغبوط"

هكذا تدعونا الحكمة للتسلق عليها كشجرة حياة، تُقتطف منها ثمار الروح، فتُمارس الحياة المغبوطة أو المطوَّبة.

إن كانت الحكمة هي شجرة حياة فإنه لن يتمتع بثمرها الكسالى والمتراخون. هي عطية إلهية مجّانية تُقدم للنفس المشتاقة إلى التمتع بها والجهاد من أجل نوالها. هي شخص المسيح الذي يود تقديم ذاته لنا، لكن بتراخينا نَحرم أنفسنا منه.

يؤكد البعض بأن النبي إشعياء أشار إلى هذه الأيام الخاصة بشجرة الحياة بكونها الزمن الحاضر لكنيسة المسيح، وأنه قد سبق التنبوء عن المسيح نفسه بأنه شجرة الحياة، لأنه هو الحكمة، عنها يقول سليمان: "هي شجرة حياة لكل من يحتضنها"

بحق قيل عن (الحكمة): "هي شجرة حياة لممسكيها". كما كانت هناك شجرة واحدة في الفردوس المادي هكذا توجد شجرة أخرى للفردوس الروحي. الواحدة تُقدم قوة لحواس الإنسان الخارجي والأخرى للإنسان الداخلي

القديس أغسطينوس

يُعلمنا سليمان النبي ما هي شجرة الحياة هذه وذلك في حثِّه بخصوص الحكمة. إنها شجرة حياة لكل ممسكيها والمتكئين عليها. هذه الشجرة حيَّة، ليس فقط حية بل بالأكثر يقودها العقل، بمعنى تقدم ثمرًا ليس بطريقة اعتباطية ولا في غير أوانٍ، بل في أوانها. هذه الشجرة مغروسة على مجارى المياه في منطقة ملكوت الله، أي حتمًا في الفردوس، وفي الموضع حيث ينبع المجرى وينقسم إلى أربعة أنهار

القديس هيلاري أسقف بواتييه

لأن شجرة الحياة هي الحكمة المولودة قبل الكل. "هي شجرة حياة لممسكيها"، كما يقول النبي، "والمتمسك بها مُطوَّب". إنها شجرة مغروسة على مجاري المياه، تُعطي ثمرها في حينه"، بمعنى أن التعليم والمحبة والتمييز يُقدمون من مخازنها في حينه للذين يأتون إلى مياه الخلاص.

من لا يؤمن بالمسيح، ولا يفهم أنه هو الأساس الأول وشجرة الحياة، ولا يستطيع أن يُظهر لله خيمته مزينة بأفضل الثمار كيف يمكنه أن يحتفل بالعيد؟ كيف يفرح؟ ألا يشتهي ثمر الشجرة الصالح؟ لتُدرك كلمات ربنا يسوع المسيح كيف يصيرون مسرورين أكثر من بني البشر

الأب ميثوديوس

"الرب بالحكمة أسس الأرض.

أثبت السموات بفهم"

ينسب سليمان كل عناصر الخليقة إلى قوة الحكمة، ويزينها بأسماء كثيرة، فإنه يقصد بالحكمة والتعقل والإدراك والمعرفة والفهم وما أشبه ذلك نفس الشيء

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

إن كان الله هو ينبوع الحكمة والحياة، ويُدعى هكذا، كما قيل في إرميا: "تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة" (إر13:2)؛ وأيضًا: في سفر باروخ: "تركتم ينبوع الحكمة" (با12:3)، هذا يستدعي أن الحياة والحكمة ليسا غريبين عن جوهر الينبوع، بل هما لائقان به، ولم يكونا قط غير موجودين، بل موجدان على الدوام. الآن الابن هو كل هذا، هذا الذي يقول: "أنا هو الحياة" (يو6:14)، "أنا الحكمة أسكن مع التعقل". أليس من الخطأ أن تقول بأن الابن لم يكن موجودًا في وقتٍ ما؟ لأن هذا يعني أن الينبوع كان في وقتٍ ما جافًا، وخالٍيًا من الحياة والحكمة. يا له من تهور! فإن الله يَعِد الذين يتممون إرادته أنهم يصيرون كينبوع لا ينضب، قائلاً بإشعياء النبي: "يُشبع في الجدوب نفسك، ويُنشِّط عظامك، فتصير كجنة ريَّا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه" (إش11:58)، ومع أن "ينبوع الحكمة" يُدعى هكذا، أنت تهينه كمن هو عقيم لا يحمل حكمته؟!

إن تعاليم (الأريوسيين) باطلة، فإن الحق يشهد أن ينبوع حكمة الله سرمدي، وإن كان الينبوع سرمديًّا يلزم أن تكون الحكمة سرمدية. فإنه فيها خُلقت كل الأشياء كقول داود في المزمور: "في الحكمة خلقت الكل" (مز24:104)، ويقول سليمان: "الرب بالحكمة أسس الأرض، أثبت السموات بالفهم". هذه الحكمة هي الكلمة، الذي "به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو3:1)

القديس أثناسيوس الرسولي

"بعمله انشقت اللُجج،

وتقطر السحاب ندى"

بحكمة أصر أن يشق الأعماق العظيمة ليجلب ماء للأرض، وبها أَوْجد قوانين الطبيعة لتتمتع الأرض بالندى والأمطار.

إن كان الله يهتم باحتياجات الأرض التي خلقها من أجل الإنسان، فقدم لها مياه المحيطات والبحيرات والأنهار، وأفاض عليها بالأمطار من فوق، كيف لا يهتم بالإنسان. إنه في حبه يُقدم لنا في أعماقنا مياه تجري في القلب كأنهار مياه حيَّة، تحول جفاف القلب وبريته إلى فردوس الله المثمر. كما يمطر على القلب من ندى الروح وأمطاره حتى ينعم القلب بكل عذوبة وراحة.


7. المشورة طريق آمن

إن كان الله يشق في أعماقنا أنهارًا تفيض بالمياه العذبة، ويمطر علينا بنعمة الروح، فإنه يحذرنا من الكبرياء وعدم طلب المشورة، قائلاً:

"يا ابني لا تبرح هذه من عينيك.

احفظ الرأي والتدبير.

فيكونا حياة لنفسك ونعمة لعنقك.

حينئذ تسلك في طريقك آمنًا ولا تعثر رجلك.

إذا اضطجعت فلا تخاف، بل تضطجع ويلذ نومك.

لا تخشى من خوف باغت، ولا من خراب الأشرار إذا جاء.

لأن الرب يكون معتمدك، ويصون رجلك من أن تُؤخذ"

تكررت كلمتا "لا تبرح" في هذا السفر (21:3؛21:4) وهي تعني ثبوت الحكمة في داخل القلب حتى لا ينحرف عن الحق، بل يسير القلب كالسفينة في مسار الطريق الملوكي. وقد استخدم القديس اكليمنضس السكندري هذا التعبير في حديثه عن المرأة: "لا تلبس الأزياء المبهرجة حتى لا تنزلق بعيدًا عن الحق

إذ يضع المؤمن وصية الرب وحكمته نصب عينيه، واثقًا في غنى نعمته المجانية يطلب تدبيرًا روحيًا لحياته في الرب، بهذا يسلك الطريق الآمن، إذ يتمتع بالبركات التالية:

· حياة النفس، فلا تكون ميتة بلا إحساس.

· كرامة في عيني الله، حيث يصير موضع سروره.

· يسير في أمان بالرغم من مقاومة العدو له، فإنه يَدكُّ بقدميّ المسيح النحاسيتين (رؤ15:1) كل حجرٍ مقاومٍ.

· لا يخشى من مخاوف المستقبل القريب أو البعيد، إذ يُدرك أن حياته في يديّ إله محب حكيم وقدير، كل لحظة من لحظات عمره مضبوطة بيد أبيه السماوي.

· إذ يضطجع ينعم بنوم عميق، ليس نوم الكسل والتراخي، بل نوم الثقة واليقين في عمل الله معه. يُدرك أن الله يهتم به حتى في أحلامه، فيجدها سماوية عذبة. كثيرون إذ ينامون يخشون ألا يستيقظوا، أما المؤمن الحقيقي فينام مطمئنًا أنه إن استيقظ ووجد نفسه في حضرة الرب يترنم: "قلبي مستعد يا الله، قلبي مستعد". وإن استيقظ ليجد نفسه في هذا العالم، يمجد الله في كل شيء.


8. المحبة الأخوية واللطف

"لا تمنع الخير عن أهله حين يكون في طاقة يدك أن تفعله"

ماذا يعني بقوله: "عن أهله"؟ ليس كل ما لدينا هو ملك لنا، بل للمحتاجين نصيب فيما هو بين أيدينا. حين تقدمه لهم، إنما قدم لهم حقهم الذي كنا مجرد حارسين له. إننا وكلاء على ما هو ملك للفقراء، حين نُقدم إليهم ما هو ملك لهم نُحسب وكلاء أمناء، لا فضل لنا إلا في الأمانة التي نمارسها بنعمة الله.

"لا تقل لصاحبك اذهب وعد فأعطيك غدًا وموجود عندك"

إذ الوقت مقصر وشرير لنسرع إلى ممارسة الخير مع طالبيه لئلا يحل الموت بنا أو بهم فنفقد فرصتنا في التمتع بعمل الخير معهم.

"لا تخترع شرًا على صاحبك وهو ساكن لديك آمنًا.

لا تُخاصم إنسانًا بدون سبب،

إن لم يكن قد صنع معك شرًا"

يسألنا ألا نحمل روح النزاع والخصام، فكما يحمل البعض روح الحب ليحتضن إن أمكن الكل، يحمل آخرون روح النزاع فيجدوا لذتهم في الخصام مع كثيرين.

بحسب الناموس يليق بنا أن نعامل الآخرين على أساسٍ سليم، فلا نظلمهم، أما في عهد النعمة فنرتفع لنعاملهم كما يتعامل الله معنا.


9. اللعنة والبركة

"لا تحسد الظالم،

ولا تختر شيئًا من طرقه.

لأن الملتوي رجس عند الرب.

أما سرَّه فعند المستقيمين"

يليق بنا ألا نحسد الظالم ولا نقتدي به، لأننا بهذا نصير رجسين في عينيْ الرب. أما الذي يسلك باستقامة فيجد في الله صديقًا له يتحدث معه حتى عن أسراره الإلهية الفائقة.

حقًا كثيرون عبر العصور يحسدون الأغنياء حتى إن كانوا ظالمين لكنهم في النهاية يكتشفون أن الله يدين الأغنياء الأشرار، كقول المرتل (مز37).

كاد آساف أن يزل عن الإيمان، لأنه كان يحسد الأشرار على نجاحهم. "لأني غرت من المتكبرين، إذ رأيت سلامة الأشرار، لأنه ليست في موتهم شدائد ، وجسمهم سمين، ليسوا في تعب الناس، ومع البشر لا يُصابون" (مز 3:73-5)، لكنه إذ اقترب إلى مقادس الله، وتطلع إلى نهاية حياتهم أدرك "كيف صاروا للخراب بغتة" (مز93:73) صرخ: "من لي في السماء، ومعك لا أريد شيئا في الأرض" (مز 25:73) ، وختم مزموره بالقول: "فالاقتراب إلى الله حسن لي، جعلت بالسيد الرب ملجأي لأخبر بكل صنائعك" (مز28:73).

إن نال الظالم بركات زمنية كثيرة، لكنه يحمل رجاسة عند الرب، أما الصديق أو المستقيم القلب فيتعرف على أسرار الله الفائقة.

"لعنة الرب في بيت الشرير،

لكنه يُبارك مسكن الصديقين.

كما أنه يستهزئ بالمستهزئين هكذا يُعطي نعمة للمتواضعين.

الحكماء يرثون مجدًا،

والحمقى يحملون هوانًا"

ليس لدى الله لعنة، بل هو مصدر كل بركة، لكن الشرير المصمم على الشر، إذ يُصر أن يتغرب عن الله، يحرم نفسه بإرادته من مصدر البركات، فيسقط في اللعنة التي تتم بسماح إلهي كثمرة للعمل الشرير، لهذا تدعى مجازًا "لعنة الرب".

كما هو مكتوب: "يُقاوم الله المستكبرين ويُعطي نعمة للمتواضعين" (أم34:3، 1بط5:5؛ يع6:4). الآن هذه النعمة هي هبة من الله. لكن أعظم العطايا هي الروح القدس نفسه، لذا دُعِي "النعمة".
القديس أغسطينوس

يتحد الحكماء بالسيد المسيح حكمة الله، يصيرون في مياه المعمودية أبناء الله، لذا قيل عنهم أنهم يرثون مجدًا كحق شخصي لهم إذ هم أبناء. أما الحمقى فإنهم يَحرمون أنفسهم من التمتع به، وبالتالي من شركة مجده، فيصيرون في عارٍ أبديٍ.
(الحكماء) ليس فقط ينالون (مجدًا) بل ويرثونه.

أيضًا الأشرار وإن تعظّموا فإنهم يتعظمون لينالوا هوانًا أعظم. وكما أن الإنسان لا يُكرم زميله الرديء إن تشامخ، بل بالأحرى يهينه، إذ يُعلن خزيه أمام العدو، هكذا الله يُمجد الشرير (إلى حين) لكي يُظهر عاره بالأكثر. فإن فرعون (في أيام موسى) تعظّم إنما لكي يدينه العالم[112].
القديس هيبوليتس
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 03, 2011 10:33 pm

الاصحاح الرابع


الحكمة: إيجابيًا وسلبيًا


إذ كشف سليمان الحكيم عن أهمية الحكمة (ص1)، وبركاتها (ص2)، وطريقها (ص3)، أوضح طريق الحكمة الإيجابي وأيضًا السلبي.

1. حث على اقتناء الحكمة 1-9.

2. الحكمة وحياة الاستقامة10-13.

3. التحفظ من الأشرار والشر14-27.


1. حث على اقتناء الحكمة

يؤكد سليمان الحكيم الحاجة إلى اقتناء الحكمة من الله خلال الطاعة للوصية مع الصلاة والطلبة وقبول مشورة الوالدين والقادة الروحيين، مقدمًا نفسه مثلاً لهم، إذ يقول:

"اسمعوا أيها البنون تأديب الرب،

واصغوا إلى معرفة الفهم.

لأني أعطيكم تعليمًا صالحًا فلا تتركوا شريعتي.

فإني كنت ابنًا لأبي، غضًا ووحيدًا عند أمي"

يتقدم سليمان الحكيم إلى تلاميذه كأبناء له حتى يمكنهم أن يتقبلوا كلماته التي تحمل أحيانًا توبيخًا أو انتهارًا. لقد أحبه والداه لذا علماه، ومن جانبه كان منصتًا ومطيعًا لهما. كأنه يقول:

"ما تقبلته من والديَّ أقدمه لكم. لقد قدما لي تعاليم الحكمة ممتزجة بالحب نحوي. فأنصتوا إليّ كما كنت أنصت إليهما، أنصتوا لتتقبلوا مع الوصايا الحب الأبوي".

قال هذا ليُظهر لهم أن ما تسلمه من والديه ويقدمه لهم إنما هي تعاليم ثمينة للغاية. بهذا يجتذب انتباههم ليجد طريقًا ينفذ به إلى قلوبهم.

سليمان الحكيم كابن أطاع والديه، الآن يعلم أولاده لا بالوصايا فحسب، وإنما أيضًا بحياته كمثالٍ لهم. وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

* الأب البار يربي (أبناءه) حسنًا عندما يكون مجتهدًا في تعليم الآخرين في تناغم مع سلوكه الحسن، حتى لا يخجل سامعًا المعارضة: "فأنت إذًا الذي تُعلم غيرك ألست تُعلم نفسك؟!" (رو21:2)، بل بالأحرى يكون كالعبد الصالح الذي يخلص نفسه ويقتني الغير. عندما تصير له النعمة التي تقبلها مضاعفة، إذ يسمع: "نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير" (مت21:25)

البابا أثناسيوس الرسولي

يُعلن الحكيم أنه يقدم لهم تعليمًا صالحًا وشريعة، وكما يقول القديس هيبوليتوس: [يليق بنا أن نلاحظ أنه يدعو الشريعة عطية صالحة، وذلك بالنسبة للإنسان الذي يأخذ العطايا في حضنه باستقامة.]

أما هذا التعليم الصالح فيتحقق بأمرين: "الاستماع إلى تأديب الرب"، كأن التأديب معلم ننصت إليه، و"الإصغاء إلى معرفة الفهم".

"وكان يريني ويقول لي:

ليضبط قلبك كلامي.

احفظ وصاياي فتحيا.

اقتن الحكمة. اقتن الفهم.

لا تنس ولا تعرض عن كلمات فمي"

* بقوله: "فأحيا" لا يطلب طول العمر العادي، إذ يطلب حياة مرضية لله، لذلك يقول: "وأحفظ أقوالك"، لأن حفظ أقوال الله وعمل وصاياه هما العمر الحقيقي وعلة الحياة الأبدية

أنثيموس أسقف أورشليم

* كلمة "فأحيا" توحي بحركة حياة في المستقبل. فإنني لست أفكر في الحياة الحالية، إذ يقول "سأحيا"، وهذا يتمشى بالتأكيد مع الحياة الحقيقية.

لنسمع القديس بولس وهو يتحدث عن نفسه وعن أمثاله: "حياتنا مستترة مع المسيح في الله، متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تضيئون أنتم أيضًا معه في المجد" (راجع كو3:3).

لنفهم "سأحيا" أنها تخص المستقبل، وأيضًا "أخبئ كلامك" سيكون ذلك حقيقة ليست في مرآة ولا في لغز

العلامة أوريجينوس

* إنني لا أشعر بأنني أتمم وصاياك بدون مكافأة؛ أعطنا أجر هذا حياة خالدة سعيدة أعيشها وأحفظ أقوالك

القديس ديديموس الضرير

* من يقدر أن ينكر أن عطية الحياة هي عمل العظمة الإلهية؟ مكتوب "احيي عبدك". إذن يحيي من هو عبد، أي الإنسان، الذي لم تكن له حياة من قبل، بل تسلمها كعطية له

القديس أمبروسيوس

"لا تتركها فتحفظك،

أحببها فتصونك"

بقوله لا تتركها يشخصن الحكمة، مقدمًا إياها حارسة وصديقة، فإنك إن كنت لا تتركها تبقى هي أمينة في حراستها لك، وإن أحببتها تقوم بحمايتك.

إذ يتحدث القديس غريغوريوس أسقف نيصص إلى البتوليين من كلا الجنسين، يسألهم أن يقبلوا مشورة سليمان الحكيم، فيحبوا الحكمة كمعينٍ ورفيقٍ لهم، فإنها هي أيضًا تهب الحب بكونه ثوب العرس الذي بدونه لن يتم زفاف النفس مع السيد المسيح. يرى في الحكمة الإلهي عريسًا للنفس، يشبع أعماقها ويملأها فرحًا.

* إن كان إنسان ما يقبل نصيحة سليمان ويهتم بالمعينة والرفيقة، أي الحكمة الحقيقية التي قيل عنها: "أحببها فتصونك"، "كرِّمها فتحتضنك" ، بهذا يعد نفسه بطريقة لائقة لمثل هذا الحب، حتى يحتفل مع الضيوف المتبتلين بالعرس مرتديًا ثوبًا بلا دنس. فلا يُطرد عندما يجلس في الاحتفال، لأنه لم يلبس ثوب العرس.

واضح أيضًا أن ما يُقال هنا خاص بالرجال والنساء على قدم المساواة، لكي يتحركوا نحو العرس

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

"الحكمة هي الرأس (الأساس)،

فاقتنِ الحكمة،

وبكل مقتناك اقتنِ الفهم"

المسيح رأس الكنيسة وأساسها هو الحكمة، من يقتنيه ينعم بالحكمة والفهم، حيث يدرك أسرار الله الفائقة وخطته لخلاصنا.

لنقتنِ الحكمة كأساس لبنيان ملكوت السموات في داخلنا. هي كنزنا الأبدي، ورصيدنا الدائم، وعلة شركة المجد السماوي.

شتان ما بين حكمتنا وفهمنا وبين حكمة الأشرار وفهمهم، فإن حكمتنا تقوم على الإيمان الحي العملي، أما الأشرار فقد يكون لهم الإيمان مع المعرفة النظرية، لكنهم لا يحملون خبرة الاتحاد مع الله في ابنه بالروح القدس، الإيمان العملي الحي، الذي خلاله نمارس بنوتنا الصادقة لله.

إذ يصير السيد المسيح رأسنا، وهو الحكمة الإلهي، يتسلم قيادة حياتنا، فنمارس الحكمة في عبادتنا الكنسية كما في حجرتنا الخاصة، وفي عملنا كما في الطريق، وفي معاملاتنا مع الأحباء كما مع المقاومين، وفي شركتنا مع السمائيين كما مع المؤمنين المجاهدين... يحكم السيد المسيح كل تطلعاتنا ونظراتنا وسلوكنا، حتى أحلامنا! نرى كل شيء من خلاله، ونراه متجليًا أمامنا في كل شيء.

"ارفعها فتُعليك،

تمجدك إذا اعتنقتها"

يرى البعض أن كلمة "يرفع" هنا تعني "يقوى". فإن كانت الحكمة هي عطية إلهية مجانية، وهي اقتناء السيد المسيح نفسه حكمة الله، فإنه لا يقطن في قلب متراخٍ أو مستهتر، إنما يُدعِّم سكناه فينا بالجهاد الحيّ والتمتع بالفضائل المقدسة، لنُعانقه لا بكلمات مجردة بل بالحب العملي الحيّ. نرفع الحكمة ونقوِّيها فينا، إذ تحوط بها الفضائل من كل جانب، فترفعنا الحكمة وتقوينا. ترفعنا في عينيْ الله كما في أعين السمائيين والأرضيين، حتى الشياطين تهابنا، إذ نحن مختفون في المسيح، الحكمة الحقيقية.

* ماذا يعني "ارفعها (قوِّيها)"؟ أي حوِّط حولها بالأفكار المقدسة، فإنك محتاج إلى دفاع قوي، حيث توجد أشياء كثيرة معرضة للخطر مثل ممتلكات. لكن إن كان في سلطانك أن ترفعها، وإن كان في مقدورك أن تمارس فضائل تكرم معرفة الله، فإن هذه تصير حصونًا لها. كمثال لذلك من يحفظ ممارسة (الفضيلة) وحب الدراسة وبقية سلسلة الفضائل يكرم الحكمة، أما المكافأة فهي أن تُكرم أنت بالتصاقك بها، واحتضانك لها في بهاء السماء.

القديس هيبوليتس

* كانت الفلسفة تهيئةً لإعداد الطريق لمن يصير كاملاً في المسيح. يقول سليمان: "ارفعها فتعليك، تمجدك إذا اعتنقتها. تعطي رأسك إكليل نعمة، تاج جمال تمنحك". عندما تُقوى الحكمة بثوب الفلسفة وباستخدام حسن، تحفظها من هجوم السوفسطائيين

القديس إكليمنضس السكندري

"تُعطي رأسك إكليل نعمة،

تاج جمال تمنحك"

تُقيم الحكمة من المؤمن أميرًا أو ملكًا يحمل على رأسه تاج نعمة وشركة مجد، فيترنم قائلاً: "جعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه" (رؤ8:1)، أو يُقيم من النفس ملكة مُتوَّجة بالمجد والجمال السماوي الفائق.


2. الحكمة وحياة الاستقامة

يتحدث سليمان الحكيم عن طريق الحكمة الإيجابي، قائلاً:

"اسمع يا ابني واقبل أقوالي،

فتكثر سنو حياتك"

الاستماع إلى المشورة المقدسة هو بداية الطريق الإيجابي للحكمة، حيث بروح الاتضاع يطيع المؤمن، سالكًا في الوصية. أما ثمرة هذا الطريق فهو "كثرة سني الحياة"، أو طول العمر. هذا مبدأ عام أو ثمرة عامة، لا يمكن تطبيقها بطريقة حرفية على جميع المؤمنين، إذ استشهد بعض الأطفال والشبان في مقتبل عمرهم، لكنهم لم يموتوا، إذ لازالوا في الفردوس يمارسون العبادة ويشفعون من أجل خلاص العالم. فالحديث هنا صادق تمامًا، إن أُخذ بالمفهوم الروحي.

هذا ومن الجانب الحرفي فإننا نعلم أن الشرور بصفة عامة، خاصة الغضب والزنا وغيرهما يؤثران على صحة الإنسان الجسدية والنفسية بجانب الروحية، مما يفقده سلامه الداخلي، ويجعله عرضة لأمراض كثيرة. حتى إن امتدت حياته على الأرض لكنها تُحسب كلا شيء. أما الحكمة فينبع عنها التناغم بين الجسد والنفس والروح، فيسلك الإنسان باعتدال وبروح التوازن، مما يهبه مقاومة ضد كثير من الأمراض. الإيمان الحيّ السليم والعملي سيد قوي لا للروح وحدها بل وللجسد كما للجانب النفسي.

"أريتك طريق الحكمة،

هديتك سبل الاستقامة

في أبوة حانية يتقدم سليمان إلى سامعيه كمعلمٍ وهادٍ، يكشف عن أعين تلاميذه الداخلية فيروا طريق الحق، ويمسك بأيديهم ليُهديهم إلى سبل الاستقامة. وهو في هذا يحمل ظلاً لعمل السيد المسيح الذي يحلو لآباء الإسكندرية أن يدعوه "المعلم" أو "المدرب"، وقد سجل لنا القديس إكليمنضس السكندري كتابًا في هذا الأمر دعاه "المدرب Paedagogos"، فيه أظهر كيف يحتاج العالم كله إلى السيد المسيح كمعلم وطبيب، وأنه يقود مؤمنيه في طريق الكمال حتى يحملوا صورته فيهم. علم البشرية بتجسده وحلوله في وسطهم وصلبه كي يتعرفوا عليه ويقتنوه فيجدد طبيعتهم بروحه القدوس.

أورد الكتاب عينات مختلفة من المعلمين، منهم:

1. موسى النبي: أول قائد لشعب الله الذي علم شعب الله الشريعة الإلهية، كما سأل الآباء والأمهات أن يُعلموا أولادهم (تث5:4). فالقائد الحيّ يخلق قادة أحياء، وكل جيل يطلب من الجيل التالي أن يقود من يأتي بعده.

2. بصلئيل وأهوليب: صانعان ماهران موهوبان، دُعيا ليُعلما الآخرين صنع الخيمة (خر30:35-35)، فالقائد الماهر هو من يدرب الآخرين ليصيروا ماهرين وعاملين معه.

3. صموئيل النبي: آخر قاضي لشعب إسرائيل قبل إقامة النظام الملكي، هذا حسب أن التراخي في الصلاة وتعليم الشعب هو خطية موجهة ضد الله نفسه، إذ يقول: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب، فأكف عن الصلاة من أجلكم، بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم" (1صم23:12).

4. داود: لم يستطع أن يبني الهيكل، لكنه أعد ابنه سليمان ليبني الهيكل ويُقيم أثاثاته (1أي9:28-21). فالمعلم أو القائد هو الذي يُسر بنجاح تلاميذه ونموهم أكثر منه.

5. سليمان: عُرف بالحكمة التي نالها هبة من الله، استخدمها ليُعلم شعبه أن يكونوا حكماء في كل شيء.

6. عزرا: كاتب وكاهن التزم ليس فقط بحفظ الناموس، بل وأن يُعلمه للآخرين (عز10:7).

7. برنابا: أحد المعلمين من بين مؤمني إنطاكية (أع1:13)، كان له أثره الفعّال على شاول الطرسوسي بعد قبوله الإيمان (أع26:9-30).

8. غمّالائيل: حاخام يهودي مشهور، كان معلمًا لشاول الطرسوسي في صباه، كان له أثره عليه في السلوك حسب الناموس حرفيًا، حتى التقى بالسيد المسيح وأدرك الحاجة إلى نظرة جديدة روحية نحو الناموس.

9. بولس: ربما أكثر معلمي الكنيسة الأولى فاعلية لسبب مواهبه الفذّة. علّم في العالم الروماني وواجه الأفكار الفلسفية، خاصة اليونانية.

10. بريسكلا وأكيلا: أسرة حوّلت بيتها إلى كنيسة، علّمت شابًا بليغًا موهوبًا يُدعى أبُلُّوس طريق الرب (أع20:18).

11. أبُلُّوس: معلّم له تأثيره القوي، إسكندري، تعاليمه مهّدت الطريق لقبول الإنجيل في أفسس (أع24:18-26).

12. تيموثاوس: شاب هداه القديس بولس إلى المسيحية، صار أسقفًا (1تي3:1؛ 2تي2:4).

13. تيطس: شاب آخر هداه أيضا القديس بولس إلى المسيحية وصار أسقفًا على الكنيسة في كريت (تي1:2-15).


"إذا سرت فلا تُضيق خطواتك،

وإذا سعيت (جريت) فلا تعثر"

إذ يحمل المؤمن الحكمة فيه يسلك في حياته اليومية بروح الوضوح مع الاستقامة وبغير خوف من المستقبل. لذا نجده ليس فقط في عبادته، وإنما في عمله اليومي أيضًا، يسير بخطوات واسعة يعمل بلا توقف، يجري بفرحٍ مستظلاً بعناية الله الفائقة.

السير بخطوات متسعة والجري بغير عثرة يحملان السلوك المستقيم حيث لا يعرف المؤمن الخبث والخداع، ولا يُفسد وقته ولا عمله في الطرق الملتوية.

"تمسك بالأدب لا ترخه،

احفظه فإنه حياتك"

يُقصد بالأدب ليس السلوك الحسن فحسب، أو النُبل في التعامل مع الغير، بل الالتصاق بالرب نفسه. فما يقوله سليمان الحكيم هنا يكرره في سفر النشيد على لسان العروس التي أمسكت بعريسها السماوي ولم تُرخه حتى تدخل به إلى أعماق نفسها وتتحد به (نش4:3).


3. التحفظ من الأشرار والشر

بعد الحديث عن الجانب الإيجابي لطريق الحكمة يُحدثنا الحكيم عن الجانب السلبي، وهو التحفظ من الأشرار والشر.

ربان السفينة الحكيم ليس له إلمام كامل بكل صخور المحيط والشُعب والمناطق الخطرة، لكنه يدرس بكل دقة الطريق المستقيم، ويعرف اتجاهاته، ويدرك التفاصيل الخاصة به، لذا يسير وهو مطمئن. هكذا يحيد إنسان الله عن طرق الأشرار الوعرة، ولا يفسد وقته بالانشغال بها، إنما ينشغل بطريق الحق، ويعرف ملامحه وكل تفاصيله وهو يسير فيه وهو مطمئن.

"لا تدخل في سبيل الأشرار،

ولا تسير في طريق الأثمة.

تنكَّب عنه (تجنبه).

لا تمر به. حدْ عنه وأُعبر"

لنهرب من الالتصاق بالأشرار في سلوكهم الآثم. لنتجنب طرقهم، فلا نجاملهم على حساب خلاصنا، بل لتكن نفوسنا جادة في إغلاق كل باب يدخل بنا إلى الخطية. لا نمر مع الأشرار في طريقهم مجاملة لهم، أو رغبة في إشباع شهوات جسدية أو لنوال مكاسب مادية أو معنوية. إن لاحظنا أننا قد اقتربنا إليه فلنعطه ظهرنا ونرجع عنه ملتصقين بالرب. لنعبر عنه سريعًا حتى لا نسقط في الفخاخ.

يرى القديس هيبوليتس إن الحكيم ينصحنا بالابتعاد عن طريق الهراطقة الذين في شرهم يفسدون التعاليم، كما عن المنحرفين في سلوكهم هؤلاء الذين يدعوهم بالأثمة.

* الهراطقة هم "الأشرار"، والعصاة على الناموس هم الأثمة؛ يأمرنا أن نبتعد عن طرقهم التي هي أعمالهم

القديس هيبوليتس

لما كان طريق الهراطقة برَّاقًا بفلسفات باطلة، وأيضًا طريق الأثمة مغريًا بملذاته الجسدية ومكاسبه المادية والمعنوية، لهذا بقوة لا يطلب منا الحكيم أن نحتفظ بمسافة ما بعيدًا عن هذه الطرق، بل نعطيها ظهورنا تمامًا. فطريق برّ المسيح هو نور، بينما طريق الشر والإثم ظلمة؛ وليست هناك شركة بين النور والظلمة، وبين البرّ والفساد، وبين الحق والباطل.

إننا في حاجة إلى قائد يُدير حياتنا في اتجاه مضاد للشر، هو الروح القدس، روح المسيح القادر أن ينطلق بنا إلى حيث المسيح جالس!

يكمل الحكيم حديثه عن الأشرار قائلاً:

"لأنهم لا ينامون إن لم يفعلوا سوءًا،

ويُنزع نومهم إن لم يُسقِطوا أحدًا"

لا يستريح الهراطقة وأيضًا الأثمة حتى يقتنصوا ما استطاعوا من النفوس في حبائل الهرطقات أو شباك الفساد. يقضون ليالي عمرهم بلا نوم لكي يدفعوا كل إنسان ما استطاعوا نحو طريقهم.

"لأنهم يطعمون خبز الشر،

ويشربون خمر الظلم"

طعامهم هو من الخبز المسروق، وشرابهم هو خمر العنف. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). سِمتان تُلازمان الأشرار: السرقة أو عدم الأمانة والعنف أو الظلم. هنا لا يعني بالسرقة في مفهومها الضيق، فقد يختلس الشرير مجد الله أو يسلب الحق بتشويه صورته. أما عن الظلم فيُقدمونه أحيانًا خلال كلمات معسولة مملوءة رقة ولطفًا من الظاهر.

"أما سبيل الصديقين فكنورٍ مشرقٍ يتزايد ويُنير إلى النهار الكامل،

أما طريق الأشرار فكالظلام،

لا يعلمون ما يعثرون به"

الطريق المستقيم متميز عن الطريق الخاطئ. الطريق الأول يقود إلى مدينة الله العليا، حيث يوجد حمل الله الذي ينيرها، لذا فالطريق بهي ومشرق يحمل قبسات من المجد السماوي ينير بها اذهان السالكين فيه، فيقولون: "لتمت نفسي موت الأبرار، ولتكن آخرتي كآخرتهم" (عد10:23). أما طريق الأشرار فيحمل سمات نهايته ألا وهو مملكة الظلمة.

جاءت كلمة "سبيل" في الترجمة السبعينية بالجمع: "سبل الصديقين". فإن كان الحق هو طريق واحد، هو شخص السيد المسيح، فإنه يجتذب المؤمنين إليه بطرق كثيرة. حقًا يلزم للكل أن يكون لهم الإيمان الواحد، لكن لكل واحد موهبته الخاصة. إنسان يلتقي مع الرب بروح العبادة الدائمة، وآخر بروح الحب والعطاء للغير، وثالث بروح الخدمة والكرازة، وكما يقول القديس بولس الرسول: "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد. وأنواع خدم موجودة، ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل. ولكنه لكل واحدٍ يُعطي إظهار الروح للمنفعة، فإنه لواحدٍ يُعطي بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد... (1كو4:12-9).

طريق الحق واحد، لكن فيه نهر دائم الجريان، تفيض منه مجاري من كل جانب. لذلك يقول الوحي: اسمع يا ابني واقبل أقوالي، ويكون لك طرق كثيرة للحياة. أريتك طريق الحكمة فلا تنضب ينابيعك"، هذه التي تفيض من الأرض ذاتها. إنه لا توجد فقط طرق متنوعة للخلاص يستخدمها الإنسان البار، بل يُضيف (الله) طرقًا أخرى كثيرة للبار، إذ يقول: "سبل الصديقين كنورٍ مشرق"

القديس إكليمنضس السكندري

عندما تحدث القديس يوحنا كاسيان عن اقتدائنا بالغير، حذرنا من الارتباط بشخصٍ واحدٍ، إذ لا يوجد شخص كامل فيه كل الفضائل.

يشبّه الحكيم سبل الصديقين بالأرض وقد أشرقت عليها شمس البرّ، وتبقى تبعث أشعتها حتى يتزايد النور ويبلغ إلى القمة. أما طريق الأشرار فتحتجب عنه شمس البرّ، لذا يسوده الظلام، ويتعثر السالكون فيه.

يقول: "فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت16:5). ليس شيء مليء بالنور مثل الحوار السامي جدًا. وكما يقول أحد الحكماء: "سبل الصديقين كنور مشرق" (أم18:4 LXX)، وهم يشرقون ليس لأنفسهم وحدهم حيث يشعلون لهيب أعمالهم (المنيرة)، وليس فقط لأجل البرّ، وإنما يشرقون أيضًا على أقربائهم

القديس يوحنا الذهبي الفم

"يا ابني أصغِ إلى كلامي،

أمل أذنك إلى أقوالي.

لا تبرح عن عينيك،

احفظها في وسط قلبك.

لأنها هي حياة للذين يجدونها،

ودواء لكل الجسد"

يعود فيسأل الحكيم ابنه أن يُكرس كل أعضاء جسده وطاقاته للتمتع بالحكمة، فيطلب منه أن يميل بأذنيه، وأن يتطلع إليها بعينيه على الدوام، ويدخل بها إلى أعماق قلبه. يسأله أن يخزنها في وسط قلبه لتُحرك كل طاقاته ورغباته واشتياقاته وكلماته وسلوكه.

"فوق كل تحفظ احفظ قلبك،

لأن منه مخارج الحياة"

كما أن الدم الفاسد يدخل إلى القلب ثم يخرج منه نقيًا خلال الشرايين ليُغذي الجسم كله من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، هكذا برّ المسيح يدخل إلى أعماق القلب ليتوجه كل كيان الإنسان الداخلي والخارجي.

ما نحتفظ به في قلبنا يملك على أفكارنا وكلماتنا وسلوكنا، سواء كان ذلك هو برّ المسيح أو الشر.

* لنحفظ قلوبنا، ولنحفظ أفواهنا، فقد كُتب عن كليهما. في هذا الموضع أمرنا أن نَحذَر من فمنا، وفي موضع آخر قيل لك: "احفظ قلبك بكل اجتهاد". إن كان داود يأخذ حذره أفلا تحذر أنت؟!

إن كان لإشعياء شفتان نجستان، إذ قال: "ويل لي، إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين" (إش5:6)؛ إن كان لنبيّ الرب شفتان نجستان فكيف تكون لنا شفتان طاهرتان؟

القديس أمبروسيوس

* احفظ قلبك بكل اجتهاد، أي ليس خفية، فإنه يجب إظهار الأفكار والكشف عن الأعمال. استخدم يديك في العمل، وقلبك في التأمل في الصلاة

القديس مار أفرآم السرياني

* لنكن متحفظين بكل عناية، كما هو مكتوب: "احفظ قلبك بكل سهر". لأن أعداءنا مرعبون وماكرون - هم الأرواح الشريرة - نصارع ضدهم، وكما يقول الرسول لسنا نُصارع ضد لحم ودم، بل ضد الرئاسات، ضد القوات، ضد رؤساء عالم هذه الظلمة، ضد أجناد الشر في السماويات. ما أكثر عددهم في الهواء المحيط بنا! فإنهم ليسوا بعيدين عنّا

البابا أثناسيوس الرسولي

الملك سليمان والعالِمْ هارفي

يرى البعض في حديث سليمان الحكيم "فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة" أنه سابق للعالم هارفي صاحب الاكتشاف العظيم عن الدورة الدموية التي تتحقق بواسطة القلب؛ هذا الاكتشاف الذي أحدث ثورة في الفكر الطبي. هنا نجد سليمان يتحدث بهدوء وفي يقين، مستخدمًا هذه الحقيقة العلمية للكشف عن حقيقة روحية. فكما أن القلب هو مركز النظام الجسمي، منه تصدر الحياة، هكذا القلب أو الإنسان الداخلي هو مركز الحياة الروحية1.

"انزع عنك التواء الفم،

وأبعد عنك انحراف الشفتين"

ما هو التواء الفم إلا الغضب والإدانة والاندفاع في الكلام، أما انحراف الشفتين فيعني النميمة وتشويه الحقائق.

"لتنظر عيناك إلى قُدامك (باستقامة)،

وأجفانك إلى أمامك مستقيمًا.

مهِّد سبيل رجلك، فتثبت كل طرقك"

عمل رجال العهد القديم هو تهيئة الطريق لكي يسلكه المؤمنون بروح القوة والغلبة، بنفوس متشددة بروح الرجاء الحيّ. صرخ القديس يوحنا المعمدان الذي جاء بروح إيليا ليُهيئ الطريق للرب قائلاً: "أعدوا طريق الرب. اصنعوا سُبله مستقيمة، كل وادٍ يمتلئ، وكل جبل وأكمة ينخفض، وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرقًا سهلة. ويُبصر كل بشر خلاص الله" (لو4:3-6).

هكذا يشترك سليمان الحكيم مع بقية رجال العهد القديم في إعداد البشرية لقبول الرب، لتسلك في مسالك مستقيمة بأرجلٍ قويةٍ قادرة على العبور في الطريق الملوكي الذي لا تجد فيها شخصًا أعرج قط! لا يسلكه من يُعرِّج بين الله وبليعال، ولا بين الروحانية الملتهبة والحرفية القاتلة، ولا بين السماء والأرض، بل يُستعلن فيه إنجيل المسيح واهب الفرح السماوي!

* من أجل التعلم، قيل في سليمان حسنًا: "يا ابني لا تفعل شيئًا بدون مشورة، وعندما يتحقق ذلك لا تندم" (ابن سيراخ 24:32). وأيضًا: "لتكن أجفانك أمام خطواتك" [25]. لأنه بالحق أجفاننا تسير أمام خطواتنا عندما تضبط المشورات الصالحة أعمالنا. لأن من يهمل النظر إلى قدام، فيغلق عينيه عندما يريد أن يتقدم للعمل أثناء رحلته، فإنه لا يتقدم للعمل متطلعًا إلى قدام، لهذا سرعان ما يسقط، إذ لا يحذر بجفنيْ عين المشورة ليُدرك أين يجب أن يضع قدم علمه

الآب غريغوريوس (الكبير)

* من كانت أفكاره متحررة من الهوى، ينظر باستقامة، ويكون حكمه سليمًا من الانفعال بالمظاهر الخارجية. عندما يقول "لتنظر عيناك باستقامة"، يعني بصيرة النفس

القديس هيبوليتس

أخيرًا يقول الحكيم:

"لا تمل يمنة ولا يسرة،

باعد رجلك عن الشر"

يحذرنا من السير في الطرق الملتوية، والمنحرفة سواء من جهة اليمين أو اليسار، فإن الطريق المستقيم الملوكي هو طريق الاعتدال.

* يليق بنا حقًا أن نسلك الطريق الملوكي، ولا ننحرف إلى جانبٍ منه سواء كان عن اليمين أو اليسار، وذلك كما يقول سفر الأمثال

القديس غريغوريوس النزينزي

* يحذرنا سليمان، أحكم إنسان، ألا ننحرف إلى الجانب اليمين أو الجانب اليسار. فلا تتشامخ بسبب فضائلك، ولا تنتفخ من أجل ما بلغته من روحيات، منحرفًا نحو اليمين. ولا تتمايل نحو طريق الرذائل، نحو اليسار، مفتخرًا بما هو عار (في19:3)

القديس هيبوليتس

* تحتل الفضيلة مركزًا متوسطًا؛ فيُقال إن الشجاعة الناضجة هي الطريق ما بين الجسارة والجبن

القديس يوحنا كاسيان

* الانحراف نحو اليمين هو أن يخدع الشخص نفسه فيقول إنه بلا خطية. والانحراف نحو اليسار هو أن يحيط الإنسان نفسه بخطاياه ظانًا انه لا يًصاب بضررٍ ولا يُعاقب.

القديس أغسطينوس

وفي حديث القديس يوحنا كاسيان عن "كيف يهاجم المجد الباطل الراهب من اليمين ومن الشمال" يقول:

* من يصبو أن يسير قدمًا في الطريق الملكي "بسلاح البر لليمين ولليسار"، ينبغي وفق تعليم الرسول أن يمر "بمجد وهوان، وبصيت رديء وصيت حسن" (2كو7:6،Cool.

يسير بعناية لتوجيه مجراه المستقيم وسط أمواج التجارب المتلاطمة. وبحذر يمسك بالدفة، فيهب روح الرب، وينشر عبيره حولنا.

إننا نعلم أننا إذا انحرفنا قليلاً نحو اليمين أو اليسار سرعان ما تتحطم سفينة حياتنا فوق الصخور الوعرة. لذلك يحذرنا سليمان الحكيم قائلاً: "لا تمل يمنة ولا يسرة" (أم27:4). بمعنى لا تمتدح فضائلك أمام نفسك، ولا تزهو بإنجازاتك الروحية من اليمين، ولا تتحول إلى طريق الرذائل نحو الشمال، وتختار شيئًا من هذه الرذائل لنفسك، وباستخدام كلمات الرسول: "فخرًا في خزيك" (في19:3).

لأنه حين لا يستطيع إبليس أن يبعث بالمجد الباطل في إنسانٍ عن طريق حسن هندامه وأناقة لباسه، يحاول اصطناعه عن طريق زيٍّ أشعث ولباسٍ قذرٍ مهملٍ.

وإذا لم يستطع أن يسقط إنسانًا بالفخر يسقطه بالاتضاع.

وإذا لم يستطع أن يدفعه نحو التعالي بنعمة المعرفة والفصاحة، يسحبه إلى أسفل تحت ثقل الصمت.

وإذا صام إنسان علانية يهاجمه كبرياء الزهو والغرور، وإذا أخفاه احتقارًا لما يسفر عنه من فخار وقع فريسة لخطية الكبرياء ذاتها.

ولكي لا تدفعه وصمة المجد الباطل فإنه يتجنب إطالة الصلوات على مرأى من الاخوة، لكن لأنه يمارسها سرًا، دون أن يشعر به أحد لا ينجو من كبرياء الزهو.
القديس يوحنا كاسيان
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 03, 2011 10:54 pm

الاصحاح الخامس


صوت الزانية

بعد أن تحدث عن طريق الحكمة من الجانبين الإيجابي والسلبي (ص4)، بدأ يحذرنا من حبائل المرأة الزانية، خاصة من صوتها اللَين كالزيت، مخصصًا الأصحاحات 5-7 لهذا التحذير.

كل إنسان يميل بأذنيه الداخليتين إلى صوت المرأة الزانية المخادعة بالعذوبة الظاهرة لا يستطيع أن يميلهما إلى صوت الحكمة. يروي لنا سفر الملوك الأول القصة المُرة لسليمان نفسه وقد مال بأذنيه لابنة فرعون وغيرها من الأجنبيات ففقد ملكوت الله الذي في أعماقه. "وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون... فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه... وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تمامًا كداود أبيه" (1مل1:11-6).

يطالبنا الحكيم أن نتجنب كل ما يمكن أن ينحرف بنا إلى خطية الزنا، أو مجرد الميل إليها بالفكر. فإن أفكار الشهوة قاتلة لكل بذور الفضيلة، والذين يسقطون في حبائلها يصيرون على مقربة من أبواب الهاوية.

1. دعوة لطلب الحكمة 1-2.

2. سمات المرأة المنحلّة 3-14.

3. علاج الانحلال 15-21.

4. نهاية الشر 22-23.


1. دعوة لطلب الحكمة

لكل إنسانٍ أذنان في أعماقه تنصتان إلى صوتٍ أو آخر، فمن لا تنصت أذناه لصوت الحكمة حتمًا تنصتان إلى الأصوات الغريبة مثل صوت المرأة الزانية المخادعة. لهذا قبل أن يحذرنا من هذا الصوت المدمر يقدم لنا الصوت الأبوي الحكيم البنَّاء.

يكرر الحكيم هذه الدعوة لكي يصغي المؤمن ويميل بأذنيه كما بقلبه إلى صوت أبيه الروحي، ويحفظ التدابير وتصير له معرفة تنطق بها شفتاه.

"يا ابني أصغِ إلى حكمتي.

أمل أذنك إلى فهمي،

لحفظ التدابير،

ولتحفظ شفتاك معرفة"

يدعونا للتمتع بالخبرات الحية الروحية التي يعيشها الأب الروحي في الرب.

تحدث القديس يوحنا كاسيان في الكتاب الرابع من "المؤسسات" في الفصلين 9 و10 عن التزام الحديثين في الرهبنة ألا يعتمدوا علي تمييزهم الشخصي، ولا يخفون شيئًا من أفكارهم عن الشيخ المختبر الذي يتعهدهم. بهذا لا يقدر الشيطان أن يدمر الشخص الحديث اللهم إلا إذ أغواه بالكبرياء وإخفاء أفكاره. وأن تكون طاعة الرهبان الحديثين كاملة، حتى أنهم لا يستطيعوا مغادرة قلاليهم ولا الذهاب لقضاء احتياجاتهم الطبيعية بدون إذن. يطيعون بثقة ويقين وبلا تردد كما لو كان الأمر صادرًا من السماء.

* من كان له الفكر الصالح وفي اتضاع مع شوق يتمثل بإخلاص بما يراه، سواء خلال التعليم أو اقتداءً بما يراه في الآباء، بدلاً من الانشغال في الجدال، بهذا تستقر فيه معرفة كل شيء باختبارٍ عملي. أما الذين ابتدأوا تعلمهم بالجدال، فلن يدخلوا إلى غاية الحق… لذلك فإن عدونا (الشيطان) يدفعهم بسهولة بعيدًا عن معرفة الآباء، حتى لتبدو لهم الأمور المفيدة والنافعة كأنها غير ضرورية، بل ومضرة. بهذا يلعب العدو الماكر بفطنة، جاعلاً إياهم يتمسكون برأيهم الخاص في عناد ، مقتنعين بأن ما يملأ عقولهم النجسة من أخطاء هو صلاح وحق ومقدس

الأب بيامون

* مكتوب: يا ابني أصغِ إلى حكمتي، أمل أذنك إلى تعقلي، لكي تُحفظ أفكارك [1]. فإنه حقًا ليس شيء مثل القلب يحاول الهروب (من الحكمة)، هذا الذي يخذلنا عندما ينزلق بالأفكار الشريرة، لهذا يقول المرتل: "قلبي قد تركني" (مز12:40)

الأب غريغوريوس (الكبير)

يطلب الحكيم من ابنه الروحي أن يصغي كما يسأله أن يميل بأذنه إلى فهمه، فإن كان الإصغاء يشير إلى الرغبة في التعلم والاستعداد للطاعة، فإن ميل الأذن الداخلية يشير إلى العلاقة السرية الخفية، فمن يميل بأذنه ليستمع همسات آخر إنما يعلن عن شوقه للاستماع إلى كلمات خاصة غير معلنة. يقدم الإنسان مع أذنه قلبه وكل مشاعره وأحاسيسه.

استخدم الحكيم تعبير "أمل أذنك إلى فهمي" ربما نقلاً عن والده الذي كان يحلو له أن يناجي الله قائلاً: "أمل أذنك إلىَّ (مز6:17). فقد أمال الآب أذنه إلى البشرية بنزول ابنه إلينا، يتحدث معنا ونحن معه كما في علاقة شخصية سرية، يسمعها القلب وتتجاوب معها النفس بكل طاقاتها الخفية.

لكي لا نستمع إلى صوت المرأة الزانية أو الخطية المخادعة فلنمل أذننا إلى حبيبنا السماوي قائلين: "صوت حبيبي، هوذا طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال" (نش8:2).

يرى القديس إكليمنضس السكندري في الآية 2 "لحفظ التمييز ولتحفظ شفتاك معرفة" كشفًا عن نظرة المسيحية إلى الثقافة أو المعرفة العلمانية، إذ يقول:

* إنه ينصحنا أن نستخدم حقًا الثقافة العلمانية، لكن لا نتباطأ ونقضي وقتًا (طويلاً) فيها. فما يُمنح لكل جيل بطريقة نافعة وفي أوقات مناسبة، هو تدريب بدائي لكلمة الرب. فإنه فعلاً إذ سقط البعض في حبائل الوصيفات احتقروا فلسفتهم المرافقة لهم، وشاخوا. سقط البعض خلال الموسيقى، وآخرون الرياضيات، وآخرون النحو، والغالبية البلاغة

القديس إكليمنضس السكندري

استخدم ملاخي النبي تعبير "حفظ الشفتين للمعرفة" قائلاً: "لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة، ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود" (ملا7:2). وكأن فم المؤمن الحيّ يصير أشبه بخزانة للمعرفة تحت حراسة الشفتين الحكيمتين، تخرجان من هذه الكنوز حسب الحاجة وبالقدر اللائق لبنيان النفوس.


2. سمات المرأة المنحلّة

إن كانت شفتا المؤمن المنصت لصوت الحكمة تحفظان معرفة فإن شفتيْ المرأة المنحلة تنساب منهما كلمات معسولة لينة كالزيت.

"لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلاً،

وحنكها ألين من الزيت.

لكن عاقبتها مرة كالأفسنتين،

حادة كسيفٍ ذي حدّين".

سبق لنا الحديث عن المرأة الأجنبية في هذا السفر، أنها تعني امرأة أممية زانية، لأنه بحسب الشريعة المرأة الإسرائيلية التي تُضبط في الزنا تُرجم. لذلك جاءت بعض الشريرات وسكنّ في وسط إسرائيل. وربما تعني أيضًا الإسرائيلية الساقطة في الزنا سرًا، فإنها تُحسب أجنبية وغريبة لأنها فصلت نفسها عن العهد الإلهي وفقدت انتسابها للشعب المقدس.

كلماتها من الخارج حلوة كالعسل، وفي الداخل مرة للغاية كالأفسنتين؛ من الخارج لينة كالزيت ومن الداخل كسيفٍ قاتلٍ ذي حدّين. يرى البعض أن العاقبة المرة كالافسنتين والسيف ذو الحدين هي الأمراض التناسلية التي يعاني منها كثير من الساقطين في الزنا. ولعل الله سمح بذلك لكي خلال ما يحل بالجسد يدرك الإنسان خطورة ما يحل بالنفس. فإن كان العالم قد اهتز منذ سنوات قليلة بسبب اكتشاف مرض الإيدز الذي غالبًا ما ينتقل خلال العلاقات الجسدية الخاطئة، فإن البشرية ستهتز حينما يفقد الكثيرون أبديتهم ومجدهم السماوي وشركتهم مع السمائيين بسبب الاستعباد للشهوات الجسدية الدنسة.

غالبًا ما يُقصد بالشفتين والفم هنا القبلات المثيرة للشر مع الكلمات العاطفية الغاشة.

يتطلع الإنسان الحكيم إلى المرأة الشريرة بفمها ذي الشفتين الناعمتين كعدوٍ خطيرٍ يقف ممسكًا بسيف ذي حدين. كل شفاه أشبه بحد سيف، أينما توجه السيف يقطع ويدمر... هكذا فم الشريرة.

* يُقدم أحدهم هذه النصيحة: "لا تُلاحظ جمال المرأة الأجنبية، ولا تلتقي بامرأة تُدمن الزنا. إذ تقطر شفتا الزانية عسلاً، الذي إلى حين يبدو لينًا لحنجرتك، لكنه بعد ذلك تجده أكثر مرارة من الأفسنتين، وأكثر حدّة من سيفٍ ذي حدّين. فالمرأة الزانية لا تعرف كيف تُحب بل تصطاد؛ قبلاتها مملوءة سمًّا، وفمها مخدِر ضار. إن كان هذا لا يظهر في الحال، فبالأكثر يجب تجنبها، لأنها تحجب هذا التدمير وتختم على هذا الموت ولا تسمح له بالظهور في البداية

القديس يوحنا الذهبي الفم

* تبدو ملامح الزانية مقبولة. أنا أعلم ذلك، إذ يقول الكتاب: "شفتا المرأة الأجنبية تقطران عسلاً". لهذا السبب احمل كل هذا التعب حتى لا تكون لك خبرة هذا العسل، فإنه في الحال يتحول إلى إفسنتين. هكذا يقول أيضًا الكتاب المقدس: "هذا الذي إلى حين ليّن لحنجرتك، لكنه بعد ذلك تجده أكثر مرارة من الإفسنتين، وأشد حِدّة من سيفٍ ذي حدّين" [3،4 LXX]

القديس يوحنا الذهبي الفم

* هكذا حرم الإنسان نفسه من ثمار الأمور الصالحة وملأ (بطنه) بالثمر الذي يجلب دمارًا خلال العصيان

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

"قدماها تنحدران إلى الموت.

خطواتها تتمسك بالهاوية.

لئلا نتأمل طريق الحياة،

تمايلت خطواتها ولا تشعر"

بدأ وصفه للمرأة الزانية بشفتيها اللتين تقطران عسلاً مسمومًا، قد دهنتهما بزيت الخداع لتسحب كل قلب إليها. من يستمع إليها ينزل إلى الأسافل، "قدماها تنحدران إلى الموت"، ولا يرتفع إلى قمم الجبال العالية والتلال الراسخة، فيعجز عن إدراك صوت حبيبه الحقيقي. يفقد قدرته على الترنم قائلاً: "صوت حبيبي. هوذا آتيًا طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال" (نش8:2). وكما يعلق القديس غريغوريوس النيصي على هذه التسبحة الرائعة فيقول بأن العروس وقد تيقظت بطرق كثيرة بلغت قمة السعادة. لقد تحدث معها عريسها خلال الآباء والأنبياء، خلال الجبال والتلال، والآن قدُم إليها بنفسه ليتحدث معها فمًا لفمٍ ووجهًا لوجهٍ

خطورة المرأة الزانية أن حركاتها تميل يمينًا ويسارًا، أو خطواتها غير ثابتة، لهذا تسحب قلب من يرتبط بها إلى حيث لا يدري. الأمر الأكيد أنها تضم معها من يرتبط بها إلى مملكة الموت.

في البداية تظهر كحيّة تبث سمومها، شهواتها الباطلة تشكل كل كيانها وحركاتها وكلماتها لكي تحدر النفوس إلى الموت آجلاً أو عاجلاً. الالتصاق بها يُسرع بالجسد إلى الدمار ويُسقط النفس في الموت الأبدي. إنها تسحب القلب والفكر من التأمل في طريق الحياة الأبدية، ليس علانية، ولكن بالخداع ومع مرور الزمن ينسى المُلتصق بها يوم الدينونة، فلا تشتهي نفسه أكاليل المجد، ولا تخشى نار جهنم.

العلامات الظاهرة لطريق الخطية هي: العاطفة والحب والعذوبة والتنعم والحياة المترفة والتدليل والميوعة... أسماء براقة جذابة للإنسان، فيظن أن الحياة بدونها لا طعم لها، أما العلامات الخفية الحقيقية لهذا الطريق فهي الموت والهاوية والدمار الأبدي. وإذ وضع الحكيم هذا اليوم العظيم أمام أعين تلاميذه يقول:

"والآن أيها البنون اسمعوا لي،

ولا ترتدّوا عن كلماتي"

* حسنًا، لقد بدأ يخاف يوم الدينونة.

ليته بالخوف يُصلح حياته، ليسهر ضد أعدائه، أي خطاياه.

ليبدأ ينطلق نحو الحياة الداخلية مرة أخرى ويميت أعضاءه التي على الأرض كقول الرسول

القديس أغسطينوس

"أبعد طريقك عنها،

ولا تقرب إلى باب بيتها"

يُقدم لنا الحكيم هذه النصيحة، وهي الابتعاد عن طريق الخطية وعدم الاقتراب إلى مدخل بيتها، حتى لا تسقط في حبائلها.

* هذه النصيحة التي يُقدمها لنا كاتب الأمثال: "أبعد طريقك عنها، ولا تقرب إلى باب بيتها" [8] هي بخصوص الزانية. أود أن أردد نفس الأمر بالنسبة لمحبة المال. فإنه بالدخول التدريجي إليها تسقط في محيط الجنون ولا تقدر أن تتخلص منها بسهولة. فتكون كمن في عاصفة، تجاهد ما استطعت لكنك لا تبلغ إلى الخلاص منها بسهولة. فإنك بعدما تسقط في هوة الطمع الشريرة تحطم نفسك وكل ما تملكه (أع20:Cool.

هكذا نصيحتي هي أنه يلزمنا أن نحذر من البداية، ونتجنب الشرور الصغيرة، فإن الشرور العظيمة تصدر عن هذه

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لئلا تُعطي زهرك (كرامتك) لآخرين،

وسنينك للقاسي"

بالمعنى الحرفي يحذر الحكيم الإنسان الذي تخدعه الخطية، خاصةً الزنا، لئلا يكتشف الزوج ما يفعله هذا الساقط مع زوجته الخائنة، فيفقد كرامته أمامه، بل وأمام الجماعة كلها، ويُحكم عليه بالموت، أو يسقط تحت عقوبات تمرر حياته. أما روحيًا، فإن ما هو أخطر أن ما يرتكبه الإنسان تعرفه السماء، فيفقد موضعه هناك، ولا يكون له نصيب بين السمائيين والقديسين. يفقد بهاءه الذي كان يليق به أن يقتنيه بالتقائه الدائم مع الله وشركته مع السمائيين، فيهوي مع إبليس وجنوده إلى المذلة والعار والهوان.

إذ يتهاون الإنسان مع نفسه ويقترب من الخطية أو يقف بجوار بابها، يفقد احترامه لنفسه وينسى كرامته في الرب، ويُسلم بقية عمره لعدو الخير. الخطية، خاصة الزنا، غالبًا ما تبدو رقيقة ولطيفة، لكنها تُخضعنا لسيد عنيف، مستبدٍ، ومحطمة للنفس ولكرامتها الحقيقية.

* من هم غرباء عنا إلا الأرواح المهلكة التي انفصلت عن جماعة السمائيين؟ وما هي كرامتنا سوى أننا بالرغم من كوننا أجسادًا من الطين خُلقنا على صورة صانعنا ومثاله؟! أو من هو عنيف إلا الملاك المرتد الذي أصاب ذاته بألم الموت خلال الكبرياء ولم يتوقف عن أن يجلب الموت على الجنس البشري مع أنه هو نفسه مفقود؟! لذلك يُعطي كرامته للغرباء ذاك الذي خُلق على صورة الله ومثاله وكرّس أزمنة حياته لملذات الأرواح المُهلكة

الأب غريغوريوس (الكبير)

"لئلا تُشبع الأجانب من قوتك،

وتكون أتعابك في بيت غريب.

فتنوح في أواخرك عند فناء لحمك وجسمك"

الشر كالعاصفة العنيفة تهبّ فتُحطم كل شيء. حينما يرتكب الإنسان الخطية، خاصة الزنا، يظن أنه يتمتع بنوعٍ من الشبع عِوض الحرمان، وهو لا يدري أنه يُسلم قوته لعدو الخير، ويُسلم كل ما يملكه إلى بيتٍ غريبٍ، ليس فقط من الجانب الروحي، بل حتى في الأمور المادية، إذ غالبًا ما تنتهي حياته بالمرارة. يفقد الكثير من ممتلكاته ويخسر صحة جسده.

ربما يقصد هنا أنه إذ يُكتشف أمر الزاني يلتزم بالإنفاق على من سقط معها في الزنا، وعلى المولود منها مدى الحياة، بهذا يشبع الأجانب من قوته ويكون تعبه في بيت غريب.

"فتقول: كيف إني أبغضت الأدب،

ورذل قلبي التوبيخ،

ولم اسمع لصوت مرشدي،

ولم أمل أذني إلى مُعلمي.

لولا قليل لكنت في كل شرٍ في وسط الزمرة والجماعة"

الأمر ليس كما يظن البعض مجالاً للتسلية، لكنه بحق خطير، فما يزرعه الإنسان إياه يحصد. ولعلنا نرى الآن كيف تئن المجتمعات من ثمار الانحلال الذي بذرته في قلوب الأجيال الجديدة فحصدت مرارة ودمارًا.

حسب الشريعة الموسوية يتعرض الزاني للرجم حتى الموت (تث22:22)، لكن ما هو أخطر يفقد الإنسان الحياة الأبدية.

مع أنه في وسط الزمرة والجماعة، أي في وسط كنيسة العهد القديم أو العهد الجديد، لكنه حرَم نفسه من سلامها وفرحها، وعزل نفسه بنفسه عنها خلال عدم سماعه لصوت أبيه الروحي، مرشده ومعلمه. رفض التأديب والتوبيخ ففقد عضويته الكنسية حتى وإن حملها في الظاهر.

* من يعتمد على رأيه الذاتي، ولو كان قديسًا، فهو مخدوع، وخطر خداعه أخطر من خطر المبتدئ الذي سلم تدبيره بيد غيره. فالأول يشبه ربان سفينة ألقى بنفسه في مركبٍ بلا شراع ولا مجدافٍ في وسط البحر، متكلاً على حذاقته وفن تدبيره. والثاني أي المبتدئ يشبه من لا خبرة له في سفر البحر، فيطلب من نوتيٍ ماهرٍ أن يركبه في سفينته العامرة بكل لوازمها واحتياجاتها.

فلا ينخدع أحدكم ويهرب من نير الطاعة اللين، عازمًا أن يتمسك برأيه في الأمور الروحية مثل الصوم والصلاة وغير ذلك من علامات الإيمان والنسك، ظانًا أنه بذلك يخلص!!

يوحنا الذهبي الفم

* الطاعة...هي جحود النفس، موت المشيئة، قبر الهوى، قيامة الاتضاع...

الطاعة موت أعضاء الجسد وهوى النفس، وذلك يكون للمبتدئ بألم، وللمتوسط تارة بألم وأخرى بلا ألم، وأما الكامل فلا يشعر بألم إلا إذا فعل شيئًا بحسب هوى نفسه...

فالذين يريدون أن يحملوا نير المسيح على رقابهم، ويُحّملون أحمالهم على رقاب غيرهم (آبائهم أو مرشديهم الروحيين)، سبيلهم أن يرفضوا أهواءهم الذاتية ويفعلون ما يرون أنه موافق لإرادة الله.

* بلا مدبر لا تكون السلامة. فمن الطاعة الاتضاع، ومن الاتضاع الشفاء من الآلام. فقد كُتب أنه باتضاعنا ذكرنا الرب وخلصنا من أعدائنا.

يوحنا الذهبي الفم

* يا لسعادة من يميت إرادته ويترك تدابير نفسه لذاك الذي أعطاه اللّه إياه أبًا ومعلمًا، فسيكون مكانه عن يمين يسوع المسيح المصلوب.

* الذي يطيع أباه مرة ويخالفه مرة، ويطيعه في شيء ويخالفه في آخر، فهو تارة يبنى وأخرى يهدم، فيكون تعبه باطلاً.

* ذاك الذي يطيع أباه الروحي تارة ويعصاه أخرى، مثله مثل الذي يضع تارة ماء جيدًا لعينيه المريضتين، وأخرى يضع عليهما كلسًا حارًا.

قال الآباء أن التسبيح بالمزامير سلاح، والصلاة حفظ، والدموع النقية غسل، والطاعة الفاضلة شهادة، فبغير اعتراف وطاعة لا يخلص الخطاة.

* إن طريق الطاعة هو أقصر المسالك، وإن يكن أكثرها صعوبة. ولا يوجد إلا طريق واحد متى سلكنا فيه ضللنا: وهو الذي ندعوه "الاتكال على الذات وعلى إرادتنا الشخصية".

* الطاعة احتجاج أمام اللّه. فان سُئلت منه: لماذا فعلت هذا؟ تجيبه "أنت يا سيد أمرت بالطاعة، ,أنا فعلت ما أمرت به" ،فتجاوبه هكذا وتتبرر.

إن السفر بهذه السفينة فيه أمان من الغرق. فيسافر الإنسان وهو نائم، كما يسافر الإنسان في السفينة نائمًا ولا يلتزم بتدبيرها، لأن مدبرها حاضر. هكذا حال الإنسان السائر تحت الطاعة، يسافر نحو السماء والكمال وهو نائم من غير تعبٍ ولا تفكير فيما ينبغي أن يفعل. لأن الرؤساء هم مدبرو هذه السفينة والساهرون من أجله. لعمري أنه ليس بالأمر الهين بل هو عظيم جدًا. فالإنسان يجتاز بحر هذا العالم وهو على ساعد غيره وذراعه!! هذه هي النعمة الكبرى التي يفعلها الله مع السالك تحت الطاعة.

القديس يوحنا الدرجي


3. علاج الانحلال

"أشرب مياهًا من جُبّك،

ومياهًا جارية من بئرك"

قديمًا كان أصحاب البيوت والحقول يعتزون بالآبار التي يشقونها والجُب الذي يحفرونه كأشياء خاصة وثمينة للغاية (2مل31:18؛ إر6:38).

هنا يشير إلى الأمانة في الحياة الزوجية، حيث يرتبط الزوجان معًا في الرب، فيشرب كل منهما من جبّه، حيث يرى مياه الحب في قلب الطرف الآخر، حاسبًا إياها جُبُّه وبئرُه العميق وينبوعه.

يقدم الحكيم هنا نظرة سامية ومقدسة للحب الزيجي، في وقت كان فيه الحديث عن العلاقات الجسدية بين الزوجين يُعتبر أمرًا مخجلاً ومشينًا. هنا يعلن أن الزواج يقدسه الله، فيشعر كل من الزوجين بتقديره للآخر وتقديس المشاعر العاطفية، وحتى جسده وجسد الطرف الآخر. يحدث الرسول بطرس الأزواج، قائلاً: "معطين إياهن كرامة كالوارثات أيضًا معكم نعمة الحياة لكي لا تُعاق صلواتكم" (1بط7:3).

من يطلب العاطفة أو الحب الشهواني أو يُسلم جسده لآخر غير (زوجته أو زوجها) إنما يفيض بينبوعه إلى الخارج، ويُبدد مياهه في الشوارع، يفقد ما له حيث يُسلم مياه حبه لأجنبي.

يلاحظ أن كلمة "بئر" أو "جب" في العبرية بصيغة المفرد، كأن سليمان الحكيم الذي لظروف سياسية سقط في تعدد الزوجات يوضح هنا ارتباط الشخص بزوجة واحدة، التي يتطلع إليها كينبوعه الواحد، كما تتطلع هي إلى زوجها ينبوعها الواحد... الله خلق حواء وحدها لآدم، ويكون هو لها.

* يقول إشعياء "أيها العطاش هلمّوا إلى المياه" (إش1:55). ويحثنا سليمان: "اشرب مياهًا من آنيتك"...

أفلاطون الفيلسوف الذي تعلّم من العبرانيين يأمر الأزواج ألا يشربوا أو يأخذوا ماءً من آخرين، بل يحفروا أولاً في أرضهم (الارتباط بالزوجة وحدها) التي يُقال عنها أنها أرض بكر

القديس اكليمنضس السكندري

* إن تطلعت في غير طهارة مشتهيًا زوجة قريبك، يكون نصيبك مع الزناة... دعْ ينبوعك لك واشرب ماء من بئرك. لتكن ينابيعك لك وحدك ولا تدع آخر يشرب معك. اطلب طهارة جسدك كما تطلب ذلك من الطرف الآخر. فإنك كما لا تريد زوجة صباك أن تتنجس مع رجلٍ آخر، لا تتنجس أنت مع امرأة أخرى زوجة رجل آخر

مار أفرآم السرياني

* ليكن ينبوع مياهك (زوجتك) لك وحدك وليس لأجانب معك… عندئذ لا تهتم بنهرٍ غريب (سيدة أخرى) ولا أن تبهج الآخريات أكثر من زوجتك. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لئلا إن حُملت إلى موضع آخر، تمارس شريعة النجاسة مع الطرف الآخر أيضًا

القديس غريغوريوس النزينزي

والينبوع الداخلي هو فيض الحب الإلهي الذي يفجره الروح القدس فينا.

* حسنة إذن هذه المياه، التي هي نعمة الروح.

من يهبني هذا الينبوع لصدري؟

لينبع في داخلي، ليفض ذاك الذي يهب حياة أبدية عليّ.

ليفض هذا الينبوع عليّ وليس خارجًا عني. إذ يقول الحكمة: "اشرب مياهًا من جُبكّ، ومياهًا جارية من بئرك، لا تفض ينابيعك إلى الشوارع".

كيف احتفظ بهذا الماء لكي لا يفيض وينحدر بعيدًا؟

كيف احتفظ بالإناء حتى لا يصيبه شق الخطية، فتتسلل منه مياه الحياة الأبدية؟

علمنا أيها الرب! علمنا كما علمت تلاميذك، قائلاً: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يُفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون" (مت19:6)

القديس أمبروسيوس

إن كان الحكيم يتحدث هنا عن نقاوة المتزوجين، فإن حديثه أيضًا ينطبق على نقاوة التعليم. فالمعلم الذي يكرز بما يقوله الآخرون دون أن يختبره في حياته العملية، لا يشرب من مياه جُبّه، ولا يتمتع بمياه بئره. يليق بنا أن نشرب من ينابيع قلوبنا الداخلية حيث يفيض الروح القدس بمياهه فيها فنرتوي ونفيض على الغير.

* افتح رواق قلبك لكلمة الله الذي يقول لك: "افتح فاك وأنا أملأه!"

القديس أمبروسيوس

* كل الذين لا يحبون الله غرباء وأضداد للمسيح. وبالرغم من حضورهم إلى الكنائس لا يُمكن إحصائهم بين أولاد الله، ولا ينتمي ينبوع الحياة إليهم.

إن يعتمد الإنسان هذا ممكن حتى بالنسبة للشرير، أن يتنبأ الإنسان هذا ممكن للشرير!

القديس أغسطينوس

"لا تفض ينابيعك إلى الخارج،

سواقي مياه في الشوارع.

لتكن لك وحدك وليس لأجانب معك"

ماذا يعني بالذي يفيض بمياهه إلى الخارج، ويلقي بمياه السواقي في الشوارع؟ إنه ذاك الغبي الذي لا يبالي بقيمة المياه في المناطق النائية، فيبددها برشها في الشوارع.

يرى البعض هنا صورة بعض الرجال في العصور القديمة الذين لم يقدسوا الحياة الأسرية، فلم يكتفي الرجل بزوجة واحدة ليهتم بها مع أبنائهما، بل كل ما كان يشغله إشباع شهواته مع أكثر من زوجة، وإرضائهن جميعهن بأن يكون لهن أطفال منه... حتى أنه أحيانًا لا يعرف أسماء أبنائه من كثرة عددهم، وبالتالي لا يقدم لهم روح الأبوة ويهتم بتربيتهم وخلاصهم

ربما يقصد أن من يشرب من الينبوع الخارجي أي من غير زوجته (أو رجلها) إنما يدفع الطرف الآخر أن يسلم نفسه للزنا. بينما يشرب الرجل من ينبوع ليس له، يفقد ينبوعه (زوجته) التي تسلم عواطفها وربما جسدها لغيره. بهذا يخطئ في حق نفسه وفي حق شريكة حياته.

* عندما ينحرف أي شخص بطاقة أفكاره إلى الشر يكون قد بدد فيض المياه علي الغرباء.

مادمنا نروي طريق حياتنا الذي تنتشر فيه الأشواك بمياه الأفكار الشريرة تجف النباتات الصالحة وتنتهي، لأن جذورها لا تنتعش برطوبة الأفكار الصالحة

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

"ليكن ينبوعك مباركًا،

وافرح بامرأة شبابك"

"الظبية المحبوبة والوعلة الزهية،

ليُروِك ثدياها في كل وقت،

وبمحبتها اسكر دائمًا"

* كلمة الله حيّ، والنفس التي تستقبله حيَّة. هذا النوع من الماء يفيض من الله، إذ يقول الينبوع نفسه: "لأني خرجت من قِبَل الله" (يو42:Cool. لدي العروس فيض من الماء في داخل بئر نفسها، فتصير خزانة لهذا الماء الحيّ الذي يفيض من لبنان (نش15:4)

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

ليسلك الزوجان بروح البساطة مع الحب، فكما يشبع الرضيع من ثديي أمه، هكذا يشبع الزوجان من حبهما المشترك.

تشبيه الزوجة بالظبية المحبوبة والوعلة المبتهجة إنما يُشير إلى نقاوة الحب وسرعة التجاوب بينهما. فالظبية ترمز إلى طهارة الجسد، والوعلة المبتهجة إلى سرعة الحركة.

استخدم سليمان الحكيم كلمات مشابهة في سفر نشيد الأناشيد (9:2،17؛5:4؛3:7).

"فلم تُفتن يا ابني بأجنبية وتحتضن غريبة"

الفعل هنا في الأصل يعني أن يجول الإنسان أو يضل حتى يصير أسيرًا. هكذا من يسقط في حبائل زانية (أجنبية) أو زوجة رجل آخر. يظن أنها تتعلق به وتحبه، ولا يدري أنها تأسره في حبال الخطية المحطمة للحرية.

"لأن طرق الإنسان أمام عيني الرب وهو يزن كل سبله.

الشرير تأخذه آثامه،

وبحبال خطيته يُمسك.

إنه يموت من عدم الأدب،

وبفرط حمقه يتهور"

يسألنا النقاوة الداخلية والخارجية، فلا نُفتن بأجنبية خلال نظراتنا الخفية أو الفكر، ولا نحتضن غريبة بسلوكٍ عملي. فإن الله ينظر إلى الإنسان ويعرف أسراره الخفية وتصرفاته الظاهرة. وكما يقول الرسول: "ليس خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا" (عب13:4).

من يسقط في الخطية إنما يربط نفسه بحبالها، ويشرب من كأسها، ويأكل ثمارها المهلكة. فالخطية تحمل في داخلها أجرتها، حيث تستعبده وتذله وتهلكه.

* إنك لا تؤذي أحدًا، إنما كل إنسان يُربط بحبال خطيته. (راجع مز15:7-16،6:57)

القديس أغسطينوس

* "ليسقطوا في الفخ (الذي نصبوه)... مجازاة خطيرة، ليس عدل أكثر من هذا! لقد أخفوا فخًا لكي لا أعرفه، ليمسك الفخ بهم الذي لا يعرفونه... الشرير يُربط بحبال خطيته، لذلك يُخدع الأشرار بما يريدون أن يخدعوا به الغير. حينئذ يحل بهم الضرر عندما يودون ضرر الغير. لذلك قيل: "لتمسك بهم الشبكة التي أخفوها، وليسقطوا في فخهم".

إنه كمن يعد كأس سم لآخر، وينسى أنه سيشرب هو منه، أو من يحفر حفرة لكي يُسقط عدوه فيها وسط الظلام ناسيًا أنه سيسير هو أولاً في الطريق الذي حفر فيه ويسقط...

القديس أغسطينوس

* الملذات ذاتها التي نتمتع بها تصير عذابًا لنا، والمباهج والمسرات التي للجسد تتحول إلى معذبين لمن أصدرهم

القديس يوحنا كاسيان

يختم حديثه هنا بنهاية "الأحمق" المتهور الذي لا يضبط نفسه. ويلاحظ أن كلمة "ضبط النفس" وردت 42 مرة في هذا السفر، وكلمة "جاهل" تكررت 40 مرة، فمن لا يضبطون أنفسهم يعيشون بروح الحماقة والجهل، ومن يسلكون بحماقة يفقدون ضبطهم لأنفسهم.

خلاصة هذا الأصحاح أن من ينحني بنفسه أمام الشهوات الجسدية يفقد ضبطه لنفسه، فيعيش في غباوة.

التعليم الإلهي الخاص بالعلاقات الجسدية

يؤكد هذا الأصحاح أن كل علاقة يسقط فيها الشاب قبل زواجه لها أثرها على بيته في المستقبل، فالطهارة تحفظ الإنسان في بيته ليشرب من ينبوعه الصالح. العلاقات الخاطئة تحطم سلام الشاب الداخلي وتفقده قدسية النظرة إلى الحياة الزوجية، خاصة في العلاقات الجسدية، فيشرب مرارة ويفقد عذوبة الحياة الأسرية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 03, 2011 11:45 pm

الاصحاح السادس


التصرفات غير المسئولة

إذ يُحذرنا الحكيم في الأصحاح الخامس من صوت المرأة الزانية التي تحمل عسلاً في فمها ممتزجًا بمرارة مع سُمٍ مميتٍ، موضحًا أن الإنسان إنما يسقط في حبائل شره، ويشرب من ذات الكأس التي يملأها، الآن يقدم أربعة أمثلة للتصرفات الخاطئة التي تجلب على الإنسان مرارةً وهلاكًا، وهي:

التصرفات غير المسؤولة (بلا تقدير سليم).

الكسل.

الخداع.

الدنس.

1. التسرع في ضمان الغير1-5.

2. الكسل والنملة6-11.

3. اللؤم12-15.

4. سبعة أمورٍ مكرهة للرب16-19.

5. الحاجة إلى التعلم20-23.

6. تحذير من الشريرات24-33.

7. الغيرة34-35.


1. التسرع في ضمان الغير (التصرفات غير المسئولة)

"يا ابني إن ضمنت صاحبك،

إن صفَّقت كفَّك لغريب،

إن علَّقت في كلام فمك،

إن أُخذت بكلام فيك،

إذًا فافعل هذا يا ابني ونجِّ نفسك،

إذا صرت في يد صاحبك،

اذهب ترام وألح على صاحبك.

لا تُعطِ عينيك نومًا ولا لأجفانك نُعاسًا،

نجِّ نفسك كالظبي من اليد،

كالعصفور من يدّ الصيَّاد".

في الأصحاح السابق يحذر سليمان الحكيم الشاب من الخلط بين الحب الطاهر الذي ينمي الشخصية ويسند النفس والشهوة التي تحطم كيان الإنسان كله: جسدًا ونفسًا وروحًا. هنا يحذر الشاب من المحبة المتسرعة غير الحكيمة، حيث يقوم الإنسان بضمان الغير دون الاهتمام بحساب النفقة. وقد حذر الحكيم من هذا السلوك عدة مرات (15:11؛ 18:17؛ 16:20؛ 26:22؛13:27). فبحسب القضاء اليهودي يتعرض الضامن الذي يعجز عن إيفاء دين من ضمنه لمصادرة ممتلكاته، بل وبيعه عبدًا لحساب الدائن.

كثيرًا ما يتقدم الشاب ضامنًا لغيره بدافع الكبرياء والاعتزاز بذاته وإمكانياته، بغير تروٍ، لهذا يطالبه الحكيم بالاتضاع فيرتمي كما عند قدمي المدين ويسأله أن يوفي ما عليه. إنه لم يطلب منه أن يرتمي عند قدمي الدائن ليعفو أو يؤجل الدين للمدين، بل عند قدمي المدين ليوفي ما عليه، مما يدل أنه يتحدث عن كفالةٍ لتاجرٍ قادرٍ على السداد، وليس لفقيرٍ محتاجٍ إلى القرض للضرورة.

يرى البعض أن ممارسة الضمان قد تطورت وتزايدت بين اليهود في ذلك الحين، فتخصص بعض الشبان الأثرياء في القيام بعمليات الضمان بين أفراد من بني جنسهم وغرباء، هدفهم أخذ أكبر قدر من الربا، فانجرفوا بهذا وراء الطمع، لكن انتهت حياتهم بالإفلاس، بل وبضياعهم تمامًا. فالتحذير هنا ليس ضد العمل الإنساني والكرم في الضمان وإنما ضد المعاملات التجارية الخاطئة.

يُقدم لنا سليمان الحكيم المبادئ التالية في ضمان الغير:

أولاً: ألا تتسرع في ضمان الغير، فإن هذا الضمان وإن كان بكلمة من الفم، فإن الإنسان المؤمن يرتبط بالكلمة التي ينطق بها. هذا التسرع يُحسب فخًا يسقط فيه الإنسان. يقول البعض إن شفتي الإنسان هما فخ يسقط فيه الإنسان بكلماته. لهذا يليق بالمؤمن أن يُكرس طاقاته لضبط اللسان أكثر من بقية الأعضاء، ووضع لجام له. نحتاج إلى عمل الروح القدس الذي يُقدس اللسان.

* تسيب اللسان هو فخ خطير، يحتاج إلى لجامٍ قويٍ. لذلك قال أحدهم: "شفتا الإنسان فخ قوي يُنصب له، يصطاده بكلمات فمه".

لنضبط هذا العضو أكثر من كل بقية الأعضاء.

لنلجمه، ولنستبعد عنه كلمات العتاب العنيفة والألفاظ الفظة والحمقاء والأسلوب الجارح، وعادة القسم الرديئة

القديس يوحنا الذهبي الفم

* إكثار الكلام هو عرش للعُجب...

إكثار الكلام دليل عدم المعرفة.

* صديق الصمت يتقرّب من الله، وإذ يناجيه سرّا يستنير بنوره

القديس يوحنا الدرجي

ثانيًا: إن ضمنت إنسانًا لا تأخذ الأمر بتهاون، لكن يليق بك ألا تنام ولا تستريح، باذلاً كل الجهد لكي يسدد المدين دينه الذي ضمنته، بهذا تحرر نفسك من الالتزام فتكون كالظبي المسرع من يد الصياد، أو كالعصفور الطائر بعيدًا عن الفخ.

ويلاحظ أن كلمتي "يد" و"صياد" في العربية كما في العبرية "sayyad, yad"؛ وأن كلمة "يد" مشتركة في الكلمتين إذ يسقط بجهله أسيرًا في يد الصياد ولا يفلت منها.

يشجع ابن سيراخ المؤمن أن يعامل الإنسان أخاه بالحب مع الحكمة فيقول:

"الرجل الصالح يكفل قريبه، والذي فقد كل حياء يخذله...

الكفالة أهلكت كثيرين من الميسورين، وتقاذفتهم كأمواج البحر.

ألجأت رجالاً مقتدرين إلى الهجرة ، فتاهوا بين أمم غريبة.

الخاطئ الذي يتهافت على الكفالة سعيًا وراء الكسب يتهافت على دينونته.

ساعد قريبك بقدر طاقتك،

وأحذر على نفسك أن تسقط" (ابن سيراخ 14:29-20).

مرة أخرى نؤكد أن سليمان الحكيم لا يوصي بعدم الضمان، وإنما بالحكمة في التصرف، مهما كان الدافع إليه. يوجد مثل يهودي (ربّاني): "عندما يذهب الأحمق إلى السوق يفرح التجار".


2. الكسل والنملة

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الإنسان الذي خُلق على صورة الله ومثاله ينحط بالخطية لينزل حتى تصير الحيوانات والحشرات أفضل منه في أمور كثيرة. فالحيوانات المفترسة كالأسود إذ تجتمع معًا تسند بعضها البعض، ولا يهاجم أحدها الآخر، أما الإنسان فإذ يجتمع بأخيه غالبًا ما تدب بينهما روح الغيرة والحسد مما يدفع أحيانًا إلى ارتكاب جرائم القتل. أيضًا يفقد الإنسان حديثه ونشاطه وحكمته فيحتاج أن يتعلم ذلك من النملة. وكما يقول سليمان الحكيم:

"اذهب إلى النملة أيها الكسلان.

تأمل طرقها وكن حكيمًا.

التي ليس لها قائد أو عريف أو متسلط.

وتعد في الصيف طعامها، وتجمع في الحصاد أكلها.

إلى متى تنام أيها الكسلان؟

متى تنهض من نومك؟!"

يطلب الحكيم من الكسلان أن يذهب إلى النملة لكي يتعلم منها أمورًا كثيرة منها:

ا. بالرغم من عدم وجود قائدٍ أو مدبرٍ عام، لكن النمل يعرف كيف يعمل معًا لصالح الجماعة (team work). لقد سبق النمل الإنسان في العمل المنظم الجماعي، دون صراعٍ على مراكز القُوى أو السلطة.

ب. لا تحتاج النملة إلى قائد لها يُلزمها بالعمل، لكنها تعمل بغريزة داخلية دون ضغط خارجي، بينما كثيرًا ما يعمل الإنسان، لا من أجل أمانته الداخلية لكن خوفًا من الغير، خشية أن يفقد الأجرة أو الكرامة.

ج. يُعدْ النمل طعامه في الربيع والصيف والخريف، لينام ويستريح وقت الشتاء. إنه يعمل مادام وقت عمل ويبقى عاملاً إلى فترات طويلة حتى متى حل الوقت الذي فيه لا يقدر على العمل يجد بجواره ما يأكله. إنه لا يعرف النوم في فترات العمل، بل يجتهد بلا تراخٍ. هكذا يليق بنا أن نعمل مادام الوقت نهار، حتى متى حلّ الليل نستريح.

ليس بين الحشرات من هو مجتهد بحق وعامل باستمرار كالنمل، حتى النحل الذي يجمع الرحيق من الزهور ليس دائم الحركة والعمل كالنمل.

د. لم يذكر سليمان الحكيم اهتمام النمل بصغاره، فإنه يحمل الصغار قبل اكتمال نموه ويخرج به إلى خارج الثقب ويضعه عند المدخل ليتعرض لضوء الشمس وينتفع بها. وإذا ما شعر بأن المطر يحل يحمله إلى داخل الثقب, ويضع حجرًا صغيرًا جدًا حتى لا يتسلل الماء إلى صغاره. حقًا يُحسب النمل مثالاً رائعًا وحيًّا للإنسان في العمل الدائب مع الاهتمام بالصغار.

كان البعض، في العصور الأولى، يخجلون أن يتعلموا على يد امرأة ولو كانت هذه السيدة هي الأم، كما اعترف القديس أغسطينوس قائلاً لله: "كنتَ تُحدثني على فم أمي، لكنني لم أكن أنصت إليك، لأنك كنت تحدثني على فم امرأة". ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم متعجبًا ممن يرفضون تعليم بعض النساء كالأمهات، بينما نزل الإنسان إلى المستوى الذي صار فيه محتاجًا أن يتعلم من حشرة صغيرة كالنملة.

* إن كنتَ تخجل من أن يكون لك امرأة كمعلمٍ لك اهرب من الخطية، عندئذ تستطيع الصعود إلى الحكمة التي يهبها لك الله. مادمت تخطئ فإن الكتاب المقدس يرسل لك ليس فقط امرأة بل وخليقة غير عاقلة وأحيانًا رديئة! حقًا إنه ليس مخجلاً أن يرسلك تلميذًا لنملة وأنت مكرم بالعقل

* نقول: لاحظ كيف أن كائنًا أقل منك مملوء غيرة وساهر! لذا تقبل من هذه الحشرات (الحيوان) أفضل نصيحة في العمل، وتعجب من ربك ليس لأنه خلق السماء والأرض فقط، ولكنه أيضًا خلق النملة. فمع كونها صغيرة تقدم برهانًا على عظمة حكمة الله. تطلع كيف تسلك النملة بتعقلٍ، وكيف غرس الله في هذا الجسد الصغير رغبة للعمل بلا انقطاع!

القديس يوحنا الذهبي الفم

* كن متعقلاً، قلِّد النملة كما يقول الكتاب: "لتُخزن في الصيف لئلا تجوع في الشتاء".

الشتاء هو اليوم الأخير، يوم الدينونة.

الشتاء هو يوم العصيان والمرارة.

اجمع ما سيكون لك في المستقبل وإلا فإنك تهلك لأنك غير متعقلٍ ولا حكيمٍ

القديس أغسطينوس

كاد أن يخصص القديس يوحنا كاسيان مقالاُ كاملاُ عن ضرورة العمل وعدم الكسل حتى بالنسبة للمتوحدين:

* (الرسول بولس) كطبيبٍ مختبرٍ ماهرٍ يحاول العلاج بإجراء جراحة بسلاح روحي قائلاً: "أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التعليم الذي أخذه منا" (2تس6:3). هكذا يأمرهم أن يتجنبوا أولئك الذين لا يُكرسون وقتًا للعمل، وبترهم كأعضاء من البدن شوّهتها قروح البطالة والفراغ، خشية أن ينتقل مرض التراخي والكسل تدريجيًا إلى الأجزاء السليمة من الجسم، مثل بعض الأمراض المعدية المميتة.

حين يتكلم الرسول عن أولئك الذين لا يعملون بأيديهم، ويأكلون خبزهم في هدوء، يحثنا على تجنبهم. استمع إلى ما يدفعهم به من ضروب الملامة والتوبيخ عند استهلاله. فهو أولاً: يدعوهم "بلا ترتيب"، وأيضًا: "لا يسلكون حسب التعليم". وبعبارة أخرى يصفهم بالعناد لأنهم لا يسلكون وفق توجيهه، وبعدم اللياقة لأنهم لا يلتزمون بالأوقات اللائقة المضبوطة في خروجهم وزياراتهم وأحاديثهم. لأن الشخص غير المرتب يتعرض بالتأكيد لكل هذه الأخطاء.

"وليس حسب التعليم الذي أخذوه منا"، بهذا يوبخهم على أنهم على نحوٍ ما متمردون، ومستهزئون، قد استخفوا بالتعليم الذي أخذوه منه ولم يحرصوا عليه، ولم يتبعوا ما تذكروا أنه قد علمهم به لا باللفظ فحسب بل ومارسه بالفعل أيضًا... "إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يُتمثَّل بنا" (2تس7:3).

يحشد الرسول كومة هائلة من التقريع واللوم حين يؤكد أنهم لم يراعوا ما لا يزال عالقًا بذاكرتهم. والذين تعلموه ليس فقط بالإرشاد الشفوي، بل تسلموه أيضًا في شخصه كقدوة في العمل لابد أن تُحتذى

القديس يوحنا كاسيان


3. اللؤم

إن كان الكسلان يُدان على كسله وإن كان لا يمارس شرًا، فكم بالأكثر تكون إدانة من يمارس الشر، خاصة اللؤم؟! إذ يعمل الإنسان كل شيء بطريقة متكلفة، مخططًا بمكرٍ ضد الغير؛ مثل هذا الإنسان يفقد براءته باعتزاله طريق الرب فيُدمر نفسه.

يقدم الحكيم سبعة أعمال تتسم بالخداع ، يمارسها الإنسان الأحمق.

"الرجل اللئيم، الرجل الأثيم،

يسعى باعوجاج الفم،

يغمز بعينيه،

يقول برجله،

يُشير بأصابعه.

في قلبه أكاذيب.

يخترع الشر في كل حين.

يزرع خصومات.

لأجل ذلك بغتة تُفاجئه بليته.

في لحظةٍ ينكسر ولا شفاء"

جاءت كلمة" اللئيم" في العبرية لتعني حرفيًا "إنسان بليعال Man of Belial " ، أي الإنسان التافه، الذي لا يصلح في عمل شيء، لأن معاملاته مع الكلمات الكاذبة.

يتسم اللئيم بالصفات التالية:

ا. رجل أثيم: جاءت الكلمة العبرية لتعني إنسانًا مرتدًّا، منفصلاً عن الله ومقاومًا له. يستخدم فمه لكي ينحرف بالحق، سالكًا باعوجاج.

ب. يتحدث ليس فقط بلسانه، لكنه يُسخر إن أمكن كل أعضاء جسمه لتُعبِر عمَّا يحمله في داخله من اعوجاج، أو انحراف عن الحق. فمه ينطق باعوجاج، وعيناه تغمزان في سخرية، ورجلاه تتحركان لتتحدثا بما يتفق مع قلبه الفاسد، وأصابعه تُشير نحو ما يود أن يُحققه.

غالبًا ما تُستخدم الأرجل والأصابع في الشرق كوسيلة للتعبير عن أفكارٍ معينة خاصة في وجود أشخاص يريد الإنسان أن يخفي عنهم ما يحدث به غيره، فعوض الحديث باللسان يتحدث بحركات قدميه وأصابعه دون أن يدرك الحاضرون ما يعنيه الشخص. عُرف عن بعض التجار أيضًا أنهم إذ كانوا يدخلون في عقد صفقات في حضور آخرين يجلسون على الأرض ويضعون قطعة من القماش على الفخذين، ويعبّرون عما يتحدثون به خلال حركات أصابعهم. وبنفس الطريقة ينقل البراهمة الأسرار الدينية إلى تلاميذهم وهم يخفون أياديهم في ثنايا ثيابهم، بهذا يعلمون بأصابعهم. كان هذا الأمر معروفًا عند الرومان القدامى، وصفه الكتّاب الكلاسكيين.

يرى البعض أن سمعان بطرس لم يستطع أن يتحدث مع السيد المسيح متسائلاً عمن يسلمه، لذلك أومأ إليه متحدثًا معه بلغة الإشارات، إذ قيل: "فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه" (يو24:13).

اعتادت الفتيات الفاسدات والراقصات أن يستخدمن أقدامهن للتعبير عما يردن أن ينطقن به. يرى البعض أن سليمان الحكيم غالبًا ما قصد هؤلاء الفاسدات عندما تحدث عن الرجل اللئيم الأثيم

ج. في قلبه أكاذيب: إن كانت أعضاء جسمه الظاهرة مُكرسة للشر، فإن سرّ ذلك هو القلب الذي يحمل أكاذيب عِوض الحق.

من يحمل السيد المسيح - الحق ذاته – في قلبه تتقدس كل أعضاء جسمه، ومن يحمل إبليس – الكذاب وأبو الكذابين - تُستخدم كل أعضاء الجسد لممارسة أعماله الشريرة وخداعاته.

* نقاوة القلب تعني نقاوة العين التي بها نعاين الله، ولا شك يزداد اهتمامنا بنقاوة القلب قدر ما يكون ما نراه بالقلب عظيمًا

القديس أغسطينوس

* من أجل نقاوة القلب ينبغي أن نفعل كل شيء، ونصبر على كل شيء، ولا نتعلق بأقربائنا وأرضنا (ممتلكاتنا) وكرامتنا (الأرضية) وجاهنا ومباهج العالم وكل أنواع الملذات...

ينبغي أن نصنع كل شيء أو نبحث عن أي شيء من أجل نقاوة القلب. فمن أجلها نطلب التوحد... ومن أجلها نصوم ونسهر ونحتمل الأتعاب والعري والدراسة ونقتني كل الفضائل الأخرى، لكي ما نهيئ قلوبنا ونحفظها من كل السموم الشريرة، وبهذا نصعد إلى كمال المحبة...

فالأمور التي تأتي في المرتبة الثانية في أهميتها كالصوم والسهر والزهد في العالم والتأمل في الكتاب المقدس، هذه يلزمنا أن نفعلها ناظرين إلى الهدف الرئيسي وهو "نقاوة القلب" التي هي "المحبة". فعلينا ألا نفقد هذه الفضيلة الرئيسية بسبب تحقيق فضيلة أخرى.

فإذا لم ننفذ إحدى هذه الفضائل الأخرى لسبب قهري لا يصيبنا أذى، طالما وجدت الفضيلة الرئيسية. فلا يسوغ لنا أن ننفذ عملاً يكون من شأنه أن نفقد هذا الهدف موضوع حديثنا، بل نجاهد من أجله مهما كلفنا الأمر

الأب موسى

د. يخترع الشر بلا انقطاع: فلا ينخدع من إبليس فحسب، وإنما يحمل سمته، فيحث كل من حوله لممارسة أعمال إبليس. ينشغل نهاره وليله، حتى في أحلامه، على ممارسة أعمال أبيه، إبليس.

ه. يزرع خصومات: يقول الأب غريغوريوس (الكبير) عمَّا يجب أن نقدمه من توجيهات لزارعي الخصومات:

[يوجد اختلاف بين ما يُقدم من نصائح لزارعي الخصومات ولصانعي السلام. فيُنصح زارعو الخصومات أن يُدركوا من هو هذا الذي يتبعونه. قيل عن الزوان الذي زُرع وسط الحنطة الصالحة بأن عدوًا فعل هذا (مت28:13)، أي أنه ملاك لئيم... كما يقول سليمان الحكيم، انه شخص لئيم، إنسان بلا نفع، يسير بفم معوج، ويغمز بعينيه، ويضرب بقدميه، ويتكلم بأصبعه، ويخترع شرورًا بلا انقطاع بقلبٍ فيه أكاذيب، ويزرع خصومات.

نعم ذاك الذي يُريد أن يتحدث عنه هو زارع خصومات. يُدعى أولاً لئيمًا، حيث أنه على منوال الملاك المتكبر، يسقط أولاً في داخله بانحراف فكره عن وجه خالقه، بعد ذلك يزرع الخصومات في الخارج. بحق وصفه أيضًا أنه يغمز بعينيه ويتكلم بأصبعه ويضرب بقدميه. فإن سهر الإنسان الداخلي يحفظ أعضاءه الخارجية مضبوطة في نظامها. فمن يفقد ثبات فكره يسقط أيضًا في الخارج في حركات غير رزينة، وبحركاته الخارجية يظهر أنه لا يحمل جذورًا مستقرة في الداخل. يسمع زارعو الخصومات ما هو مكتوب: "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون" (مت9:5). ومن الجانب الآخر ليُدرك هؤلاء أنه إن كان صانعوا السلام يُدعون أولاد الله، فإن من يُقاومون ذلك (زارعين خصومات) يُدعون حتمًا أبناء إبليس.]

حقًا إن الإنسان اللئيم أو المُخادع يزرع الخصومات حتى بين الزوجين، ليُحطم روح الحب والوحدة.

أما نهاية الإنسان اللئيم فهي السقوط في بلايا مفاجئة، ينكسر وليس من شفاءٍ لكسره.

لعلَّه يُشير هنا إلى الإنسان المخادع الذي يصير مخدوعًا، خاصة من خطية الزنا، فيتعرض فجأة للرجم - حسب الشريعة الموسوية - وتنكسر عظامه، وليس من يشفي كسرها، أو من يترفق به وهو في الحفرة تنهال على جسده الحجارة من كثيرين.


4. سبعة أمورٍ مكرهة للرب

تصف العبارات التالية "إنسان بليعال"، وتطابق ما سبق فأعلنه في الآيات 15-12، مؤكدًا أن أخطر الخطايا هي زرع الخصومات بين الأخوة.

"هذه الستة يبغضها الرب، وسبعة هي مكرهة نفسه.

عيون متعالية،

لسان كاذب،

أيد سافكة دمًا بريئًا.

قلب يُنشئ أفكارًا رديئة،

أرجل سريعة الجريان إلى السوء،

شاهد زور تفوه بالأكاذيب،

وزارع خصومات بين اخوة"

يتساءل البعض: "إن كان الله محبة، فهل يحمل بغضًا أو كراهية؟" هو حب ، وبحبه يبغض البغض والكراهية، ولا يقبل الشر. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). ففي سفر الجامعة يوصينا: "للحب وقت وللبغضة وقت" (جا8:3). وفي سفر التثنية قيل: "ولا تقم لك نصبّا. الشيء الذي يبغضه الرب إلهك" (تث22:16). وفي المزامير: "أحببت البرّ وأبغضت الإثم" (مز7:45)، وفي سفر الرؤيا: "ولكن عندك هذا أنك تبغض أعمال النقولاويين التي أبغضها أنا أيضًا" (رؤ6:2). يشبّه البعض أبوة الله المملوءة حبًا بأبٍ يحب طفله الصغير، لكنه إذ يرى حية سامة تود أن تقتله يبغضها ويقتلها. هكذا الله في حبه لنا يبغض الخطية التي تبث سمومها فينا.

يٌقدم لنا الحكيم قائمة بالأمور التي يبغضها الرب. وهي خطايا تسبب بالأكثر أضرارًا للحياة البشرية، وكأن من يُؤذي أخاه إنما يُسيء إلى الله نفسه الذي يشتهي راحة البشر ويطلب سلامهم ونموهم.

لنتطلع إلى هذه القائمة لا لندين الآخرين، وإنما لنكتشف أخطاءنا نحن فنتوب عنها بروح الاتضاع مع الصلاة والطلبة وتجنب كل باب للشر.

هذه الخطايا هي:

ا. العيون المتعالية: إنها عيون المتكبرين، إذ يتشامخ الإنسان على اخوته عِوض أن يتطلع إليهم بنظرات العطف والحنو والشوق إلى العطاء. هذه هي أول الأمور التي يبغضها الله، وقد سقط الشيطان في هذه الخطية (إش13:14،14). وهو لا يكف عن أن يحث كل إنسانٍ لكي يدعي الألوهية ولا يتكل على الله، ظانًا أنه غير محتاج إليه. لهذا يقول الرب لأيوب: "أنظر إلى كل متعظم وذلّلهُ، ودُس الأشرار في مكانهم" (أي12:40). ويصرخ داود النبي: "يا رب لم يرتفع قلبي، ولم تستعل عيناي، ولم أسلك في العظائم التي هي أعلى مني" (مز1:131). ويقول الله في إشعياء: "إلى هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش2:66).

* لا يوجد خطأ ما يحطم كل الفضائل ويسلبها، ويعري الإنسان من كل برّ وقداسة، مثل شر الكبرياء، الذي يشبه وباءً خطيرًا يهاجم الإنسان بكليته، ولا يقتنع بإتلاف جزء منه أو عضوٍ واحدٍ، إنما يتلف الجسم كله بتأثيره المميت. يجتهد الكبرياء أن يطرح الإنسان بسقوط مهلك، ويحطم في الحال الذين وصلوا إلى قمة الفضائل.

بالنسبة لأي خطأ آخر يكتفي أن يسبب في الداخل جرحًا في حدودٍ معينة، فإن كان يقاوم بعض الفضائل، لكنه يتجه أساسًا ضد فضيلة واحدة فقط ويهاجمها بصفة خاصة.

لكي أوضح قصدي فإن الشراهة وشهوات البطن والأطباق الشهية (اللذيذة) تحطم فضيلة العفة (ضبط النفس). والجشع والطمع يشينا أو يعيبا الطهارة أو النقاوة. والغضب يقضي على الصبر. لذلك فالإنسان الذي يكون مستعبدًا لإحدى هذه الخطايا تنقصه بعض الفضائل... فالشخص ببساطة يُحرم من واحدة من الفضائل عندما يذعن أو يخضع للرذيلة (أو الإثم) التي تقاومه بإغراءاتها، لكنه يستطيع الحفاظ على فضائله الأخرى. لكن عندما تملك هذه الرذيلة مرة على نفسٍ بائسة، فإنها تشبه بعض الوحوش المفترسة (الكاسرة) التي تهدم القلعة السامية للفضيلة، وتحطم المدينة بالكلية وتهدمها، فتقوم الرذائل على هدم حصون القداسة وإرباكها معًا.

إن نير العبودية للكبرياء قاسٍ ومؤلم، وبواسطة قساوته الممزِقة يجرد النفس ويقهر كل قوة للفضيلة

القديس يوحنا كاسيان

ب. اللسان الكاذب: لا يقدر أن ينطق بالحق، ولا يحمل لطفًا ورقةُ صادقة نحو الاخوة. هذا هو الأمر الثاني الذي يبغضه الرب. والكذب من سمة عدو الخير إبليس الذي يتسم بالكذب مع الكبرياء،عمله بث هذا الروح بين كل البشر، حتى أن داود النبي صرخ قائلاً: "في حيرتي قلت أن كل الناس كاذبون" (مز11:116)، كما يصرخ قائلاً : "يا رب خلص نفسي من الشفاه الكاذبة واللسان الغاش" (مز2:120).

ج. أيد سافكة دمًا بريئًا: أيضًا يحمل الإنسان روح الغدر والخيانة كيهوذا الخائن. هذا هو الأمر الثالث الذي يبغضه الله، ألا وهو العنف والظلم، وقد دُعي عدو الخير قتالاً منذ البدء.

د. قلب يخترع تخيلات شريرة: الأمر الرابع الذي يبغضه الله هو أفكار الشر التي تصدر عن القلب المتدنس. فإنه يضع أساسات باطلة لتخيلات غير صادقة ويبني عليها الكثير، مُقيمًا بناءً من الأكاذيب يُشوه بها صورة اخوته، ويدفع بهم إلى الظلم.

ه. أرجل مسرعة الجريان إلى السوء تُعين الإنسان على ارتكاب الإثم بُغية الطمع. إذ يفسد القلب يسحب الجسم كله نحو الشر، وتسرع القدمان نحو ممارسته. وكما يقول إشعياء النبي: "أرجلهم إلى الشر تجري، وتسرع إلى سفك الدماء المزكي، أفكارهم أفكار إثمٍ، في طرقهم اغتصاب وسحق؛ طريق السلام لم يعرفوه، وليس في مسالكهم عدل. جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجة، كل من يسير فيها لا يعرف سلامًا" (إش7:59،Cool.

و. شاهد زور ينطق بالأكاذيب تسبب ظلمًا يَسقط على الأبرياء. للأسف هذه الخطية التي يبغضها الله صارت شائعة اليوم، فما أسهل أن يستأجر أحد شاهد زور ينطق بالكذب.

ز. زارع خصومات بين الاخوة سواء على مستوى الفرد أو الأُسر أو المجتمعات، وأحيانًا بين الدول. إن كان صانعو السلام يُدعون أولاد الله (مت9:5)، فزارعو الخصومات يُدعون أولاد إبليس.

هذه الخطايا السبع التي يبغضها الله أشبه بمرآة ، يتطلع إليها الإنسان فيكتشف ضعفه، عندئذ يسرع نحو الله معترفًا بخطاياه، سائلاً إياه أن يطهره.


5. الحاجة إلى التعلم

تسند الوصية الإلهية المؤمن كي لا يسقط في الخطايا السابقة، لذا يجب عليه أن يحفظ هذه الوصية التي يعلمها إياه والده، ويخزنها في أعماق قلبه ويربطها بكل كيانه. وكما جاء في سفر التثنية:

"لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، وقصها على أولادك، وتكلم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق، وحين تنام، وحين تقوم، واربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك، وأكتبها على قوائم بيتك وعلى أبوابك" (تث6:6-9؛ راجع تث18:11-20).

"يا ابني احفظ وصايا أبيك،

ولا تترك شريعة أمك.

اربطها على قلبك دائمًا.

قلِّد بها عُنقك.

إذا ذهبت تهديك،

إذا نمتَ تحرسك،

وإذا استيقظت فهي تُحدثك"

لا يتوقف الحكيم عن تذكير تلميذه أن يسمع وصايا أبيه ويتمسك بشريعة أمه (8:1)، حيث يقدمان له كلمة الله أو الوصية الإلهية.

ماذا تقدم له الوصية؟

أ. الشبع الداخلي: يربطها دائمًا على قلبه، فتُشبع كل عواطفه وأحاسيسه، ولا يعاني من الفراغ الداخلي.

ب. الكرامة الحقة: إنها كرامة ومجد له، يُطوِّق بها عنقه علامة ملوكيته وبنوته لله أبيه السماوي. ويكتبها على لوحي قلبه أو يربطها به، فتضبط مركز حبه وعواطفه وأحاسيسه، وتصدر كل أفكاره وكلماته وتصرفاته متناغمة مع الوصية الإلهية.

ج. هدية إلهية: هنا يُشخْصِن الشريعة أو الوصية، حيث يُقدمها كمعلمٍ أو مدربٍ للنفس وحارسٍ لها وصديق، تلازمه الوصية في سيره في طريق الحياة، وتحرسه في نومه، وتحاوره بالحب، فلا يشعر بالعزلة أو الفراغ.

د. حراسة سمائية: لن يذهب المؤمن الحقيقي إلى موضع دون أن يطلب قيادة الوصية الإلهية. ولن يُعطي لعينيه نومًا ما لم يستظل تحت جناحيها. وعندما يستيقظ يدخل معها في حديث حبٍ، خلال الصلاة ودراسة الكتاب المقدس، فيمتلئ كيانه فرحًا وشبعًا. إنه يُعطي بكر يومه - الصباح المبكر - لله، حيث يلتقي معه متحدثاً كابن مع أبيه، ويتمسك بالوعود الإلهية ليتذرع بمراحمه السماوية.

ه. استنارة داخلية:

"لأن الوصية مصباح،

والشريعة نور،

وتوبيخات الأدب طريق الحياة"

تُنير الوصية أعماقنا فنرى حقيقة أنفسنا، وندرك عوزنا الدائم إلى المخلص. نكتشف أيضًا عمل الثالوث القدوس فينا فنمتلئ رجاءً، كما تنفتح أعيننا على معرفة الإرادة الإلهية وإدراك الأسرار الإلهية. بهذا نتقبل كل تأديب من قبل الرب، ونحسبه نافعًا لأعماقنا، حيث يسحبنا من ملذات الخطايا وإغراءاتها لنسلك طريق الحياة الأبدي، تسحبنا من خداعات الشرير لنقبل الحق الإلهي والطهارة.


6. تحذير من الشريرات

يعود إلى خطية الزنا التي كثيرًا ما تحدث عنها سليمان الحكيم، والتي يدعوها البعض" خطية العصر". والعجيب أن كثيرين يشربون هذه الخطية كالماء، ويحسبونها نوعًا من الحب!

كم من زيجات بين الأحداث أو الكبار قد حطمها طرف ثالث، رجل أو امرأة، دخل ليُفقد الزوجين وحدتهما.

"لحفظك من المرأة الشريرة،

من ملق لسان الأجنبية"

بإدراكنا لحكمة الله وقبولنا تأديباته نُحفظ من لسان المرأة الزانية المعسول والمخادع لنقبل كلمات الله الحازمة والمملوءة بالحق.

تحمل كلمات المرأة الشريرة شهوات ممتزجة سُمًا، أما كلمات الرب فهي الحب المملوء حياة أبدية. لهذا نستمع إلى لسان الرب لا لسان الشريرات.

"لا تشتهين جمالها بقلبك،

ولا تأخذك بهُدبها"

يُقدم لنا سليمان الحكيم خبراته المرة، حيث سقط في حبائل جمال النساء، فانحرف إلى عبادة الأوثان، وشاركهن رجاساتهن.

اهتمام النساء بتجميل عيونهم وأهداب أجفانهن حتى تبدو العيون متسعة وجذَّابة أمر قديم في الشرق.

ليس جمال المرأة ولا اهتمامها بمظهرها هو سرّ سقوط الإنسان، إنما انحراف القلب. بهذا يقول الحكيم: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة" (أم23:4). فالخطية تبدأ بالقلب، لهذا يحذرنا: "لا تشتهين جمالها بقلبك".

* لا تدع شهوة الجمال تغلبك. فإن الكثير من الشباك والفخاخ منصوبة بواسطة الشيطان. التطلع إلى زانية هو فخ منصوب لمن يحبها. (فساد) عيوننا هي شِباك تُنصب لنا، كما هو مكتوب: "لا تُؤخذ بعينيك". لهذا نحن ننصب الشباك لأنفسنا، فنسقط فيها ونتعرقل. إننا نربط أنفسنا بقيود كما هو مكتوب: "لأن كل واحد يُربط بقيود (حبال) خطاياه"

القديس أمبروسيوس

كتب الطوباوي اكليمنضس السكندري في مقاله "عن العذارى":

* لهذا لا نسمح لأي إنسان أيًّا كان أن يجلس (لفترات طويلة) مع امرأة متزوجة، وبالأكثر ألا يعيش في بيتٍ واحدٍ مع فتاة قدمت حياتها نذرًا، ولا أن ينام حيث تنام هي، ولا يكون مرافقًا على الدوام معها. فإن هذا أمر يكرهه خائفو الرب ويبغضونه

القديس اكليمنضس الروماني

"لأنه بسبب امرأة زانية يفتقر المرء إلى رغيف خبز،

وامرأة رجل آخر تقتنص النفس الكريمة"

جاء في الترجمة السبعينية والفولجاتا والسريانية: "لأن أجرة المرأة الزانية هو رغيف خبز واحد". وكأن الرجل يستأجر المرأة الزانية بثمن بخسٍ وهو رغيف خبز، لكنه لا يُدرك أنها تسحب ثمنًا آخر هو نفسه الثمينة. يظن الإنسان أن الخطية رخيصة جدًا لا تُكلفه شيئًا بينما يفقد حياته الداخلية وخلاصه الأبدي.

"أيأخذ إنسان نارًا في حضنه ولا تحترق ثيابه؟!

"أو يمشي إنسان على جمر ولا تكتوي رجلاه؟!

هكذا من يدخل على امرأة صاحبه.

كل من يمسها لا يكون بريئًا"

التهاون مع خطية الزنا هو لعب بالنار، فإن شهوته تلتهب نارًا تحرق ثيابه فيصير عاريًا في خزي، وتكوي رجليه فيذوق المرارة ولا يقدر أن يكمل رحلة حياته كما يليق به، وتحرق أيضًا كل شوق للطهارة، فلا يصير بريئًا في أعين الله والناس.

* لنهرب من (نار الشهوة هذه) بالرغم من أنها تتبعنا، ليس فقط تجري خلفنا، بل وفي داخلنا. لنحذر بكل اجتهاد لئلا ونحن نهرب منها نحملها في داخلنا. فإننا نود بالأكثر أن نهرب فقط، لكن إن لم نُلقٍ بها تمامًا خارج أذهاننا نكون بالأحرى قد أمسكنا بها ولم نتركها.

لنقفز ونعبر منها لئلا يُقال لنا :"اسلكوا في لهيب ناركم التي أوقدتموها" (إش11:50). لأنه كما أن من يأخذ نارًا في حضنه يَحرق ملابسه، هكذا من يسير على جمرٍ متقدٍ بالضرورة تكتوي قدماه، كما هو مكتوب: "أيمشي إنسان على الجمر ولا تكتوي رجلاه؟!"

القديس أمبروسيوس

الشهوة الشريرة تشبه لهيبًا ونارًا. هل تحرق النار ثوبًا ولا تحرق شهوة الزنا النفس؟!

القديس أغسطينوس

* إن سقطت العين على شخص فعلى الأقل لا تدع العاطفة الداخلية أن تتبعها. فإن النظر ليس خطية، لكن يجب أن يكون الإنسان حذرًا ألا تكون مصدر خطية.

لتنظر العين الجسدية، ولتُغلق عين القلب، وليبقى اتضاع الذهن.

لنا رب حازم ومتسامح... يقول الرب: "كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (مت28:5). إنه لم يقل: "كل من نظر يرتكب زنا"، بل "من نظر ليشتهيها". إنه يدين الشهوة الداخلية لا النظرة

القديس أمبروسيوس

* لكي لا تقول: أيّ ضرر في العينين حيث ليس بالضرورة تكون النظرة مفسدة؟! إنه يظهر لكي أن الشهوة هي نار وأن الجسد يشبه ثوبًا. يُمكن للأخير أن يكون فريسة سهلة فالشهوة طاغية. لا يحدث الضرر في الداخل فحسب بل يمتد وينطلق حتى يجد له منفذًا في الخارج. لأن من ينظر إلى امرأة وإن كان يهرب من التجربة، لكنه لا يكون طاهرًا من الشهوة تمامًا.

ولماذا يبقى الإنسان في تعب مادام في قدرته أن يتحاشاه ويتحرر منه؟ انظر ماذا يقول أيوب: "قطعت عهدًا مع عيني ألا أفكر في زوجة آخر". هكذا يعرف خطورة الإفساد. وأيضًا لنفس السبب أقمَع بولس جسده واستعبده. وبطريقة رمزية من يسمح لفكر غير نقي أن يسكن في قلبه إنما يحتفظ بنار في صدره. ومن يُمارس الخطية بالعمل يسير على جمر ويهلك نفسه

القديس هيبوليتس

إن كان السارق لا يستطيع أن يبرر نفسه أمام القانون حتى إن سرق ليأكل لأنه جائع، فأيّ عذر للزاني الذي يرتكب الخطية فيهلك نفسه؟!

"لا يستخفون بالسارق ولو سرق ليشبع نفسه وهو جوعان.

إن وُجد يرُد سبعة أضعاف ويُعطي كل قنية بيته.

أما الزاني بامرأة فعديم العقل.

المهلك نفسه هو يفعله.

ضربًا وخزيًا يجد، وعاره لا يُمحى"

يشفق الناس على الفقير الذي يسرق لكي يأكل، لكن القانون لا يُبرئه، بل يُلزمه برد سبعة أضعاف ما سرقة، وإن لم يكن لديه ما يوفي يُباع كعبدِ (خر1:22-4؛ لا39:25).

* اللص عاصٍ خطير، لكن الزاني أخطر منه. لأن الأول لسبب مؤسف يسلك هكذا، لكن في نفس الوقت العوز يلزمه بذلك، أما الأخير فلا توجد ضرورة تلزمه إنما جنونه يجعله يندفع إلى هوة الإثم

القديس يوحنا الذهبي الفم

من يرتكب الزنا مع سيدة متزوجة لا يتعرض للخزي فحسب بل وإلى الموت فعند الرومان إن أُمسك إنسان يرتكب هذا الفعل فمن حق الزوج أن يتمسك بالقانون ويقتله، فيكون الزاني في عارٍ ويفقد حياته.


7. الغيرة

"لأن الغيرة هي حميَّة الرجل فلا يُشفق في يوم الانتقام.

لا ينظر إلى فدية ما،

ولا يرضى ولو أكثرت الرشوة"

يتحدث هنا عن غيرة الزوج الذي اغتصب الزاني امرأته، فإنه ينتقم لكرامته وشرفه، ولا يطلب فدية مهما بلغ قدرها بل يطلب قتل الزاني.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالجمعة مارس 04, 2011 12:35 am

الاصحاح السابع


اهرب من الزانيه


تحدث في الأصحاح السابق عن السبع خطايا التي يبغضها الرب، ثم عاد ليتحدث عن خطية الزنا. وفي هذا الأصحاح يكمل حديثه عن هذه الخطية التي تنصب شباكها لتصطاد الشاب، تصوب سهمًا نحو كبده، وتخفي له فخًا لكي تصطاده فتلهو به وتذله.

الآن قبل الحديث عن سقوط شاب في شباك زانية متزوجة يحثنا سليمان الحكيم على التمسك بالوصايا الحكيمة والاهتمام بها كحدقة العين، حيث بها نرى الحق ونتمتع به، فنحمل قوة للهروب من طريق الزانية.

يكشف الحكيم عن طرق الزانية وسلوكها مقدِمًا صورة حيّة لتصرفاتها، حتى يمكن للشاب أن يفلت من شباكها. فإن اختار بمحض إرادته أن يتبعها ويستجيب لخداعها، يتحمل المسئولية كاملة أمام الله وأمام نفسه.

مفتاح هذا الأصحاح هو القول: "لا يدري أنه لنفسه"، بمعنى أن الإنسان ينجذب إلى الشر وهو لا يدري أنه يدفع نفسه ثمنًا له .

1. حث على حفظ الوصية1-5.

2. تحذير من حيل الزانية6-20.

3. غباوة الساقط في شباكها 21-23.

4. قتلاها أقوياء24-27.


1. الحث على حفظ الوصية

يدعونا سليمان الحكيم كعادته أن ننصت إلى صوت الوصية وأن نركز عليها، فالوصية الإلهية المقدمة لنا من آبائنا ومرشدينا هي أثمن من كل كنوز الأرض. أما بركاتها فهي الآتي:

أولاً: مصدر حياة

"يا ابني احفظ كلامي،

وأذخر وصاياي عندك."

بقوله:" احفظ…أذخر وصاياي" يؤكد أنه يلزمنا أن ننشغل بالكتاب المقدس، لا ليُقرأ بسرعة، بل ليُخزن في أعماق القلب، فتصير كلمة الله غذاءً يوميًا للنفس، وتصبح جزءً لا يتجزأ من حياتنا.

"احفظ وصاياي فتحيا".

الوصايا الإلهية روح وحياة (يو23:6)، تقيم النفس من الموت لتهبها الحياة الجديدة في المسيح يسوع. تحول الإنسان الجسداني إلى روحاني، لينعم بالجسد الروحاني عوض الحيواني (1كو14:2) ويدخل إلى ملكوت الله الذي لا يرثه لحم ودم (1كو50:15). هذا يتحقق بالوصية التي تقدم له شخص "الكلمة الإلهي". فالوصية ليست أمرًا لسلوكٍ أخلاقيٍ ممتاز أو نهيًا عن الرذيلة فحسب، لكنها لقاء حيّ مع شخص السيد المسيح، كلمة الله، القائل: "أنا هو الحياة"، و"أنا هو القيامة". بدونه تبقى النفس في قبر الخطية تحمل رائحة الفساد، حتى تسمع الصوت الإلهي: "لعازر هلم خارجًا"، ويأمر الرب تلاميذه (كهنته) أن يحلّوا رباطاتها، فتتمتع النفس بالحياة الجديدة.

إذ نفتح باب القلب للسيد المسيح، كلمة الله واهب الحياة، يسكن فينا، فتهرب الخطية ولا تستطيع البقاء.

الوصية الإنجيلية هي محور حياة كل مسيحي، لهذا عندما تحدث القديس يوحنا كاسيان في كتابة "المؤسسات" عن الحياة الرهبانية في مصر، كحياة مسيحية مثالية، دعا الرهبنة حياة إنجيلية أو مسيحية تدور حول إنجيل السيد المسيح.

يقول الأسقف أغناطيوس بريانشانينوف: [الرهبان القديسون القدامى يدعون الحياة الرهبانية حياة حسب وصايا الإنجيل. يعرف القديس يوحنا الدرجي الراهب هكذا: "الراهب هو ذاك الذي تقوده وصايا الله وحدها، كلمة الله، في كل وقت، وفي كل موضع، وفي كل أمر". الرهبان الخاضعون للقديس باخوميوس الكبير التزموا بحفظ الإنجيل عن ظهر قلب، لكي تكون دومًا أمام عيني الذهن وتُطبع على النفس لكي تتممها بسهولة ونجاح. قال الطوباوي الشيخ صيرافيم: "يلزمنا هكذا أن ندرب أنفسنا أن يسبح ذهننا في شريعة الرب التي تكون قائدًا لحياتنا وضابطًا لها"... الروح القدس يعلم ويقود خدام الله الحقيقيين الذين صاروا له

ثانيًا: مصدر النور والبصيرة الروحية

"احفظ... شريعتي كحدقة عينك"

إنها البصيرة الداخلية، بها نتطلع لنرى الله في مجده، وندرك السماء بكل طغماتها، وتكون لنا نظرة سليمة نحو البشرية وكل الخليقة كما نحو الجسد والحياة الزمنية. إن تحطمت الوصية نبقى في ظلمة ونفقد الرؤية. إن كانت العين ثمينة جدًا في حياة الإنسان، فإن حدقتها هي أثمن ما يعتز به الإنسان، جاءت كلمة "حدقة" في العبرية لتعني إنسانًا مصغرًا جدًا ". فيكون النص: "شريعتي كرجلٍ صغير في عينك".عندما يقترب الإنسان ليتطلع في عيني شخص يرى صورته منطبعة عليها. هنا ينصح الوالد ابنه أن يقترب جدًا من الوصية لتنطبع صورة الوصية على عينيه، وتتجلى الوصية فيهما، فيرى كل شيء من خلال الوصية. وقد استخدم نفس التعبير في (تث10:32،مز8:17).

ويرى العلامة أوريجينوس في مناجاة السيد المسيح للنفس المقدسة عروسه: "عيناك حمامتان" (نش2:4) إشارة إلى اقترابها والتصاقها بالروح القدس، فتظهر صورته منطبعة على حدقتي العينين، لترى كل شيء خلال الروح القدس.

بخصوص هذا التعبير قيل: "مقلة العين، وفي وسطها الحدقة، وقد دعيت apple (تفاحة) لأن شكلها دائري. بسبب قيمتها العظيمة ولأجل الحفاظ الشديد عليها يُغلق الجفنان المحيطان بها تلقائيًا عندما يوجد أقل احتمال للخطر، لذلك صارت رمزًا لما هو ثمين جدًا وفي حرصٍ يجب الحفاظ عليها. هكذا يليق بنا أن نهتم بالوصية ونحوط بها بكل كياننا حتى لا نكسرها فنتعرض للعمى الروحي. إنها تبدو صغيرة جدًا كحدقة العين لكنها ثمينة للغاية بدونها لا نرى أبواب السماء المفتوحة، وفي نفس الوقت يمكن أن يصيبها أضرار بالغة بسهولة.

ثالثًا: سند للعبادة والعمل

"اربطها على أصابعك"

بهذا كلما رفعت ذراعيك للصلاة تتحدث مع الله خلال وصيته المملوءة بالوعود الإلهية. وإن مددت يديك للعمل تمارس كل شيء من خلالها فيكون عملك مقدسًا. تُربط الوصية حول العنق إشارة إلى سمة الملوكية والكرامة الفائقة التي ننالها خلالها، وتُربط على الأصابع لتسندنا في صلواتنا وسلوكنا العملي.

اعتاد بعض اليهود أن يضعوا بعض نصوص الكتاب المقدس في حافظة من الجلد ويربطونها على جبهتهم أو على أذرعهم أثناء الصلاة. وكانت الحافظة الجلدية تُربط حول الذراع الأيسر بسبعة أربطة، ثم يلف الرباط سبع مرات حول الإصبع الذي في الوسط

ويرى البعض أن ربطها على الأصابع يتحقق بطرق كثيرة، منها نقشها على الخواتم. فكان الملوك والعظماء ينقشون أسماءهم على الخواتم، ومتى وثق الملك في شخصٍ يسلمه خاتمه ليختم به كل أمر ملكي. هكذا عوضًا عن أسمائنا ننقش وصية الله على الأصابع لنختم على أفكارنا وكلماتنا وأعمالنا وصلواتنا بختم الوصية، فتحمل قوة سمائية.

رابعًا: حفظ المشاعر والأحاسيس

"اكتبها على لوح قلبك"

لا يكفي ربط الوصية بالذراع والأصبع إنما يجب ربطها بالقلب. تقيم ملكوت الله في داخلك، فتحفظ وتقدس كل عاطفةٍ وشعورٍ وإحساسٍ، وتصدر كل أعمالك عن قلبٍ نقي وأمين لله. هكذا ترتبط الوصية بكل كياننا الداخلي ولا تكون مجرد زينة خارجية نعتز بها أمام الناس.

خامسًا: دخول في علاقة قربى

"قل للحكمة أنتِ أختي،

وادع الفهم ذا قرابة".

إن كان سفر الأمثال يهتم بسلوك المؤمن اللائق والحكيم في كل جوانب حياته، إلا أنه عبر سطوره يدخل بالمؤمن إلى اللقاء مع "حكمة الله المتجسد"، لكي تقبل النفس الاتحاد به فتشاركه طبيعته، وتمارس الحياة الجديدة المقامة. إنها تنشغل بالعريس الساكن في أعماقها وتناجيه بروح الحب والفرح. بهذا يتغير سلوكها ليس في ظاهره، وإنما في جذوره الدفينة.

بالحكمة نتأهل للانتماء للعائلة السماوية، فنحسب مسيحنا الأخ البكر وهو الخالق والمخلص والرب القدير والحكيم. إذ تنادي النفس الحكمة: "يا أختي، يا قريبتي"، إنما تحمل نوعًا من الاحترام للحكمة مع القرب الشديد لها، فتدخل معها في قرابة شبه "قرابة الدم"، ويصير لها دالة خاصة لديها.

دعوة الحكمة: "يا أختي" تشير إلى اتحاد زيجي، فتستخدم كلمة الأخ أو الأخت أحيانًا للزوج أو الزوجة (تك2:20،12؛ 7:26؛ نش9:4،10،12؛ 1:5،2). فإن كان الزنا يتقدم للإنسان كامرأة تود أن تتحد معه لتشبع شهواته الجسدية، فالحكمة يتقدم بالحق كعريس للنفس يتحد بها أبديًا، ليشبع كل احتياجاتها على مستوى سماوي مفرح، فلا يعتاز المؤمن إلى شيء! إذ جاء الحكمة متجسدًا اجتمع حوله كثير من الزناة والعشارين الذين وجدوا بحق ما يشبع أعماقهم الداخلية، فتركوا الفساد ليس تغصبًا، ولا في كبتٍ، وإنما بفرح حقيقي لا يُعبر عنه!

شخصية الحكمة هنا لها أهميتها، إذ تمهد للإصحاحين 8،9 حيث يتقدم الحكمة ككائن يدعونا لوليمته الخاصة، التي هي وليمة العرس الأبدي.

سادسًا: تحفظ من خداع الشر

"لتحفظك من المرأة الأجنبية،

من الغريبة الملقة بكلامها".

بعد أن قدم الوصية في عملها الإيجابي حيث تهب النفس الحياة والاستنارة والعبادة الحقَّة والعمل المقدس، وتحفظ المشاعر والأحاسيس وتقدسها، كما تدخل بنا إلى الانتساب إلى السماء، فإنه من الجانب السلبي تحفظنا من خداعات العدو الشرير خاصة خلال كلمات الزانية الملقة. إنها وحدها تقدر أن تحمينا من عار العلاقات الدنسة مع امرأة غريبة شريرة. فإنه لن يحفظها من غباء الزانية إلا السيدة (الحكمة).


2. تحذير من حيل الزانية

إذ ذاق سليمان الحكيم مرارة الزواج بالوثنيات، وزلت قدماه في عبادة آلهتهن الوثنية، لهذا انشغل في هذا السفر بالزوجة الصالحة، فقد ختمه بأروع أنشودة يمتدح فيها الزوجة الصالحة. ولكي يكشف عن أهميتها تحدث في صُلب السفر عن ثلاثة أنواع من الزوجات الشريرات لكي يهيئ لهذه الأنشودة بتقديم السلبيات أولاً. هذه الأنواع الثلاثة المضادة للزوجة الصالحة هي:

* المرأة الزانية الخائنة (16:2-17؛ 5:7، 10-11؛ 14:22؛ 20:30).

* المرأة المخاصمة والحردة (9:21،19؛ 24:25؛ 15:27).


* المرأة الجميلة الشكل بلا حكمة أو تمييز (22:11).

يقدم لنا سليمان الحكيم قصة مأساوية فيها يُعلن عن دور المرأة الزانية وهي تقتنص في فخها شابًا غبيًا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). في هذه القصة يظهر الحكيم نفسه كشاهد عيان لحدث شاهده من خلال نافذة بيته، إذ رأى شابًا غبيًا عديم الفهم تصطاده سيدة متزوجة وتغويه على ارتكاب الخطية. ما رآه هو مَثَلٌ من بين أعدادٍ لا حصر لها من الجهال الذين يسقطون كل يوم في خداع الشر.

يقول: "لأني من كوة بيتي، من وراء شباكي تطلعت". يتحدث الحكيم كشاهد عيان مقدمًا حديثًا عمليًا واقعيًا. فالحكيم نفسه يطلع خفية ليرى المنظر المأسوي للزوجة الخائنة التي تقوم بدور زانية تصطاد البسطاء. ولعله بهذا المنظر يذكرنا بما جاء منحوتًا على قطعٍ من العاج في مناطق كثيرة بفينيقية، ألا وهو الإلهة عشتاروت تتطلع من الشباك. وقد ارتبطت عبادتها بالزنا، حيث كرست كاهنات أنفسهن لهذا العمل في المعابد الوثنية. شتان ما بين الحكيم وهو يتطلع بمرارة ليصرخ ويرشد وينقذ، وبين الإلهة التي تتطلع لتجد لذتها في فساد حياة الناس وهلاكهم الأبدي.

يصف الحكيم الشاب الساقط في حبال هذه الزانية بالآتي:

أولاً: "عديم الفهم"، أي أنه ذو تفكير تافه، ليس للحكمة موضع في أعماقه، ولا يطلبها في شيء من الجدية.

ثانيًا: "عابر في الطريق"، ليس له هدف جاد في حياته، إنما يعبر في الطريق متجولاً في خمول، لا ينشغل بأمرٍ ما هام في حياته. لعل هذه السمة من أخطر السمات أن يكون الإنسان فارغ الفكر والقلب، وبلا عمل كمن يتسكع في الطرق بلا هدف. وكما يقول القديس يوحنا كاسيان: "الذي يعمل يحاربه شيطان واحد، أما الذي لا يعمل فتحاربه كل الشياطين".

ثالثًا: "عابرًا... عند زاويتها، وصاعدًا في طريق بيتها". لا يحذر السقوط، ولا يهرب من الخطر، مثَله مثل من يقود سيارته في إشارة حمراء.

يمكننا القول بأنه أخطأ الطريق، إذ جذبته شهواته الداخلية نحو مكان الخطية. لا نلوم المرأة الخاطئة قدرما نلوم الشاب الذي ذهب إلى بابها ليلتقي معها فتغويه. الخطية كامنة في قلبه، لذا استجاب لنداء الشر الخارجي.

رابعًا: يسير "في العشاء، في مساء اليوم في حدقة الليل والظلام" لا يعرف النور، ولا يسلك في النهار، ولا يتمتع بأشعة شمس البرّ. يسير أيضًا خارج دائرة المسيح، حيث ظلمة القلب والفكر. الآية 9 تحوي خمس كلمات عبرية تعني جميعها " الظلمة" لتؤكد أن الزانية لا تدخل بمن تقتنصه إلى نهاية يومه فحسب، بل إلى الظلمة عينها. فإن كانت الزانية قد خضعت لسلطان "رئيس الظلمة" فإنها تجد لذتها في أسر الآخرين معها ليعيش الكل معها في مذلة الظلمة. وقد جاء في الإنجيل بحسب معلمنا يوحنا الحبيب: "أحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو 19:3)، "أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يو12:Cool.

يُقدم لنا الحكيم وصفًا دقيقًا لسيدة تُثير شابًا نحو الخطية وقد ألهبتها الشهوة:

أولاً: ترتدي "زي زانية"، لكي تُثير أفكارًا من حولها تميل نحو الشر. إنها متزوجة لكن في جسارة بغير حياءٍ ولا خجلٍ تطلب الشر، فتستخدم كل أساليب العالم للإغراء.

ثانيًا: "خبيثة القلب"، ما تنطق به وما تسلكه غير ما تكمن به في أعماقها. لا تظهر عليها أية علامة من علامات النعمة الإلهية.

ثالثًا: "صخَّابة هي وجامحة". لا تحمل نعمة الهدوء الداخلي ولا الاتزان في تصرفاتها، بل مملوءة صخبًا وضجيجًا. لا تعرف الراحة الداخلية، مهما قدمت من كلماتٍ معسولة أو بشاشة وجه، فإنها دائمًا في حالة قلقٍ وصخبٍ. وكما يقول إشعياء النبي: "لا سلام قال الرب للأشرار" (إش 22:48؛ 21:57) .أيضًا عنيدة وصلبة الرأي وعنيفة، ولا تعرف ضابطًا لمشاعرها وسلوكها. وكما قيل: "إنه قد جمح إسرائيل كبقرة جامحة" (هو16:4).

رابعًا: "في بيتها لا تستقر قدماها"، إذ تجد لذتها في الشوارع والميادين العامة لا في بيتها، على خلاف ما ينصح به الرسول بولس الحدثات، قائلاً: "أن يكُنَّ محبات لرجالهن ويحببن أولادهن، متعقلات، عفيفات، ملازمات بيوتهن، صالحات، خاضعات لرجالهن، لكي لا يُجدف على كلمة الله" تي4:2،5.

إنها لا تلازم بيتها، بل تجري في الشوارع لتنصب شباكها وتصطاد البسطاء والجهال. "تارة في الخارج، وأخرى في الشوارع، وعند كل زاوية تكمن". الخطية سهلة المنال جدًا، تُلقي بنفسها على كل إنسانٍ لكي تجتذبه. يصور الحكيم الزانية بأن لها منزل house وليس بيتًا home، لها مبنى لكن ليس لها أسرة تتمتع بدفئها، كما لا تشع عليها بحبها ورعايتها عليها. قد يكون لها زوج وأولاد، لكن ليس لهم موضع في قلبها، ولا في أفكارها. تجد لذتها في الخروج من منزلها لتنصب شباكها فتصطاد البسطاء. لهذا ينصح الرسول الحدثات أن يكن "عفيفات ملازمات بيوتهن صالحات" (تي5:2).

خامسًا: تحمل صورة الحب والرقة في التعامل، "فأمسكته وقبَّلته". إنها تحتضنه بذراعيها وتقَّبله بفمها، فيظن الشاب أنه سعيد ووجد ما يشبعه، ولا يدرك أنها تقدم له الشهوة لا الحب.

سادسًا: تحمل صورة التدين.

"أوقحت وجهها وقالت له:

عليَّ ذبائح السلامة،

اليوم أوفيت نذوري،

فلذلك خرجت للقائك لأطلب وجهك حتى أجدك"

تدَّعي أنها متدينة تُقدم ذبائح سلامة، وهي ذبائح اختيارية ، وتدعوه ليشترك معها في وجبة طعام دينية. بهذا يظن أنه لم يُخطئ فقد وجد من هي متدينة، وتُقدم له حبًا مع الطعام. تقتنصه بالخداع، وتسحبه خلال بطنه.

* حينما تمتلئ المعدة بكل أنواع الطعام تتولد بذور الشهوة، ولا يستطيع الذهن عندما يتثاقل بالطعام أن يحافظ علي ضبط أفكاره. فالذهن لا يسكر فقط بالخمر، لكن أيضًا بكثرة أنواع الأطعمة التي تضعفه وتسلبه من كل قوته وإمكانياته في التأمل النقي الطاهر

القديس يوحنا كاسيان

* كما أن سنبلة الطهارة هي نتاج بذار العرق في الصوم، هكذا فإن الشبع الزائد يسبب انحلالاً، والمبالغة تنتج دنسًا. لكن إذا تُركت البطن جائعة ومنسحقة، لن تندفع الأفكار الشائنة إلى النفس

مار اسحق السرياني

ربما أرادت أن تعبر له عن مدى اهتمامها به فقد قدمت نذرًا لله من أجله لكي يهبه صحة وأمانًا، والآن تدعوه ليشترك في هذه الوليمة الخاصة بالنذر. إنها مشغولة بصحته وسلامه أكثر من انشغالها بنفسها!

كثيرًا ما نسقط في متاعب بسبب تركيزنا على المظاهر الخارجية، فنحمل قناع التدين لنخفي قلبًا فاسدًا، أو كما يقول القديس أغسطينوس إننا نجد في الكنيسة البعض لهم ثياب حملان، لكن في داخلهم قلوب ذئاب مفترسة. عند اختيار ملك حسب قلب الله، قال الرب لصموئيل: "لا تنظر إلى منظره وطول قامته… لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب" (1صم7:16).

إن كانت المرأة الشريرة تقتنص الشاب بالمظهر الخارجي المخادع، فإن الشاب يسلم نفسه للزنا ليس فقط خلال تهاونه مع مسببات الخطية، وإنما خلال تشامخه وحبه للمجد الباطل.

* المجد الباطل هو خادم الزنا

* الإنسان الذي يفتخر بممارسته الفضيلة يُسمح له بالسقوط في الزنا. والذي يمتلئ بالتخيلات بسبب حكمته يُسمح له بالسقوط في شباك الجهل المظلمة

مار اسحق السرياني

يفسر البعض هذه الآية بأن المرأة تغوي الشاب بانها طقسيًا طاهرة فتظن أن من يلتصق بها في علاقات جسدية لا يتدنس، وإن كان هذا الرأي غير مقبول. ويرى آخرون أنها توضح له بأنها طاهرة من "المرض الشهري". لأن من يضطجع مع امرأة في طمثها يكون نجسًا سبعة أيام (لا24:15). أو لعلها توضح له أن يرتبط بها دون خوف إذ لا تتعرض للحمل. على أي الأحوال إنها تربط بين الزنا والعبادة، الأمر الذي عُرف بين الفينيقيين في عبادتهم للإلهة عشتاروت، وقد حذرت الشريعة من ذلك. أيضًا بقولها: "اليوم أوفيت نذوري" تعني أنها قدمت ذبائح السلامة، وبحسب الشريعة لها أن تأكل من الذبيحة اليوم الذي قدمت فيه الذبيحة واليوم التالي. وكأنها تقول له:" عندي فيض من الطعام الشهي لنتلذذ به. وهكذا تسحبه من شهوة بطنه. فهي تعرف أنها تستطيع أن تصطاد قلبه من خلال معدته.

تدعي أنها خرجت تطلب وجهه، ولم تكف عن البحث حتى وجدته! إنها كلمات خداع فهي لا تطلب شخصًا بعينه إنما تطلب ما لنفسها، لإشباع عواطفها أو غرائزها، وفي غباوة يظن من سقط ضحية بين يدها أنه الشخص المهم جدًا المنشود منها. إنها تشوش مفاهيمه فلا يميز بين الحب والشهوة.

سابعًا: تدعوه للتمتع بليلةٍ زيجيةٍ.

"بالديباج فرشْتُ سريري

بموشى كتان من مصر.

عطَّرتُ فراشي بمرٍ وعودٍ وقرفةٍ.

هلم نرتوِ وِدًا إلى الصباح.

نتلذذ بالحبِّ"

بجانب انحلال أخلاقها، والتهاب شهواتها الجسدية تتسم هذه المرأة بالخيانة لرجلها وعدم الأمانة.

تستخدم كل وسيلة حسِّية لجذب هذا الشاب الغبي، السرير الفخم الناعم، والكتان الثمين، والروائح الجذَّابة. إنها تود أن تجتذبه بكل الحواس: يرى الثياب المثيرة والسرير المفروش بالديباج، ويسمع صوت دعوتها إذ طلبته وبحثت عنه حتى وجدته، ويتلامس مع ودها حتى الصباح، ويتذوق عذوبة شفتيها، ويشتم الروائح. هكذا تدخل الخطية إلينا خلال الحواس الخمس، لذا يهتم الكتاب المقدس بتقديس هذه الحواس، لا بتحطيمها، بل بإعلائها وتوجيهها لتشبع مما هو للبناء لا الهدم.

للأسف تدعو الشاب أن يخطئ معها على سريرها الذي تشارك فيه زوجها، فتقدم له ما هو لعريسها لحساب الشر. نقدم القلب لمملكة الظلمة عوض مملكة النور، ونحول فكرنا إلى مسرحٍ للشر عوض تجلي السماء فيها، ونبدد عواطفنا ومشاعرنا وأحاسيسنا عوض تقديسها.

ثامنًا: الظروف مهيأة للذة الحب، لم ينقصهما شيء سوى موافقته وتجاوبه معها.

"لأن الرجل ليس في البيت.

ذهب في طريق بعيدة.

أخذ صُرَّة الفضة بيده.

يوم الهلال يأتي إلى بيته"

كأنها تدعوه أن يقضي الليلة معها دون خوف، فإن رجلها لن يعود إلى بيته حتى ظهور الهلال أو الشهر الجديد. أليس هذا هو إغراء الخطية للنفس، فتدخل بها كما إلى ليلة دامسة الظلام، وتقدم لها كل الطمأنينة كأن عريس النفس غائب ولن يعود حتى يوم الدينونة!

بنفس الروح دعت امرأة فوطيفار يوسف ليخطئ معها، فإن رجلها كان غائبًا، أما هو فآمن بأن عيني الله تراقبانه، إذ قال لها: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟!" (تك9:39).


3. غباوة الساقط في شباكها

في غباوة سقط الشاب الذي وصفه عديمًا للفهم [7]، تافهًا في تفكيره ويسير في الحياة بلا هدف. هذا صار كثورٍ تقوده إلى الذبح، وكغبيٍ يُقاد إلى العقوبة، وكطيرٍ يسرع إلى الفخ. إنه يتصرف في غير وعي، إذ سحبته المرأة بقيود شهوته دون أن يدرك أن الثمن هو حياته كلها أو نفسه.

"أغوته بكثرة فنونها،

بملث شفتيها طوحته.

ذهب وراءها لوقته كثورٍ يذهب إلى الذبح،

أو كغبي إلى قيد القصاص.

حتى يشق سهم كبده.

كطيرٍ يُسرع إلى الفخ،

ولا يدري أنه لنفسه"

لعله يقصد هنا أن الرجل يأتي يومًا ويكتشف ما فعله الشاب فيضرب بالسهم كبدهما ويحكم عليهما بالموت.

هذا وإن لم يكتشف الزوج الحقيقة فإنهما لن يستطيعا أن يبرِّرا نفسيهما أمام العدل الإلهي، فيكون نصيبهما الهلاك الأبدي.

الزنا هو أقصر الطرق للهلاك، سواء بيد الزوج مكتشف الجريمة أو بسبب الأمراض التناسلية التي يسقط تحت ثقلها الزاني، أو الارتباك الفكري والنفسي، وما هو أهم الدمار الأبدي والحرمان من شركة الحياة السماوية.


4. قتلاها أقوياء

"والآن أيها الأبناء اسمعوا لي وأصغوا لكلمات فمي.

لا يمل قلبك إلى طرقها،

ولا تشرد في مسالكها.

لأنها طرحت كثيرين جرحى،

وكل قتلاها أقوياء.

طرق الهاوية بيتها،

هابطة إلى خدور الموت"

حقًا إن "كل قتلاها أقوياء"، مع أننا أُعطينا قوة للغلبة عليها، والذين معنا أعظم من الذين علينا، لكن بالتهاون مع الصغائر نسقط في الكبائر. لذلك كان صوت الرب للوط: "اهرب لحياتك". وقد اهتم الآباء بهذا المبدأ الإلهي.

يقول القديس بيامون الكبير: "حسن أن نتجنب أسباب الخطية. الإنسان الذي يقترب من فرص الخطية يشبه شخصُا يجلس على حافة الجرف، يمكن للعدو أن يقتنصه بسهولة عندما يريد ذلك".

ويقول ماراسحق السرياني: "سقوطنا في خطايا متنوعة علته ليست الخطايا في ذاتها بل ضعفنا حيث تسقط طبيعتنا بسهولة. لذا فالحاجة ملحة للحذر منها".

* من لا ينسحب بإرادته من مسببات الأهواء تسحبه الخطية بغير إرادته.

مسببات الخطية هي الخمر، النساء (الشريرات)، الغنى، الاهتمام الشديد بصحة الجسد. ليست هذه الأمور بطبيعتها خطايا... لهذا السبب يليق بالإنسان أن يحذر منها بحرص شديد

* احذر من الأمور الصغيرة فلا تسقط في الأمور الكبيرة.

لا تتراخى في عملك لئلا تصير في عارٍ عندما تقف في وسط رفقائك ولا تكون بلا مئونة في رحلتك، وتكون وحدك على جانب الطريق

مار اسحق السرياني

من هي هذه الزوجة الخائنة التي تصطاد النفوس لتنحدر بهم إلى الموت؟!

إن كان هذا الأصحاح يمكن تفسيره حرفيًا بخصوص سقوط الشباب في خطية الزنا، فإنه يمكن أن ينطبق أيضًا على كثير من الخطايا التي تتقدم كفتيات تصطدن النفس من عريسها، وتفقد اتحادها مع الله. إن كان سليمان الحكيم يكشف هنا عن شِباك المرأة الزانية لاصطياد الجهال، فإن جميع الخطايا تنصب شباكها المتنوعة بصورة أو أخرى، خاصة المعلمين المخادعين الذين يستخدمون كل وسيلة جذَّابة لإفساد إيمان البسطاء.

يرى البعض أنها تشير إلى الكنائس المرتدة التي تحمل اسم السيد المسيح لكنها تقدم تعاليم باطلة. إنها تخون عريسها، ولا تكف عن العمل بلا انقطاع لتسحب بكل وسيلة النفوس من بيت الكنيسة الحقيقية. تحمل كل جمالٍ فلسفيٍ، وتقدم الكثير من وسائل التنعم، لكي يترك المؤمنون طريق الصليب الضيق ويدخلوا في الطريق الواسع الذي يدفعهم إلى الهلاك الأبدي.

* لقد رأيت مدى أذية الزانية!

لا تسمح للشهوة أن تثور، لأن موتها أبدي. أما بالنسبة لكلماتها وحوارها المعسول، وجراحاتها، فإنها بخطاياها تقتل الذين يخضعون لها. لشرها أشكال كثيرة تقود إلى الانحدار إلى الجحيم. أما حجرات الموت فتعني إما الموت أو مخازنه. فكيف يمكن الهروب منه؟

القديس هيبوليتس


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالسبت مارس 05, 2011 8:19 pm

الاصحاح الثامن


نداء علني للحكمة الأزلي


في الأصحاح السابق تحدث عن الشر كامرأة زانية لا تكف عن أن تستخدم كل وسيلة لكي تخدع الإنسان لكي تهلكه، فإن قتلاها أقوياء. بيتها هو طريق الهاوية، تحدر الكثيرين إلى خدور الموت.

في مقابل هذا نجد في هذا الأصحاح محبة الله الفائقة التي أعدت لنا الخلاص، فقدم لنا "حكمته" الأزلي متجسدًا، كلمة الله، ربنا يسوع المسيح الذي نزل إلى عالمنا، وسار بيننا، يقدم نفسه لنا حكمةً ومعرفةً وحقًا، نقتنيه فهو أفضل من كل اللآلئ وكل الجواهر لا تساويه، يهبنا ذاته ويدخل بنا إلى الأحضان الإلهية.

يحتاج إليه كل أحد ليصير ملكًا أو عظيمًا في الرب، يملك ويدبر أموره حسنًا، ويسلك بالحق. هو موضع سرور الآب، به نصير موضع لذة الآب، يُسر بنا ويهبنا الحياة المُطوَّبة.

للمرة الثالثة يتحدث الحكيم عن الحكمة كشخص وليس مجرد سمة (20:1-32؛ 13:3-18؛ 1:8-18:9).

1. نداء الحكمة العلني1-11.

2. بركات النداء12-21.

3. الحكمة الأزلي 22-29.

4. الحكمة الخالق والمخلص30-31.

5. الحكمة واهب الطوبى32-34.

6. الحكمة واهب الحياة35.

7. بؤس رافضي الدعوة36.


1. نداء علني

في الأصحاحين 8،9 إذ يظهر الحكمة كشخصٍ، يمارس 19 عملاً لكي يجتذبنا إليه، بالتعامل معنا بكل وسيلة:

1. يصرخ بلا انقطاع (1:8-3).2. يقف ليلتقي بنا (2:Cool.

3. يدعونا، مناديًا كل بني البشر (4:Cool.4. يتحدث معنا (4:Cool.

5. يوبخ (5:Cool.6. يكره الكذب (7:Cool.

7. يؤدب (10:Cool.

8. يجد معرفة عملية يقدمها للمؤمن (12:Cool.

9. يبغض الكلمات الكاذبة (13:Cool.

10. يقدم المشورة الحقة والرأي السديد (14:Cool.

11 . يهب الملوك والعظماء والرؤساء والشرفاء كرامة مع عدل (15:8،16).

12. يحب (17:Cool.

13. يقود في طرق الحق (20:Cool.

14. يعطي بسخاء ويملأ مخازن مؤمنيه (21:Cool.

15. يتهلل فرحًا (31:Cool.

16. يبتهج ويتلذذ ببني البشر محبيه (31:Cool.

17. يبني له بيتًا بتجسده، وينحت أعمدة (1:9).

18. يُعد طعامًا ذبيحيًا ومائدة سرائرية (2:9).

19. يُرسل عبيده وجواريه لدعوة البشرية إلى وليمته (3:9-6).

إن كانت الجهالة أو الخطية تظهر كامرأة خبيثة القلب جامحة وخائنة، تهوى اصطياد النفس وإغراءها بكل وسيلة لكي تحدرها إلى الهلاك الأبدي، فإن حكمة الله الأزلي لا يقف مكتوف الأيدي، إن صح التعبير، فإنه لا يكف عن أن ينادي في كل موضع، بل وهو الخالق ينزل إلى خليقته، وهو الحكمة المحبوب لدى الآب يجد لذته في بني آدم يقدم لهم شركة الحياة السماوية، والتمتع بالحياة المطوبة.

"ألعلّ الحكمة لا تنادي (تصرخ)،

والفهم ألا يُعطي صوته؟!"

قديمًا صدر الأمر الإلهي لإشعياء النبي: "نادٍ بصوتٍ عالٍ؛ لا تمسك؛ ارفع صوتك كبوقٍ وأخبر شعبي بتعدِّيهم وبيت يعقوب بخطاياهم" (إش1:58). وكان اللاويون يقرأون البركات واللعنات بصوتٍ عالٍ (تث14:27).

تنادي الحكمة على الدوام وتصرخ لكي يسمع الكل صوتها، لتُعلن عن إرادة الله وخطته من جهة الإنسان. تعلن ذلك خلال الطبيعة التي تشهد بعناية الله؛ وتحدثت بأكثر وضوح خلال الآباء والشريعة والأنبياء. لكن الصعوبة تكمن في رفض الإنسان للاستماع للصوت الإلهي.

إن كانت الخطية لا تتوقف عن الإغراء، فإن حكمة الله ينادي بلا توقف. وكما يقول الرسول بولس: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء الذي به أيضا عمل العالمين" (عب1:1،2). جاء أخيرًا الحكمة الإلهي - السيد المسيح - ينادي بنفسه ويُعطي صوته مباشرة. قدم لنا حديثه، ليس فقط بالكلام، وإنما بالحب العملي الباذل على الصليب، كما أعطانا روحه القدوس لكي يحملنا فيه، فنسمع صوته خلال اتحادنا فيه، وتجديدنا المستمر لنصير أيقونة حية له.

في هذا الأصحاح يبرز أن الحكمة هي التي تسعى وراء الإنسان وتبحث عنه وتدعوه ليقبلها، لكنها لا تلزمه بذلك. على خلاف ما يتصور الكثيرون أن الله معتزل في سمواته، والإنسان يبحث عنه ويحاول إرضاءه، نرى الله خلال الحكمة ينزل إلى الإنسان، يطلبه في الشوارع وفي كل موضع، فإنه مبادر بالحب.

أين ينادينا الحكمة؟

"عند رؤوس الشواهق،

عند الطريق بين المسالك تقف.

بجانب الأبواب عند ثغر المدينة،

عند مدخل الأبواب تصرخ".

حكمة الله أو كلمته ينادي في بيت الرب الذي كان يٌقام على رؤوس التلال العالية، والذي يقع بين مفترق الطرق كمركز للقرى المحيطة به، وقد جاء التعبير العبريbeith neithiboth nitstsbabah ليعني "البيت المؤسس عند الطرق". فإن كنا نسمع صوت الله أينما وجدنا ، وتحت كل الظروف ، لكن الله يحدثنا بالأكثر في بيته، فالكتاب المقدس هو كتاب الكنيسة، والكنيسة هي كنيسة الكتاب. في الكنيسة نلتقي بالسيد المسيح، حكمة الله، ونفتنيه ونحيا به...نسمع صوته فينا!

يقدم لنا سليمان الحكيم ثلاثة مواقع نلتقي فيها بالحكمة الإلهية:

ا. "عند رؤوس الشواهق" ، أي على المرتفعات العالية فقد استلم موسى النبي الشريعة على قمة جبل سيناء، وقدم السيد المسيح موعظته على الجبل. هكذا نحن مدعوّون لكي ننطلق مع السيد المسيح كما مع بطرس ويعقوب ويوحنا فنراه متجليًا على جبل طابور. نصعد دومًا ولا نستكين عند سفح الجبل ، فنقول مع المرتل: "إليك رفعت نفسي ..."، ترتفع نفوسنا لتتحد مع المصلوب على جبل الجلجثة! هناك نسمع الصوت الإلهي الفريد، صوت الحب العملي الباذل، الوصية الإلهية في أروع صورها!

تقف الحكمة عند قمم المرتفعات والجبال، فالدعوة علنية. ارتفع السيد المسيح - الحكمة - على الصليب على جبل الجلجثة، حيث شاهده اليهود والأمم، ليُعلن حبه العملي الباذل، باسطًا يديه ليحتضن الكل بلا استثناء. إنه محب كل البشرية، مخلص العالم!

إن كان قد نزل حتى سفح الجبل ليلتقي بالجماهير البسيطة، فإنه ينادي من على القمم لكي يراه الكل ويسمعوه، ولا يكون لأحد عذر في رفض الدعوة.

ب. "عند الطريق بين المسالك"، فالحكمة يقف عند مفترق كل الطرق ، حتى يأتي إليه الجميع ، من المشارق والمغارب، ومن الشمال والجنوب. إنه مخلص العالم كله! هكذا تفتح الكنيسة أبواب قلبها لكل إنسان!

عند ملتقى الطرق يقف السيد المسيح حيث يجد الإنسان في حيرة لا يعرف أين يتجه، فيقوده في الطريق الملوكي. يظلل عليه كسحابةٍ تحميه في النهار، وكعمود نورٍ يبدد الظلمة من خلاله. لقد قيل عن الجهلاء: "تعب الجهلاء يعيبهم، لأنه لا يعلم كيف يذهب إلى المدينة" (جا15:10)، لذا يقف حكمة الله فيلتقي بهم ليدخل بهم إلى بيته، بيت الحكمة السماوي.

جاءت العبارة بالعبرية beith nethiboth nitsabah”" تعني "البيت المؤسس عند الطريق"، ويعني به "بيت الله"، سواء خيمة الاجتماع أو الهيكل في العهد القديم، والكنيسة في العهد الجديد، حيث يكون بيت الله في ملتقى الطرق، ويمكن للإنسان أن يبلغ إليه.

إن كان بيت الله هو موضع العبادة حيث يلتقي فيه المؤمنون كأبناء لله يمارسون عبادتهم خلال بنوتهم لله، فإنه أيضًا موضع كرازة، فيه يتحدث السيد المسيح للعالم خلال خدامه ليُدرك الكل محبة الله الفائقة. فالكنيسة هي موضع لقاء الحكمة الإلهي بالبشرية، حيث يُقدم المسيح ذاته للجميع.

ج."بجانب الأبواب...عند مدخل الأبواب"، هناك كان يجتمع شيوخ المدينة ليحكموا في قضايا الشعب، وكأن الحكمة الإلهية يود أن يقدم ذاته لكل من له شكوى، أو من كان في ضيقٍ، فهو وحده يقدر أن يرد للنفس سلامها.

إذ تجسد حكمة الله، وصار إنسانًا، كان يجول يصنع خيرا في كل موضع .أعلن رسالته في الهيكل كما في المجامع، وعلى قمم الجبال، وعلى شواطئ البحار، وفي القرى، كما في طرق المدن وفي البيوت. وقد استلم تلاميذه هذه الروح ، فسلكوا كما سلك معلمهم ، يبحثون عن الخطاة أينما وجدوا، ويقدمون صوت الحق في كل موضع.

تصرخ الحكمة عند أبواب المدخل ومداخلها لتلتقي بالداخلين والخارجين. إن كان السيد المسيح هو "الباب" فإن تلاميذه ورسله وكل خدامه يلزمهم أن يصرخوا بحق الإنجيل فيه، ليكشفوا عن كنوزه المقدمة للبشرية، وعن الحق لكي يتمتع الكل به.

ليتنا لا نقف مع السيد فقط على القمم العالية، ولا نتحدث عنه فقط في داخل المبنى الكنسي، لكن نحمله إلى كل إنسان، نذهب إليه لنقدم له "الباب الملوكي".

* إذ يتمسكون بالبر في براءة لا يخجلون، هذه هي الكرازة عند الباب.

ومن هو هذا الذي يكرز عند الباب؟

ذاك الذي يكرز في المسيح، لأن المسيح هو الباب الذي به ندخل إلى تلك المدينة...

لهذا فان الذين يتكلمون ضد المسيح هم خارج الباب، إذ يطلبون كرماتهم الذاتية، لا كرامة المسيح . أما الذي يكرز عند الباب فيطلب كرامة المسيح لا كرامته الخاصة. لهذا فإن من يكرز عند الباب يقول: "لا تثق فيَّ، لأنك لا تدخل من خلالي بل من خلال الباب. أما الذين يطلبون من الناس أن يثقوا فيهم فإنهم يريدون منهم ألا يدخلوا من الباب، فلا نعجب إن أُغلق الباب أمامهم وباطلاً يقرعون ولا يُفتح لهم.

القديس أغسطينوس

"لكم أيها الناس أنادي،

وصوتي إلى بني آدم".

جاءت كلمة "الناس" هنا ishim لتعني أصحاب الغنى والسلطة، فالحكمة الإلهي ينادي أصحاب السلطان كقادة مسئولين وأيضًا يرفع صوته إلى كل بني البشر . يدعو الأغنياء كما الفقراء أن يسلكوا بالحكمة. إنه يدعو كل بني آدم ، فقد ذاق السيد المسيح الموت من أجل كل إنسانٍ، مقدمًا إنجيل الخلاص لكل العالم. وكما يقول الرسول بولس: "برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون لأنه لا فرق…" (رو22:3).

يعلن القديس أغسطينوس عن عمومية الخلاص للعالم بلا تمييز أو محاباة، قائلاً:

[جاء المسيح للمرضى فوجد الكل هكذا. إذن لا يفتخر أحد بصحته لئلا يتوقف الطبيب عن معالجته… لقد وجد الجميع مرضى.

لكنه يوجد نوعان من القطيع المريض؛ نوع جاء إلى الطبيب والتصق بالمسيح وصار يسمعه ويكرمه ويتبعه فتغير… أما النوع الآخر فكان مفتتنًا بمرض الشر ولم يدرك مرضه، هذا النوع قال لتلاميذه: "لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟!" (مت11:9). وقد أجابهم ذاك العارف لهم ولحالهم: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى".

بعد أن أكد عمومية الدعوة عاد يخصص دعوته للحمقى والجهال، فإن من يكتشف خطاياه أو يدرك حمقه وجهله يجد في المخلص شفاءه.

"أيها الحمقى تعلموا ذكاءً،

ويا جُهّال تعلموا فهمًا".

يوجه حديثه إلى البسطاء (الحمقى) pethaim الذين خدعتهم الكلمات المعسولة وإغراءات الخطية، فسقطوا في هوة الشر، كما يُحدِّث الجهال kesilim ، ويقصد بهم الأغبياء الذين في جهلهم صلّبوا الرقبة وفقدوا الإحساس.

يفتح باب الرجاء أمام المخدوعين والجهال بقبولهم إياه حكمة وفهمًا!

د. بركات النداء

غاية نداء حكمة الله أنه إذ يجد لذته في بني البشر يودّ أن يقدم لهم ذاته فينالوا غنى وكرامة وحكمة ومعرفة ونجاحًا في كل جوانب الحياة، كما يقدم حبًا لا يتلقاه إلا من يتجاوب معه بالحب… لذا يركز على وعده: "أحب الذين يحبونني".

إذ أوضح سليمان أن الدعوة لم تتوقف قط وأنها عامة لجميع البشر، خاصة الذين خدعتهم الخطية وحطمهم الجهل، حدثنا عن بركات هذه الدعوة، قائلاً:

"اسمعوا، فإني أتكلم بأمورٍ شريفةٍ،

وافتتاح شفتي استقامة".

لماذا يليق بهم أن يسمعوا؟ لأن ما ينطق به السيد المسيح ليس بأمور بلا قيمة، بل هي أمور شريفة negidim، أي أمور فائقة، لها الأولية في حياة الإنسان، أسمى من كل الأمور الأخرى. يُعلِم أمورًا تمس كرامتهم الأبدية ومجدهم الفائق الدائم.

إذ يفتح شفتيه تنبعث منهما الاستقامة meysharim ، أي الأمور التي تصحح مفاهيمنا الخاطئة وتحول الطرق الملتوية إلى طرق مستقيمة.

فإن كان الحديث موجه إلى الحمقى والجهال هؤلاء الذين بجهالاتهم صاروا تافهين، لكن الحكيم يتحدث في أمور خطيرة تنزعهم مما هم فيه لتصير حياتهم ذات قيمة.

"لأن حنكي يلهج بالصدق،

ومكرهة شفتيَّ الكذب".

ينطق السيد المسيح بالحق الذي لا يعرف الباطل، ولا يمتزج بالكذب!

"كل كلمات فمي بالحق (في البرّ)،

ليس فيها عوج ولا التواء".

الحق betsedek الذي يخرج من شفتيه هو الحق العملي، أو البر الممتزج بالعدالة في معاملاته مع أبيه ومع البشرية، يُعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. كلماته تكشف بصدقٍ عن علاقة الإنسان بالله إلهه وبقريبه كما بنفسه. هذا الصدق الذي يحمل عدلاً واستقامة، وليس شيئًا من الخداع أو الانحراف، ولا يحتمل تأويلاً، أو الذي يقود إلى اعوجاج، ولكن على العكس:

"كلها واضحة لدى الفهيم،

ومستقيمة لدى الذين يجدون المعرفة".

من هو مهتم بخلاص نفسه والتمتع بالمعرفة الحقة يدرك أسرار الحكمة الإلهية، وتصير خطط الله واضحة ومستقيمة أمامه ، ومن ينعم بالمعرفة، أي يعرف نفسه كما ينبغي يرى حتى في تأديبات الرب استقامة، ويتلامس مع وعود الله بكونها صادقة وأمينة.

لقد بكى القديس يوحنا الحبيب كثيرًا لأنه لم يوجد أحد مستحق أن يفتح السفر ويقرأه، ولا أن ينظر إليه. لكن قال له أحد القسوس: "لا تبكِ. هوذا قد غلب الأسد الذي من سبط يهوذا أصل داود ليفتح السفر ويفك ختومه السبعة" (رؤ5:5). الآن وقد فُكَّت ختوم السفر صارت خطة الله واضحة لمؤمنيه، يدركون أسراره ويتذوقون عربون المجد الذي أعده لهم.

كل ما يُعلنه السيد المسيح هو ثمين للغاية:

"خذوا تأديبي لا الفضة".

"والمعرفة أكثر من الذهب المختار".

لماذا يكرر الله الدعوة لكي نقبل التأديبات الصادرة منه أكثر من الفضة؟ كثيرًا ما يكف الآباء حسب الجسد عن تأديب أولادهم، إما لأنهم يئسوا من الإصلاح، أو لأنهم شعروا أنهم يُغضبون أبناءهم، أما أبونا السماوي فلن يتوقف عن تأديبنا لأنه يترجى دومًا خلاصنا، مهما بلغ عنادنا، ومن جانب آخر فإن محبته أبدية، لا يطلب أن يسترضينا هنا على حساب شركتنا معه في المجد الأبدي.

"لأن الحكمة خير من اللآلئ،

وكل الجواهر لا تساويها".

المعرفة هي طعام النفس، بدونها تخور النفس وتموت! يقول الحكيم إن المعرفة أفضل من الذهب الخالص. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). يشبِّه البعض البشرية التي تنشغل بالذهب والغنى دون المعرفة الإلهية بجماعة انكسرت بهم السفينة في وسط المحيط، وإذ وجدوا جزيرة جرداء نزلوا إليها ونجوا لكنهم صاروا في عزلةٍ تامة عن كل العالم. كان لديهم غلال وأطعمة، فبدأوا يأكلون ويشربون، وإذ اكتشف أحدهم مناجم ذهب غنية جدًا تهللوا، وصاروا يستخرجون الذهب حتى اغتنوا جدًا ولم يبالوا بالزراعة. جاء فصل الشتاء ونفذ الطعام مع فيض كثير من الذهب، لكن ماذا ينفعهم الذهب؟ لقد خاروا من الجوع، وأخيرًا ماتوا وسط أكوام الذهب. هذا هو حال من يرفض المعرفة الإلهية لأنه مشغول بالغنى.


2. بركات الحكمة

إذ يقدم حكمة الله نداء عامًا وعلنيًا لكل البشر كي يقتنوه، يكشف عن عمله في حياة الذين اقتنوه، حيث يُعلن ذاته لهم وفي داخلهم.


أولاً: يهب الذكاء والتدبير الحسن

"أنا الحكمة أسكن الذكاء،

وأجد معرفة التدابير"

إذ يسكن حكمة الله فينا يسكن معه الذكاء، فيهب المؤمن فكرًا صادقًا وإدراكا واعيًا. كل ذكاء أو مهارة هو من عند الرب. فقد اخترع الإنسان طرق كثيرة للتدبير، والرب يهب كل طرقٍ للبنيان. ذكاء الإنسان الذاتي يُدمر إذ ينقصه الصلاح، وأما الذي يهبه الله فيبني.

من جانب آخر يهبه معرفة اختبارية عملية يدعوها "معرفة التدابير mezimnoth emsta". كلما حمل الإنسان الحكمة الروحية، تترجم في حياته الداخلية وسلوكه الظاهر إلى تدابير عملية بارة ومقدسة في الرب. الذكاء هو قدرة على التفكير بمهارة، أما الحكمة فتحمل مع الذكاء ممارسة، فالحكمة تقود الإنسان إلى العمل بأسلوب لائق تقوي. هذا هو الجانب الإيجابي لعمل الحكمة، أما الجانب السلبي فهو كراهية الحكيم للشر والجهالة.


ثانيًا: يهب مخافة الرب التي ترفض الشر

"مخافة الرب بغض الشر،

الكبرياء والتعظم وطريق الشر وفم الأكاذيب أبغضت"

تفيض الحكمة على مقتنيها ليس فقط بالذكاء والتدبير الحسن وإنما تملك على مشاعر القلب وأحاسيسه، فيكره المؤمن أربعة أمور: الشر، والكبرياء، والعجرفة والخداع. بمعنى آخر. إن كانت مخافة الرب هي رأس الحكمة، فإنه بالحكمة ننعم بالمخافة التي بدونها لن نحب البر والصلاح ونبغض الخطية والشر.

الخوف من العقوبة ربما يُلزمنا ألا نخطئ، لكنه قد يولِّد اشتياقًا أكثر نحو الخطية، لأن "المياه المسروقة حلوة، وخبز الخفية لذيذ" (أم17:9). أما مخافة الرب التي تقوم على دالة الحب وإدراك بنوتنا لله فتجعلنا نكره الخطية، ليس خوفًا من العقوبة، وإنما حبًا في الله أبينا إذ نرى في الخطية جرحًا لمحبة الله الذي لا يقبل الظلمة.

الإنسان وقد فسدت طبيعته بعد السقوط صار يميل إلى الخطية وينجذب إليها بالرغم من إدراكه لخطورتها على حياته، لذا يحتاج إلى حكمة الله، المخلص، ليجدد بروحه القدوس طبيعته، ويهبه بغضة داخلية للخطية.

لقد صرخ رجال العهدين القديم والجديد بسبب ميل الإنسان إلى الشر:

"القلب أخدع من كل شيء، وهو نجيس، من يعرفه؟!" (إر9:17).

"كما هو مكتوب إنه ليس بار ولا واحد، ليس من يفهم، ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد" (رو10:3-12).

يستحيل على الإنسان أن يبغض الشر ما لم يحب الصلاح، ولما كان بغض الشر يقود الإنسان إلى هجر الطريق الشرير، ومحبة الصلاح تقوده إلى عمل ما هو حق في عيني الله، وذلك بفعل الروح القدس الذي يهب كراهية للشر وحب الصلاح، لذلك فإن هذا من جانبه يلهب فينا مخافة الرب.

إن كانت مخافة الرب تمثل صلاحًا عميقًا في القلب يقوده بعيدًا عن الشر، بل يهبه بغضة للشر، فإن هذا العمل الداخلي يحمل ترجمة عملية في السلوك الظاهر برفض الكبرياء والتشامخ والنطق بالكذب.

في حديث البابا أثناسيوس الرسولي عن القديس أنبا أنطونيوس الكبير يقول: [إذ كانت نفسه حرة من القلاقل، كان مظهره الخارجي هادئًا؛ هكذا من فرح نفسه حمل ملامح باشة؛ ومن حركات جسده يمكن إدراك حالة نفسه، كما هو مكتوب: "القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا، وبحزنه ينسحق (الوجه)" (أم13:15).


ثالثًا: يعطي القدرة على تقديم المشورة

"فيَّ المشورة والرأي.

أنا الفهم،

لي القدرة"

إذ للحكمة - ربنا يسوع - المشورة وأيضًا القدرة على تقديم فكرٍ صائبٍ وتدبيرٍ حكيمٍ للأمور بفهم، فإنه يهب من يقتنيه القدرة على تقديم المشورة بدوره للآخرين. لهذا فإن المؤمن التقي يصير مشيرًا روحيًا حتى في صمته، أما الشرير فيعجز عن تقديم مشورة صالحة فعّالة، حتى إن كان يجيد الحديث وله خبرات طويلة.

السيد المسيح حكمة الآب (1كو14:1)، ينبوع الحكمة، ليس فقط يفيض علينا، بل يبعث فينا ينابيع مياه حيّة تفيض على من نلتقي بهم.

يقول "ليَ القوة"، حتى لا نحسب أن الحياة التقوية الهادئة ضعف واستكانة، بل هي تمتع بالقوة ذاته.

يعلق البابا أثناسيوس الرسولي على هذه العبارة قائلاً:

* بكونه حكمة الآب ذاته... هو نفسه المشورة الحيّ للآب وقوته وخالق كل الأشياء التي رآها الآب صالحة. هذا ما يقوله عن نفسه في الأمثال: "لي المشورة والأمان (الرأي)، لي الفهم، لي القدرة". ("لان المسيح هو قوة الله وحكمة الله ") (1كو24:1). هنا يغير التعبير فيقول :"لي الفهم" و"لي القدرة". عندما يقول: "لي المشورة" هو نفسه المشورة الحيّ للآب، كما يعلمنا النبي أيضا انه صار "ملاك المشورة العظيم" ، ودُعي المسرة الصالحة للآب

البابا أثناسيوس الرسولي


رابعًا: يهب روح الملوكية والسلطة

إذ يملك السيد المسيح "الحكمة" فينا، لا يجعلنا عبيدًا بل ملوكًا، فنحمل سمته فينا، نحمل روح الملوكية التي لا تقبل العبودية لشهوةٍ ما، ولا نرتعب أمام أحداث زمنية، ولا نخاف كائنًا، بل نحمل حرية مجد أولاد الله. لنا سلطان على أفكارنا وأحاسيسنا ومشاعرنا وحواسنا كما على تصرفاتنا الظاهرة، فنسلك كأبناء ملوك سمائيين، بحكمة علوية فائقة.

"بيَ تملك الملوك،

وتقضي العظماء عدلاً.

بيَ تترأس الرؤساء والشرفاء.

كل قضاة الأرض"

هكذا يُقيم ملك الملوك، "حكمة الله" من شعبه ملوكًا وعظماء ورؤساء وأشراف وقضاة. إنه إذ يسألهم أن يسلكوا بروح الاتضاع، إنما ليحملوا اتضاعه فيهم، فيصيروا عظماء في عيني الله، وفي أعين السماء والبشر. إنه جاء ليرد الإنسان المحطم بالخطية إلى الملوكية المجيدة!

الله في محبته للبشر ينسب نفسه للمتألمين، فيُدعى أب الأيتام وقاضي الأرامل، يبحث عن المطرودين، ويسند البائسين، ويرفع المتواضعين، ويهتم بالذين ليس لهم من يسأل عنهم. إن كان قد أقام الملوك والرؤساء والأشراف والقضاة إنما ليعملوا لحساب هؤلاء جميعًا، أقامهم لا لفضلٍ فيهم، وإنما للعمل لحساب المجتمع كله، خاصة المظلومين والمحتاجين… هكذا يليق بمن هو في موقع المسئولية أن يُدرك انه تسلمها من يد الله ليعمل لحساب المجتمع بروح الحب والاتضاع.

* الحديث الإلهي في هذا الأمر واضح ، فإن حكمة الله هكذا يتحدث: "بي يملك الملوك، ويملك العظماء الأرض". لكن لا يُفهم بذلك أنهم ملوك أشرار وغير اتقياء، بل ملوك شجعان.

القديس أغسطينوس


خامسًا: يصيرون موضوع حب السماء!

"أنا أحب الذين يحبونني،

والذين يبكرون إليّ يجدونني"

إذ يقدم "الحكمة" نفسه للبشرية، معلنًا أنه المشورة والرأي والفهم والقدرة، من يقتنيه يدرك أسرار الآب، ويتعرف على إرادته، ويحمل قوة من عنده، فيحيا في هذا العالم كوكيل الله، يحمل أيقونة السماء، ويشهد لعمل الله الفائق. الآن يؤكد مبدأين خطيرين متكاملين:

المبدأ الأول هو تقديس الحرية الإنسانية، فهو لا يدفع بنفسه في حياة إنسان بغير اختياره، مؤكدًا "أنا أحب الذين يحبونني". إنه الحب كله، يفتح ذراعيه على الصليب للعالم كله، ويتسع صدره ليتكئ كل بشر عليه، لكن ليس الكل يقبله!

لنحبه فندرك أنه أحبنا أولاً!

لنرتمي على صدره، فنجده مُعدًا لنا!

لنشتاق إليه فنلمس اشتياقاته الفائقة نحونا.

حبه لنا ليس ثمرة لحبنا له، لأنه أحبنا اولاً.

بادر بالحب قبل أن نعرف؛ ونحن أعداء صالحنا مع الله أبيه.

لكن حبنا هو مفتاح معرفتنا لحبه القائم الغامر لكل البشرية.

أما المبدأ الثاني والمكمِّل للسابق فهو التزامنا بالتبكير إليه لكي نجده. ماذا يعني: "والذين يبكرون إليّ يجدونني"؟

التبكير هنا يحمل مفهوم الأولوية، فقد وضع لخلاصنا وتجديدنا أولوية خاصة، فقدم الآب ابنه الحبيب ذبيحة حب لأجلنا. وكأنه يقول: "الإنسان أولاً!" إن كان هذه هو العمل الإلهي العجيب، أفلا يليق أن نبكر إليه قائلين: "الله أولاً" في حياتنا اليومية وفي أفكارنا الداخلية، وفي سلوكنا الأسري الخ.

في كل تصرف، خفي وظاهر، ليكن الله محور تفكيرنا، نبكر إليه، فقد بكَّر إلينا، وجعلنا في قمة اهتمامه وهو خالق السماء والأرض!

لنبكر إليه فنعطيه أفضل أوقاتنا للقاء معه، فلا يكون في آخر القائمة، نتعبد له في فضلات أوقاتنا. يليق بنا أن نعطي للقائنا معه اهتمامًا خاصًا، فنجري إليه في الصباح المبكر، ونقدم له اليوم الأول من الأسبوع (الأحد)، ونفضل اللقاء معه عن أية رباطات بشرية أو مجاملات. الله فوق الكل!

لنبكر إليه فنذكر خالقنا في أيام شبابنا، مقدمين له بكور عمرنا كي يقدس العمر كله.


سادسًا: يهبنا ذاته كنزًا ومجدًا وشبعًا

"عندي الغنى والكرامة،

قنية فاخرة وحظ.

ثمري خير من الذهب ومن الإبريز،

وغلتي خير من الفضة المختارة"

عادة يصير الحكماء أغنياء ومكرمين في أعين الناس، لكن ليس لهذا المبدأ استثناءات كثيرة.

ما يتحدث عنه سليمان الحكيم هنا ليس الغنى المادي ولا الكرامة الزمنية ولا شبع البطن، بل ما هو أعظم، التمتع بشخص السيد المسيح الذي فيه كفايتنا!

يوجد غنى ومجد وشبع يملأ كيان الحكيم، لا يستطيع العالم كله ولا قوات الظلمة ولا أحداث المستقبل أن تنتزعها منه، لأن هذا كله لن يقدر أن يفصل المؤمن الحكيم التقي عن شخص السيد المسيح الذي لنا فيه كنز ومجد وشبع. الإنسان الحكيم يردد مع القديس بولس الرسول: "من يقدر أي يفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف…؟!" (رو25:Cool.

* إن كان يجب أن نميز بين ذاك الذي يُحسب غنيًا لأن ممتلكاته كثيرة ومثقلة بالذهب مثل محفظة قذرة، وبين البار الذي وحده مملوء نعمة، لأن للنعمة تدبيرها، تلاحظ المقاييس اللائقة والجميلة في التنظيم والتوزيع

القديس إكليمنضس السكندري

"في طريق العدل أتمشى، في وسط سبل الحق.

فأُورِّث محبِّيّ رزقًا، وأملأ مخازنهم"

من هو هذا الذي يتمشى في طريق العدل ويُقيم في وسط سبل الحق إلا ابن الإنسان، ربنا يسوع المسيح، فيحملنا فيه، وننعم بما لديه؟!

* كما لو كان ابن الإنسان يتمشى وسط المنائر السبع (رؤ1). يُقال إنه في وسط الكنائس السبع، وكما قال سليمان: "في طريق العدل أتمشى"، ذاك الأزلي، ينبوع الملوكية.

الأب فيكتوريانوس

إن كان الغني يطلب أن تشبع نفسه من المقتنيات، فإن الحكيم إذ يقتني الحكمة تشبع نفسه من السلوك في طريق العدل، والتحرك وسط سُبل الحق. يجد في العدل والحق مع الحب ما يُشبع أعماقه، فتمتلئ مخازنه الداخلية من الفرح والتهليل مع السلام الفائق والصلاح.

البركات الزمنية تُقدم للبطن شبعًا مؤقتًا سرعان ما يتبعه جوع، أما البرّ الإلهي فيُقدم للمخازن الداخلية شبعًا وامتلاء، يرفعها روح الله إلى السماء رصيدًا أبديًا لحسابنا. وقد عبر داود النبي عن ذلك بصورة رائعة، إذ يقول: "بذخائرك تملأ بطونهم، يشبعون أولادًا، ويتركون فضلاتهم لأطفالهم، أما أنا فبالبر أنظر وجهك؛ أشبع إذا استيقظت بشبهك (مز14:17،15). ما يغترفه الإنسان من عطايا زمنية هو هبة من الله، لكنها هبة مؤقتة تشبع البطن، وما يتبقى منه يتركه ميراثًا لأولاده، مقدمًا لهم فضلاته الزائلة. أما من يتمشى في طريق العدل في وسط برّ السيد المسيح إنما يتشكل إنسانه الداخلة فيصير بالروح القدس أيقونة المسيح، على شبهه. هذا هو رصيده الأبدي الذي يملأ مخازنه السماوية… هذه التي لن يسلبها سارق، ولا يفسدها سوس!


3. الحكمة الأزلي

في هذا الأصحاح يتجلى شخص السيد المسيح بكل قوة، بكونه حكمة الله، الذي يدعو كل البشرية لتقتنيه وتتمتع بإمكانياته الفائقة. الآن يكشف عن ذاته أنه واحد مع الآب، خالق العالم، المهتم بخلاص خليقته التي فسدت، ويجد لذته في دعوة الخطاة إلى الخلاص.

"الرب قناني possessed Me أول طريقه من قبل (أجل) أعماله منذ القدم".

ركز الأريوسيون على العبارة "الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم" [22]. ليدَّعوا أن السيد المسيح وإن كان سابقًا لكل الخليقة لكنه في نظرهم "أول الخليقة"، الذي خلقه الآب دون غيره، وقام هو بعمل الخلقة. اعتمدوا في ذلك على كلمة "قناني" ويترجمونها "خلقني". لذلك اهتم آباء الكنيسة، وعلى رأسهم البابا أثناسيوس الرسولي بتفسير هذه العبارة وربطها ببقية الفقرة كلها [22-31]. وسأحاول تقديم فكر الآباء في شيء من الإيجاز في ملحق خاص بهذا الأصحاح.

الآن اُقدم تفسيرًا مبسطًا للفقرة.

بينما أساء الأريوسيون فهم هذه العبارة وجد كثير من الآباء فيها صورة حية ورائعة لمحبة الآب الذي بالحكمة دبر خلاصنا قبل خلقتنا. فمنذ البدء دبر التجسد الإلهي، ليصير حكمة الله أو كلمته، الأقنوم الإلهي غير المنفصل عنه إنسانًا من أجل البشرية ليكون هو "أول أعماله"، أي البكر بين أخوةٍ كثيرين" (رو29:Cool؛ "البداءة، بكر من الأموات" (كو18:1). وكأنه هنا يقدم الحكمة الإلهي وعده الفائق بأن أباه الأزلي معه يخطط لخلاصنا قبل خلقتنا، وكأن تدبيره يسبق وجودنا كعلامة اهتمامه بنا وقدرته الفائقة السرمدية لتحقيق خطة حبه نحونا.

يُلاحظ في هذه الآية الآتي:

أولاً: إن كان بعض الآباء مثل القديس غريغوريوس أسقف نيصص يؤكد أن الكلمة العبرية لا تعني "خلقني" بل "اقتناني possessed Me " إلا أن البعض مثل البابا أثناسيوس الرسولي لم يمتنع عن استخدام الكلمة اليونانية وهي تعني "خلقني"، إلا أنه يؤكد أنها ليست ذات الكلمة التي استخدمت في خلقة العالم.

ثانيًا: إن سفر الأمثال سفر رمزي، فلا نلتقط كلمة منه ونفصلها عن الكتاب المقدس لنفسرها لاهوتيًا.

ثالثًا: إن كلمة "خلقني" لا تربكنا، فإن حكمة الله، الأقنوم الثاني قد صار كلمة، إذ أخذ جسدًا مخلوقًا… وقد صار بالحقيقة إنسانًا وعبدًا دون أن يتغير إذ لايزال إلهًا مباركًا إلي الأبد.

رابعًا: لا يمكن أن يكون هذا التعبير "خلقني" خاص بجوهر أقنوم الحكمة، لأنه في نفس العبارة قيل: "من أجل أعماله"، فإن كان هذا الأقنوم قد خُلق لأجل البشرية، فتكون البشرية أفضل وأهم منه. أما بكون الخلق هنا يعني التجسد وخطة الخلاص، فالمعني يختلف تمامًا إذ يكون الخلق من أجل الحب الإلهي الفائق نحو البشر.

خامسًا: لا نتعثر من القول: "أول طرقه"، فبالتجسد الإلهي احتل الأقنوم المتجسد موضع آدم، فكما بسقوط آدم فسدت الطبيعة البشرية، هكذا بنصرة آدم الجديد وبره صارت النصرة والبرّ للبشرية. هذا ما عبرّ عنه الرسول بولس، قائلاً: "كأنما بإنسانٍ واحدٍ دخلت الخطية إلي العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلي جميع الناس إذ أخطأ الجميع… لكن قد ملك الموت من آدم إلي موسى، وذلك علي الذين لم يخطئوا علي شبه تعدى آدم الذي هو مثال الآتي… إن كان بخطيةِ واحدٍ مات الكثيرون، فبالأولي كثيرًا نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت لكثيرين" (رو12:5 الخ).

بهذا فقد أبونا الأول آدم مركزه كبكر، ليحتل حكمة الله المتجسد مركزه فيقودنا كبكر إلي سمواته، وننعم بشركة مجده. لقد صار الابن الوحيد الجنس الذي تسجد له الملائكة بكرًا لنا:"لأنه لمن من الملائكة قال قط: أنت ابني أنا اليوم ولدتك. وأيضًا أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا. وأيضًا متي اُدخل البكر إلي العالم يقول: ولتسجد له كل ملائكة الله" (عب5:1-7).

لقد صار بكرًا لنا وذلك بتجسده، هذا الذي تسجد له الملائكة، والذي يُدعى دون غيره الابن الوحيد، والذي قيل عنه: "كرسيك يا الله إلي دهر الدهور…" (عب8:1).

سادسًا: في نفس الفقرة تحدث سليمان الحكيم عنه: "كنت عنده صانعًا (مدبرُا)" …فكيف يكون الصانع أو الخالق وفي نفس الوقت هو صنعة أو خليقة؟ هل يخلق نفسه؟ خاصة وقد قيل عنه: "به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو3:1).

سابعُا: بقوله "من أجل أعماله"، واضح أنه لا يعني خلقة جوهره، بل تدبير التجسد الإلهي، لأن العمل يأتي بعد وجود الكائن وليس العكس. فهنا تعبير "خلقني" يشير إلي العمل لا إلي وجود جوهره. وقد استخدم الكتاب المقدس تعبير الخلقة عن العمل في مواضع كثيرة، منها:

"قلبًا نقيًا اخلقه فيّ يا الله" (مز10:51)، فالمرتل لا يطلب من الله أن يخلق فيه كائنًا جديدًا، إنما أن يعمل فيه فيجدد قلبه.

"لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة…" (أف20:2). هذا لا يعني أننا قد متنا بالجسد ثم عاد فخلقنا، لكنه جدد طبيعتنا فصارت كمن ماتت وأعاد خلقتها في المسيح يسوع .

وبمقارنة رو14:13 مع أف24:4 يظهر إننا نلبس المسيح بمعني عمله الخلاصي: "البسوا الرب يسوع " (رو14:13)، "البسوا الإنسان الجديد المخلوق علي شاكلة الله" (أف24:4).

إذ يُعرِّف الرب جوهره أنه الحكمة الابن الوحيد المولود من الآب، الأمر الذي يختلف عن الأشياء التي لها بداية ومخلوقات طبيعية، قال في محبته للإنسان: "الرب قناني أول طرقه"، وكأنه يقول: "أعد لي أبي جسدًا، وقناني للبشر لأجل خلاصهم".

لأنه كما عندما يقول يوحنا: "الكلمة صار جسدًا" (يو14:1)، لا نفهم أن الكلمة كله صار جسدًا، لكنه لبس جسدًا وصار إنسانًا. وعندما نسمع: "صار المسيح لنا لعنة لأجلنا"، "جعله خطية لأجلنا الذي لا يعرف خطية" (غلا13:3؛ 2كو21:5)، لا نفهم ببساطة أن المسيح كله صار لعنة وخطية، بل حمل اللعنة التي كانت ضدنا (كما قال الرسول: "خلصنا من اللعنة". وكما قال إشعياء: "حمل خطايانا"، وكتب بطرس: "حملها في الجسد على الخشبة" (غلا13:3؛ إش4:53؛ 1بط24:2)، هكذا إذ قيل في الأمثال: "خلقني" لا يليق بنا أن نفهم أن الكلمة كله بطبيعته مخلوق، إنما أخذ جسدًا مخلوقًا وأن الله (الآب) خلقه من أجلنا، معدًا له الجسد المخلوق، كما هو مكتوب أنه من أجلنا يمكننا فيه أن نتجدد ونتأله.

ما الذي خدعكم يا من في جهالة تدعون الخالق مخلوقًا؟

البابا أثناسيوس الرسولي

* مرة أخرى فإن الحكمة ذاتها تتحدث عن سرّ الجسد المتَّخذ فتقول: "الرب خلقني". بالرغم من أن النبوة هنا عن أمور مقبلة، لكن لأن مجيء الرب سبق فتعين لم يقل "يخلقني" بل "خلقني"، حتى يؤمن البشر بأن جسد يسوع المولود من العذراء مريم حدث مرة واحدة وليس مرارًا

القديس أمبروسيوس

إذ يتحدث حكمة الله عن تجسده لتحقيق خطة خلاص البشرية، يفتح طريق الخلاص ويكون البكر الذي يحمل البشرية ليدخل بها إلي أمجاده. بهذا دعي نفسه: "أنا هو الطريق" (يو14:6).

لأن المسيح لا يرغب فقط في تقديم ذاته للذين أكملوا الرحلة، بل أن يكون هو نفسه الطريق للذين يبدأون الرحلة، مصممًا أن يأخذ جسدًا. لذلك جاء تعبير: "الرب قناني بدء طرقه"، بمعنى أن الذين أرادوا أن يأتوا يلزمهم أن يبدأوا رحلتهم فيه

القديس أغسطينوس

* مرة أخرى كما قال سليمان الحكيم في الأمثال: "قناني". وقال "بدء الطريق" عن الأخبار السارة التي تقودنا إلى ملكوت السموات، ليس في الجوهر والكيان مخلوقًا، بل صار "الطريق" حسب التدبير. إذ صارت الكلمتان "مصنوعًا" و"مخلوقًا" تحملان نفس المعنى. إذ صُنع طريقًا، والباب والراعي والملاك والقطيع، وأيضًا رئيس الكهنة، والرسول، أسماء أخرى تُستخدم بمعانٍ أخرى

القديس باسيليوس الكبير

"منذ الأزل مُسحتُ منذ البدء منذ أوائل الأرض"

"إذ لم يكن غمرٌ أُبدئتُ إذ لم تكن ينابيع كثيرة المياه"

"من قبل أن تقررت الجبال قبل التلال أُبدئت (ولدني LXX)" ].

"إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة"

"لما ثبَّتَ السموات كنت هناك أنا،

لما رسم دائرة على وجه الغمر"

"لما اثبتَ السحب من فوق،

لما تشددت ينابيع الغمر"

"لما وضع للبحر حده فلا تتعدى المياه تخمه،

لما رسم أسس الأرض"

يؤكد الحكمة الإلهي أنه كان موجودًا قبل الأمور الآتية:

* كل الخليقة

* وجود الأرض

* أعماق ينابيع المياه

* تأسيس الجبال والتلال

* الأرض وأعفار المسكونة

* السماء والسحب

* قوانين الطبيعة

وجد القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات في هذه الفقرات غني حب الخالق له، فترنم قائلاً:

[أقمت السماء لي سقفًا،

وثبَّت لي الأرض لأمشي عليها.

من أجلي ألجمت البحر،

من أجلي أظهرت طبيعة الحيوان،

أخضعت كل شيء تحت قدميَّ،

ولم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك".]

ويقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير:

[العالم تصونه العناية الإلهية… إذ لا يوجد مكان لا تدركه هذه العناية.

والعناية الإلهية هي تنفيذ مواعيد الكلمة الإلهي، الذي يهب شكلاً للمادة التي يتكون منها هذا العالم، وهو المهندس والفنان لهذا كله. ما كان يمكن للأشياء أن تأخذ جمالها لولا فطنة قوة الكلمة الذي هو صورة الله (الآب) وعقله وحكمته وعنايته.

خطة الخلاص ليست جديدة، لكنها سابقة للخلقة ذاتها، فقبل السقوط كان الله يعد للإنسان قيامه، وتعيَّن الحكمة الإلهي مسيِّا إسرائيل ومخلص العالم كله. لقد أكد أنه ليس فقط قبل خلقة الإنسان دبَّر الفداء، وإنما حتى قبل خلقة العالم فقد أوضح دوره في الخلقة. ذاك الذي أحب الإنسان وخلق العالم لأجله، قبل التجسد وقدم حياته فداءً عنه.

يعلق كثير من الآباء على ما ورد في الترجمة السبعينية: "قبل أن يصنع الأرض، ويثبت الجبال، قبل كل التلال ولدني" [24،25 LXX].

* بحسب الهيئة كإله قيل: "قبل التلال ولدني"، أي قبل كل علو للأشياء المخلوقة، و"قبل الفجر ولدتك" (مز3:110 (Vulgate ، أي قبل كل الأزمنة والأشياء الوقتية. لكن إذ (ظهر) في شكل العبد قيل: "الرب خلقني في بدء طرقه".

بكونه في شكل الله يقول: "أنا هو الحق"، وفي شكل العبد: "أنا هو الطريق" (يو6:14).

لأنه هو نفسه بكونه بكرًا من الأموات (رؤ5:1) عبر إلى ملكوت الله للحياة الأبدية لأجل كنيسته، بكونه الرأس ليجعل الجسد أيضًا خالدًا.

القديس أغسطينوس

* يلزمنا أن نسأل ما هو معنى القول بأن الله (الكلمة) مولود قبل كل الدهور، وأيضًا خُلق لأجل بدء طرق الله ولأجل أعماله. بالتأكيد قيل هذا لأنه وُجد ميلاد قبل بدء العصور… ولكن حين يتحدث عن خِلقةٍ في بدء العصور لأجل طرق الله ولأجل أعماله ينطبق هذا على السبب الخلاَّق للأعمال والطرق.

أولاً: حيث أن المسيح هو الحكمة، يلزمنا أن ننظر إنه هو نفسه كان بدء طرق أعمال الله. أظن أنه لا يوجد شك في هذا ، إذ يقول: "أنا هو الطريق، لا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب إلا بي"... لذلك خُلق لأجل بدء طرق الله وأعماله، لأنه هو الطريق ويقود البشر إلى الآب…

ثانيًا: لقد خُلق من أجل أعمال الله من بدء العصور عندما أخضع نفسه لشكل الخليقة المنظورة، حاملاً شكل كائنٍ مخلوقٍ.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

* لا يرتبك أحد من الكلمات: "قبل العالم" و"قبل أن يخلق الأرض"، و"قبل أن استقرت الجبال"… فإنه يوجد هنا تلميح إلى التدبير حسب الجسد. فمع أن النعمة التي حلّت علينا من المخلص قد ظهرت الآن كما يقول الرسول، وجاءت عندما حلّ بيننا، لكن هذه النعمة قد أُعدت حتى قبل أن نوجد. بلى، أُعدت قبل تأسيس العالم، أما عن السبب فهو حنوه العجيب

البابا أثناسيوس الرسولي

"إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة"

"لما ثبت السموات كنتُ هناك أنا،

لما رسم دائرة على وجه الغمر"

* حكمة الله الذي به كل شيء قد صُنع، كان هناك، الحكمة نفسه يعمل في النفوس المقدسة ويجعلهم أصدقاء الله، وأنبياءه ويحدثنا عن أعماله في هدوء.

القديس أغسطينوس

* لنتعلم أيضًا أن الآب كان معه، وكان هو مع الآب عندما خُلقت كل الأشياء.

يقول الحكمة: "لما أَعدَّ السماوات كنت معه، عندما صنع ينابيع المياه".

وفي العهد القديم إذ يقول الآب: "لنصنع" أظهر أن الابن يجب أن يُسجد له معه كصانع كل الأشياء، إذ قيل أن هذه الأشياء قد خلقت بالابن.

القديس أمبروسيوس

* من كان معه عندما خلق كل الوجود إلا حكمته، الذي يقول: "عندما صنع السماء والأرض كنت معه"؟ بإشارته إلي السماء والأرض يشير إلي كل المخلوقات التي في السماء والأرض. إذ كان حاضرًا معه بكونه حكمته وكلمته، يتطلع إلي الآب خالقًا المسكونة، ومنظمًا لها ومعطيًا إياها نظامها، وهو قوة الآب، يهب كل الأشياء القوة، وكمخلص يقول: "كل ما أراه الآب فاعلاً افعله أنا أيضًا" (يو29:5؛ 16:1). وقد عَلِم تلاميذه القديسون أن كل الأشياء قد خُلقت به وله.

القديس أثناسيوس الرسولي


4. الحكمة الخالق والمخلص

"كنت عنده صانعُا (مدبرًا) "

يؤكد أقنوم الحكمة الإلهي دوره في الخلقة. وكما يقول الإنجيلي يوحنا: "به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو3:1) ويقول الرسول بولس: "الذي به عمل العالمين" (عب2:1)؛ "فإنه فيه خُلق الكل ما في السماوات وما علي الأرض، ما يُري وما لا يُري سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق" (كو16:1).

"وكنت كل يوم لذته، فَرِحة دائمًا قدامه"

يؤكد علاقة الحب المتبادل بين أقنومي الآب والحكمة، فإن كان الآب خطط ليقوم الابن بالخلاص، هذا لأن لذة الآب في ابنه، ولذة الابن في أبيه. فالفداء الذي يقوم به الابن "حكمة الله" يُنسب للآب كقول السيد المسيح : "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو16:3). فقيام الحكمة بالفداء هو بذل للآب أيضًا محب الحكمة والواحد معه.

* إنني أنا الذي يتلذذ به (الآب). علاوة على هذا كنت كل يوم لذته قدامه.

لقد كان يبتهج بالعالم الذي خلقه، وببني البشر…

يوجد مع الله الحكمة المولود قبل العوالم، وليس فقط حاضرًا معه، بل ينظم معه العوالم …

لاحظ عمله في تدبير الأمور وتنظيمها. الآب بأمره هو العلة ، والابن بالتنفيذ لما صدر من أوامر يدبر وينظم. التمايز بين الأقنومين قائم في العمل الذي لكل منهما.

عندما قيل : "لنعمل" (تك26:1) عُرفت الخليقة بكلمة الأمر، وعندما كُتب "كنت عنده مدبرًا"، يعلن الله أنه لم يصنع منعزلاً (عن الابن). لأنه كان فرحه قدامه… فرح بالعالم الذي صنعه وببني البشر.

يخبرنا الحكمة عن سبب فرحه. أنه يفرح لفرح الآب، الذي يفرح بإتمام خلقة العالم وبني البشر. فقد كُتب: "ورأي الله كل شيء أنه حسن" (تك 10:1 ، 12 ،31 ) … حكمته شريك معه في العمل ويفرح معه إذ يكمل العمل.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

* ألا يُحسب كفرًا القول بأنه وُجد وقت لم يكن فيه حكمة الله موجوداً؟! لقد قال: "كنت معه مدبرًا، كنت لذته كل يوم".

أو القول بأن قوة الله لم تكن موجودة أو كلمته أو ما غير ذلك مما يُعرف به الابن؛ أو يشير إليه الآب، أليس هذا خطأ؟!

من يقول إن بهاء مجد الآب لم يكن موجودًا في وقت ما، يحطم النور الأصلي الذي هو البهاء....

البابا الكسندروس السكندري

* لذلك فإن البهاء السرمدي يشرق أمامه ويوجد معه، في ذات الوجود الذي بلا بداية، وهو مولود دائمًا، ودائمًا يشرق أمامه. إنه الحكمة القائل "كنت معه لذته، كنت لذته دائماً أمام وجهه..."

القديس ديونسيوس الكبير

* حكمته هو الذي فيه لذته دائمًا كما بروحه. أنه واحد معه كنفسٍ لله، ويمتد كيدٍ لتشكل المسكونة.

العظات الاكلمندية

"فَرِحَةً في مسكونةِ أرضه،

ولذاتي مع بني آدم"

إن كان الحكمة يعلن عن أنه موضوع لذة الآب، بكونه الواحد معه والخالق، فإنه بدوره يجر لذته فينا نحن خليقته التي عصته وتمردت عليه.


5. الحكمة واهب الطوبى

أخيرًا بعد أن أعلن الحكمة عن خطة تجسده الصادرة عن حبه وحب الآب لبني البشر، وعن رغبته أن نكون موضع سروره ولذته يدعونا للاستماع إليه وإلي قبوله، فننعم بالحياة المطَّوبة.

يقول السيد المسيح : "الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يري الموت إلي الأبد" (يو51:Cool.

"فالآن أيها البنون اسمعوا لي،

فطوبى للذين يحفظون طرقي"

"اسمعوا التعليم وكونوا حكماء ولا ترفضوه"

"طوبى للإنسان الذي يسمع لي ساهرًا كل يوم، عند مصاريعي،

حافظا قوائم أبوابي"

* من له النور يسهر "والظلمة لا تدركه" (يو5:1)، ولا ينام، حيث لا توجد ظلمة.

من يستنير يكون يقظًا من جهة الله، هكذا يعيش.

القديس اكليمنضس السكندري


6. الحكمة واهب الحياة

"لأنه من يجدني يجد الحياة وينال رضى (إرادة) من الرب"

يسألنا حكمة الله ليس فقط أن ننصت إليه بل أن نجده فنقتنيه، وكما يقول السيد المسيح: "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية" (يو36:3).

يقدم الحكمة ذاته للنفس البشرية، وعليها أن تبحث عنه فتجده. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). هنا البحث يعني الإرادة، إذ لا يقتحم الحكمة النفس البشرية بغير إرادتها، إنما إذ تطلبه بكامل حريتها تجده حاضراً. هذه الإرادة المقدسة هي أيضاً عطية من الله كقول الرسول: "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (في13:2).

* بالنسبة للإنسان ليس حسن ألا يريد، ولكن بنعمة الله ينال عونًا لكي يريد، فإنه ليس باطلاً كُتب: "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (في13:2)؛ وإن " الإرادة معدة بالله".

القديس أغسطينوس


7. بؤس رافضي الدعوة

"ومن يخطئ عني يضر نفسه،

كل مبغضي يحبون الموت" .

يقول السيد المسيح نفسه: "الذي لا يؤمن بالابن لن يري حياة، بل يمكث عليه غضب الله" (يو36:3). كما يقول: "لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويُحي كذلك الابن أيضًا يُحي من يشاء" (يو20:5). ويقول يوحنا الحبيب: "من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة" (1يو12:5).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالسبت مارس 05, 2011 8:39 pm

الاصحاح التاسع


مائدة الحكمة


لا يقف عمل الحكمة عند النداء العملي لكل البشرية والدعوة للتمتع به بكونه حكمة الله الأزلي، الخالق والمدبر للخليقة كلها، مقدمًا بركاته الفائقة، لكنه يكشف هنا عن المائدة التي أعدها للمؤمنين، تكلفتها بذل ذاته بالحب العملي على الصليب لأجل الإنسان.

يدعونا السيد المسيح - الحكمة الإلهي - إلى سمواته لكي نشبع من المائدة الفريدة الغنية، فقد حمل جسدنا بيتًا له، وصار جسده الحقيقي الذي يبذله بالحب طعامًا روحيًا يشبع النفس ويرويها.

جاء السيد المسيح نفسه ليدعونا إلي وليمته، كما بعث إلينا تلاميذه ورسله والعاملين في كرمه لتقديم دعوة عامة لكل البشرية. لكن لا يستطيع أن يتمتع بهذه الدعوة إلا من يشعر بجهله واحتياجه إلي الحكمة. مسيحنا جاء لا ليدعو الأبرار، بل الخطاة إلي التوبة. اختار جهال العالم لكي يخزي بهم الحكماء في أعين أنفسهم، واختار الضعفاء ليخزي الأقوياء، والمزدري وغير الموجودين ليخزي بهم من يظنوا في أنفسهم أنهم شيء (1كو27:1).

من لا يقبل وليمة الحكمة يجد نفسه قد انسحب إلي وليمة الجهل.

1. مائدة الحكمة 1-12.

2. مائدة الجهل13-18.


1. مائدة الحكمة

يستعرض سليمان الحكيم اهتمام حكمة الله بالمائدة السمائية التي أعدها لمحبوبيه، بني البشر، الذين هم موضع سروره ولذته، موضحًا تكلفتها وفاعليتها في حياتهم. تحدث عن الآتي:

أ. بيت الوليمة .

ب. قوة البيت وثباته.

ج. طعام فريد .

د. شراب فريد .

ه. نظام الوليمة .

و. الدعوة للوليمة .

ز. فاعلية الوليمة .

ح. جدية الوليمة .

ط. طريق الوليمة .

ي. امتداد الوليمة .

ك. المنتفع بالوليمة .


أ. بيت الوليمة

كل إمبراطور أو ملك أو رئيس دولة يهتم أن يخصص جزءًا رئيسيًا من قصره لإقامة الولائم، خاصة للأباطرة أو الملوك أو الرؤساء، وأيضًا لرجال الدولة والمسئولين وغيرهم. تكشف صالة الوليمة عن اهتمام الشخص بمن يدعوهم كما تعلن عن شخصية من قدم الوليمة. لذا فإن المبني يحمل طابعًا قوميًا يكشف عن حضارة البلد وإمكانياته الخ. أما حكمة الله فلم يبنِ منزلاً ليدعو الآخرين إليه، بل قبل طبيعتنا البشرية، إذ صار إنسانًا حقًا. صار البيت ليس بغريبٍ عنه، بل هو بيته. اتحد لاهوته بناسوته بلا انفصال وبغير امتزاج. فالدعوة التي يقدمها لنا هي أن نثبت فيه فنصير أعضاء جسده. أنها دعوة اتحاد أبدي معه!

لقد فتح أبواب بيته، أي جسده، ليس فقط حين فتح فاه أمام الجماهير في موعظته علي الجبل، ولا حين تحدث معنا علي مستوي الجماعة كما علي المستوي الشخصي، مع كل أحدٍ منا، وإنما حين سمح بفتح جنبه علي الصليب ليفيض لنا دمًا وماء. جنبه مفتوح علي الدوام لكي ندخل في بيته، ونتلامس مع أحشاء حبه الناري، فننعم بالوجود الدائم معه وفيه. وكما يقول صاحب الوليمة نفسه: "اثبتوا فيَّ وأنا فيكم" (يو15:4). ويقول الرسول بولس: "حياتكم مستترة مع المسيح " (كو3:3).

"الحكمة بنت بيتها".

البيت الذي بناه حكمة الله هو ناسوت السيد المسيح. لقد هيّأت خطة اللَّه الأزلية التجسد لكي يتحقق الخلاص.

* ليتنا ننظر إلى المسيح من الجانبين: الكلمة الإلهي الذي صار واحدًا في مريم مع الذي أخذه من مريم. فإنه في رحمها شكَّل الكلمة لنفسه بيته، كما أنه في البداية شكَّل آدم من الأرض… أو بالأحرى كما قال سليمان الحكيم صراحة، إذ يعرف أن الكلمة قد دُعي الحكمة: "الحكمة بنت بيتها"، وقد فسّرها الرسول قائلاً: "ونحن بيته"، وفي موضع آخر يدعونا هيكلاً. إن كان يليق باللَّه أن يسكن في هيكل على صورة (معينة) مصنوع من حجارة، فقد أمر بواسطة سليمان الشعب القديم أن يبنيه، بينما عند ظهور الحق توقفت الصورة (إذ ظهر الحق نفسه) .

البابا أثناسيوس الرسولي

* لكننا نقول إنه في الجزء الأول من الكتاب حيث يقول "الحكمة بنت بيتها" يُشير بطريقة غامضة خلال هذه الكلمات إلى إعداد جسد الرب، فإن الحكمة الفائقة لم تسكن في مسكن لآخر، بل بنت لنفسها مسكنًا من جسد العذراء... هكذا يمكننا أن نرى في هذه العبارة سليمان يتحرك بروح النبوة ويسلم لنا فيها كمال سرّ التجسد.

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

* هنا بالتأكيد ندرك أن حكمة اللَّه، أي الكلمة الشريك مع الآب في الأزلية قد بنى لنفسه بيتًا، أي جسدًا بشريًا في أحشاء البتول، وأخضع الكنيسة له كأعضاء للرأس، وقد ذبح الشهداء كذبائح، وأعد مائدةً بالخبز والخمر، حيث أبرز الكهنوت على رتبة ملكي صادق، ودعى البسطاء والذين ينقصهم الحس، وكما يقول الرسول: "اختار اللَّه ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء" (1كو27:1).

القديس أغسطينوس

* شهادة القديس غريغوريوس أسقف نيصص في كتابه ضد أونوميوس:

"كان الكلمة قبل كل العصور، أما الجسد فصُنع في ملء الزمان، ولا يستطيع أحد أن يقول العكس أن الجسد كان قبل الدهور أو الكلمة صُنع في ملء الزمان.

ثيؤدورت

* المسيح، يقصد حكمة اللَّه وقوته، بنى بيتًا له، أي طبيعته في الجسد التي أخذها من العذراء، حيث يقول (يوحنا): "الكلمة صار جسدًا، وحلّ بيننا". وذلك كما يشهد النبي الحكيم: الحكمة الذي كان قبل العالم، مصدر الحياة، غير المحدود، "حكمة اللَّه بنت بيتها" بواسطة أُمٍ لا تعرف رجلاً، أي أخذ هيكل الجسد.

القديس هيبوليتس

يعلن الكتاب المقدس أن الثالوث القدوس اشترك في إتمام عمل التجسد الإلهي أو في إقامة بيت الوليمة، حيث دبَّر خطة الخلاص، وبني الحكمة الإلهي له بيتًا، وتحقق التجسد الإلهي بعمل الروح القدس في أحشاء القديسة البتول مريم، فنالت كرامة فريدة. والعجيب أن حكمة الله أيضًا يبني بروحه القدوس له فينا بيتًا له، مسكنًا للثالوث القدوس، إذ يقول: "يحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً" (يو23:14).

* كما نقرأ أن الآب صنع سرّ تجسد الرب، والروح أيضًا، هكذا نقرأ أن المسيح نفسه صنع جسده.

بالنسبة للآب كُتب: "الرب خلقني" (أم22:Cool، وفي موضع آخر: "أرسل اللَّه ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس".

والروح خلق كل السرّ، كما نقرأ: "ووُجدت مريم حُبلى بطفل من الروح القدس".

القديس أمبروسيوس

يقيم من إنساننا الداخلي بيت وليمة عجيب، تدعوه النفس "جنته" إذ تناجي حكمة الله، قائلة: "ليأتِ حبيبي إلي جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش16:4). ويستجيب الحكمة الإلهي لدعوتها فيقول:

" قد دخلت جنتي يا أختي العروس.

قطفت مُرّي مع طيبي. أكلت شهدي مع عسلي.

شربت خمري مع لبني.

كلوا أيها الأصحاب. اشربوا واسكروا أيها الأحباء" (نش1:5).

هذا هو البيت الذي يقيمه فينا حكمة الله ويحسبه بيته وجنته، يدعو إليه أصحابه السمائيين ليأكلوا ويشربوا ويفرحوا بثمر روحه القدوس العجيب فينا.

يعلق القديس غريغوريوس أسقف نيصص علي هذه الدعوة التي تقدمها النفس البشرية لذاك الذي أقام منها جنة وحوّل أعماقها وليمة غنية فيقول:

[ من هو هذا الذي تدعوه العروس إلي وليمتها التي تحمل ثمارها؟

لمن أعَدّتْ وليمة من مصادرها (الداخلية)؟

من هو هذا الذي تدعوه العروس إلي الوليمة التي أعدتها؟ ليس إلا ذاك الذي منه وبه وفيه توجد كل الأشياء (رو36:11). إنه يعطي لكل شخص طعامه في حينه (مز15:145)، يفتح يديه ويملأ كل حيّ من بركاته. نزل كخبزٍ من السماء (يو41:6)، وأعطي العالم الحياة، وجعل المياه تتفجر من ينبوعه الذي للحياة. هذا هو ذاك الذي تُعد له العروس مائدتها.

المائدة هي جنة مزروعة بأشجار حية.

نحن بحق الأشجار، والطعام المقدم له هو خلاص نفوسنا.]

عمل حكمة الله أن يهدم الخيمة القديمة التي هي أعمال الإنسان القديم التي أقامتها الخطية فينا، ليُقيم بيتًا جديدًا داخليًا، يتجدد كل يوم. "إن كان إنساننا الخارجي يفني فالداخل يتجدد يومًا فيومًا" (2كو16:4).

هذا البيت الذي بناه السيد المسيح هو كنيسته المقدسة حيث يقدم نفسه حجرًا حيًا مرفوضًا من الناس ولكنه مختار من الآب وكريم (1بط4:2)، يحملنا كحجارة حية ترتكز عليه، نُبني بجوار بعضنا البعض ونتحد معًا لنصير أشبه ببرجٍ واحدٍ. وكما يقول القديس بطرس الرسول: "كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة حية، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح " (1بط5:2).


ب. قوة البيت وثباته

"نحتت أعمدتها السبعة".

إن كان قد أقام حكمة اللَّه لنفسه بيتًا، إذ اقتبس ناسوتنا وجعله واحدًا معه، فإنه نحت أعمدة سبعة يقيم عليها البناء. ما هذه الأعمدة إلا روحه الناري الواحد معه. هذا الروح الذي لا ينفصل عنه، وهبنا إياه بإقامته إنساننا الداخلي بيتًا له، فصرنا مسنودين به، يقودنا بقوة إلي مراعي المسيح التي لا تنضب، ويدخل بنا إلي ملكوته الأبدي، واهبًا إيانا القوة والنصرة والتعزيات الفائقة.

* يستحيل أن ينال أحد نعمة الله، ما لم يكن له الروح القدس، الذي فيه كل عطايا الله.

القديس ديديموس الضرير

* يُسمي (الروح القدس) المعزي، لأنه يعزي ويفرِّح الذين في الشدائد.

القديس مقاريوس الكبير

* حين تمتلئ النفس من ثمر الروح تتعزى تمامًا من الكآبة والضيق والضجر، وتلبس الاتساع والسلام والفرح بالله، ويُفتح في قلبها باب الحب لسائر الناس.

مار اسحق السرياني

* "وأقامت أعمدتها السبعة"، أي الرائحة الذكية التي للروح الكلي القداسة، كقول إشعياء: "وأرواح اللَّه السبعة تستقر عليه". ويرى البعض أن الأعمدة هي السبعة أنظمة التي تقوم عليها الخليقة بتعليمه (الإلهي) المقدس والموحى به، أي الأنبياء والرسل والشهداء والكهنة والمتوحدين والقديسين والأبرار.

* إنه يقصد أورشليم الجديدة والجسد المقدس. ويعني بالأعمدة السبعة وحدة الروح القدس السباعية المستقرة عليها.

القديس هيبوليتس

* بخصوص كرامة الرقم 7 لدينا شهادات كثيرة، لكننا نكتفي بالقليل من الكثير. كمثال: سبعة أرواح ثمينة قد سُميت، فإنني أظن أن إشعياء يحب أن يدعو أنشطة الروح أرواحًا، وتعاليم الرب المصفاة سبعة مرات كقول داود (مز6:12)، والبار يخلص من ست ضيقات وبالسابعة لا يُضرب. أما الخاطي فيُغفر له ليس سبع مرات، بل سبعين مرة سبع مرات. وأيضًا يمكننا أن نرى ذلك بالمقابلالنقيض (فإن عقاب الأشرار ممتدح)، فاُنتُقِم لقايين سبع مرات، أيضًا أن العقوبة عن قتل أخيه إذ تحققت، اقتص له للامك سبعين مرة سبع مرات، لأنه كان قاتلاً حسب الشريعة ويُدان. والأقرباء الأشرار ينالون سبع أضعاف في حضنهم، وبيت الحكمة يستقر على سبعة أعمدة، وحجر زربابل يزين بسبعة أعين، واللَّه يُسبح سبع مرات في اليوم، وأيضًا تحمل العاقر سبع، الرقم الكامل، وذلك في مقابل تلك التي أولادها غير كاملين.

القديس غريغوريوس النزينزي


ج. طعام فريد

"ذبحت ذبحها".

ماذا يقدم السيد المسيح في بيته إلا جسده المبذول، ذبيحة حب، يشتمها الآب رائحة رضا، ويقدمها لمؤمنيه مائدة فائقة سماوية.

* هذه المائدة هي عضد نفوسنا، رباط ذهننا، أساس رجائنا، خلاصنا ونورنا وحياتنا.

* عندما تري المائدة معدة قدامك قل لنفسك:

من أجل جسده لا أعود أكون ترابًا ورمادًا،

ولا أكون سجينًا بل حرًا!

من أجل هذا (الجسد) أترجى السماء، وأتقبل الخيرات السمائية، والحياة الخالدة، ونصيب الملائكة، والمناجاة مع المسيح!

سُمر هذا الجسد بالمسامير وجُلد، ولا يعود يقدر عليه الموت!

إنه الجسد الذي لُطخ بالدماء وطُعن،

ومنه خرج الينبوعان المخلصان للعالم: ينبوع الدم وينبوع الماء.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ نتناول هذه الذبيحة الفريدة نشتهي أن نشارك مسيحنا حبه الذبيحي فنقدم ذبائح حب بلا انقطاع. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). وكما يقول العلامة ترتليان: [ تخرج هذه الذبيحة من كل القلب، وتتغذى علي الإيمان، وتراعي الحق، تدخل في براءة ونقاوة، في عفة، تتزين بالحب. ويلزمنا أن نحرسها بعظمة الأعمال الصالحة، مقدمين مزامير وتسابيح علي مذبح الله لننال كل الأشياء منه.]

نقدم مع الرسول بولس ذبيحة الألم اليومي فنترنم قائلين: "من سيفصلنا عن محبة المسيح أشدة أم ضيق … كما هو مكتوب أننا من أجلك نُمات كل النهار. قد حُسبنا مثل غنمٍ للذبح" (رو25:8،26). بصليب ربنا تُذبح الأنا فنقول: "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا" معتزين بأن المسيح الذبيح صار حيًا فينا… فنقول: "بل المسيح يحيا فيَّ" (غلا 20:2).

نقدم ذبيحة الاتضاع أمام الله (مز16:51،17)، ذبائح البرّ (مز5:4)، ذبيحة الجسد المضبوط بصليب الرب (رو1:12)، ذبيحة التسبيح (عب15:13).

* أنا نفسي أود أن أكون في عداد أبنائها لكي أُذبح بواسطتها. أود أن أّذبح لكي أكون ابنًا.

لكن هل هي قاتلة لأبنائها، أو مُعذبة لهم؟ فإني اسمع الله أيضًا في موضع آخر يقول: "احرقهم كالذهب في النار، وأُمحصهم كالفضة المصفَّاة". بالتأكيد إنه بآلام النار والعقوبات وباختبار الاستشهاد من أجل الإيمان.

يعرف الرسول أيضًا نوعًا من الذبح يصفه لنا: "الذي لم يُشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا معه كل شيء؟"

أنظر كيف تذبح الحكمة الإلهية حتى ما لها!

يُذبح الابن البكر الوحيد، الذي ليس فقط يحيا بل يهب حياة للآخرين. أقول: إنه السيد المسيح الذي يبذل ذاته من أجل معاصينا.

العلامة ترتليان

* العبارة: "ذُبحت حيواناتها" تُشير إلى الأنبياء والشهداء الذين قُتلوا في كل مدينة ودولة بواسطة غير المؤمنين من أجل الحق، ويصرخون قائلين: "من أجلك ذُبحنا كل النهار، حُسبنا كغنم نُساق للذبح".

القديس هيبوليتس


د. شراب فريد

"مزجت خمرها".

نادرًا ما كان قدماء اليهود أو اليونانيين أو الرومانيين يشربون الخمر دون مزجه بماء، وقد تعرض كثير من قدامي الكتاب لهذا الأمر، فالبعض يرى مزج الخمر بالماء بنسبة 3 إلى 1، وآخرون 5 إلى 1، وأشار بليني Pliny إلا أن بعض الخمور تحتاج إلى إضافة 20 قدرًا من الماء عليها، لكن الغالبية العظمى يرون إضافة 3 مقادير من الماء إلى قدرين من الخمر.

هذا والبعض لا يمزج الخمر بالماء ليضعف من قوته بل يمزجه ببعض التوابل أو العسل، أو المر، أو madragora أو opium وغير ذلك لكي تزداد حدة الخمر، فلا يصير مسكرًا فحسب بل ويجعله مخدرًا. وربما المزج أيضًا يُشير إلى مزجه بأنواع ثمينة من الخمر لكي تسبب للإنسان فرحًا وبهجة قلبٍ.

يقدم لنا حكمة الله دمه الطاهر شرابًا روحيًا سمائيًا. وكما جاء في قداس الأسقف سرابيون: [ نقدم لك هذا الخبز…وهذه الكأس… اجعل كل المشتركين فيها أن يتناولوا دواء الحياة، شفاءً لكل ضعفٍ، وسندًا لكل تقدم وفضيلة، وليس دينونة علينا.]

* علاوة على هذا فإن الروح القدس يظهر بواسطة سليمان الحكيم نظام ذبيحة الرب، مُشيرًا إلى الذبيحة المقدمة من الخبز والخمر. وأيضًا عن المذبح والرسل يقول "الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة، ذبحت ذبائحها، مزجت خمرها في الكأس، أيضًا رتبت مائدتها، أرسلت جواريها تُنادي على ظهور أعالي المدينة: " من هو جاهل فليمل إلى هنا". والناقص الفهم قالت له: "هلموا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها". يُعلن عن الخمر الممزوج، أيضًا يخبرنا مقدمًا بصوت نبوي عن كأس الرب الممزوج بماء وخمر، التي تظهر أنها تمت في آلام ربنا والتي سبق النبوة عنها.

القديس كبريانوس

* العبارة: "مزجت خمرها" في وعاء فخاري تعني أن المخلص، يتّحد بلاهوته بالجسد مثل خمرٍ نقيٍ في البتول، مولودًا منها إلهًا وإنسانًا في نفس الوقت دون امتزاجٍ بينهما.

القديس هيبوليتس

* إذ يبطلون اللبن يشربون خمرًا يفرح قلوب من هم أكثر كمالاً، الذين لا يعودون يمارسون الأمور الطفولية. الآن صاروا قادرين علي شرب الأمور الصالحة من كأس الحكمة بأفواههم.

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

يقدم لنا حكمة الله كأس الخمر، الذي هو دمه المبذول عنا غفرانًا لخطايانا، ومعه كأس الحكمة لندرك بها أسرار الكتاب المقدس وننال معرفة روحية فعَّالة في حياتنا.

* هؤلاء الذين يتقبلون رموزًا من الكتاب المقدس حسب فهم التلاميذ ينعمون بالرجاء في أن القديسين يأكلون حقًا، بل سيكون خبز الحياة الذي ينعش النفس بطعام الحق والحكمة وينير الذهن ويجعله يشرب من كأس الحكمة الإلهية حسب إعلان الكتاب المقدس.

العلامة أوريجينوس

إن كان الخمر يشير إلي الفرح الروحي، فإننا إذ نتناول من الدم المقدس، وإذ نشرب من كأس الحكمة، يتولد فينا فرح حقيقي يسند النفس ويرويها، فلا تخور في طريق الآلام.


ه. نظام الوليمة

"أيضًا رتبت مائدتها".

بقوله "رتبت" أو "أعدت" مائدتها، يؤكد الكتاب المقدس أن هذه الوليمة مع كونها مجانية، وأبوابها مفتوحة لكل بشر، لكنها وليمة أعدها الرب نفسه. هيأ البشرية لأجيال طويلة خلال الآباء والأنبياء لدخولهم إليها. للوليمة نظامها وتدبيرها، لأن الذي أعدها إله نظام وليس إله تشويش (1كو32:14).


و. الدعوة للوليمة

"أرسلت جواريها تنادي على ظهور أعالي المدينة:

من هو جاهل فليمل إلى هنا.

والناقص الفهم قالت له:

هلموا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها".

أرسلت الحكمة جواريها إلي قمم التلال والمرتفعات والجبال لتنادي، فهي دعوة عامة وعلنية، لأن الله يريد أن الكل يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون. كانت العادة قديمًا في بعض المدن الآسيوية أن يُرسل الشخص إلى المدعوّين مجموعة من الجواري النساء يسبقهن بعض الخصيان ويُقدمون دعوة الاستضافة.

يرى القديس إكليمنضس السكندري أن هؤلاء المرسلين هم الأنبياء الذين تقدموا الرب، وقد أرسلهم ليدعوهم إلى الوليمة؛ هؤلاء ليسوا سارقين ولا لصوص، أما الفلسفة فلم تُرسل بواسطة الرب لذا جاءت تسرق. وهو يقصد هنا الفلسفات المُضادة للحق والمقاوِمة لمعرفة اللَّه.

* العبارة: "أعدت مائدتها" تُشير إلى معرفة الثالوث القدوس الموعود بها، كما تُشير إلى جسده ودمه الطاهرين الثمينين، اللذين يقدمان كل يوم ذبيحة على المائدة الإلهية الروحية، تذكارًا دائمًا للعشاء الأول الإلهي الروحي.

القديس هيبوليتس

صرخة الدعوة موجهة إلي من يشعر أنه جاهل لكي يميل ويتمتع بالحكمة الإلهية، ومن يشعر بنقص الفهم يتقدم ليتمتع بمائدة المعرفة الحقة.

* في بيت الوليمة هذا يجد الآتين من المشارق والمغارب موضعًا لهم في حضن إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات.

العلامة أوريجينوس


ز. فاعلية الوليمة

"اتركوا الجهالات فتحيوا،

وسيروا في طريق الفهم".

إذ يستجيب المؤمن لنداء الحكمة العلني المجاني يليق به أن يعلن عن تجاوبه مع هذا النداء بترك الجهالات والسير في طريق الفهم، وذلك بغني نعمة الله العاملة فيه. يطالبنا بترك الجهل والجهال، فإن من يصاحبهم بالضرورة يصير جاهلاً مثلهم.

* تلك (مائدة الشياطين) هي اختلاط بالشياطين، أما هذه (مائدة الرب) فهي شركة مع الله.

القديس كيرلس الأورشليمي

* المائدة السرائرية هي جسد الرب الذي يعضدنا قبالة شهواتنا وضد الشيطان.

حقًا يرتعد الشيطان من الذين يشتركون في هذه الأسرار بوقار.

القديس كيرلس الكبير


ح. جدية الوليمة

"من يوبخ مستهزئًا يكسب لنفسه هوانًا،

ومن يُنذر شريرًا يكسب عيبًا.

لا توبخ مستهزئا لئلا يبغضك،

وبخ حكيما فيحبك ".

كان الفلاسفة يظنون أنهم بلا خطية، يمثِّلون طبقة خاصة معصومة من الخطأ، لكن كلمة اللَّه تكشف عن ضعف الطبيعة البشرية وحاجة الكل، حتى المعلمين والقادة، إلى التعلم المستمر.

* ألعل هذا هو السبب أنه لا يوجد أحد حتى من بين الذين يتجاسرون وينعتون أنفسهم كحكماء، لأنهم (الفلاسفة) يظنون أن الحكيم بلا خطية؟ أما كتابنا المقدس فلا يقول هذا بل يقول: "وبِّخ حكيمًا فيحبك". بلاشك من يظن أن الإنسان يلزم أن يُوبخ، يحكم بأنه خاطي.

على أي الأحوال، من جانبي لا أجسر أن أحسب نفسي حكيمًا حتى بهذا المعنى. يكفيني أن أحسب نفسي ما لا يستطيعوا أن ينكروه، أي يُنسب الصراع من أجل الحكمة إلى الفلاسفة، أي إلى محبي الحكمة. فإن الذين يمتهنون محبة الحكمة لا يتوقفون عن الصراع من أجل الحكمة، ويُحسب هؤلاء أكثر منهم حكماء.

القديس أغسطينوس

الدعوة موجهة إلى الجميع، لكن لا يدركها إلا الإنسان الجاد في خلاص نفسه. لهذا فإن المستهزئ إذ يجد في الدعوة توبيخًا لاستهتاره عوض التجاوب مع نداء الحكمة يهين من يقدمها إليه، والشرير المصمم علي شره عوض التوبة ينسب لمن يهتم بخلاصه العيوب والشرور.

ليس عجيبًا أن "كل من له يُعطي فيزداد، ومن ليس له فالذي عنده يُؤخذمنه" (مت29:25). من لديه حكمة يزداد حكمة، لأنه يطلب أن ينمو فيها، يحب من يعلمه ويوبخه لينال معرفة. وأما من له روح السخرية والاستهزاء والشر يزداد شرًا، لأنه يحمل بغضة لمن يوبخه أو يرشده.

"أعطِ حكيمًا فيكون أوفر حكمة،

علِّم صدِّيقًا فيزداد علمًا".

لم يقل "أعط تعليمًا للحكيم"، بل قال "أعط حكيمًا"، دون تحديد ما تقدمه له. فالحكيم ينتفع من كل ما يُعطى إليه؛ إنه كالنحلة التي تجمع عسلاً من كل زهرة.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في شعبه حكماء يحتاجون أن يبدأ معهم بعض تأملاته في الكتاب المقدس ليفتح لهم الطريق، وأما هم فيكملون ما بدأه ويُضيفون عليه، إذ يزدادون حكمة.

يليق بنا أن نقدم كل النقاط الأخرى، لكن بهذا يصير الحديث طويلاً للغاية، ويمتد إلى مدة طويلة جدًا. لهذا فإننا نتوقف عن أن نقدم نقاط أخرى، ونترك هذا الأمر لكم، ففي وسعكم أن يكون بين أيديكم. أنه في قدرتكم أن تجمعوا هذه النقاط معًا في البيت وتفحصوا الاختلافات، وبنفس الطريقة تدركون نقاطًا جديدة. قيل: "أعط بدء المكان للحكيم فيزداد حكمة" [9 LXX]. فالبدء هو من عندنا، وأما النهاية فهي عندكم.

القديس يوحنا الذهبي الفم


ط. طريق الوليمة

"بدء الحكمة مخافة الرب،

ومعرفة القدوس فهم".

لن نستطيع الدخول في طريق الحكمة ما لم نطلب مخافة الرب، فهي بدء الحكمة، وهي غايتها أيضًا. نبدأ بالمخافة الإلهية التي ترافقنا طوال الطريق حتى تدخل بنا إلي الأحضان الإلهية. ننعم بالخوف الممزوج بالحب، ليس خوف العبيد الذي يطرد المحبة، بل خوف البنين الذين يتمتعون بروح الحب.

يتحدث العلامة ترتليان في هجومه على الفلسفة والفلاسفة قائلاً: بأن الفلاسفة يفشلون في التعرف على اللَّه، ويتشككون، ويصيرون في ارتباك بسبب فقدانهم مخافة الرب.


ي. امتداد الوليمة

"لأنه بي تكثر أيامك، وتزداد لك سنو حياة".

تهب الحكمة كثرة أيام وزيادة سني حياة. إن قصرت أو طالت أيام حياة المؤمن علي الأرض، إلا أنها في عينيْ الله مثمرة وممتدة لا يستطيع الموت أن يحطمها.


ك. المنتفع بالوليمة

"إن كنت حكيمًا، فأنت حكيم لنفسك،

وإن استهزأت، فأنت وحدك تتحمل".

ما يزرعه الإنسان إياه يحصد، فإن زرع حكمة تمتع بها، وإن زرع سخرية واستهزاء لا يضر أحدًا إنما يضر نفسه.

* لا يشترك في المائدة الروحية إلا ذاك الذي يُدعى بواسطة (اللَّه)، والذي يصغي إلى الحكمة القائلة: "هلموا كلوا.

القديس ديونسيوس الكبير

من يختبر الحكمة يأتي إليها جائعًا، يطلبها لا لينال بركات زمنية، إنما ليقتنيها، وقد عبر يشوع بن سيراخ عن ذلك بقصيدة رائعة في طلب الحكمة ختم بها السفر، جاء فيها:

[ في شبابي وقبل تجوالي، التمست الحكمة علانية في صلاتي.

أمام الهيكل طلبتها، وإلي آخر حياتي أسعى وراءها.

ابتهج قلبي بزهرها، كما يبتهج بعنبٍ ينضج.

ودرجت قدمي في الطريق المستقيم.

ومنذ شبابي جددت في أثرها. أملت أذني قليلاً فتلقيتها.

ووجدت لنفسي تأديبًا كثيرًا.

وتقدمت بفضلها، والذي أتاني الحكمة آتيه مجدًا،

فإني عزمت أن أعمل بها، وغرت علي الخير فلا أخزي.

جاهدت نفسي لأجلها. ومارست الشريعة بدقة بالغة.

ومددت يديَّ إلي العلاء. وبكيت علي جهالاتي.

وجهت نفسي إليها بالطهارة ووجدتها.

ومعها ملكت الإدراك منذ البدء، فلذلك لا أخذل.

تحركت أحشائي في طلبها، فلذلك اقتنيت اقتناءً صالحًا.]

(يشوع بن سيراخ13:51-21)


2. مائدة الجهل

"المرأة الجاهلة صخابة حمقاء ولا تدري شيئًا".

إن كانت مائدة الحكمة قد أعها الله نفسه ورتبها، مقدمًا إمكانيات إلهية يتمتع بها المؤمن ليصير حكيمًا وصاحب معرفة، وينمو فيهما، فإن مائدة الجهل تقدمها المرأة الجاهلة. ولعله يقصد بالمرأة الجاهلة هنا الشر نفسه. ويصفها بالآتي:

أ.جاهلة: بلا حكمة ولا معرفة صادقة.

ب.صخابة: تسبب صخبًا بلا معني ولا يحمل حبًا، بل ضجيجًا وقلقًا.

ج. حمقاء: تتصرف بغباوة.

د.متشامخة: تجلس عند باب بيتها علي كرسي في أعالي المدينة، تعلم من يلتصق بها روح الكبرياء.

ه.تنادي السالكين في الحق لكي يتركوا طريقهم ويسيروا وراءها. "لتنادي عابري السبيل المقومين طرقهم من هو جاهل فليمل إلى هنا والناقص الفهم تقول له: المياه المسروقة حلوة وخبز الخفية لذيذ".

و. تغوى فتقدم عذوبة مع السرقة، ولذة مع المتخفي في الشر. بينما يقيم حكمة الله بيتًا يدعونا إليه لنتمتع بوليمة حب بادل، إذا بالجهل يدعو الشباب ويغويه لوليمة مياه مسروقة وخبز خفي تُقام في الشارع بدون بيت.

ز.تقدم خيالات وموتًا لمن يقبل ضيافتها، ويأكل من خبز الخفية الذي تقدمه والمياه المسروقة الحلوة. "ولا يعلم أن الأخيلة هناك وأن في أعماق الهاوية ضيوفها".

الحكمة الجهالة

ملكة تهتم بالبناء. امرأة جاهلة حمقاء.

تعد وليمة ثمينة. تدعو للملذات الباطلة.

تقدم خبرة الحياة الملوكية. تقدم العبودية للملذات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالسبت مارس 05, 2011 11:41 pm

الاصحاح العاشر


وصايا موجهة إلى الجميع


وصايا الحكمة


في الأصحاحات التسعة السابقة يدعونا سليمان الحكيم للتعرف على الحكمة وبركاتها، ويسألنا أن نطلبها لكي نقتنيها بكونها حكمة الله، أو أقنوم الحكمة الإلهي، يسكن فينا ويعمل بنا، ويدخل بنا إلى الأبدية. الآن يقدم لنا تعاليم الحكمة أو وصاياها، من جوانب كثيرة، قد تتكرر بعض الأمثال أو تتشابه، وذلك لتأكيد أهميتها، أو لإبراز جوانب مختلفة لموضوع واحد.

يُمكن أن نُعطي العناوين التالية للأصحاحات 10-20.

1. وصايا الحكمة عن مكافآت الحياة الساميةص 10.

2. وصايا الحكمة عن طرق البرّ مملوءة أمانًاص 11.

3. وصايا الحكمة عن السلوك المتناقض ص 12.

4. وصايا الحكمة عن سعادة الحياة المستقيمة ص 13.

5. وصايا الحكمة عن مخافة الرب ص 14.

6. وصايا الحكمة عن القلب الفرح ص 15.

7. وصايا الحكمة من العناية الإلهية ص 16.

8. وصايا الحكمة عن بيت المحبة ص 17.

9. وصايا الحكمة عن العزلة المقدسة والعزلة الشريرةص 18.

10. وصايا الحكمة عن عظمة السلوك بالكمال ص 19.

11. وصايا الحكمة عن وسائل الحياة وغايتها ص 20.


مكافآت الحياة السامية
مقابلة بين الحكيم والجاهل

في الأصحاحات 10-25 تكاد كل آية تتحدث عن موضوعٍ مستقلٍ، غير أننا نجد في الأصحاح العاشر مقابلة بين الإنسان الحكيم والإنسان الجاهل، وبين البار والشرير، والمجتهد والكسلان، وبين المحبة والبغضة، واللسان الناطق بالحق والناطق بالأكاذيب.

رأس الحكيم البار يُتوج ببركات سماوية وأرضية، يترك وراءه ذكريات مباركة. أما الشرير فطريقه يصب على رأسه العار، وبعد موته يصير موضع سخرية الكثيرين.

ركز الحكيم في هذا الأصحاح على دور اللسان الذي بدون تقديسه يفقد الإنسان كل تدين حقيقي.

واضح في هذا الأصحاح تأثر سليمان الحكيم بالبيئة الزراعية التي عاش فيها، فإن الطبيعة تسند المشتاق للحكمة على التمتع بها، وإن كانت الحكمة هبة إلهية مجانية.

في [ع 5] يرى الحكيم في الجاهل إنسانًا كسولاً، حتى إن بذر الحبوب واهتم بالزراعة، يأتي في وقت الحصاد وينام عِوض أن يجمع الحصاد.

وفي [ع 11] يرى في فم الصدِّيق الحكيم ينبوع حياة، يفيض بمياه حيّة تروي جنة الله التي في قلبه، وتحول براري الكثيرين الداخلية إلى فراديس تمتلئ بأشجار الروح المتنوعة.

وفي [ع 25] يرى الزوابع التي تعبر بالحقول، فالشرير الذي يترك حقوله مكشوفة وبيته بلا أساس يفقد كل شيء، أما الحكيم وقد سوّر أرضه بأشجار ضخمة، وأقام بيته على صخر الدهور، فلا تسبب له الزوابع قلاقل.

في [ع 31] يرى فم الصدِّيق شجرة تُثمر حكمة، فيعتز بها الكثيرون، أما لسان الجاهل فمملوء أكاذيب، أشبه بشجرة تستحق قطعها من جذورها.

يشير الحكيم إلى فضائل تسند الحياة وتنميها (1-14)، كما يكشف عن الحياة في مرتفعات السمو (15-32). فالحياة ثمينة للغاية يلزم أن نحوط بها لنحفظها مهما كلفتنا من الثمن، فقد سبق فقال: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة" (4: 23). وقد وردت كلمة الحياة في العبرية 31 مرة في هذا السفر.

في مقارنته بين الحكيم والجاهل، أو بين الصدِّيق والشرير يُعالج سليمان كل جوانب حياة الإنسان وارتباطها بحكمته أو غباوته:

1. الأثر العائلي

2. غنى الحكيم بالبرّ.

3. شبعه .

4. العمل والاجتهاد

5. ثمار الحكمة.6. ذكرى الحكيم.

7. حكمته 8. . سلوكه.

9. حركاته .10. فمه.

11. قلبه

12. نفعه

13. سلامه.

14. تعب يديه.

15. طريقه.

16. لسانه.

17. البركة في حياته.

18. جدِّيته.

19. رجاؤه.

20. أمانه.

21. ثمره المتزايده .


1. الأثر العائلي

"أمثال سليمان: الابن الحكيم يُسِر أباه،

والابن الجاهل حزن أمه" [ع 1]

جاء في بدء الأصحاح العاشر "أمثال سليمان"، أو كما جاء في بعض نسخ الفولجاتا القديمة "الكتاب الثاني للأمثال".

يعتبر البعض الأصحاحات السابقة (أمثال 1-9) أشبه بمقدمة للسفر، تكشف عن أهمية الحكمة وبركاتها.

في هذه الأصحاحات نصغي إلى الحكمة وهي تدعونا إلى الدخول في بيتها، والاتحاد معها، والحياة بها. فنستنير في كل تصرف، وتحت كل الظروف. كما تدعونا إلى عدم الإصغاء إلى الجهالة، لأنها مخادعة تنحرف بنا عن طريق الحق. لم تعالج الأصحاحات السابقة المشاكل التي تواجهنا في تفاصيلها، وإنما وضعت الخطوط العريضة، والروح التي نسلك بها. وقد ركزت بشيءٍ خاص على الشباب ليرتبطوا بالحكمة ويرفضوا الجهالة.

الآن يبدأ بالأصحاح العاشر، حيث يبدأ في تقديم الأمثال، وهي تتسم بصغر المثل، لكن له وزنه في حياة الإنسان، لذا يحتاج هذا القسم إلى قراءة هادئة ممتزجة بالصلاة مع الجهاد لممارسة الحياة الحكيمة.

يرى البعض أن صُلب السفر يبدأ بالأصحاح العاشر حيث يعالج هذا القسم بالأمثال المواقف التي يتعرض لها المؤمن. هذا ويرى البعض أن الكتاب المقدس ككل بكل أقسامه (الشريعة والتاريخ والحكمة والنبوات) تتناغم مع هذا القسم وترتبط به ارتباطًا وثيقًا، كما تقدم هذه الأسفار أمثلة عملية عبر التاريخ تكشف عن عمل حكمة الله فينا وغناها، وأمثلة عن رافضي الحكمة الملتصقين بإرادتهم بالجهالة.

من هو الأب الذي يُسر بابنه الحكيم؟ ومن هي الأم التي تحزن على الابن الجاهل؟

ا. حسب التفسير الحرفي يقصد الحكيم هنا الأب والأم حسب الدم، فإنهما ينظران في ابنهما رجاءهما في الحياة ليرثهما، لا في أموالهما وخبرتهما في الحياة فحسب، بل وشركتهما مع الله في المسيح يسوع بالروح القدس. لاشك سلوك الابن أو الابنة ينعكس على نفسية الوالدين، لكن حكمة الابن تملأ بالأكثر قلب الأب سرورًا، إذ يفتخر به، وربما يلجأ إليه كأخٍ صغيرٍ يشاركه المشورة، وقد يسلمه تدبير كل أمواله ببهجة قلب. أما جهل الابن أو الابنة فينعكس بالأكثر على الأم، لأنها أكثر عاطفية من الأب، ولا تحتمل هلاك أبنائها أو ضياعهم.

إن كان سليمان الحكيم يحدثنا عن الابن الحكيم الذي يجلب الفرح لأبيه، فإنه هو نفسه مثال لذلك (1 أي 22: 12؛ 2 أي 1: 7-12)، أما عن الأم التي تحزن لغباوة ابنها فمثال لذلك رفقة التي ذاقت المُر من غباوة ابنها عيسو (تك 26: 34-35، 27: 46).

ب. إذ يتقدم سليمان الحكيم في هذا السفر كأب يتحدث مع كل عضو في شعبه كابن له، فإن الأب والأم هنا هما كل إنسان يشعر بالتزام نحو المسئول عنهم، فإنه إن كان ملكًا أو رئيسًا أو مدرسًا لا يطلب أن يسيطر ويأمر وينهي، بل بالحب يقدم أبوة أو أمومة لكي يتمتع كل من حوله بالحياة الإيمانية الحكيمة.

ج. إن كان كل مؤمن في مركز قيادي يشعر بأبوة أو أمومة نحو من حوله، بالأكثر الأسقف والكاهن وقد تمتع بشركة كهنوت السيد المسيح الفريد، يحمل مع الرسول بولس أحشاءً ملتهبة حبًا لخلاص كل نفس والدخول بها إلى شركة الأمجاد السماوية.

* كن مطيعًا لأُسقفك، ولترحب به كأب لنفسك... هذا وأقول أيضًا إن الأساقفة يلزمهم أن يعرفوا أنفسهم أنهم كهنة، وليسوا لوردات... إنها لعادة سيئة تنتشر في بعض الكنائس أن يلتزم الكهنة بالصمت في حضور الأساقفة.

القديس جيروم

د. التعليم الإنجيلي الكنسي عمل أبوي، فيه يبذل الكاهن لا عصارة فكره وإنّما كل حياته من أجل الدخول بكل إنسان من فساد العالم إلى مجد أولاد الله. هذا ما عناه الرسول بولس بقوله: "أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (١ كو ٤: ١٥).

* عندما يتعلّم إنسان من فم آخر يُقال عنه أنّه ابن ذاك الذي يعلّمه، ويُحسب الأخير أباه.

القدّيس إيريناؤس

*الكلام ابن النفس، لهذا ندعو الذين يعلّموننا آباء لنا... ويُحسب الذي يتعلّم في خضوع الابن.

القدّيس إكليمنضس السكندري

ه. كل مؤمن حقيقي، تحت كل الظروف، بالتغاضي عن عمره يحمل في أعماقه نوعًا من الأبوة أو الأمومة، فتشتهي نفسه أن ترى كل البشرية تتمتع بما يتمتع به من حياة إنجيلية مطوّبة.

و. أما ما هو فوق هذا كله فإن لنا الأب السماوي الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). إن كان الأب يشتهي أن يسعد ابنه، مقدمًا كل إمكانياته حتى صحته ووقته لأجل سعادته، فإن الأب من جانبه يسعد بنجاح ابنه. السعادة مشتركة بين الأب الحكيم والابن السالك بالحكمة. هكذا فإن الله مصدر الحكمة قدم حكمته (الابن) المتجسد مبذولاً من أجلنا، ليُقيم منّا أبناء حكماء، ويجد مسرّته فينا أن نصير أيقونته، ونسلك على مثاله بروح الحكمة. وكما يُسر الأب السماوي بابنه إن سلك بروح البنوة الحكيمة، فإن الكنيسة كأمٍ تحزن على كل نفسٍ تتسم بالجهل، لأنها في أُمومتها الحانية تود أن ترفع كل نفس بشرية إلى الأمجاد المُعدّة لها. الكنيسة التي تحملنا في أحشائها كأعضائها الذين يليق بهم أن يحملوا حكمتها متشبهين بالعريس حكمة الله نفسه، والمتمتع بشركة طبيعته.

بمعنى آخر فإن الحكيم، وإن كانت نفسه تفرح وتتهلل بعمل الله فيها واهب الحكمة، فإن رب السماء نفسه يفرح، كما يفرح قلوب أسرته وكل محبّيه، أما إن انحرف إلى الشر في غباوة، فيفقد فرحه الداخلي كما يُحزن قلوب الكثيرين. هكذا يستخدم سليمان الحكيم كل وسيلة ليحثنا على التمتع بالحكمة وترك الجهالة.


2. غنى الحكيم بالبرّ

ربما يقول قائل: إني أطلب ما لنفسي، لا يشغلني سرور أبي ولا يؤلمني حزن أمي. إني لست صغيرًا، أنا اهتم بما يسرني، لذلك يؤكد الحكيم أن كل ما يجمعه الإنسان في شره وغباوته لا ينفعه شيئًا.

"كنوز الشر لا تنفع،

أما البرّ، فيُنجي من الشر" [ع 2]

نصيب البار هو السعادة والحياة والشبع، أما نصيب عدم المؤمن فهو المرارة والموت والجوع. يعتبر هذا البرّ هو مقدمة لكل الفضائل المذكورة في هذا الفصل.

الثروة التي يقتنيها الإنسان بطريقة غير مشروعة لن تبقى، فإنها سرعان ما تختفي. وفي لحظات الموت لا تسند صاحبها.

قد يكون الشرير غنيًا، لكن كنوزه لا تُشبع أعماقه، ولا تهبه سلامًا داخليًا، فيشعر دائمًا بالعوز، أما البار فإنه وإن كان فقيرًا لكن الله يجعله غير محتاجٍ إلى أحدٍ أو إلى شيءٍ ما، بل يهبه شبعًا روحيًا ونفسانيًا مع حماية من الشر. البرّ ينجي صاحبه من الموت، إذ يصير بالنسبة له عبورًا إلى لقاءٍ مع الله وجهًا لوجه. فيرى المؤمن في برّ المسيح نصرة على الموت، وغلبة على الهاوية.

يحدثنا إرميا النبي عن الغني الشرير الذي يتكل على غناه، فيجمع ما استطاع بوسائل غير لائقة، فيقول: "حجلة تحضن ما لم تَبِضْ، مُحصل الغنى بغير حقٍ، في نصف أيامه يتركه، وفي آخرته يكون أحمق" (إر 17: 11). هكذا يحتضن الغني الغبي المال والممتلكات، الأمور التي وهبها الله للإنسان ليشاركه فيها إخوته، فيظنها ملكه دون سواه، يشقى ويخسر، وفي آخر حياته عندما يترك كل ما جمعه يكتشف أنه كان أحمق. أما الإنسان البار، فمهما عانى من متاعب وآلام في هذه الحياة، ينجو من الموت الأبدي.

تقدم لنا قصة أستير صورة عملية تتحقق عبر التاريخ، فهامان صاحب السلطان والغنى فقدَ كل شيء، وأحدق به الشر، بينما مردخاي التقي مجَّده الله في هذا العالم، ويتمتع بالأمجاد الأبدية.

* "لا تنفع الكنوز الشرير" (راجع أم 10: 2) ماذا إذن، ألم يتجنب البعض الموت بدفع المال (كمن يدفع فدية فلا يُقتل أو يُحكم عليه بالموت)؟ بالتأكيد يحدث هذا. لكنهم لا يقدرون أن يتبرأوا من الخطية، وإنما بالحقيقة يعدون لأنفسهم حياة أشر من الموت. لذلك يلزمنا ألا نضع ثقتنا في الغنى بل في الفضيلة... أما البرً فليس فقط ينجي من يقتنونه، بل ويقود آخرين كثيرين لاشتهائه، وينقلهم على الدوام من الموت إلى الخلود الأبدي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* إن كان إنسان يلقي بذاره في أرض مملوءة بالأشواك، وكثرة الحشائش، ومغطاة بجذامة بنفايات الحصاد، فإنه يتعرض إلى خسارة مزدوجة. فإنه يخسر بذاره الأولي، كما يعاني تعبًا كثيرًا. لذلك فلكي تزدهر البذرة الإلهية جيدًا فينا، لننزع أولاً من قلوبنا الاهتمامات العالمية والقلق غير النافع الذي يجعلنا نسعى أن نكون أغنياء، لأننا لم ندخل العالم بشيءٍ، ولا نقدر أن نخرج منه بشيءٍ" (1 تي 6: 7). لأنه أية منفعة من امتلاك الأشياء الزائدة؟ "كنوز الشر لا تنفع، أما البرّ فينجي من الموت" (أم 10: 2).

القديس كيرلس الكبير


3. شبعه

"الرب لا يُجيع نفس الصدِّيق،

ولكنه يدفع هوى الأشرار" [ع 3]

لا يسمح الرب لنفس الصدِّيق أن تموت جوعًا، لأنه هو الذي يقوتها، مقدمًا كلمته خبز الحياة. يقول المرتل: "كنت فتى والآن شخت، ولم أرَ صديقًا تُخليَّ عنه، ولا ذُرِّية له تلتمس خبزًا" (مز 37: 25).

ليس ما يُشبع قلب البار أو يُجيع قلب الشرير الإمكانيات المادية والنفسية والاجتماعية، أو الظروف المحيطة بكل منهما، وإنما يرتفع قلب المؤمن كما إلى المائدة السماوية، فتتهلل أعماقه وسط الضيقات التي تحل به، بينما تتحول أعماق الشرير إلى فراغٍ ليس ما يشبعه .

لقد تغنى رجال الله بهذا الشبع، كما حذروا الأشرار من حالة القحط والجوع والعطش التي تحل بهم، نذكر على سبيل المثال:

أما أنا فبالبرّ انظر وجهك، أشبع إذا استيقظت بشبهك (مز 17: 15).

يأكل الودعاء ويشبعون، يسبح الرب طالبوه، تحيا قلوبكم إلى الأبد (مز 22: 26).

لا يخزون في زمن السوء و في أيام الجوع يشبعون (مز 37: 19).

كما من شحم ودسم تشبع نفسي، وبشفتيّ الابتهاج يسبحك فمي (مز 63: 5).

طوبى للذي تختاره وتُقربه ليسكن في ديارك، لنشبعن من خير بيتك قدس هيكلك (مز 65: 4).

أكل الإنسان خبز الملائكة، أرسل عليهم زادًا للشبع (مز 78: 25).

اَشبعنا بالغداة من رحمتك، فنبتهج ونفرح كل أيامنا (مز 90: 14).

من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي (مز 91: 16).

الذي يُشبع بالخير عمرك، فيتجدد مثل النسر شبابك (مز 103: 5).

الساقي الجبال من علاليه، من ثمر أعمالك تشبع الأرض (مز 104: 13).

تشبع أشجار الرب، أرز لبنان الذي نصبه (مز 104: 16).

تعطيها فتلتقط تفتح يدك فتشبع خيرا (مز 104: 28).

تفتح يدك فتشبع كل حي رضى (مز 145: 16).

الذي يجعل تخومك سلامًا، ويشبعك من شحم الحنطة (مز 147: 14).

عين البخيل لا تشبع من حظه وظلم الشرير يضني نفسه (سيراخ 14: 9).

* "ويشبعك من شحم الحنطة" (مز 147: 14). لاحظوا أنه لم يقل: "حنطة" فقط، بل "شحم richest الحنطة"، مشيرًا إلى الوفرة العظيمة، أكثر الثمار وفرة. فعطايا الله هي هكذا كما ترون، سامية مزدهرة. يتحدث عنها هنا بأنها تهب شبعًا من أفضل أنواع الحنطة وبسخاء فائض، ليشير أنه ليس يعطيكم بل يشبعكم.

* إنه لا يعطي مجرد الطعام، بل ما هو نافع لكل أحدٍ، وما هو موضع شهوة كل أحدٍ، وما هو مشبع لكل أحدٍ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* هل تخشى نقص ميراثك إن بدأت تعطي بسخاء منه؟ أين حدث أن عجزت مصادر شخص بار، وقد كتب: "الرب لا يُجيع نفس الصدِّيق" (أم 10: 3).

إيليا عالته الغربان في الصحراء.

وأُعدت وجبة طعام من السماء لدانيال وهو في الجب، عندما أُغلق عليه بأمر الملك ليكون فريسة للأسود، وأنت تخشى أن تعتاز إلى خبزٍ... لقد وبخ الرب بنفسه في الإنجيل الذين لهم شك في فكرهم، وإيمانهم ضعيف، قائلاٍ: "انظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها، ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟" (مت 6: 26).

يقوت الله الطيور، مقدمًا طعامًا يوميًا للعصافير، وللمخلوقات التي ليس لها إحساس بالإلهيات، فلا تحتاج إلى طعامٍ أو شرابٍ. ، فهل يمكن أن يعتاز مسيحي إلى شيء؟! هل يعتاز خادم الرب؟ هل يعتاز من يُمارس الأعمال الصالحة، ومن هو عزيز عند الرب؟!

القديس كبريانوس

إن كان الله هو الخير الأعظم الأبدي، فإن غنى هذا العالم لا يستطيع أن يشبع النفس التي على صورة خالقها، إنما اتحادها بالله، وتمتعها بسكناه فيها يشبعها ويملأها فرحًا.

* يا نفسي المسكينة، ماذا تطلبين؟!

إن أردتِ الحكمة، تجدين يسوع مصدر الحكمة وينبوعها، بل هو الحكمة ذاته!

وإن طلبتِ القوّة والقدرة، فهو القدير!

إن بحثتِ عن اللذّة والسرور، فهو ينبوع الفرح الحقيقي!

إن اشتقتِ إلى السكر، فمحبّته تسكر النفس!

إن جُعتِ إلى الخبز، فهو خبز الحياة!

وإن شغفتِ بالغنى ، فهو خالق الكل!

وإن أردتِ الراحة، تجدين فيه وحده راحتك!... اقبليه فليس لك غيره من يشبعكِ.

القدِّيس أغسطينوس


4. العمل والاجتهاد

"العامل بيدٍ رخوة يفتقر،

أما يد المجتهدين فتُغني" [ع 4]

الحكيم دائم العمل والحركة، يقتطف الغنى. أما الجاهل فكسلان يفضل النوم والتراخي عن السهر والاجتهاد، نصيبه الفقر.

خلق الله آدم وأقامه في الفردوس لكي يعمل، فإنه يُبارك اليد المجتهدة، وبعنايته يسمح لليد المتراخية أن تفتقر، فمن لا يعمل لا يأكل. من يزرع إهمالاً يحصد فقرًا، ومن يزرع غيرة واجتهادًا يحصد بركة ونجاحًا.

العمل والقدرة عليه هما هبة يقدمهما الله للإنسان، فيليق بالمؤمن ألا يتوقف عن العمل ما استطاع، وقدر ما يهبه الله من قوةٍ وقدرةٍ ومواهبٍ. وقد جاءت الدعوة للعمل وصية كتابية. يقول الرسول: "إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يتُمثل بنا، لأننا لم نسلك بلا ترتيب بينكم، ولا أكلنا خبزًا مجانًا من أحدٍ، بل كنا نشتغل بتعبٍ وكدٍ ليلاً ونهارًا، لكي لا نُثقل على أحدٍ منكم" (2 تس 3: 7-Cool. كأن الرغبة الجادة والعملية للعمل ترافق الإيمان الحيُ وتعبر عنه.

الأرض التي لا يتعب المزارع فيحرثها ويزرعها تخرج له شوكًا عِوض العنب أو غيره من الفواكه أو المحاصيل. الأرض بكل مواردها الغنية لا تقدم لنا ثمارًا أو كنوزًا بلا عمل، مثل الزراعة والتنقيب عن مناجم المعادن الثمينة، وصيد السمك... فإنه ما كان يمكن للأرض أن تصلح للحياة لو لم يُمارس العمل.

لقد أدركت أغلب حكومات العالم خطورة البطالة وعدم العمل على سلوكيات المجتمع لذلك حسبت البطالة أخطر عدو يهدد المجتمع ويفقده سلامه. فالعمل ليس فقط مصدرًا لزيادة الإنتاج، وإنما لنمو شخصية الإنسان وسلامه الداخلي.

جاءت رسالة الإنجيل المفرحة دعوة صريحة للعمل بلا انقطاع، وذلك بغنى نعمة الله، لعلَه يبلغ الإنسان إلى قياس ملء قامة المسيح، أي يبقى المؤمن مجاهدًا كل أيام غربته ليختبر عذوبة الملكوت الداخلي.

* في البداية أعطانا الله حياة خالية من الهموم ومُعفاة من الكد. أما نحن فلم نستخدم العطية حسنًا، بل أفسدنا راحتنا، وخسرنا الفردوس. لهذا جعل حياتنا متعبة... يعمل الكسل على إفسادنا ويسبب لنا متاعب كثيرة.

* في البدء كان يمكن أن تعمل دون كدٍ... لأن الله نفسه أراد هذا، لكنك لم تسمح بذلك. فإن الله لم يمزج العمل بالكد. لو أن الإنسان اختبر الكد منذ البداية لما أُبتلي به كعقابٍ بعد ذلك. وفي واقع الأمر يمكنك أن تعمل وفي نفس الوقت لا تصل إلى مرحلة العمل الشاق، كما في حالة الملائكة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* لنتأمّل في خوف الله في حياة هؤلاء القدّيسين. نعم، نجد أنّه قد كُتب عن موسى وهرون أنهما عملا وعاشا مع رجال يسلكون على مثالهما، وهكذا يشوع بن نون.

رسالة منسوبة للقديس إكليمنضس الروماني

* يتقبل العامل الصالح أجرة عمله بجرأة، أمّا الكسول والمتهاون فلا يجسر أن ينظر بعينيه إلى رب عمله.

القديس إكليمنضس الروماني

* كل من يأتيكم باسم الرب اقبلوه (مت ٢١: ٩؛ مز ١١٧: ٢٦)، بعد ذلك اختبروه واعرفوه، لتميزوا اليمين من اليسار.

فإن كان الآتي عابر سبيل أعينوه قدر استطاعتكم، ولا يبقى عندكم أكثر من يومين أو ثلاثة عند الضرورة.

إذا أراد أن يمكث عندكم كصاحب مهنة فليعمل ليأكل (٢ تس ٣ : ١٠).

أما إذا لم يكن صاحب حرفة، فوجِّهوه أنتم لكيلا يعيش بينكم كمسيحي عاطلاً.

إذا لم يرد أن يعمل فهو متاجر بالمسيح (١ تي ٦: ٥)، احترزوا من أمثاله.

الديداكية

جاء النص في الترجمة السبعينية: "الفقر يجعل الإنسان في مذلة، أما أيدي المجتهدين فتُغني"

* قيل: "الفقر يجعل الإنسان متواضعًا" [4 LXX]. وأيضًا يقول المسيح: "طوبى للمساكين بالروح (مت 5: 3). هل تحزن لأنك على الطريق الذي يقود إلى الفضيلة؟ ألا تعلم أن هذا يُعطينا ثقة عظيمة (إنه يهتم بنا بالرغم من فقرنا)؟!

القديس يوحنا الذهبي الفم

* قيل: "الفقر يجعل الإنسان في مذلة"، يقصد بالفقر البُخل الذي به يصير الغني فقيرًا، ليس لديه ما يُقدمه للغير.

القديس إكليمنضس السكندري

"من يجمع في الصيف فهو ابن عاقل،

ومن ينام في الحصاد فهو ابن مُخزٍ" [ع 5]

هنا يوجه سليمان الحكيم اللوم على من لا ينتهز الفرصة المناسبة للعمل، فإذا أهمل الإنسان في موسم الحصاد يكون قد فقد تعبه الذي عمله أثناء الزراعة. وكأنه يليق بالإنسان أن يجتهد ليس فقط في موسم الحرث والبذر فيهتم بالزرع، بل وفي الصيف حيث الحصاد. وقد حثّ السيد المسيح تلاميذه على العمل، قائلاً لهم: "ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول إنها قد ابيضت للحصاد" (مت 4: 35).

يصور لنا الحكيم حياتنا على الأرض بكوننا أبناء نعمل في كرم أبينا، فلا يليق بنا أن ننام في وقت الحصاد، فنُحسب أبناء عارٍ وخزي، وإنما نعمل ونجمع وكما يقول الرسول: "مفتدين الوقت، لأن الأيام شريرة" (أف 5: 16). إنه وقت ثمين للعمل في كرم أبينا، يقدم لنا بولس الرسول مثلاً عمليًا للعمل بلا توقف، وأما ديماس فيمثل الإنسان الذي ينام وقت الحصاد. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). "لأن ديماس قد تركني، إذ أحب العالم الحاضر، وذهب إلى تسالونيكي" (2 تي 4: 10)


5. ثمار الحكمة

"بركات على رأس الصدِّيق،

أما فم الأشرار فيغشاه ظلم" [ع 6]

يسلك البار باستقامة ويخضع للنصح ويطيع الأوامر في الرب، فيكون نصيبه الطوبى والأمان. غير المؤمن يسلك في طرقٍ معوجةٍ، ومخادعٍ في رعبٍ داخلي، ونهايته الدمار.

إن كان العالم لا يطيق الصدِّيقين لكن إلى حين، فحتمًا ينال هؤلاء بركات كثيرة في أعماقهم في هذا العالم، وعلانية في العالم العتيد. أما الأشرار ففمهم المملوء عُنفًا يشهد ضدهم ويحرمهم حتى من البركات الزمنية، فمهم يدينهم!

شريعة الحصاد هي أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد، فمن يزرع الاستقامة يحصد بركات الله ومديح الغير. أما من يزرع زوان الخطية، فيُسيطر الظلم والعنف على فمه، وتصدر كلماته نابعة عن قلبٍ فاسدٍ.


6. ذكرى الحكيم

"ذكر الصدِّيق للبركة،

واسم الأشرار ينخر" [ع 7]

الصدِّيق والشرير كلاهما يموتان، لكن مصيرهما مختلف، حتى تذكارهما مختلف، فالصدِّيق تبقى ذكراه بركة لكثيرين، والأشرار يصير اسمهم كثوبٍ مُصاب بالعثة. فإننا لا نجد بعد قرابة عشرين قرنًا من يدعو من المسيحيين ابنه يهوذا بل نجد كثيرين يدعونه "بولس".

لقد وقف بولس وحده أمام أسد خطير يزأر ليفترسه، هو نيرون الظالم. لكته رأى الرب واقفًا أمامه، لا يقدر الموت أن يحطم أبديته وذكراه: "ولكن الرب وقف معي وقوَّاني لكي تتم بي الكرازة ويسمع جميع الأمم، فأُنقذتُ من فم الأسد، وسينقذني الرب من كل عمل رديء ويخلصني لملكوته السماوي" (2 تي 4: 17-18).

بعد موت إليشع النبي إذ طرح غزاة موآب رجلاً في قبره، ومس الجثمان عظام إليشع عاش وقام على رجليه (2 مل 13: 21). هكذا حملت ذكراه قوة ظهرت من عظامه! وقال السيد المسيح عن المرأة التي كسرت قارورة طيب وسكبته على رأسه: "الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها" (مر 14: 9). وقالت القديسة مريم: "فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني" (لو 1: 48).

تبقى ذكرى الأبرار تحمل رائحة المسيح الذكية، وتقدم بركات عبر الأجيال، فلا نعجب إن رأينا القديس غريغوريوس النزينزي يرثي أخاه القديس قيصريوس ولا ينكر المشاعر البشرية، لكن يطلب أن تكون باعتدال. يقول: [إنه حتى في دموعي وإعجابي يلزمني أن احترم القانون الذي يُنظم هذه الأمور، فإن هذا ليس غريبًا عن فلسفتنا. يقول: "ذكر الصدِّيق تصحبه البركات". وأيضًا لتنهمر الدموع من عيوننا وتبدأ بالرثاء، كمن أُصبتم بضرر عظيم (بموته)، فتنزع عنا عدم الإحساس والمبالغة.]

* "ذكر الصدِّيق يُمتدح". لم يقل هذا ليعني أن النفوس المنتقلة يعينها مديحنا. إنما قال هذا لأن الذين يمدحون الراحلين ينالون النفع الأعظم من ذكراهم، لذلك إذ ننال نفعًا كثيرًا من ذكرهم المقدس، ليتنا لا نزدري بكلمات الإنسان الحكيم، بل بالحرى نعطي اهتمامًا بها.

القديس يوحنا الذهبي الفم


7. حكمته

"حكيم القلب يقبل الوصايا،

وغبي الشفتين يُصرع" [ع 8]

إذ يمتلئ قلب المؤمن بالحكمة السماوية، حيث يسكن حكمة الله فيه، ينحني بكل كيانه أمامه، وتتهلل نفسه بالطاعة للوصية الإلهية، أما الجاهل فيظن في نفسه أنه حكيم، لا يريد أن ينصت إلى الصوت الإلهي، بل في عنادٍ يصمم على فكره الخاص.

إذ كان إبراهيم أب الآباء حكيمًا "لما دُعي أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيدًا أن يأخذه ميراثًا، فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي" (عب 11: Cool. هكذا وجد إبراهيم وبنوه حسب الروح فرحًا وبهجة في الطاعة للوصية.

الإنسان الحكيم بقلبه يحول معرفته إلى عمل، فيقبل الوصايا ويتممها، إذ يشتاق أن يسمع ويطيع في الرب. إنه يعطش إلى كلمة الرب كالأرض العطشى التي تشتاق إلى المياه لترويها وتحولها إلى فردوس. أما الغبي في كلماته، فيخرج كلمات فارغة لا تسنده بل تسبب له السقوط.


8. سلوكه

"من يسلك بالاستقامة (في بساطة) يسلك بالأمان،

ومن يعوج طرقه يُعرف" [ع 9]

الإنسان المستقيم دائمًا في أمان، يتسم بالبساطة، ليس له وجهان أو شخصيتان، يسلك باستقامة بغير خوف، لأنه ليس للرياء ولا للخبث موضع في حياته. أما من يُعوِّج طرقه، ظانًا أنه يقدر أن يخفي خداعاته، فإنها حتمًا ستنكشف وينفضح أمره.

سلك يوسف باستقامة في بيت أبيه، كما كان عبدًا أمينًا ومستقيمًا في بيت فوطيفار المصري، بل وكان أمينًا حتى كسجين، لذا عاش في أمانٍ بالرغم من الضيقات التي حلت به وكانت تلاحقه. وأخيرًا جلس كرجلٍ ثانٍ في قصر فرعون. هذا كله يزكيه أمام الله ليحيا إلى الأبد في الأحضان الإلهية في سلامٍ سماويٍ وأمانٍ أبديٍ.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الاستقامة هنا تعني البساطة، حيث يحيا المؤمن بفكر بسيط لا مركب أو معقد، يسلك الطريق المستقيم، ولا يعرج بين هذا الطريق وذاك.

* إننا لسنا نوصي أن نقتني بساطة بلا معرفة، فنمثُل لكل ما يُقال، وننخدع لكل تعليمٍ غاشٍ، بل نعني بالبساطة التي كل هذيذها في الفضيلة لله والصلاح، كمثل الطفل الذي لا يعرف إلاَّ معلم واحد ويخاف منه وحده، ولا ينفذ إلاَّ أمره، بل ولا يقبل من معلمين آخرين سواه.

هكذا ينبغي على المؤمن أن يكون طفلاً في سلوكه مع المسيح، ومخافته مالكة على حياته ولا يقبل تعليمًا من معلمٍ آخر سواه. لأن الطفولة هي نقية بالطبع، ولا يفسد عقل الطفل طغيان ما.

فلنُسر الآن بالتلمذة للمسيح في الطريق الذي أظهره لنا، ونجتهد أن نسلك بالبساطة ونكون أطفالاً لقبول التعليم الحسن. ونتحكم كالحيات مقابل العدو الذي يتحايل لإيذائنا ونذكر في كل وقت قول ربنا أن كل من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله (لو ١٨: ٧). الرب يؤهلنا له المجد لعظمته. آمين.

مار فيلوكسينوس

* "طوبى لكل نفس بسيطة (مستقيمة)" (راجع 11: 25 LXX)، "من يسلك ببساطة يسلك بالأمان" [ع 9].

فإن هذه هي علة كل أنواع الشر، أن كثيرين لا يعرفون كيف يُطبقون الأمر باستقامة حتى شهادة الكتب المقدسة. هكذا في هذا الوضع لا يعني الكاتب (بالبساطة) الإنسان الغبي، أو الذي لا يعرف شيئًا، بل ذاك الذي هو متحرر من الشر، الذي ليس بصانع شر، فهو حكيم.

* ألم يُكرز بالإنجيل أولاً للرعاة (البسطاء)؟ وأيضًا ليوسف الذي إذ كان بسيط الذهن لم يسمح للشك في الزنى أن يرهبه فيرتكب خطأ؟ ألم يختر الله البسطاء، أناس مخلصون بالطبيعة؟ فقد كتب: "طوبى لكل نفس بسيطة"، وأيضًا من يسلك ببساطة يسلك بالأمان".

تقول: "حقًا، لكن التعقل مطلوب".

أسألك: "ما هي البساطة ألا التعقل؟!" فإنك حين لا تشك بالبشر، ولا تتصنع أمرًا ما، عندما لا يكون عندك قلاقل ولا تقدر أن تتذكر الأذى!

* كان أبشالوم إنسانًا مخادعًا سرق قلوب كل البشر (2 صم 6: 15). لاحظوا كم كان قدر خداعه، فقد سُجل أنه كان يتقدم ويقول: "ألم يحكم لك أحد؟" راغبًا في أن يستميل كل أحدٍ إليه. أما داود فكان بريئًا. ماذا إذن؟ اُنظروا إلى نهاية كليهما. اُنظروا كيف كان الأول مملوء جنونًا! فإنه إذ ركز بالكلية على أذية أبيه، ًاصيب بالعمى في كل شيء، لأن "من يسلك بالاستقامة يسلك بالأمان" (أم 9: 10).

القديس يوحنا الذهبي الفم

لينصت غير المخلصين إلى ما قد كتب: "من يسلك بالبساطة يسلك بالأمان" [ع9]. حقًا بساطة السلوك هو ضمان للأمان. ليستدفئوا بما يقوله فم الحكيم: "يهرب الخداع بتأديب الروح القدس" (حك 1: 5). ليسمعوا أيضًا ما تؤكده شهادة الكتاب المقدس: "علاقته القوية (سرَّه) لدى المستقيمين (أم 3: 32)، فإن معاملات الله القوية هي إعلانه عن أسراره للعقول البشرية باستنارة حضرته.

"أما من يعوِّج طرقه يُعرف"، مقابل البساطة الخداع أو السلوك في طريق معوج. فالمخادعون يظنون أنهم قادرون بخبرتهم ومهاراتهم أن يخدعوا الغير، ولا يُكتشف أمرهم. لكن "ليس شيء خفي لا يظهر، ولا مكتوم لا يعلم ويعلن" (مر 4: 22). لقد خطط يهوذا مع الفريسيين على تسليم السيد المسيح، وكان يظن أن أمره لن يكتشف، لكن ما فعله في الخفاء حمل فضيحة على مستوي الأرض والسماء، وعبر القرون.


9. حركاته

"من يغمز بالعين يسبب حزنًا،

والغبي الشفتين يُصرع" [ع 10]

لقد سبق لنا الحديث عن المقطع الأخير من هذه الآية (راجع ع Cool. وقد جاء النص في الترجمة السبعينية: "من يوبخ بحرية يصنع سلامًا". وجاء النص في السريانية مطابقًا للترجمة السبعينية. فمن ينتهر الخطية بأمانة وانفتاح، يسند سلام الجماعة أكثر ممن يتجاهلها أو لا يبالي بها. فإن كثير من الخطاة يعودون إلى الله خلال كلمة التوبيخ المملوءة صراحة وحبًا، خاصة إن ارتبط التوبيخ بروح الحنو والتواضع. فإن كان التوبيخ يجرح مشاعر الخاطئ، فإن امتزاجه بالحب والحنو يدفعه إلى التوبة الصادقة.

الغمز بالعين يُشير إلى الخداع والمكر، وقديمًا كانت تُشير إلى النظرات الفاسدة المثيرة للشهوات الجسدية.

يرى البعض أن غمز العينين يشير أن ما ينطق به غير ما يبطن في داخله. أو ما يقوله غير ما يفكر فيه. يرى آخرون أن قبلة يهوذا للسيد المسيح عند تسليمه كانت نوعًا من أنواع الخداع مثل غمز العين.

يرى القديس إكليمنضس السكندري أنه صورة من صور الزنا، حيث يعبر الإنسان عن شهوات جسده بعينيه. فنظرات العين وحركاتها تكشف إما عن الاستنارة الداخلية، أو عن شهوات الجسد الخفية.

* النظرات الغرامية الساخرة التي هي الغمز بالعيون ليست إلا ارتكابًا للزنا بواسطة العينين، فالشهوة تحارَب خلال العينين. فإنه من كل الجسد تهلك العينان أولاً. "العين التي تتأمل جمال الأشياء تبهج القلب"، بمعنى أن العين التي ترى باستقامة تبتهج.

"الغمز بالعين بالغش يجمع ويلات على البشر". هؤلاء يمارسون تخنث ساردانبالوس Sardanapalus ملك الآشوريين، الذي كان يجلس على عرشه ويرفع رجليه إلى فوق، ويتحسس بميوعة ثوبه الأرجواني، ويحرك بياض عينيه إلى فوق. هكذا تفعل النساء اللواتي يمارسن نفس الأمر، فيعرضن رغبتهن في الخطية من خلال نظراتهن.

وكما يقول الكتاب المقدس: "نور الجسد هو العين، فيظهر إشراق النور خلال الاستنارة الداخلية.

"زنا المرأة هو في رفع العينين" (ابن سيراخ 26: 9).

القديس إكليمنضس السكندري


10. فمه

"فم الصدِّيق ينبوع حياة،

وفم الأشرار يغشاه ظلم" [ع 11]

فم الشرير مملوء عنفًا وغشًا، مثير للنزاعات، نصيبه العقوبة والدمار. أما حديث البار فمصدر راحة ومعرفة لسامعيه، يُقدم بروح الحب [ع12]. نصيبه شركة الصلاح مع الآخرين واكتناز المعرفة والحكمة.

فم الصدِّيق دائمًا ينطق به الرب الساكن فيه، وكما قيل لموسى النبي: "فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك، وأُعلمك ما تتكلم به" (خر 4: 12). ولإرميا النبي: "قد جعلتُ كلامي في فمك" (إر 1: 9). لذا فهو يفيض بمياه حيّة، أي كلمات نافعة للتعليم وللتعزية والإرشاد.

جاء تعبير "ينبوع حياة" في العبرية يعني "يفيض في شرايين الحياة"، وكأن فم الإنسان البار يصير كالقلب الذي يستقبل الدم الفاسد وينبض ليفيض بالدم النقي في شرايين الجسم كله. هكذا لا تخرج من فم الصدِّيق كلمة شريرة أو ضارة، بل يفيض بكلمات الحياة الإلهية فيستريح كل إنسان يلتقي معه، ويتمتع بعمل الله فيه.

يتجلى السيد المسيح الساكن في الإنسان الروحي في كل كلماته، فيقدمه سرّ حياة للغير.

يعيش الإنسان الروحي متشبهًا بسيده، فيصير كل القلب ينبض بالحياة بلا انقطاع من أجل حياة الآخرين ونموهم في كل جوانب حياتهم.

فم الصدِّيق كبئر تفيض مياه عذبة على الأرض المحيطة فترويها، كما تروي ظمأ الناس والحيوانات والطيور.

أما عن المقطع الأخير من الآية فقد سبق الحديث عنه في الآية 6.

إن كان فم البار يشبه ينبوعًا، يفيض بمياه الروح على من حوله، فيحوِّل البراري إلى جنات مملوءة بالثمار، فإن فم الشرير يشبه بحرًا مملوء اضطرابًا، يلقي من أعماقه المياه المالحة على الشواطئ. صوت تياراته لا يهدأ قط ليلاً ونهارًا، ولا يمكن حتى للأعشاب أن تنمو على شواطئه، وإن فاض بمياهه على حقل مزروع أفسد كل زرعه!

هكذا كل إنسانٍ يصدر من فمه ما يفيض من قلبه، إما عذوبة تهب حياة ونموًا، أو ملوحة تحطم الحياة، وتبعث الموت.

هذه العبارة تذكرنا بقول السيد المسيح للمرأة السامرية: "من آمن بي كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 38).


11. قلبه

"البغضة تُهيِّج خصومات،

والمحبة تستر كل الذنوب" [ع 12]

إن كان سليمان الحكيم قد ربط بين الحكمة والبرّ، فإن ثالثهما هو الحب، بدونه يفقد الإنسان روح الحكمة والبرّ الإلهي. وأيضًا يربط بين الجهل والشر وثالثهما البغضة، فإن الغباوة والشر مصدرهما انغلاق القلب ورفضه للحب، وفي نفس الوقت يغذيان البغضة وينميانها. فالبُغضة علتهما ومصدرهما، وهي تنمو وتترعرع بهما.

بروح البغضة يتذكر الإنسان الأحداث الماضية التي تثير نفسه وتحثه على الخصومات، فلا يقدر أن ينسى ولو بعد عشرات السنوات، ولا يستطيع أن يغفر أخطاء إخوته. أما روح الحب فيكون أشبه بستائر جميلة تستر على عيوب الآخرين وأخطائهم، وبالتالي لا يغلي في داخله من جهتهم. إن كانت المحبة "تحتمل كل شيء"، فتحفظ سلام النفس ووحدة الجماعة، فإن البغضة تثير النفس مما يثير اضطرابات في الداخل، وخلافات ومنازعات في الخارج. تطلب البغضة أن تجد فرصة لتثير العداوة، فإنها تجد مسرتها في الانشقاقات والخصومات، أما المحبة فتهب توافقًا ومصالحات، وتنزع من كل نفس المُثيرات الشريرة، فيجد الشخص لذته في بنيان إخوته ساكبًا مياهًا على كل لهيب كي يُطفئه.

اقتبس كل من يعقوب الرسول وبطرس الرسول هذه العبارة. "من أين الحروب والخصومات بينكم؟ أليست من هنا من لذاتكم المحاربة في أعضائكم" (يع 4: 1). "لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا" (1 بط 4: Cool.

* من فيه محبة لا يعتبر أحدًا غريبًا، بل يعتبر الكل من ذويه وأهله، ولا يعرف الغيظ، ولا يتغطرس، ولا يلتهب حنقًا، ولا يظلم، ولا يسلب عرض الغير، ولا يحسب له عدوًا قط إلا إبليس وحده.

مار إفرام السرياني

* كما أن عدونا يفصل بين الإخوة الذين لا يزالون ضعفاء وجسدانيين وذلك بتفجير مفاجئ للغضب لبعض الأسباب التافهة ولأمور أرضية، هكذا يزرع بذار الخصومة حتى بين الأشخاص الروحيين على أساس الاختلاف في الأفكار، ومنها بالتأكيد تصدر منازعات وصراعات بالكلمات، هذا يدينه الرسول... بها يزرع عدونا الحاقد والخطير خصومات بين الإخوة الذين كانوا بفكرٍ واحدٍ. فإن كلمات الحكيم سليمان هي حقيقة: النزاع يولد بغضة، أما الصداقة فتكون حصنًا لكل الذين لا يتصارعون.

القديس يوحنا كاسيان


12. نفعه

"في شفتيّ العاقل توجد حكمة،

والعصا لظهر الناقص الفهم" [ع 13]

أحاديث الإنسان العاقل تسند الآخرين، أما الغبي فلا ينفع أحدًا، إنما ينجح في جذب العقوبات لتحل عليه.

من يحمل الحكمة في قلبه كما في فكره، تُعلن عن وجودها خلال كلماته، فيكون فمه مباركًا، وشفتاه مخزن حكمة. أما ناقص الفهم، أي ذاك القادر أن يتعلم لكنه لا يريد أن يتعلم، فإن العصا هي المعلم له، تنزل على ظهره فينحني منكسرًا. بمعنى آخر من لا يطلب الحكمة والمعرفة عن قلبٍ ملتهبٍ محب يؤهل ظهره لضربات قاسية فينحني قسرًا وفي مرارة.

لعل حياة كل من سليمان نفسه وابنه رحبعام يوضحان هذا المثل. الأول لم يعتمد على حكمته الشخصية، بل طلب الحكمة من الله، فجاء كثيرون من أقاصي المسكونة ليسمعوا حكمته وينتفعون. "كانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته" (1 مل 4: 34). أما رحبعام فاتكل على حكمته البشرية ومشورة أصدقائه الشبان، ولم يستشر الله، ولا قبل مشورة الشيوخ، وبسببه انقسمت المملكة، ونزلت عصا التأديب على ظهره (1 مل 12: 8-19).

"الحكماء يُذخِّرون معرفة،

أما فم الغبي فهلاك قريب" [ع 14]

الحكيم إنسان حاذق، كلما وجد معرفة خزَّنها في أعماقه، خاصة كلمة الله، يخفيها ويصونها بالحياة التقوية المُقدسة حتى متى احتاج إليها وجدها ليست ببعيدة عنه، بل في داخله. إنه يُذخِّر المعرفة خلال الإيمان الحي العملي مع الصلاة والدراسة الجادة لكلمة الله حتى يتمتع بالسيد المسيح، حكمة الله، فيقتنيه، قائلاً مع النفس المقدسة: "فأمسكته ولم أرخِه حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بي. أُحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقل ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء" (نش 3: 4-5).

يحتفظ الحكيم بالمعرفة لكي ينطق بها في الوقت المناسب، والمكان المناسب، وبطريقة لائقة، وللشخص المناسب.

إذ يُدرك الحكيم قيمة الكلمات، يحسبها جواهر يلزم تخزينها في مكان أمين، أما الغبي فلا يتوقف عن الكلام الذي بلا معنى مما يجعله قريبًا من الهلاك. إنك لا تعرف ماذا سيقول، لأنه يخرج الكلمات بلا اتِّزان، تجلب له ولغيره مشاكل بلا حصر.

لأجل سلام الإنسان وبنيان إخوته يليق به أن يفكر كثيرًا ويتكلم قليلاً، ولا ينطق بكلمة بدون أن يسبقها تفكير.

القديس تيموثاوس يمثل الإنسان الحكيم الذي يزخر بالمعرفة الصادقة: "وأما أنت فأثبت على ما تعلمت وأيقنت، عارفًا ممن تعلمت، وأنك منذ الطفولة تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تُحكِّمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع" (2 تي 3: 14-15). وعلى العكس عليم الساحر يمثل الغبي المتشامخ فيدمر نفسه (أع 13: 6-11).

يقول القديس بولس: "فإن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق". ويضيف: "لأنكم قد مُتُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 1-4).

تختفي فينا الحياة حسب الجسد إذا لامتنا طبيعتنا الدنيئة، ثم نقلنا طموح حياتنا من الأرض إلى السماء. كما يقول المثل: "الحكماء يدخرون معرفة" (أم 10: 14). ثم ننتظر الحياة الحقيقية، ويظهر المسيح فينا ونمتلئ بمجده، ونتحول إلى حالة مقدسة.

دعونا الآن نستمع إلى كلمات النشيد، وكأننا متنا بالجسد، فلا ننجذب إلى الكلمات ذات المعنى الجسدي. فيحوَل الشخص الذي مات عن الأهواء، المعنى اللفظي لكلمات النشيد إلى معانٍ نقية وغير ملوثة. ولما كان فكره خاليًا من الأمور الأرضية، لذلك يُشغل فكره بالأشياء العليا حيث المسيح الخالي من الهوى، والجالس عن يمين مجد الله (كو 3: 1). دعونا الآن نستمع إلى الكلمات التي تصف جمال العروس النقي. ليتنا نستمع وكأننا لا نشارك في طبيعة الجسد، بل اِنتقلنا إلى دائرة الروح.

القديس غريغوريوس النيسي


13. سلامه

"ثروة الغني مدينته الحصينة،

هلاك المساكين فقرهم" [ع 15]

هذا المثل لا يمثل نصيحة يقدمها الحكيم، إنما هو تقرير لواقعٍ مؤسفٍ، حيث يرى الغني في غناه مدينته الحصينة، فيولع بالأكثر نحو تضخيم ممتلكاته، أما الفقير فإذ يرى الغني يسلبه حقوقه ينهار فلا يحمل دافعًا للخلاص من حالة الفقر التي تأسره.

يرى البعض أن هذا المثل يعني أن الغني يزداد غنى، والفقير يزداد فقرًا. بمعنى أن الغني الحقيقي يجتهد بالأكثر دون توقف، والفقير المهمل يتمادى في إهماله دون التزام وشعور بالمسئولية.

كثير من الأغنياء يفقدون سلامهم الداخلي، ويعيشون في رعبٍ، خشية فقدان ممتلكاتهم بسبب السرقة، لذلك يشعرون بحاجتهم إلى مدينة حصينة وآمنة يضعون فيها كنوزهم. كذلك كثير من الفقراء يحطمهم التذمر وعدم الرضا.

أما من الجانب الروحي فثروة الغني مدينته الداخلية، متى صار قلبه أورشليم الجديدة العُلوية، أي أيقونة السماء، لا تقدر خطية ما أن تتسلل إليها ولا عدو أن يسطو عليها، فيعيش الإنسان غنيًا بسماوات الله المعلنة في داخله. أما الفقير فهو ذاك الذي لا تتطلع عيناه إلى الغنى الداخلي، فيخسر ذاك الذي لنا فيه كنز.

* الغنى في ذاته ليس بالأمر الشرير. "فدية حياة إنسان غناه" (أم 13: 3)، لأن من يعطي الفقير يفدي نفسه، لذلك فإنه حتى في الغنى يوجد مجال للفضيلة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إنكم تشبهون مديري دفة في بحرٍ عظيمٍ، إن قاد إنسان طريقه حسنًا يعبر من البحر سريعًا ويبلغ الميناء. أما الذي لا يعرف كيف يدبر ممتلكاته حسنًا، فيغرق في شحنته. هكذا مكتوب: "ثروة الغني مدينة قوية" (أم 10: 15).

القديس أمبروسيوس

* أن نتمتع بأي شيء يعني أن نلتصق به بقوة لأجل الشيء في ذاته. وأما أن نستخدم شيئًا فهو أن نوظف ما نناله، لنحصل على ما نحتاج إليه، بشرط أن يكون من اللائق بنا أن نحتاجه.

* لا تظن أن الفضة أو الذهب يجب أن يُلاما بسبب الجشعين، ولا الطعام والخمر بسبب النهمين والسكارى، ولا الجمال النسائي بسبب الزناة والفاسقين. وهكذا في كل الأمور الأخرى، خاصة حينما ترى طبيبًا يستخدم نارًا بطريقة صالحة بينما قاتل يستخدم خبزًا به سم لتنفيذ جريمته.

* إذ فقد أيوب كل غناه وبلغ إلى أقصى الفقر، احتفظ بنفسه غير مضطربة، مركزًا على الله ليظهر أن الأمور الأرضية ليست بذات قيمة في عينيه، بل كان هو أعظم منها، والله أعظم منه. فلو أن رجال أيامنا هذه لهم ذات الفكر، لما كنا مُنعنا بإصرارٍ في العهد الجديد من امتلاك هذه الأشياء لكي ما نبلغ الكمال. لأن امتلاكنا مثل هذه الأشياء دون التعلق بها لشيء جدير بالثناء أكثر من عدم امتلاكها نهائيًا.

القديس أغسطينوس


14. تعب يديه

"عمل الصدِّيق للحياة،

ربح الشرير للخطية" [ع 16]

ربما لا يملك الصدِّيق إلا تعب يديه، فهو يعمل لكي يأكل ويعيش، ويجد في عمله حياة وعذوبة. أما الشرير فيُنفق ما يكسبه على الخطية، سواء بإسرافه أو ببخله. إنه ينفق كل بركة، فيعيش كمن هو ميت.

يرى البعض أن الصدِّيق يمد يده للعمل الشريف المشروع الذي يعطي للحياة طعمها، مقدمًا ما هو لبنيان الجماعة. أما الشرير فيمد يده للأعمال غير اللائقة، لأنها أكثر ربحًا، فيُقدم للآخرين ما هو لدمارهم، وتزداد خطاياه خطايا، يستمر في هذا بلا توقف حتى يُدمر نفسه وغيره.

* لأننا نتذكر أنه يجب علينا أن نكون شاكرين للرب إلهنا وخالقنا. إننا لا نرذل أية ثمرة لأعماله؛ إننا نستخدمها باعتدال وليس بتطرفٍ خاطئ. لهذا فإننا لا نفشل في التردد على الساحات والأسواق والحمامات والمتاجر والمصانع والفنادق وفي كل أعمالكم، وأن تكون لنا كل العلاقات الأخرى حتى نعبر عن حياتنا معكم في هذا العالم. معكم نبحر في البحر، ونلتحق بالخدمة العسكرية، ونعمل في الأرض ونتاجر، ونبيع علانية ما تستخدمونه من منتجات تجارتنا ومصنوعاتنا.

العلامة ترتليان

يقول العلامة أوريجينوس إنه ليس من أحد خامل في بيت الحكيم.


15. طريقه

"حافظ التعليم (التأديب) في طريق الحياة،

ورافض التأديب ضال" [ع 17]

يحيا الإنسان كمن في رحلة نحو السماء، فالمؤمن إذ يحفظ التأدب، يقبل المشورة، فلا ينحرف عن طريق الحياة. أما الشرير فيرفض المشورة ولا يقبل التأديب فيضل ويبقى في ضلاله.

* كما يُلقي ممحص الذهب بقطعة الذهب في الفرن لتحتمل النار إلى حين، حتى يراها قد تنقت، هكذا يسمح الله بامتحان الأنفس البشرية بالضيقات حتى تتنقى وتحصل على نفعٍ عظيمٍ...

فليتنا لا نضطرب ولا نيأس عندما تحل بنا التجارب. لأنه كما أن ممحص الذهب يعلم الزمن الذي ينبغي أن يُترك فيه الذهب في الفرن، فيُخرجه في الوقت المعين ولا يتركه بعد في النار حتى لا يفسد ولا يحترق، كم بالأكثر يعلم الله ذلك. فعندما يرانا قد تنقينا بالأكثر، يعتقنا من تجاربنا حتى لا ننطرح ونُطرد بسبب تزايد شرورنا.

عندما يحل بنا أمر ما لم نكن نتوقعه لا نتذمر ولا تخور قلوبنا، بل نقبله من الله الذي يعرف هذه الأمور بدقةٍ، حتى يمتحن قلوبنا بالنار كيفما يُسر، إذ يُفعل هذا بقصد فائدة المجربين. لذلك يوصينا الحكيم قائلاً بأن نخضع لله في كل الأمور، لأنه يعرف تمامًا متى يخرجنا من فرن الشر (حكمة يشوع 1 :1-2).

يليق بنا أن نخضع له على الدوام، ونشكره باستمرار، محتملين كل شيءٍ برضا، سواء عندما يمنحنا بركات أو يقدم لنا تأديبات. لأن هذه الأخيرة هي نوع من أنواع البركات.

فالطبيب ليس فقط يسمح لنا بالاستحمام (في الحمامات)... أو الذهاب إلى الحدائق المبهجة، بل وأيضًا عندما يستخدم المشرط والسكين هو طبيب!

والأب ليس فقط عندما يلاطف ابنه، بل وعندما يؤدبه ويعاقبه... هو أب!

وإذ نعلم أن الله أكثر حنوًا من كل الأطباء، فليس لنا أن نستقصي عن معاملاته، ولا أن نطلب منه حسابًا عنها، بل ما يحسن في عينيه يفعله. فلا نميز إن كان يعتقنا من التجربة أو يؤدبنا، لأنه بكلا الطريقين يود ردنا إلى الصحة، ويجعلنا شركاء
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالأحد مارس 06, 2011 12:08 am

الاصحاح الحادى عشر


طرق البرّ مملوءة أمانًا


في الأصحاح السابق قدم لنا سليمان الحكيم بروح الله القدوس مقارنة بين حياة الإنسان البار الحكيم، وما تحمله من بركات إلهية مفرح، وحياة الإنسان الشرير الجاهل، وما تدفع به من دمارٍ وهلاكٍ. يقدم لنا الآن أمثلة عن الحياة المستقيمة الحكيمة في كل الجوانب، وما تحمله من مكافآت أكيدة مفرحة.

طرق البرّ واضحة ومملوءة أمانًا، موضع سرور الله، أما طرق الأشرار فمملوءة مخاطر، تدفع بالإنسان إلى الهلاك. منافع وبركات الحياة الحكيمة البارة تقابلها في الاتجاه المضاد مآسي وخسائر الحياة الغبية الأثيمة. هذا ويؤكد هذا الأصحاح أن ما يحل بالإنسان الشرير هو ثمرة طبيعية لفساده وشره.

يشير سفر الأمثال إلى حقيقة أن البرّ يعمل في كل المجالات، وهو مفتاح الحياة الناجحة. يوضح الحكيم في هذا الأصحاح عمل البرّ في ثلاثة مجالات وهي: العمل، والمشاكل الشخصية، والحكم، كما يكشف عن مكافآت البرّ الأكيدة.

1. عمل البر في كل مجال .

أولاً: في مجال العمل.

ثانيًا: المشاكل الشخصية .

ثالثًا: في الحكم .

2. مكافآت البرّ الأكيدة .


1. عمل البرّ في كل مجال

يعمل الإنسان البرّ في مجال العمل ، فتنعكس أمانة قلبه وإخلاص نيته على عمله. لا يعرف الغش ولا الخداع، مهما كان الإغراء المادي أو المعنوي. يسلك كخالقه ومخلصه بروح الوداعة والتواضع بدون طمع.

ويمتد أثر الأمانة الداخلية إلى مجال المشاكل الشخصية : كيف يخرج البار منتصرًا وسط المشاكل والمتاعب والضيقات.

وأيضًا في مجال الحكم : يقيم المواطنون الأبرار مجتمعًا متهللاً ، ساميًا ، يعمه السلام ، ويحمل روح النصرة.

أولاً: في مجال العمل

"موازين غش مكرهة الرب،

والوزن الصحيح رضاه" [ع 1]

الترجمة الحرفية للتعبير العبري ba eben shelemak يعني "موازين حجارة"، حيث كانت الحجارة تستخدم في الموازين.

يستهين كثيرون بالغش في الموازين والمقاييس، وهم لا يدرون أنها مكرهة في عينيّ الرب الذي لا يطيق الغش والخداع.

* كل عمل فيه ظلم معيب، حتى في الأمور العامة. فالموازين الغاشة والمقاييس الظالمة تسقط تحت اللعنة. إن كان الغش في السوق أو في العمل يسقط الإنسان تحت العقوبة، فهل يمكن التغاضي عنه إن وجد في وسط تنفيذ واجبات الفضيلة؟!

* ليزن كل أحدٍ كلماته بدون غشٍ أو خداع. "موازين غش مكرهة أمام الرب". لست أقصد ذاك الميزان الذي يزن أمور أخرى. أمام الرب هذا الميزان للكلمات بغيض، الذي يزيف الوقار الحكيم، بينما يمارس الخداع بمكرٍ. يدين الله الإنسان الذي يغش قريبه بظلمٍ غادرٍ. إنه لا يقتني نفعًا من ذكائه الماهر. لأنه ماذا ينفع الإنسان إن اقتنى غنى كل العالم ويخدع نفسه فلا يقتني الحياة الأبدية؟

القديس أمبروسيوس

اختلال موازين الإنسان ومعاييره ومفاهيمه

إن كانت الخطية قد أفسدت موازين الإنسان ومعاييره ومفاهيمه، فإن تجسد حكمة الله قد أعاد للإنسان صدق موازينه ومقاييسه وأوزانه لكي يعطي الإنسان لكل شيءٍ ولكل كائنٍ حقه، فيعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله (مت 22: 21). صار لنا بعمل الحكمة الإلهية إمكانية إعادة الأمور في موازينها الصادقة مثل:

ا. التوازن بين النفس والجسد. خلق الله للإنسان موازين صادقة ليهتم بكيانه كله، فيعمل بجسده بكل طاقاته وقدراته، كما بنفسه بكل إمكانياتها. تتسلم النفس قيادة الجسد ليسير الإنسان ككل في الطريق الملوكي. لكن الخطية أفقدت الإنسان موازينه، فجعلت من الجسد قائدًا يمتطي النفس ويديرها حسب شهواته الشريرة. اختلَّت الموازين فصار الراكب مركوبًا، والمركوب راكبًا. لذلك جاء حكمة الله متجسدًا، وحمل جسدنا وله نفس كإنسان كامل، لكي فيه يتناغم الجسد مع النفس، ويسلك الاثنان الطريق السماوي.

بتجسده وصلبه وقيامته وصعوده فتح أبواب السماء ليحل الروح القدس في الإنسان بكليته، يفتح كل أبوابه، ليقود النفس والجسد معًا في المراعي السماوية بلا صراع.

ب. اختلَّت موازين الإنسان بالخطية في نظرته للأرض والسماء، فحسبَ الأرض مسكنه كمن يخلد فيها، وتطلع إلى السماء كوهمٍ أو خيالٍ. لم يعد قادرًا أن يدرك "إنما كخيالٍ يتمشى الإنسان" (مز 39: 6)، فإنه يحسب الأرض واقعًا يستحق كل الاهتمام أما السماء والأبديات فأمور ثانوية. على كلٍ مجيء السماوي أصبغ على نظرة المؤمن مسحة سماوية، فيرى وكأن الأرض قد صارت سماءً، يشكر الله على واقعه كإنسان يحيا على الأرض، وقلبه في السماء.

ج. أفقدت الخطية الإنسان موازينه الصادقة ليزن احتياجاته الروحية والنفسية والعقلية والعلمية والاجتماعية... فلا يقدر أن يدرك وحدة الحياة ليوازن بين كل جوانب حياته، ليكون أمينًا في كل شيء، سويًا في شخصيته. أما وقد تجسد خالق النفس والجسد وطبيب الإنسان الفريد، أعاد للحياة وحدتها، ليصير الإنسان ناجحًا في كل شيءٍ، بعمل روح الله القدوس، روح القوة والنصرة، وليس روح الفشل.

د. اختلَّت موازين فكر الإنسان في نظرته لكيانه، فلم يعد قادرًا أن يجلس مع نفسه ليتطلع إلى أعماقه الداخلية، فيكتشف ملكوت الله داخله، ويدرك أن الله خلقه ليقيم منه مسكنًا لروح الله. فقد الإنسان إدراكه لإنسانه الداخلي، فصار يرى في حياته فناء للإنسان الخارجي دون النمو والتجديد لإنسانه الداخلي. لكن بالمسيح يسوع الذي يجتذب نظراتنا نحو الداخل، قائلاً لنا: "ملكوت الله داخلكم" صرنا نترنم مع الرسول بولس: "إن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا" (2 كو 4: 16).

ه. اختلَّت موازيننا حتى في نظرتنا لله والعالم والجسد وكل خليقة سماوية وأرضية، وجاء مسيحنا الحكمة المتجسد يقدم لنا روحه القدوس ليهبنا موازين جديدة خلالها ندرك الآتي:

* يقترب الله إلينا بالحب، هو أب حتى في تأديباته، يفتح أحضانه لنا.

* الجسد وزنة مقدسة، هبة إلهية، لها قدسيَّتها، سواء جسدنا أو أجساد الآخرين. فلا نتطلع إليها لإشباع شهوات جسدية بل كمقْدس إلهي يُسر به الرب.

* العالم جسر نعبر خلاله إلى أورشليم العليا، نسير عليه بكونه عطية إلهية. نقبل الآلام كمدرسة للفلسفة وطريق للدخول إلى شركة المجد مع مسيحنا المتألم، كما نفرح بكل عطية وبركة تبعث فينا روح الشكر والتسبيح لله.

* الخليقة السماوية بالنسبة لنا هي مجتمع السماء الذي نجد فيه صداقات تدوم أبديًا.

* الخليقة الأرضية هي وزنات نتعامل معها، فننمو في حياة الأمانة، نشارك مسيحنا سمة الأمانة.

و. حوَّلت الخطية الخداع والمكر إلى حكمة بشرية، والأمانة والصدق إلى انغلاق للفكر. هكذا انقلبت الموازين، فصار الحق باطلاً في عينيّ الإنسان، والباطل حقًا! وجاء حكمة الله ليقدم ذاته "الحق" المبذول بالحب خلال الصليب، فيراه اليهود عثرة واليونانيون جهالة (1 كو 1: 23). بالمسيح يسوع ندرك الحكمة الحقيقية.

ز. اختلَّت موازين الإنسان بروح الأنانية حيث يقيم من الأنا ego مركزًا للعالم، يطلب ما هو لنفسه. وقد جاء "الحب" ذاته ليحطم الأنا الذي فيه أنانية قاتلة، ويحيا هو فينا، فينفتح فكرنا ويتسع قلبنا، فنحمل مع مسيحنا إن أمكن جميع الناس.

"تأتي الكبرياء فيأتي الهوان،

ومع المتواضعين الحكمة" [ع 2]

جُبلت الخليقة من العدم، فليس لها في الواقع ما تفتخر به أمام خالقها. الكبرياء هو جحد لعمل الخالق الذي يريد تكريم خليقته العاقلة، ويود أن تنمو وتتمجد على الدوام. أما التواضع فيحمل ذبيحة شكر لله الخالق وعرفان بالجميل. الكبرياء مؤشر خطير للغباوة والجهالة المهلكة، بينما التواضع مؤشر روحي للثبات في الحكمة السماوية المقدمة لنا عطية مجانية من قبل الخالق.

حينما تمشَّى نبوخذنصر على القصر، وفي تشامخ قال: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك، بقوة اقتداري ولجلال مجدي" (دا 4: 30)، طُرد من بين الناس ليعيش كالثيران. وعندما رجع إليه عقله وبارك الله وسبَّحه وحمده، يقول: "رجع إلى عقلي، وعاد إلى جلال مملكتي ومجدي وبهائي" (دا 4: 36).

يتحوْصل المتكبر حول نفسه، ويظن في نفسه أنه مركز العالم والمجتمع، فيطلب أن يخدمه الكل ويحترمونه، ظانًا أنه شيء، فيجد الآخرين يعاملونه بغير ما يتوقع، فيشعر بالمهانة والخزي حتى في عينيّ نفسه. أما المتواضع فلا ينتظر كلمة مديح ولا يتوقع خدمة الغير له، ولا يشتهي ذلك، فإذا به يُحسب حكيمًا وينال كرامة ويكون موضع حب الكثيرين.

* إنها الكبرياء هي التي تحوِّل الإنسان بعيدًا عن الحكمة، والغباوة هي ثمرة التحول عن الحكمة.

"طوبى للمساكين بالروح. لأن لهم ملكوت السماوات". نقرأ في الكتاب المقدس عن التعب من أجل الأمور الزمنية "الجميع باطل وكآبة الروح"[315] أما كلمة كآبة الروح Presumption of spirit، فتعني الوقاحة والكبرياء والغطرسة، ومن المعتاد أيضًا أن يقال عن المتكبر أن به أرواحًا متعالية وهذا صحيح لأن الريح تدعى روحًا. وبهذا كتب "النار والبرَد والثلج والضباب الريح العاصفة Spirit of tempest (مز 148: Cool حقًا إن المتكبر يدعى منتفخًا كما لو كان متعاليًا مع الريح. وهنا يقول الرسول "العلم ينفخ ولكن المحبَّة تبني" (1 كو 8: 1)...

لنفهم بالحقيقة أن المساكين بالروح هم المتواضعون وخائفوا الله أي الذين ليس لديهم الروح التي تنتفخ.

بالحق ليس للتطويبات أن تبدأ بغير هذه البداية، مادامت موضوعة لأجل بلوغ الحكمة العالية "رأس الحكمة مخافة الرب" (مز 111: 10) ومن الناحية الأخرى "الكبرياء أول الخطايا" (حكمة يشوع 10: 15).

إذن فليبحث المتكبر عن الممالك الأرضية ويحبها، ولكن "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات".

القديس أغسطينوس

* من يحب التواضع يقتني بالتواضع مواهب كثيرة.

إذ تبحث عن الرحمة، تجدها في المتواضعين، لأن التواضع مسكن البرّ.

التعليم موجود عند المتواضعين، والمعرفة هي ينابيع شفاههم.

التواضع يلد الحكمة والفهم، والمتواضعون يقتنون الفطنة...

عذبة هي كلمة المتواضع، ووجهه مشرق وهو يضحك ويفرح.

الحب جميل لدى المتواضعين، وهم يعرفون أن يتدبَّروا به.

يصوم المتواضعون عن كل الشرور، فتشع وجوههم بصلاح قلوبهم.

يتكلم المتواضع فيليق به الكلام، وتضحك شفتاه، فلا يُسمع صوت ضحكه...

يتواضع المتواضع، أما قلبه فيرتفع إلى الأعالي العلوية. حيث يكون كنزه هناك تكون أفكاره. عينا وجهه تنظران إلى الأرض، وعينا عقله إلى الأعالي العلوية.

القديس أفراهاط

* ليس شيء مقبولاً لدى الله مثل أن يحسب الإنسان نفسه آخر الكل، هذا هو المبدأ الأول للحكمة العمليّة، فإن المتواضع والمجروح في قلبه لا يحب المجد الباطل، ولا هو بغضوب، ولا يحسد قريبه، ولا يلجأ إلى أية شهوة.

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

"استقامة المستقيمين تهديهم،

واعوجاج الغادرين خزيهم" [ع 3]

إذ يطلب الإنسان الحق بضمير مستقيم يعمل روح الله القدوس فيه، يقوده ويرشده ويرافقه في طريق الحق، كما حدث مع كرنيليوس قائد المِئة الوثني. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إذ كان تقيًا خائف الرب أرسل له الله ملاكًا لكي يطلب سمعان بطرس يكشف له عن طريق خلاصه. وعندما جاء بطرس وبينما كان يتكلم معه ومع الحاضرين "حلٌ الروح القدس على جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة" (أع 10: 44).

الإنسان المستقيم أمين مع نفسه كما مع الغير، لهذا يجد طريقه واضحًا ومستقيمًا، أما الغادر أو الغاش فيصير طريقه معوجًا، ويفقد الطريق إذ لا يحقق رسالته.

يترنم داود النبي قائلاً: "ترسي عند الله مخلص مستقيمي القلوب" (مز 7: 10). "يفرح الصديق بالرب، ويحتمي به ويبتهج كل المستقيمي القلوب" (مز 64: 10). كما قيل: "نور قد زُرع للصديق، وفرح للمستقيمي القلب" (مز 97: 11). "المستقيمون يجلسون في حضرتك" (مز 140: 13).

* يلقب الله المخلصين الصادقين مستقيمين، هؤلاء الذين لا يخفون شيئًا ولا يحجبون فسادًا تحت السطح.

الاستقامة كما ترون هي هكذا، الله يتطلع إليها فوق كل شيء... الذين ينطقون بالحق لا يحتاجون إلى مجهودٍ ولا معاناةٍ ولا رياءٍ ولا مكرٍ، ولا إلى شيءٍ من هذا القبيل، لأن الحق يشرق خلال انسجامه.

بمعنى آخر، كما أن الأجسام المشوهة تحتاج إلى خداعٍ خارجي يغطي التشويه الطبيعي، بينما الجمال الطبيعي يحمل روعة في ذاته، هكذا أيضًا يمكن تمييز البطلان من الحق، والرذيلة من الفضيلة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لا ينفع الغنى في يوم السخط،

أما البرّ فيُنجي من الموت" [ع 4]

كثيرًا ما يعتمد الغني على ثروته، حاسبًا أنها تحقق له المستحيلات.

لكن إذ يحل يوم الموت يكون بالنسبة للأشرار يوم سخط وغضب، فلا يشفع غناهم فيهم، بل يكون علة دينونتهم لأنهم أساءوا استخدامه. إنهم لا يقدرون في تلك اللحظة أن يشتروا غفران الخطايا، ولا أن يتمتعوا بالمراحم الإلهية. يصف سفر الرؤيا يوم الغضب هكذا: "السماء انفلقت كدرجٍ ملتفٍ، وكل جبل وجزيرة تزحزحا من موضعهما. وملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأمراء والأقوياء وكل عبدٍ وكل حرٍ أخفوا أنفسهم في المغاير وفي صخور الجبال، وهم يقولون للجبال وللصخور اسقطي علينا، وأخفينا عن وجه الجالس على العرش، وعن غضب الخروف، لأنه قد جاء يوم غضبه، ومن يستطيع الوقوف" (رؤ 6: 14-17).

* أنا أعرف لماذا كُتب: "لا تنفع الثروة في يوم السخط". قيل هذا عن الشخص الذي لا يستخدم ثروته للرحمة. أليس في قدرة الثروة أن تُستخدم في وقت الحاجة؟ في الساعة التي فيها ترجع روحك إلى يديّ الله، ستفهم أن فائدة غناك الكامل هو استخدامه في الرحمة. فقد أعطى لك من يسوع المسيح، الله وابن الله.

القديس الأنبا شنوده

* يقودنا (سليمان) نحو الفهم، خاصة عندما يقول: "لا ينفع الغنى في يوم السخط". إذ يسكب في قلبك معرفة أن فيض المال لن يعينك في ذلك اليوم، ولا ينزع عنك العقوبة الأبدية. وعندما يقول: "يرث البار الأرض" (راجع أم 2: 21)، يعني بوضوح الأرض التي يرثها أيضًا الودعاء. فقد قال أولاً المرتل: "يرث الودعاء الأرض" (مز 37: 11 LXX). وبعد ذلك قال الرب: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" (مت 5: 4).

القديس باسيليوس الكبير

ثانيًا: المشاكل الشخصية [ع5-8]

أما البار فيخلص من الموت الأبدي، إذ يتمتع بشركة المجد الأبدي.

* كثيرة هي بلايا الصديق (البار)، ومن جميعها ينجيه الرب" (مز 34: 19). هل قال: "ليكن المسيحيون أبرارًا، وعندئذ يسمعون كلمتي لا يعانون من بلايا؟ لم يَعد الله بهذا، بل يقول: "كثيرة هي بلايا البار". بالحري متى كانوا أشرارًا تكون لهم بلايا أقل، ومتى كانوا أبرارًا تكون لهم بلايا كثيرة. ولكن بعد البلايا القليلة، أو مع عدم وجود بلايا يذهب أولئك (الأشرار) إلى محنةٍ أبدية، حيث لا يمكنهم أن ينجوا منها. أما الأبرار فبعد البلايا الكثيرة يأتون إلى سلامٍ أبدي، حيث لا يعانون بعد من أي شرٍ.

القديس أغسطينوس

"برّ الكامل يقوِّم طريقه،

أما الشرير فيسقط بشرّه" [ع5]

كثيرًا ما يؤكد السفر هذه الحقيقة أن البرّ هو سند المؤمن، منقذ له، ومرشد له وسط ضيقات الحياة، وإن استخدم ألفاظًا وتعبيرات متباينة.

تُعرف فلسطين بصخورها وتلالها، فيجد المسافرون متاعب في رحلاتهم، فإنه القائد هو البرّ، إذ يقود المؤمن إلى المجد الأبدي وسط صخور هذه الحياة.

"برّ المستقيم يُنجيهم،

أما الفاسدون فيُؤخذون بفسادهم" [ع 6]

ينصب الفاسد لنفسه شباكًا يسقط فيها. أما البار فيرفع البرّ قدميه، ولا تقدر الشباك أن تقتنصه.

* السيرة المستقيمة والإيمان بالله هما سلاحٌ عظيمٌ مقاومٌ للشياطين، الذين يخافون من الصيام والنسك وسهر الليل والصلاة، والهدوء والوداعة وبغضة الفضة، والافتخار والتواضع ومحبة المسكنة والرحمة، وعدم الغضب وفعل البرّ في المسيح، لأنّ الشياطين يجاهدون جدًا أن لا يُقهَروا. فلنذكر نحن في قلوبنا أن الرب كائنٌ معنا في كل حين فلا تقدر الشياطين أن تصنع بنا شيئًا، وإن رأوا أننا خفنا وضعفنا يجعلون الخوف يزداد بالأكثر في قلوبنا بأفكارهم. فإذا وجدونا فرحين بالرب في كل حين وأننا نفكِّر في قلوبنا في الخيرات العتيدة ونتكلم فيما للرب ونفكِّر قائلين: إنّ كل شيء هو بيد الرب؛ فإن الشياطين لا تقدر أن تصنع شيئًا ولا لهم سلطان في شيء من الأشياء البتّة. فإذا وجدوا النفس محصّنةً بهذه الأفكار هكذا يخزون للوقت ويرجعون إلى ورائهم، لأنه هكذا وجد العدو أيوب محصّنًا ثابتًا فتباعد عنه، عندما لم يقدر أن يُميل فكره عن الله، ولأجل هذا افتُضِح.

القديس أنبا أنطونيوس

* إني أعجب من احتيال الشيطان، لأنه وإن كان هو الفساد والأذى بعينه، فهو يقترح أفكارًا تبدو طاهرة، ولكن النتيجة تكون فخًّا أكثر منه تجربة.

القديس أنبا أثناسيوس

* إذا حدث لك أنك تعرّضتَ لهذه الشرور فاسأل نفسك: ماذا نفعل في هذا العالم؟ إنّ زماننا لقصيرٌ، إنّ مصيرك لَهو إلى الفساد وأنت في الطريق إلى القبر. ثم قُل لنفسك: ماذا تفعلين هناك؟ انطرحي أمام الرب لئلاّ يُحكَم عليكِ بالنار الأبدية. قاوم بدون مهادنة العدو الذي يلكمك ويُبيد فهمك. طوبى للذين يعبرون هذه المناطق المظلمة والمرعبة، هذا الليل الرهيب، والأماكن المقفرة، وهذا الجو الفاسد الذي للخطية، ويصل إلى الراحة والابتهاج في فرح الروح القدس.

القديس مقاريوس الكبير

"عند موت إنسانٍ شرير يهلك رجاؤه،

ومنتظر الأثمة يبيد" [ع 7]

عندما يموت بار يتحول رجاؤه إلى حقيقة مجيدة، ولا يجتازه خوف، ولا يسقط في ضعف، أما الشرير المُصر على عدم التوبة في تهاون مترجيًا مراحم الله، فبموته يفقد هذا الرجاء الباطل.

الرجاء بركة عظيمة للإنسان الروحي المجاهد، الذي يحتمل الآلام متطلعًا إلى المجد الأبدي المُعد له من قِبل الله مجانًا، أما بالنسبة للشرير فالرجاء يمثل تهاونًا وتراخيًا. فإنهم يسلكون في طريق الهلاك مدّعين أنهم يخلصون ويتمتعون بملكوت السماوات، رافضين أن يُغيِّروا اتجاههم نحو الأبدية، مثل هؤلاء يكون رجاؤهم ليس إلا مقبرة.

* عندما يموت إنسان بار لا يهلك الرجاء. إنه يترجى أن أولاده يسلكون حسنًا، ويترجى أن ينال أمورًا عظيمة. هذه العبارة أيضًا تنقلنا إلى الأفكار الخاصة بالقيامة، أو إلى الأجيال القادمة بعدنا. أو تعني أن من كان بارًا ينعم في كل هذه الأمور فعلاً، وسينعم بتحقيقها المستقبلي الكامل، أخيرًا سيتمتع بالمجد الذي بعد الموت.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* يا بُنيَّ، قبل كل شيء لا تحسب نفسك شيئًا، فهذا هو والد التواضع. والتواضع يلد التعليم، والتعليم يلد الإيمان، والإيمان يلد الرجاء، والرجاء يلد المحبة، والمحبة تلد الطاعة، والطاعة تلد الثبات بلا تزعزع.

* يا ابني، أسرع وانتبه، لئلا تضلُّ وتتكاسل وتتوانى فتكون حقيرًا في الدهر الآتي. لأنه مكتوب: الويل للمتوانين، فإن آخرتهم قد اقتربت، وليس معين لهم ولا رجاء خلاص.

القديس أنبا أنطونيوس

"الصديق ينجو من الضيق،

ويأتي الشرير مكانه" [ع 8]

كثيرًا ما ينصُب الشرير فخاخه للصديق، وإذا به يسقط هو فيها، فيشعر الصديق بعناية الله الفائقة له.

إذ يرذل الشرير الحب والرحمة يُلقي بنفسه في يد العدالة، فيشرب من الكأس التي أعدها لنفسه ظانًا أنه يُقدمها لأخيه.

الصليب الذي أعده هامان لمردخاي، صًلب عليه هامان (إس 7: 9-10)، وجُب الأسود الذي خطَّط له متهمو دانيال للخلاص منه، ألقوا هم وعائلاتهم فيه والتهمتهم الأسود الجائعة (دا 6).

سفك المصريون دماء أطفال الإسرائيليون، وإذ عطش المصريون ووجدوا الدماء ممتزجة بماء النيل. بالكيل الذي به يكيل الإنسان لأخيه يُكال يه.

ثالثًا: في الحكم [ع 9-15]

"بالفم يُخرِّب المُنافق صاحبه،

وبالمعرفة ينجو الصديقون" [ع 9]

المنافق ينطق بغير ما يبطن في داخله. فلا يُحطم نفسه وحدها، وإنما يجتذب صاحبه معه. وكأن سليمان الحكيم يدعونا إلى التمتع بروح التمييز والهروب من صحبة المنافقين حتى لا نهلك معهم.

* لا تحمل لإنسان سوء نية حتى لا تصير أتعابك باطلة.

* الإنسان الذي له خبث الانتقام في قلبه عبادته باطلة.

* هذا هو نضالنا: ألاّ يكون لنا انفعالٌ في الفم أو إثم أو خبث في القلب.

الأب إشعياء

إن كان المنافقون المخادعون يهلكون بكلماتهم المملوءة خداعًا، فإن أولاد الله يستطيعون بروح التمييز أن يفلتوا من خداع المنافقين كمن من خداع عدو الخير.

* للنفس إفراز من إحساسها العقلي تعرف به الفرق بين الصدق والكذب، كما يميِّز الفم بين الخمر والخلّ، وإن كانا متشابهين في اللون، هكذا النفس من الإحساس العقلي تعرف الفرق بين المنح الروحية والتخيلات الشيطانية.

القديس مقاريوس الكبير

* يا بُنيَّ، لا تتكلم بغضبٍ، بل ليكن كلامك بحكمة ومعرفة، وكذلك سكوتك أيضًا، لأن آباءنا الحكماء كان كلامهم مملوءً من الحكمة والتمييز، وكذلك سكوتهم.

القديس أنبا أنطونيوس

"بخير الصديقين تفرح المدينة،

وعند هلاك الأشرار هُتاف" [ع 10]

إن كان المنافق يُهلك صاحبه، فإن الصديق يصير بركة المدينة بأكملها، ليس فقط بإرشاداته ونصائحه، وإنما أيضًا بصلواته وطلباته عن الغير، وبركة الرب العاملة فيه. يقول الرب: "طوفوا في شوارع أورشليم وانظروا واعرفوا وفتشوا في ساحاتها، هل تجدون إنسانًا أو يوجد عامل بالعدل، طالب الحق، فاصفح عنها؟!" (إر 5: 1).

أما بالنسبة للأشرار فعند موتهم يحزن الأبرار على هلاكهم، لكنهم يهتفون فرحًا من أجل إنقاذ البسطاء الذين كان يقاومهم الأشرار ليحطموهم.

"ببركة المستقيمين تعلو المدينة،

وبفم الأشرار تُهدم" [ع 11]

الصديقون بركة ليس فقط لأنفسهم وعائلاتهم، بل وللمدينة كلها.

يقدم لنا القديس أنطونيوس الكبير صورة رائعة للقديس باخوميوس الذي ببركته "تعلو المدينة"، وذلك في حديثه مع أولاد القديس باخوميوس أثناء زيارتهم له، إذ قال لهم: [لا تتوجع قلوبكم، يا أولادي، من أجل رجل الله الصدِّيق المزيَّن بكل الفضائل أبينا باخوميوس لأنه رقد، لأنكم قد صرتم معه جسدًا واحدًا وشركاء في الأعضاء (أي العضوية)، وقد امتلأتم من نعمة روح الله القدوس التي كانت تُنير داخله. وفي الحقيقة إنني كنتُ اَشتهي أن أنظره في الجسد، وبحقٍ إنني لم أستحقه، ولاسيما أن النفوس التي جمعها حوله هي مقدسةٌ لرب الصباؤوت، وأولئك سوف يُظهِرون الأمر أنهم مرتفعون أكثر منا ويسيرون في طريق الرسل التي للمسيح التي هي الشركة المقدسة.]

* صلُّوا، إذن لأجل العالم، لأنّ "عينا الربِ نحو الصدِّيقين، وأذناه إلى صراخهم" (مز 34: 15). فأنتم تعلمون جيدًا أنّ الله يسمع صلاة الأبرار وأنّ توسُّل الإنسان الصالح له فاعلية عظيمة، فاذكرونا بلا انقطاع.

القديس أنبا سيرابيون أسقف تميّ

كما تتبارك المدينة بوجود القديسين وصلواتهم، تتحطم أيضًا بفم الأشرار المملوء تجديفًا وكذبًا.

"المحتقِر صاحبه هو ناقص الفهم،

أما ذو الفهم فيسكت" [ع 12]

أحيانًا يكون الصمت هو أفضل ما نفعله، خاصة إن كانت كلماتنا تفقدنا سلامنا، أو تُسيء إلى أعماقنا، أو إلى الغير.

الإنسان الجاهل يترصد أخطاء الغير، ويُركز على ضعفاتهم، فيحتقرهم، أما الحكيم فيستر على ضعفات إخوته ويسندهم في كل جانب إيجابي لنموّهم وبنيانهم المستمر.

* لا يوجد عمل محبة أفضل من أن لا يحتقر الإنسان أخاه كما هو مكتوب: "لا تُبغض أخاك في قلبك، إنذارًا تُنذر صاحبك، ولا تحمل لأجله خطية" (لا 19: 17). وعلى ذلك فإذا رأيتَ أخاك مستمرًا في الخطية وأنت أهملتَ في إنذاره حتى يعرف حينئذٍ خطأه فسيُطلَب دمه منك. ولكنه إذا كرّر الخطية واستمر فيها فهو يموت بخطيته، وجيدٌ لك أن تشفيه بالمحبة دون أن تجرحه ولا تزدري به كعدو.

أنبا يؤنس القصير

* إذا صلّيتَ ولم يأتِ على فكرك شيء من الشر، فقد صرتَ حرًّا. الذي يلوم أخاه أو يحتقره أو يقع فيه أمام آخرين أو يُظهِر له غضبًا، فهو بعيدٌ من الرحمة. وإن قال إنسان إنه يريد أن يتوب من خطاياه وهو يفعل شيئًا من ذلك فهو كذّاب.

القديس أنبا إشعياء

"الساعي بالوشاية يُفشي السرّ،

والأمين الروح يكتم الأمر" [ع 13]

الإنسان الأمين لا يفشي الأسرار التي أؤتمن عليها، اللهم إذ كان في ذلك بنيان لنفوسهم وفي الحدود اللائقة لخلاص الغير لا التشهير بهم.

* عبِّس وجهك لدى مَنْ يبتدئ أن يقع في أخيه قدامك، فإنك إن فعلتَ ذلك تكون متحفظًا عند الله وعنده.

مار إسحق السرياني

"حيث لا تدبير يسقط الشعب،

أما الخلاص فبكثرة المشيرين" [ع 14]

الاعتماد الكلي على حكم الإنسان نفسه هو غاية الغباوة، فإنه حتى أكثر الناس حكمة وتقوى لهم أخطاؤهم الجسيمة، وأحيانًا عدم القدرة على التمييز. لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ. فالإنسان في حاجة إلى طلب مشورة الله والالتجاء إلى أبٍ روحيٍ أو مرشدٍ روحيٍ. فقدْ فقدَ رحبعام أغلب المملكة لأنه تجاهل هذه الحقيقة الهامة، وكثيرون أصابهم أضرار جسيمة لذات السبب.

يليق بالمؤمن ألا يتكل على فكرة الذاتي ومشاعره، بل يستشير ويناقش بروح التواضع والرغبة الصادقة في الاستفادة بقدرات الآخرين وخبراتهم.

يذكر لنا سفر دانيال احتياج نبوخذنصر إلى مشيرٍ حكيمٍ من قِبل الله، وإذ كشف له السر مجٌَد الملك إله دانيال (دا 2: 46). كما احتاج بيلشاصر الملك إلى مشير (دا 5: 13).

* إذ نريد كلنا أن نخرج من مصر، ونهرب من فرعون، نحتاج بوجه التأكيد إلى موسى آخر، وسيطًا من الله ولدى الله، لكي بوقوفه من أجلنا فيما بين العمل والعلم (التأمل) يمد ذراعي الصلاة إلى الله، إلى أن يعبر الذين يقتادهم بحر خطاياهم، ويقهروا عماليق (خر 17)، وينصب راية النصرة. فقد انخدع من يسلم ذاته لهذا الطريق (الرهباني)، ويتوهم أنه لا يحتاج إلى من يقوده ويرشده.

القديس يوحنا الدرجي

* قال شيخ: [فرَّق إنسان غني جميع ممتلكاته، وعتق عبيده وزهد في الدنيا، ثم صار متكلاً على ذاته مرشدًا لنفسه، ورأى ألاّ يكون تابعًا لغيره ولا أن يتعلم ممن هو أقدم منه، فسقط في نجاساتٍ بشعة وكاد أن يهلك لولا أنّ الله بفضله أنقذه بالتوبة، فتعلّم بالخبرة أنّ التواضع هو أعظم من الأعمال.]

بستان الرهبان

* إن لم يمشِ (المؤمن) مع مرشده من البداية حتى النهاية، فلن يصل أبدًا إلى المدينة. فاطرح مشيئتك خلفك وتواضع وأنت تخلص.

القديس برصنوفيوس

"ضررًا يُضر من يضمن غريبًا،

ومن يُبغض صفق الأيدي مطمئن" [ع 15]

سبق فتحدث عن عدم التسرع في ضمان إنسان غريب. دون فحصٍ وتدبيرٍ حسنٍ، سواء من جهة صدق احتياجه، ودراسة استخدامه للقرض، وإمكانية المقترِض والضامن للسداد (راجع أم 6: 1-5).

يخشى الحكيم من التسرع في ضمان إنسانٍ غريبٍ جاء ليقضي ليلة أو يومًا للاقتراض دون وجود ضمانات للسداد، أو عدم جديته في السداد.

أما مسيحنا فقد وقَّع بدمه على خشبة الصليب ضامنًا إيَّانا. لقد دفع ثمن خطايانا، الموت، فهو قادر على السداد. يقول الرسول بولس: "فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم اِفتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2 كو 8: 9). صار ضامنًا لنا نحن الغرباء، لكي ينزع عنا تغربنا. "فلستم بعد غرباء ونزلاء، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله" (أف 2: 19). بحبه الفائق يقول: "حينئذ رددت الذي لم أخطفه" (مز 69: 4)، إذ سدد ديوننا التي لم يقترضها، فصرنا به أحرارًا.


2. مكافآت البر الأكيدة 16-31
أولاً: فضائل مسيحية 16-23
ا. نعمة المرأة مكرّمة



"المرأة ذات النعمة تحصل كرامة،

والأشدّاء يحصلون غنى" [ع 16]

في الترجمة السبعينيّة: "المرأة ذات النعمة ترفع الكرامة للإنسان، أما التي تكره الأمور البارة فهي عرش للهوان". بمعنى أنه بسبب الزوجة التقية والحكيمة يكرَّم رجلها، أما التي لا تهتم بأبديتها وخلاصها، فتصير كرسيًا للعار، كل من يلتصق بها يخسر كرامته. وكأن الحكيم هنا يحث الإنسان أن يختار شريك الحياة ذا نعمة وتقي.

الأشداء أو الأقوياء جسمانيًا غالبًا ما يكونوا قادرين على العمل من أجل التمتع بالثروة، كما على حمايتها ممن يحاولون سلبها أو اغتصابها. هكذا بالنعمة والوداعة تستطيع المرأة أن تنال كرامة وتقديرًا في أعين الكثيرين. ليس في المرأة ما هو أجمل من لمسة النعمة ومسحة التواضع والوداعة واللطف مع الحكمة. هذا ما لمسه داود النبي في شخصية أبيجايل، إذ قال لها: "مبارك الرب إله إسرائيل الذي أرسلكِ هذا اليوم لاستقبالي. ومباركة أنتٍ لأنك منعتيني اليوم من إتيان الدماء، وانتقام يديَّ لنفسي" (1 صم 25: 32-34).

كما استطاعت راعوث الأممية أن تنال نعمة في عينيّ الله الذي اختار أن يأتي كلمة الله متجسدًا من نسلها، وفي أعين الشعب. وكما قال لها بوعز: "لأن جميع أبواب شعبي تعلم أنكِ امرأة فاضلة" (را 3: 11).

* إذ يتحدث عن مجد الرجل، يقيم بولس الآن توازنًا هكذا، فلا يفتخر الرجل فوق الحد اللائق، ولا يُضغط على المرأة. ففي الرب المرأة ليست مستقلة عن الرجل، ولا الرجل مستقل عن المرأة. إن كنت تسأل من الذي جاء بعد الآخر، فإن كل منهما هو علة الآخر، أو بالأحرى ليس كل من الآخر بل الله هو علة الكل.

* وقفت النسوة عند الصليب، الجنس الضعيف الذي ظهر أكثر قوة، وهكذا تغيرت كل الأمور تمامًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم


ب. رحمة الرجل تفيد نفسه

"الرجل الرحيم يُحسن إلى نفسه،

والقاسي يكسر لحمه" [ع 17]

ما يفعله الإنسان بالغير إنما يقدمه لنفسه، فما يمارسه من رحمة مع الآخرين إنما يدفع به للتمتع بالمراحم الإلهية، كما يكسب لنفسه السلام الداخلي. والذي يظن أنه يُحطم الغير بعنفه إنما يُحطم نفسه وهو لا يدري. الكأس التي نملؤها للآخرين نلتزم نحن بشربها.

* ما هي النقاوة؟ هي قلب رحيم على جميع طبائع الخليقة.

* صلاة الحقود كبذار على صَفَا (صخرة). ناسك غير رحيم كشجرة بلا ثمر.

مار إسحق السرياني

* كُنْ راغبًا في الصالحات وحافظًا لها، خادمًا مرضيًا عند سيدك، تلميذًا متواضعًا لذاك الذي لأجلك وضع نفسه، تلميذًا مطيعًا للمطيع ومتحمِّلاً للمتحمِّل، طويل الأناة للطويل الأناة، رحيمًا لأجل الرحيم، حاملاً لأثقال قريبك كما حمل هو نفسه أثقالك، محبًا للجميع بإخلاصٍ كما أنه هو ذاته أحبَّنا، تابعًا له في كل الأمور حتى يستقبلك في راحته العظمى حيث "ما لم ترَ عين ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعدّه الله للذين يحبونه" (1 كو 2: 9).

القديس برصنوفيوس


ج. زرع البرّ يهب مكافأة حقيقية

"الشرير يكسب أجرة غش،

والزارع البرّ أجرة أمانة" [ع 18]

يربط الحكيم بين الشر والغش، وبين البرّ والأمانة. فالشر يحمل في داخله خداع للنفس وللبصيرة الداخلية، فيظن الشرير في الخطية الحياة المبهجة والسعادة أو الغنى أو الكرامة. والصديق أو البار يرى في الأمانة مع الله ومع نفسه كما مع الناس سر سعادته الداخلية. فالشر يحمل في داخله ثمره الفاسد، والبرّ يحمل في داخله مكافأته.

المثل الواضح لهذا التقابل الخطير هو سنحاريب ملك أشور وحزقيا. الأول في شره كان يعيِّر الله، ويتكلم ضده في عجرفة وتشامخ. فيقول: "كما أن آلهة أمم الأراضي لم تنقذ شعوبها من يديَّ، كذلك لا ينقذ إله حزقيا شعبه من يديَّ" (2 أي 32: 17). أما حزقيا التقي، رجل الصلاة، فتمتع بخلاص من يد أشور من قبل السماء عينها.

يحصد الشرير الغش الذي ظن أنه يخدع به الغير، ليجد نفسه أنه يغش ذاته. وأما الجاد في زرع بذور البرّ فيجد مكافأة أكيدة.


د. البرّ يهبنا حياة

"كما أن البرّ يؤول إلى الحياة،

كذلك من يتبع الشر فإلى موته" [ع 19]

القداسة الحقيقية هي حياة وسعادة حقيقية، أما من يجري وراء الشر إنما يجري لينهي حياته.


ه. السلوك بلا التواء يقدم لنا بهجة في الرب

"كراهة الرب ملتوو القلب،

ورضاه مستقيمو الطرق" [ع 20]

ليس شيء لا يطيقه الرب مثل الرياء والالتواء، وليس شيء يحبه الرب مثل الاستقامة والقداسة.


و. العمل الجماعي لا يبرر الشر

"يد ليد لا يتبرر الشرير،

أما نسل الصديقين فينجو" [ع21 ]

ترابط الأشرار معًا لا يحميهم من ثمر شرهم، أما الصديقون فيتمتعون هم ونسلهم السالكون على مثالهم بالحماية الإلهية.


ز. جمال المرأة في عقلها

"خزامة ذهب في فنطيسة خنزيرة،

المرأة الجميلة العديمة العقل" [ع 22]

كثيرًا ما تحطم المرأة جمالها بعدم حكمتها فيكون حالها كمن يأتي بخزامة ذهب ويضعها في أنف خنزيرة.

يقول J. Vernon McGee : [هل رأيتم خنزيرة تسير حولكم وقد وُضعت خزامة ذهبية في فنطسيتها؟ حسنًا يُوجد الكثير منها هنا في... إنهم نساء جميلات بلا تعقل.]

إن كان الله قد وهب كثيرات الجمال الجسدي، فإن ما يعطي هذا الجمال وقاره وتقديره هو التعقل والحكمة والتمييز.

يشير الذهب إلى الحياة السماوية التي لن تفسد. فالمؤمن الحقيقي يلتزم أن يسلك بفكر سماوي عملي، فإن انحرف يكون كالخنزيرة التي تتمرغ في الوحل، فتشوِّه الخزامة الذهبية التي في فنطيستها (أنفها).

* إن كان يُعتقد أن البتولية أمرٌ ثمينٌ للغاية ولها منظر إلهي، لكن إن كانت الحياة ككل لا تتناغم مع النفس، تصير البتولية "خزامة ذهب في فنطيسة خنزيرة"، أو "لؤلؤة مُداسة بأقدام خنزيرة".

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

* فأولئك الذين تشير إليهم لا يملكون المعرفة التي لا يملكها غير الأنقياء، إنما يقتنون معرفة باطلة يتحدث عنها الرسول قائلاً: "مُعرضًا عن الكلام الباطل الدنس، ومخالفات العلم الكاذب الاسم" (1تي20:6). هؤلاء الذين يظهرون أنهم ينالون نوعًا ما من المعرفة، أو أولئك الذين يكرسون نفوسهم لقراءة المجلدات المقدسة، واستذكار الكتب المقدسة غير متخلِّين عن الخطايا الجسدية، هؤلاء قيل عنهم في سفر الأمثال: "خزامة ذهب في فِنطِيسة خنزيرةٍ، المرأَة الجميلة العديمة العقل" (أم 11: 22). لأنه ماذا ينتفع الإنسان إن اقتنى الزينة السماوية التي للبلاغة، والجمال الكثير الثمن الذي للكتاب المقدس، إن كان يفسد هذا الالتصاق بالأفعال القذرة والأفكار الشريرة، دافعًا إياها في أرض دنسة، أو ينجسها بالتمرغ في قذارة شهواته؟! النتيجة هي أن ما هو حلي بالنسبة للذين يستعملونه استعمالاً حسنًا، يصير بالنسبة لهم ليس عاجزا عن تزينهم فحسب بل قذارة ووحل متزايد، لأنه "لا يجمُل الحَمْد في فم الخاطئ" (سي 15: 9). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إذ يقال له بالنبي. "ما لَكَ تحدث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك؟!" (مز 50: 16). مثل تلك النفوس لا تملك مخافة الرب بأي شكل من الأشكال إذ قيل: "مخافة الرب أدبُ حكمةٍ" (أم 15: 33). ومع هذا فإنها تحاول أن تستخلص معاني الكتاب المقدس بالتأمل المستمر فيه، وبلياقة يسألون في سفر الأمثال: "لماذا في يد الجاهل ثمن؟ ألاقتناءِ الحكمة وليس لهُ فهم؟ " (أم 17: 16).

الأب نسطور

* في اختصار إن كان أحد يظن أنه يصير جميلاً بالذهب فهو أقل من الذهب، والذي هو أقل من الذهب ليس سيدًا عليه. لكن أن يعترف الشخص أنه أقل جمالاً من المنجم الذي في (منطقة) ليديا، يا له من قبيح! إن كان الذهب تُفسده قذارة خنزيرة تُثير الوحل بفنطيستها (أنفها)، هكذا هؤلاء النسوة المتنعمات في لهوهن بمبالغة، متهللات بالغنى، يفسدن ما هو جميل حقًا، بواسطة دنس الخنوع للشهوات الجسدية.

القديس إكليمنضس السكندري


ح. غاية الأبرار الخير للجميع

"شهوة الأبرار خير فقط.

رجاء الأشرار سُخط" [ع 23]

ما يترجاه الأشرار هو أذيَّة الآخرين، بينما يشتهي الأبرار الخير للجميع؛ كل إنسان ينال في نفسه ما يشتهيه للغير، ما يطلبه لأخيه يرتد إليه.

إذ يُغرس قلب الإنسان في الرب الكلي الصلاح، يفيض القلب بالشوق نحو عمل الصلاح مع كل إنسانٍ ما استطاع. لهذا يوصينا المرتل: "تلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك" (مز 37: 4).


ثانيًا: العطاء بسخاء [ع24-26]

العطاء في حقيقته هو أخذ، والسخاء في العطاء هو غنى وازدهار، وإراحة الغير تجلب لنا راحة. يقول السيد المسيح: "أعطوا تعطوا..." (لو 6: 38).

ويقول الرسول: "من يزرع بالشح، فبالشح أيضًا يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد. كل واحد كما ينوي بقلبه، ليس عن حزنٍ أو اضطرار، لأن المعطي المسرور يحبه الله" (2 كو 9: 6-7).

"يوجد من يُفرق فيزداد أيضًا،

ومن يمسك أكثر من اللائق وإنما إلى الفقر" [ع 24]

من يهتم بالعطاء للفقراء يُبارِك الله كل ما تمتد إليه يديه، فيزداد غنى وبركة، أما من يمتنع عن العطاء بسبب شُحُّه وبُخله، يفقد بركة الرب فيُحسب فقيرًا.

* تجتمع الشياطين سرًا ضدك مثل المصريين، وإبليس رئيسهم مثل فرعون، ويحاصرونك بالهموم والأفكار التي تظلم نفسك وتحرمك من رؤية نور معرفة المسيح.

وها هي الأفكار التي يبدأون إثارتها في عقلك:

لماذا تركت العالم حيث كان يمكنك أن تصير بارًا بسهولة؟

لماذا قمت بتبديد ثروتك التي كنت تتصدق منها حينما كانت بجانبك؟

الآن وقد وزعتها بسرعة وقبل الأوان، فربما تكون أعطيت لمن لا يستحقونها. فإذا كنت حفظتها واستثمرتها بحكمة، لأمكنك الآن أن تستضيف الغرباء وتخفف آلام التعابى وتكسو العريانين، وتساعد الرهبان والمتوحدين بعطاياك، وتقف بجانب الأرامل واليتامى؛ كان سيصبح منزلك مكانًا للأعمال الصالحة كلها؛ فكلما كانت أموالك بجانبك تساعدك على الراحة وعلى تخفيف آلام الآخر.

القديس مار فيلوكسينوس

"النفس السخية تُسمَّن،

والمروي هو أيضًا يُروَى" [ع 25]

السخي، خاصة على المعتازين والمتألمين، في حب خالص ينال من الله مِئة ضعف من مراحم الله في هذا العالم.

عجيب هو الله فإنه وهبنا كل شيء، ويهبنا أيضًا سخاء النفس واتساع القلب لنستخدم ما وهبنا بطريقة لائقة، ويعود فيرد لنا مِئة ضعف من أجل تجاوبنا مع عطيته لنا.

الحب يروي نفوس الآخرين، فيروي الله بحبه نفوسنا الظمآنة.

* "كل نفس مباركة هي بسيطة [25 LXX ]، لا تلتصق بالأمور الزمنية، ولا تنحط إلى أسفل بأجنحة غير مبسوطة، إنما تشرق ببهاء الفضائل، تسبح في الهواء الطلق بجناحيّ الحب المزدوج (لله وللقريب)، وترى كيف تقدم للآخرين ما تجاهد فيه ولا تكون في راحة خاملة، بل تقول في أمان: "الرب أعطى، الرب أخذ، مبارك اسم الرب، ليفعل حسب مسرته!"

القديس أغسطينوس

* يقول: النفس التي تُبارِك تُسمن، والمُروي هو أيضًا يُروَى". فإن الذي يُبارك من الخارج بالكرازة يتقبل في الداخل سمنة اتساع (القلب)، وبينما لا يكف عن أن يُروي أذهان سامعيه بخمر البلاغة، يرتوي بالأكثر بالعطية المتكاثرة...

البابا غريغوريوس (الكبير)

* ليت هؤلاء الذين يخفون كلمة التعليم في داخلهم أن ينصتوا في فزع لصوت الدينونة الإلهية حتى ينزع هذا الفزع فزعًا آخر من قلوبهم (أي أن ينزع الفزع من الدينونة الفزع من الإقدام على التعليم). وليعلموا أن الذين لا يتقدمون بمواهبهم تضيع منهم ويخسرونها؛ لا يخسرونها فقط بل مع الخسارة تصيبهم اللعنة. وليسمعوا كيف أن بولس كان يصدق أنه بريء من دم إخوته قدرما لم يؤخر جهدًا في تعنيف الخطايا. في هذا يقول: "لذلك أُشهدكم اليوم هذا أني بريء من دم الجميع. لأني لم أُؤخر أن أخبركم بكل مشورة الله" (أع 20: 26-27). وليسمعوا أيضًا كيف أن الصوت الملائكي يحذر يوحنا قائلاً: "ومن يسمع فليقل تعال" (رؤ 22: 17)، بمعنى أن الذين يسمعون صوته في أعماقهم عليهم أيضًا أن يرفعوا أصواتهم ليجذبوا الآخرين إلى حيث يدعوهم الله. هذا لئلا إذا تقدم أحد هؤلاء خالي اليدين يجد الأبواب موصدةً أمامه. وحينئذ يسمع قول إشعياء الذي إِبّانَ خدمة الكلمة أغلق شفتيه بالرغم من أن النور السماوي أشرق وأضاء عليه وهو بهذا يصرخ نادمًا موبخًا نفسه قائلاً: "ويل لي أني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين" (إش 6: 5). وليسمع هؤلاء كلمات سليمان التي تبين كيف أن المعلم تزداد حكمته إذا لم يحجب مواهبه بسبب خطيئة الخمول، والتي تقول: "النفس السخِيَّة تُسَمَّنُ والمُرْوِي هو أيضًا يُرْوى" (أم 11: 25). الذين يخرجون لخدمة التعليم يوزِّعون بركاته، وبذلك يمتلئون داخليًا ويزدادون. وكلما استمر المعلم يروي سامعيه بنبيذ الكلمات الروحية الفعالة، أسكرته رشفات النعمة المتكاثرة. ليسمع هؤلاء كيف أن داود قام بتقديم ذلك بموهبة من الله، ولم يخبِّئ موهبة التعليم التي أعطاها الله إياه: "هوذا شفتاي لم أمنعها. أنت يا رب علمت. لم أكتم عدلك في وسط قلبي. تكلمت بأمانتك وخلاصك" (مز 40: 9-10).

البابا غريغوريوس (الكبير)

"أثر غضبه هو هلاكه" (سي 1: 22)، "الإنسان الغضوب ليس جميلاً"، فإنه لا يوجد شيء أكثر عيبًا ولا أقبح من الوجه الملتهب غضبًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"محتكر الحنطة يلعنه الشعب،

والبركة على رأس البائع" [ع 26]

يليق بنا ألا نحتفظ ببركات الرب وعطاياه لأنفسنا وحدنا في أنانية، بل نقدم مما وهبنا لإخوتنا. ربما يقصد بالاحتكار هنا أن يحتفظ الإنسان بالحنطة ولا يبيعها منتظرًا ارتفاع السعر حيث يملي شروطه على المشترين.

* ليت محبة المال تنتهي، لتمت شهوة (الغنى)... أن تطلب زيادة في السعر علامة الخبث لا البساطة. لذلك قيل: "من يطلب سعرًا عاليًا لحنطته يلعنه الشعب".

* بحق يقول سليمان الحكيم: "محتكر الحنطة يتركه للأمم"، لا يورثه، لأن من يقتني الطمع لا يعمل لصالح خلفائه.

القديس أمبروسيوس

* "محتكر الحنطة يلعنه الناس". من يحتجز لنفسه (الحنطة) ليس به رحمة. لا يجمع (الحنطة) من أجل الرحمة. مع أنه ما لم يجمع كيف له أن يقدم رحمة؟ أليس أيضًا حقيقة أن الناس يباركون من ينفق ويعطي؟ كما هو مكتوب هنا وعلى صفحات الأسفار المقدسة؟

القديس الأنبا شنودة

يرى البابا غريغوريوس(الكبير) أن من يحتجز الحنطة لنفسه ويحتكرها هو ذاك الذي يحتجز كلمة الكرازة المقدسة لنفسه، ويلتزم بالصمت دون الانتفاع بها في إصلاح الآخرين، مثل هذا يستحق لعنة الشعب.

* الذين يستطيعون التعليم بتأثير عظيم إلا أنهم يبتعدون بفعل التواضع المفرط، ينبغي أن يتعلموا بأن يستدلوا من التفكر في الأمور الصغيرة كم يخطئون كثيرًا في حق المهام الأكبر والأعظم. ولذلك إن كان لهم أن يخفوا الأموال التي في حوزتهم عن الإخوة المعوزين، فإنهم دون شك يبثون فيهم الكآبة والحزن. ليتفكروا كم هم متورطون في ذنب عظيم، لأنهم إذ يحجبون كلمة التعليم عن الإخوة الخطاة، يحجبون دواء الحياة عن أنفسٍ سائرة إلى الموت. لذلك بالحق يقول الحكيم: "الحكمة المكتومة والكنز المدفون، أيّ منفعة فيهما" (سي 20: 32). إن كانت مجاعة تفني شعبًا، وأخفى هذا الشعب قمحه، فهؤلاء بلا شك هم دعاة للموت ومبشرون به. وعليه ليتفكر الذين لا يتقدمون لخدمة خبز النعمة التي قد أُنْعِمَ بها لهم عندما تهلك النفوس من العطش للكلمة المقدسة، في هول العقاب. لذلك قيل أيضًا بالحق على لسان سليمان: "محتكر الحنطة يلعنه الشعب" (أم 11: 26) الذي يخبِّئ الحنطة يحتكر لنفسه كلمات التعليم المقدس. إن مثل هذا الإنسان تصيبه اللعنة، لأنه بسبب خطيئة الصمت يستحق عقاب كل الذين كان يمكن أن يسلكوا في الصواب بسببه.

البابا غريغوريوس (الكبير)
ثالثًا: البحث عن الصلاح [ع 27-31]

البار لا يعتمد على الغنى المادي، بل على البرّ الأصيل [ع 28]. يرث مكافآت تبني بيته [ع29]، ويرى ثمر حياته في نفوسٍ يقودها نحو الرب [ع 30].

"من يطلب الخير يلتمس الرضا،

ومن يطلب الشر فالشر يأتيه" [ع 27]

من يسعى نحو الصلاح يُكافأ حسب إخلاصه وأمانته، فينال رضا الآخرين، ويصير موضع فرحهم. أما من يصنع الشر ويُسر بمتاعب الآخرين والإساءة إليهم، فيرتد هذا عليه. وكما قال أدوني بازق: "سبعون ملكًا مقطوعة أباهم أيديهم وأرجلهم كانوا يلتقطون تحت مائدتي، كما فعلت جازاني الله" (قض 1: 7). يقول الرسول: "الذي يزرعه الإنسان إيَّاه يحصد أيضًا. لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادًا، ومن يزرع للروح، فمن الروح يحصد حياة أبدية. فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكلّ، فإذًا حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولاسيما لأهل الإيمان" (غل 6: 7-10).

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه يليق بنا أن ننتهز كل فرصة لعمل الخير، فإن ضاعت الفرصة قد لا تعود مرة أخرى.

ويقول الأب ماريوس فيكتورينوس: [إنه لا يكفي أن نعمل الخير بل يلزمنا أن نسعى دومًا لعمل الخير، فإن كثيرين بدأوا بعمل الخير وتوقفوا، إما لأنهم تعبوا أو ضلوا عن الطريق. يلزمنا ألا نفشل في عمل الخير والاستمرار فيه. كما يقول أيضًا: [الوقت مقصِّر، والحياة تبلغ نهايتها سريعًا، نهاية العالم على الأبواب. لنا فرصة، أي مادمنا في الحياة أو لا تزال الحياة قائمة في هذا العالم.]

"من يتكل على غناه يسقط،

أما الصديقون فيزهون كالورق" [ع28]

يقول الرسول: "أوصي الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا، ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى، بل على الله الحيّ الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع، وأن يصنعوا صلاحًا، وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة" (1 تي 6: 17-18).

يحذرنا السيد المسيح من الإقتداء بالغني الغبي الذي قال: "أعمل هذا، أهدم مخازني، وأبني أعظم، وأجمع هناك كل غلاتي وخيراتي، وأقول لنفسي: يا نفسي لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكُلي واشربي وافرحي" (لو 12: 18-19).

* فكَّر في نفسهِ قائلاً: ماذا أعمل، لأن ليس لي موضع أجمع فيه أثماري. قال أعمل هذا. أهدم مخازني وأبني أعظم وأجمع هناك جميع غلاَّتي وخيراتي. ليس هناك موقف أكثر تفاهة من هذا. فالحقيقة أنه قد هدم مخازنه، إذ أن المخازن الآمنة التي يعتمد عليها هي بطون الفقراء، وليست حوائط المخازن...

حقًا أتى الموت، وأخمد كل هذه الرفاهية، واقتاده كأسير منكسر الرأس، يئن خزيًا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالأحد مارس 06, 2011 12:25 am

الاصحاح الثانى عشر


وصايا الحكمة عن السلوك المتناقض


مؤمن (ص 11)، يقدم لنا في هذا الأصحاح مقارنة بين سلوك الصديق وسلوك الشرير. تكاد كل عبارة أو آية أن تُعلن عن خبرة عملية عن السلوك المتناقض للصديق والشرير.

1. قبول التأديب ورفضه.

2. الإنسان الصالح ورجل المكايد.

3. المرأة الفاضلة والمرأة المخزية.

4. أفكار وتدابير الصديقين والأشرار.

5. المظاهر الكاذبة الفارغة.

6. مراحم الصديق وقسوة الأشرار.

7. العمل والكسل.

8. شهوة الشرير اصطياد الأبرار.

9. الكلمات الخبيثة واللسان العذب.

10. سامع المشورة حكيم.

11. قمع روح الغضب والستر على الآخرين.

12. لسان الحكماء ولسان الجهلاء.

13. هدوء مع معرفة وليس جهل مع ثرثرة.

14. المثابرة والتراخي.

15. القلق والفرح.

16. طريقا البرّ والشر.


1. قبول التأديب ورفضه

"من يحب التأديب يحب المعرفة،

ومن يبغض التوبيخ فهو بليد" [ع 1]

من يقبل الأدب (التأديب) إنما يرغب في الحق. أما من يكره التوبيخ فيكون أشبه بحيوان (بليد) لا يُقَّدر الإصلاح (أم 10: 17). إنه يفضل إرادته الجامحة، حتى وإن كانت ضد التعليم السليم. قبول التأديب مؤشر صادق للرغبة في التقدم والإصلاح، وبالتالي الرغبة في التمتع بالمعرفة الصادقة. يقول المرتل: "ليضربني الصديق برحمة، وليوبخني فزيتٌ للرأس" (مز 141: 5). ويقول الرسول بولس: "كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن، وأما أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر برّ للسلام" (عب 12: 11).

من يرفض التأديب يكون كالحيوان الذي يرفس من يقدم له أدوية للشفاء أو يعضه، لأنه لا يدرك ما وراء الألم، إنما يطلب الراحة الوقتية ولو على حساب صحته ومنفعته.

* إنَّني ملزم بوعظكم، وبالأخص استخدام التوبيخ معكم. لأن مثلما تُذيب النار الشمع، كذلك يلين الخوف من العقوبات قلوب الخطاة، ولا يفعل هذا فحسب، بل ويحرق خطاياكم بتوبتكم ورجوعكم إلى الفادي، ويغني عقولكم ويزيد دالَّتكم وجهادكم.

* إن هذا الأمر نصيحة لا حكم، دواء لا قصاص، تقويم لا تعذيب... علاج روحي لشفاء الخطاة وحفظهم من خطايا جديدة.

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

* التأديب (أو التوبيخ) هو دليل على الرعاية المُحبَّة، وهو يقود إلى الفهم.

ويظهر المعلِّم هذا التوبيخ حين يقول في الكتاب: "كم مرَّة أردتُ أن أجمع أولادك، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 23: 37).

ويقول الكتاب أيضًا: "زنوا وراء الأصنام والحجر، وقرَّبوا محرقاتهم للبعل". (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إنه لدليل عظيم على حبِّه، فمع أنه يعرف خزي الذين رفضوه وأنهم جروا بعيدًا عنه، مع ذلك يحثَّهم على التوبة... باهتمامه بالشعب وبَّخهم في إشعياء قائلاً: "هذا الشعب أكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمُبتعد عنِّي" (إش 29: 13). ويقول أيضًا: "باطلاً يعبدونني، وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس". (مت 15: 9) هنا رعايته المُحبَّة تظهر خطاياهم والخلاص جنبًا إلى جنب.

القدِّيس إكليمنضس السكندري


2. الإنسان الصالح ورجل المكايد

"الصالح ينال رضى من قبل الرب،

أما رجل المكايد فيُحكم عليه" [ع 2]

ينال الإنسان الصالح نعمة ونفعًا من قبل الرب، لأن كل صلاح فيه ليس من عنده، إنما هو عطية الرب له خلال النعمة المجانية. وإذ يخضع بالطاعة له ينمو صلاحه ويزداد. أما صلاح الله فمطلق من طبيعته، لا يتغير.

يرى البعض أن الترجمة الحرفية لكلمة "رضى" هي "الإرادة الصالحة"، فهي من عند الرب.

لا نصنع شيئًا صالحًا بأنفسنا وإنما بمشيئة الله ننال هذا الخلاص؛ ونحن مدعوّون (قديسين) ليس لأننا نستحق ذلك، وإنما لأن في ذلك مسرته.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إن وَجدتَ أشياء أخرى تُدعى في الكتاب المقدس صالحة مثل الملاك (طو 5: 21، 2 مك 11: 6)، أو إنسان (أم 12: 2، مز 37: 23، مت 12: 35)، أو خادم (سي 7: 21، لو 19: 17) أو كنز (طو 4: 9، لو 6: 45)، أو قلب صالح (يهوديت 8: 28، حك 1: 1، سي 26: 4، لو 8: 15)، أو شجرة صالحة (2 مل 3: 19، مت 7: 17-19)، هذه كلها دعيت هكذا باستخدام غير دقيق للكلمة، حيث أن الصلاح الذي فيهم عارض وليس جوهريًا.

* المسيح هو الصلاح الذي كان ينتظره الشعب.

العلامة أوريجينوس

* إن فعلت الصلاح تحيا في الله، ويحيا أيضًا الذين يفعلون الخير مثلك.

هرماس

"رجل المكايد" لا يعني صانع المكايد بالأعمال والكلمات فحسب، وإنما من حمل في قلبه أو فكره الرغبة في تدبير المكايد ضد أخيه، حتى وإن لم يحقق ذلك بسبب عجز إمكانياته.

وجْه الرب يشرق على الإنسان الصالح، فيصير الإنسان ثابتًا لا يتزعزع (رو 14: 4). أما الشرير فلا يثبت في الدينونة، ولا الخطاة في مجمع الأبرار (مز 1: 5). راجع حوشاي وأخيتوفل (2 صم 15: 32؛ 16: 15، 17: 23).

* يموت البار وهو في قوة بساطته، وفي كامل سيادته على إرادته، له نفس ممتلئة كما من مروجٍ. أما الخاطي وإن كان في رغد العيش، تفوح منه العطور الذكية يختم حياته في مرارة نفسه، ويجتاز يومه الأخير دون أن يأخذ شيئًا من الخيرات التي تنعم بها يومًا ما، لا يحمل شيئًا سوى أجرة شره.

* يجيب القديس أيوب: لا تظنوا أنكم سعداء وأنتم منغمسون في الملذات، لأن ضربات الله لم تحل عليكم في هذه الحياة. "سراج الأشرار ينطفئ". إنه يعطي ضوءً إلى زمنٍ، لكنه لا يحمل نورًا أبديًا. وبالرغم من أن العالم يحابي مثل هؤلاء الناس لأنهم يمارسون إرادة الله صاحب السلطان على العالم (يو 14: 30)، لكن عادة ما تحل لحظة التحول في الأحداث، حيث تأتي الأحزان من قبل غضب السماء وسخطها، حيث يُغربَلْ الأشرار "كالتبن قدام الريح". يُغربل الظالمون كالقشٍ، والأبرار كحنطةٍ. التفتوا إلى الرب القائل لبطرس: "هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" (لو 22: 31: 32).

القديس أمبروسيوس

"لا يثبت الإنسان بالشر،

أما أصل الصديقين فلا يتقلقل" [ع 3]

* الإنسان الذي يؤسس حياته على الشر يكون كمن يبني بيته على الرمل كقول السيد المسيح، فينزل المطر وتجيء الأنهار وتهب الرياح، وتصطدم ذلك البيت، فيسقط، ويكون سقوطه عظيمًا (مت 7:27). أما الحكيم البار فيؤسس حياته على السيد المسيح - الصخرة - فينزل المطر، وتجيء الأنهار، وتهب الرياح، وتسقط على ذلك البيت، فلن يتزعزع.

لا يمكن لفيض الأنهار كما في بلاد مصر وأشور أن تؤذيهم، إنما الذين يبنون على الرمل، أي يمارسون حكمة العالم يصيبهم الضرر. الرياح التي تهب هي مثل الأنبياء الكذبة. هذه كلها تحل معًا في موضع واحد، وتضرب البيت. فإن كان مؤسسًا على الصخرة لا يصيبهم أذى، إذ لا يوجد طريق للحية على الصخرة (أم 30: 19).

العلامة أوريجينوس

* الذين يسمعون كلمات الرب يشبهون رجلاً حكيمًا يبني على الصخر. الذين لا يتبعون كلمات الرب يشبهون إنسانًا غبيًا يبني بيته على الرمل.

* من يمارس الفضيلة يصير قادرًا بالمسيح الذي يقويه (في 4: 13). إننا نتقبل كل شيء من الله الذي يضع كل الأمور في نصابها. منه تأتي الحكمة والبصيرة والاتحاد مع كل ما هو صالح.

* لا يقدر الإنسان الشرير أن يتهم الله كعلةٍ لشروره ولغباوته. إنه يجعل من نفسه مثل غبي عندما ينسحب مما يصدر إليه حسب الطبيعة، فينحرف إلى ما هو على خلاف الطبيعة.

القديس كيرلس الكبير

* يتحدث يسوع عن الظروف البشرية والمصائب كالإشارة إلى المطر والطوفان والرياح، مثل الاتهامات الباطلة والسلب والموت وفقدان أعضاء الأسرة، والسب الصادر عن الغير، وكل الأمور البشعة في الحياة التي يمكن للإنسان أن يتكلم عنها. ويقول يسوع إن النفس التي تتبع طريق السمو لا تستسلم لهذه الكوارث المحتمل حدوثها. سرّ هذا أن النفس مؤسسة على الصخر.

يشير "الصخر" إلى الاعتماد على تعاليم ربنا يسوع، فإن وصاياه أقوى من أيَّة صخرة. إنهم يؤسسون في هدوء فوق كل الأمواج البشرية للحياة. من يحفظ هذه الوصايا بعناية يسمو، ليس فقط على الكائنات البشرية عندما يعلمونهم بخبثٍ، بل وفوق الشياطين أنفسهم بخططهم.

القديس يوحنا ذهبي الفم


3. المرأة الفاضلة والمرأة المخزية

"المرأة الفاضلة تاج لبعلها،

أما المخزية فكنخرٍ في عظامه" [ع 4]

من الخطورة أن نحد الفضيلة عند البتولية وحدها. فالمرأة الفاضلة تشرق منها سمات كثيرة كما جاء في أم 31. هذه بحق تاج رجلها. أما المرأة الجاهلة والكسلانة فتسبب له عارًا، وتحدره إلى الشيخوخة.

* يلزم أن يُحسب تاج المرأة زوجها، وتاج الزوج هو زواجه، فإن لكليهما زهرة اتحادهما وهو الطفل الذي بالحقيقة مروج الجسد. تاج الشيوخ أحفادهم، ومجد الأطفال آباءهم كما قيل (راجع أم 17: 6). مجدنا هو أب الجميع، وتاج كل الكنيسة هو المسيح.

القديس إكليمنضس السكندري

* عندما تذهب لتختار زوجة لا تتطلع إلى صاحبة لك في الحياة فحسب، وإنما صاحبة لك أيضًا في الفضيلة.

إنه لأمر محتم أن زوج المرأة الفاسدة يهلك معها في طريقها. لهذا تطلع إلى الفضيلة، لا إلى المال. فتصير الزوجة الفاضلة تاج المجد، لأنها قوية. أما الشريرة فكأن دودة تقطن في قلبها تسبب خرابًا تدريجيًا في صمتٍٍ.

أي شيء أكثر خطورة من هذا، إنها لا تظهر في الخارج، إنما هذا النوع من الزوجات يحقن السم في داخل النفس البائسة ويهلكها. وعلى العكس فإن الفضيلة تزيِّن من يتبعها، أما الشر فيحمل الشرير أكثر بغضته.

القديس يوحنا الذهبي الفم

شتان ما بين سارة التقية التي تشارك رجلها حياته الصالحة، وامرأة أيوب التي طلبت منه أن يلعن الله ويموت! يقول الرسول بطرس: "كما كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياه سيدها، التي صِرتنَّ أولادها، صانعات الخير، وغير خائفات خوفًا البتة".

* عندما يكونا (الرجل وزوجته) في توافق، وأبناؤهما في تربية صالحة، وأهل بيتهما في تدبير صالح، يَشتَم الجيران رائحة الاتفاق الحلوة، ومعهم الأصدقاء والأقرباء. أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك فكل شيء ينقلب ويصير في ارتباكٍ.

القديس يوحنا الذهبي الفم


4. أفكار وتدابير الصديقين والأشرار

"أفكار الصديقين عدل،

تدابير الأشرار غش" [ع 5]

أفكار الصديقين بسيطة وواضحة تهدف إلى ما هو لبنيان النفس والآخرين، فهي مستقيمة في عينيّ الله والناس. تترجم الأفكار الصالحة إلى كلمات صالحة وسلوك بار، ويكافئها الله محب البرّ والصلاح. أما الأشرار فتمتزج أفكارهم بالغش والخداع على حساب أقربائهم كما على حسابهم إذ يهلكون بسببها..

* تصدر الأفكار من ذواتنا إذ بطبيعتنا نتذكر ما نفعله أو فعلناه أو سمعناه. ويقول عن ذلك الطوباوي داود: "تفكرت في أيام القدم السنين الدهرية. اذكُر ترنميْ في الليل. مع قلبي أناجى وروحي تبحث" (مز 77: 5-6). مرة أخرى يقول: "الرب يعرف أفكار الإنسان أنها باطلة" (مز 94: 11)، "أفكار الصدّيقين عدل..." (أم 12: 5). وفي الإنجيل يقول الرب للفريسيين: "لماذا تفكرون بالشرّ في قلوبكم؟!" (مت 9: 4).

الأب موسى

* قدر ما تهمل في مراعاتك لذهنك (أفكارك) تصير المسافة بعيدة بينك وبين يسوع.

هيسخيوس الأورشليمي

Hesychius of Jerusalem

* بالملاحظة الطويلة وجدنا فارق بين الأفكار التي تأتى من الملائكة والأفكار التي تأتى من الناس والأفكار النابعة عن الشيطان، ذلك الفارق هو:

تعمل الأفكار التي من الملائكة على كشف طبيعة الأشياء ومفاهيمها الروحية. كأن تكشف عن:

لأي غرض ُوجد الذهب؟!

ولماذا هو مبعثر كالرمل في الأودية؟

ولماذا يحصلون عليه بمشقة كبيرة وجهاد؟

وكيف أنه عند اكتشافه لا يغسل بماء بل بنار، وبعد ذلك يوضع بين أيدي صناع يصيغون منه شمعدانات ومجامر لبيت اللّه (2 أخبار 19:4-21)، تلك الأواني التي بنعمة اللّه لم يكن ملك بابل قادرًا على استخدامها الشخصي له (دا 3:5)، لكن كليوباس يقدم قلبًا ملتهبًا بهذه الأسرار (لو 32:24).

أما الفكر النابع عن الشياطين فلا يعرف هذا ولا يفهمه، لكنه بدون حياء يعرض فقط تملك الذهب، موهمًا إيانا بالسرور والمجد اللذين نحصل عليهما باقتنائنا للذهب.

أما الفكر البشرى (المجرد) فإنه لا يطلب حيازة الذهب ولا يشغف نحو فهم المعاني (الروحية لوجوده واستخدامه للخير...)، إنما يقدم للذهن صور الذهب دون شهوات ولا مطامع.

وإذا طبق الإنسان بعقله هذا الأمر في الأمور الأخرى (غير الذهب) فسيجد نفس الشيء.

القديس أوغريس

"كلام الأشرار كُمون للدم،

أما فم المستقيمين فينجيهم" [ع 6]

يلقى الأشرار كلماتهم في خبثٍ، وكأنها شباك لاصطياد الآخرين وسفك دمائهم. لكن المستقيمين يقدمون كلماتهم لإنقاذهم من الشباك المنصوبة لهم من الأشرار.

لقد حاول الفريسيون اصطياد السيد المسيح بكلماتهم، وجاءت إجابته تفحمهم وتبطل حيلهم الشريرة. "حينئذ ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة" (مت 22: 15، مر 12: 13، لو 11: 54).

* احفظوا ألسنتكم من أن تقول على إخوتكم شرًّا، لأنّ الذي يقول على أخيه شرًّا يُغضِب الله الساكن فيه. إنّ ما يعمله كل واحدٍ برفيقه فهو بالله يعمله.

* نفس الإنسان غير الكامل في الفضائل تجدها نقية كالشمس قبل أن تلحقه كلمة رديئة، فإذا سمع كلمة رديئة أو نميمة فللوقت تطغى الشياطين على عقله ويحجبون عنه النور، ويصيِّرونه شقيًّا بسبب أنّ نفسه متزعزعة وفضائله ناقصة.

القديس مقاريوس الكبير

* قال شيخ: "إن اللسان مملوء نارًا وهو يدنّس الجسد كله، فالذي يحب حياته فليشفق على لسانه. احرس شفاهك يا رجل الله والجم لسانك وأنت تنتفع بجميع أتعابك، فالذي يحفظ لسانه له كرامات كثيرة، فطوبى للذي يسود على لسانه، فإن أهراءه (أي مخازنه) تمتلئ من الخيرات".

* قال شيخ: "إن كانت حركات لسانك غزيرة فقد انطفأت من قلبك الحركات الطاهرة، أما إن كان لسانك ساكتًا وقلبك يغلي بالحركات الطاهرة فطوباك لأن حركته بالروح ترفعك إلى هدوء الحياة. سكِّت لسانك ليتكلم قلبك، وسكِّت قلبك ليتكلم فيه الروح".

فردوس الآباء

"تنقلب الأشرار ولا يكونون،

أما بيت الصديقين فيثبت" [ع 7]

قد يزدهر الأشرار، ويبدون ناجحين أصحاء لهم أبناء يرثونهم ويخلدون ذكراهم، لكن إن آجلاً أو عاجلاً يكتسحهم الشر، ويُفقدهم كل شيءٍ، وتهلك نفوسهم. أما الصديقون وإن عانوا من تجارب وآلام غير أن بيتهم يثبت.

إذ حلت التجارب المُرة بأيوب وفقد أولاده وبناته دفعة واحدة، ظن أصدقاؤه أن هذا شهادة صادقة وأكيدة عن شره الخطير وريائه. لكن تمجَّد أيوب وتمتع برؤية الله، ونال ضعف ما فقده، بل ولازالت ذكراه حية إلى اليوم في السماء وعلى الأرض، وكأن بيته لا يزال ثابتًا، أما أصدقاؤه فلا يعلم العالم عنهم شيئًا.

القابلتان اللتان طلب منهما فرعون قتل ذكور العبرانيات أثناء ولادتهم سلكتا بروح مخافة الله، لذلك قيل عنهما: "فأحسن الله إلى القابلتين... وكان إذ خافت القابلتان الله أنه صنع لهما بيوتًا" (خر 1: 21). كما قال ناثان النبي لداود الملك: "الرب يخبرك أن الرب يصنع لك بيتًا" (2 صم 7: 11). هكذا إذ ننعم بمخافة الرب يبني الله بنفسه لنا بيتًا روحيًا من صنع يديه ليسكن بنفسه فيه.

* بدون خوف الله لا يمكن أن يُبنى بيت. إن كان بخوف الله بُنيت بيوت بواسطة الذين لم يرتكبوا خطية، بل أقاموا المباني حسب مسرة الله، فماذا نفعل نحن الذين أُسرنا (بالخطية)؟ أصغ أيها الخاطي، يلزمنا أن نخاف الله لنتجنب الخطية، ولكن بعد حدوث ضياع لنا وانكسار لسفينتنا، يوجد قارب نجاة آخر وهو التوبة.

القديس جيروم

يرى البابا غريغوريوس الكبير: أن الشرير إذ ينقلب أو يتغير لا يكون، ليس بمعنى أنه يفقد وجوده أو كيانه، إنما لا يعود بعد قائمًا في حالة الشر التي كان عليها.

ظن فرعون الشرير أنه قادر أن يبيد شعب الله، فأمر بطرح أطفالهم في النهر، ولم يدرك أن شره يرتد على أسرته بعد 80 عامًا ويحطم جيشه، بينما يصنع الله عجائب لشعبه.

* أمر فرعون بطرح الأطفال في النهر. لو لم يُطرح الأطفال لما أُحضر موسى في القصر. حينما كان الطفل موسى في الأمان لم يكن مكرمًا، وعندما طُرح في النهر صار مكرمًا. صنع الله ذلك ليُظهر غنى وسائله وطرقه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"بحسب فطنته يُحمد الإنسان،

أما الملتوي القلب فيكون للهوان" [ع 8]

ليس ما يُكرِم الإنسان مثل الحكمة السماوية، إذ تعكس عليه بهاءً سمائيًا داخلي، ويحمل في داخله روح الحق. كل البشر يفضلون الحكمة، والعالم يكرِّم التعقل والفهم الروحي، وإن كان الذي يتمسك بهذه الأمور يتعرض لإضطهادات ومقاومة.

أما الإنسان الملتوي الذي يظن في نفسه أنه حكيم وقادر على البلوغ إلى هدفه بطرق ملتوية، فلا يُسر به الله، بل وحتى البشر يكتشفون حقيقة شخصيته ويستخفون به، ويهزأون بأسلوبه الملتوي.

* مفجِعٌ ومميتٌ سمّ العدو هذا، فبه أعمى كثيرين وطرحهم على حين غِرّةٍ، لأنه يوحي للنفس بفكرٍ زائفٍ ومُهلِكٍ حتى تتصوّر أنها أدركت أمورًا غير مدرَكة عند معظم الناس، وأنها متفوِّقة في الصوم. كما أنه يوحي للنفس بأعمالٍ بطوليةٍ عديدةٍ، ويُضلّها بجعلها تنسى كل خطاياها لكي تشعر بتفوُّقها على مَنْ هم حولها. إنه يسرق من قلبها ذكر أخطائها، وهو لا يفعل ذلك لمنفعة النفس بل حتى لا يمكنها أن تنطق بهذا القول الشافي: "إليك وحدك أخطأتُ، ارحمني" (مز51: 4و1)، ولا يسمح لها أن تقول: "أحمد الرب بكل قلبي" (مز111: 1). بل كما قال الشيطان نفسه في قلبه: "أرفع كرسيي فوق كواكب الله" (إش14: 13)، وهكذا يخدع الإنسان بالاتجاه إلى السيطرة والمناصب العالية، وأيضًا بمناصب التعليم والتباهي بالشفاء. وهكذا تهلك النفس بالخداع إذ تُصاب بجرحٍ يصعُب شفاؤه.

الأم سنكليتيكي

* لا تقبل إليك المجد الباطل، فإنك لا تقدر أن تحتمل خداعه وجنون نفاقه إذ يجلب عليك الأفكار الغاشة.

* إذا أسلمت قلبك له في أحلام كاذبة، فهو يزداد رسوخًا في الفكر الباطل حتى يضلِّل كل الذين يقبلون الروح الذي يحب القول الذي كُتب عنه: "متى تكلَّم بالكذب فإنما يتكلَّم بما له لأنه كذَّاب وأبو الكذاب" (يو 14:Cool.

أنبا بولا الطموهي


5. المظاهر الكاذبة الفارغة

"الحقير وله عبد خير من المتمجد ويعوزه الخبز" [ع9]

يقول بأن الإنسان الذي يبدو حقيرًا، ليس له صيت أو شهرة، ولا مظاهر العظمة والأبهة، لكن لديه خادم أو عبد يقدم له خدمة متواضعة، أفضل ممن يمجد نفسه ويهتم بالعظمة الباطلة، وليس لديه ما يعيش به، حتى الضروريات. حينما أراد شاول أن يعطي ابنته زوجة لداود، لم يتشامخ داود، بل قال لعبيد الملك: "هل هو مُستخف في أعينكم مصاهرة الملك، وأنا رجل مسكين وفقير" (1 صم 18: 23).

جاءت الترجمة بلاتينية (الفولجاتا) "الرجل الفقير الذي يعول نفسه خير، من المتكبر وينقصه الخبز".

المثل بوجه عام يعني أنه خير للإنسان أن يبدو فقيرًا لكن أعماقه لا ينقصها شيء، من إنسانٍ ينشغل بالمظاهر الخارجية، والمجد الباطل ويعاني من الفراغ.

* في هذه الحبائل يسقط الضعفاء... إذ بينما هم غير مبالين بخلاصهم، وفيما هم محتاجون تعليم الآخرين وإرشادهم، ينخدعون بحيل الشيطان تحت ستار إرشاد وحث الآخرين على التوبة. هكذا إذا ما حصلوا على ربح من حديثهم مع الآخرين يفقدون صبرهم في الأمور اللازم اقتنائها. وهكذا يصير لهم ما قاله حجي النبي: "زرعتم كثيرًا ودخَّلتم قليلاً. تأكلون وليس إلى الشبع، تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفأُون. والآخذ أجرةً يأخذ أجرةً لكيسٍ مثقوب" (حج 1: 6). لأنه بالحقيقة الإنسان الذي يضع أجرته في كيس مثقوب يخسر كل ما بدا أنه قد ربحه من حديثه مع الآخرين، بسبب فقدانه لضبطه نفسه، ولارتباكه الذهني كل يوم. وتكون النتيجة أنه بينما يظن أنه يقدر أن يقتني ربحًا عظيمًا بتعليمه للغير، إذ به في الحقيقة يحرم نفسه من النمو، لأنه "يُوجَد مَن يتغانَى ولا شيءَ عندهُ، ومَن يتفاقر وعندهُ غنًى جزيل"، "الحقير وله عبد خير من المتمجّد ويعوزهُ الخبز" (أم 13: 7، 12: 9).

الأب إبراهيم

* إذا تسربلت بالمسكنة في هذا العالم مع التواضع، فسوف تكون مع ابن الله في ملكوته.

* طوبى للمسكين الفقير الذي يحفظ السكون. فهو يكون صديقًا لله مثل إبراهيم، لأن الرب لا يصنع أمرًا إلاَّ وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء (عا 9:3).

* ليكن تعبك بينك وبين الله، حتى يظهره الله في القيامة ويمجِّدك من أجله وسط جميع الأبرار والصديقين.

* لا تقبل إليك المجد الباطل، فإنك لا تقدر أن تحتمل خداعه وجنون نفاقه إذ يجلب عليك الأفكار الغاشة.

* أيها المسكين، اقتنِ الصبر وكن متواضعًا فتبلغ إلى هذه الكرامة. وليفكِّر قلبك في السمائيات وليس فيما على الأرض. وثق أن القديسين سيأتون عندك. وتمثَّل بتلاميذ يسوع المسيح، الذي له المجد والقوة إلى الأبد. آمين.

أنبا بولا الطموهي


6. مراحم الصديق وقسوة الأشرار

"الصديق يراعي نفس بهيمته،

أما مراحم الأشرار فقاسية" [ع 10]

لا يستطيع الإنسان البار إلا أن يكون مترفقًا حتى مع الحيوانات. أما الشرير فيصير مفترسًا عندما ينال سلطة على غيره. العنف والشر أخوان يعملان معًا.

* "الصديق يترفق على نفس حيواناته". إنه تدريب للحنو البشري، عندما يعتاد شخص ما أن يظهر الرحمة على زملائه البشريين خلال ممارسته لها على حيواناته. حتمًا من يحنو على الحيوانات يميل بالأكثر إلى الحنو على إخوته... هل الصديقون يحنون على نفوس حيواناتهم؟ مطلقًا! فإنه بالتأكيد يلزم أن ينقل إليهم منافع، فيمارس بالأكثر ذلك مع زملائه البشر. حسنًا أمر الله أن نهتم بالحيوانات المجروحة ونرد الضال منها، وألا نكم فاه ثورٍ (تث 22: 1-4). يطلب منا أن نحفظ سلامة الحيوانات تمامًا، أولاً لأجلنا نحن، ثانيًا لكي تقوم بخدمتنا. وفي نفس الوقت هذا فيه تدريب على الاهتمام بالغير وعمل ما هو نافع لهم. حقًا من يتحنن على الغرباء بالأكثر يتحنن على من يعرفهم. ومن يحنو على خَدمِه بالأكثر يحنو على إخوته، ربما تقول: يمدك الحيوان بخدمة مفيدة، أما أخوك ففي أي شيء ينفعك؟ أقول إنه معين لك، أكثر منه وذلك في نظر الله. إنك تستطيع أن ترى هذا عندما نعتني هكذا بحيواناتنا، فإننا لا نحسب هذا عملاً وضيعًا. فإننا إذ نفعل هذا لسنا نخدمهم وحدهم بل نخدم أنفسنا أيضًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* عندما يكتسب أي إنسان محبة الصلاح التي تكلمنا عنها، والتي بها نتشبه بالله، حينئذ يوهب له قلب الله الحنون، فيصلي من أجل المسيئين إليه، قائلاً على نفس المثال: "يا أبتاهُ اِغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34).

هناك علامة واضحة تكشف النفس التي لم تتطهر بعد كلية من رواسب الخطية، وهي عدم حزنها من أجل أخطاء الآخرين في حنو، إنما تحكم عليهم كديان في لوم عنيف.

لكن، كيف يقدر أن ينال كمال نقاوة القلب من لا يُنفذ الوصايا التي يظهرها الرسول "احملوا بعضكم أثقال بعضٍ، وهكذا تمِّموا ناموس المسيح" (غل 6: 2)، ومن ليس لديه فضيلة المحبة التي هي: "لا تُقبِح... ولا تحتدُّ... ولا تظنُّ السوءَ... وتحتمل كلَّ شيءٍ، وتصبر على كل شيءٍ" (1 كو 13: 4-7)؟! لأن "الصدّيق يراعي نفس بهيمتهِ، أما مراحم الأشرار فقاسية" (أم 12: 10).

هكذا يسقط الإنسان (الراهب) في نفس الأخطاء التي يدين فيها غيره بقسوة بغير ترفق، لأن "الرسول الشرير يقع في الشر" (أم 13: 17)، و"مَن يسدُّ أذنيهِ عن صراخ المسكين فهو أيضًا يصرخ ولا يُستجَاب" (أم 21: 13).

الأب شيريمون

يسألنا القديس أغسطينوس أن يكون لنا نزاع الحمام وليس قبلات الذئاب. فالحمام حتى في نزاعه لا تصيب الواحدة الأخرى، إنما تستخدم منقارها لتهاجم منقار الأخرى دون أذية، وبعد النزاع يطير الحمام معًا ويأكلون معًا في انسجام. أما الذئاب، حتى إن أردت أن تُقبِّل تهجم وتؤذي. هكذا المؤمن يحمل الحنو نحو الكل، والشرير يفيض عنفًا وقسوة.

* من يستخدم العنف أشر من الذي يسرق.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* قد أُوصيت أن تنقذ الحمار أو الثور الملقى في الوحل. هل ترى مسيحيًا مثلك خلُص بدم المسيح ملقيًا في بالوعة السكْر، ويتمرغ في وحل التبذير، وتقف صامتًا؟ هل تعبر ولا تمد يد الرحمة؟ هل تقف عند الصراخ والتوبيخ أم ترتعب من أجله؟

الأب قيصريوس اسقف آرل

* إن كانت الشريعة لن تسمح لك أن تفصل الحيوان غير العاقل الصغير من أمه قبل أن يرضع اللبن (لا 22: 27 الخ)، كم بالأكثر يجب إعداد البشرية ضد العنف.

القديس إكليمنضس السكندري


7. العمل والكسل

"من يشتغل بحقله يشبع خبزًا،

أما تابع البطالين فهو عديم الفهم" [ع 11]

كلمة الله حقل يحتاج إلى فلاحة مستمرة (2 تي 2: 15). كل لحظة نكرسها لكلمة الله لها ثمرها في حينه. أما من يضيع وقته في أمور غير لائقة فلا يتمتع بالمعرفة الحقيقية، لأنه لا يُفلح حقل الكتاب المقدس، وبالتالي يُحرَم من خبز الكلمة.

يليق بالمؤمن أن يحرث أرض الكتاب كل يوم لكي يشبع من الخبز السماوي.فإن من يسلك في طريق الكتاب يركض نحو السماء وينمو في كل عمل صالح.

يمثل تيموثاوس الإنسان النامي خلال الكلمة (2 تي 3: 14-17)، ويهوياقيم يمثل المقاوم للكلمة (إر 36: 22-32).

* بلغني أن إنسانًا كسلذان أخذ في حضنه الكتاب المقدس من الساعة السابعة (أي الواحدة بعد الظهر) حتى غروب الشمس ولم يقدر أن يفتحه البتّة وكأنه مربوط برصاص. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لكن أنبا أنطونيوس فعل كما أظهر له الملاك: فتارةً كان يجلس ولعمله ممارسًا، وتارةً أخرى ويقوم للصلاة ملازمًا، وتارةً يجلس ولكلام الله قارئًا. وقد حظيَ باستنارة لدرجة أنه قال لأحد فلاسفة زمانه: [يكفيني أن أتأمل في طبيعة المخلوقات دائمًا، وأتلو في أقوال الرب حتى ظلمة الليل.] إلى هذا الحدّ كان يتصل بالله، وكان ليله يضيء كالنهار كما قيل: "الظلمة أيضًا لا تظلم لديك والليل مثل النهار يضيء" (مز 139: 12).

القديس نيلوس السينائي


8. شهوات الشرير شريرة

" شهوات الشرير شريرة،

وأصل الصديقين يجدي" [ع 12 LXX]

شهوات الشرير ِشريرة، كأنه يفيض بما في قلبه حتى على شهواته الداخلية وسلوكه الظاهر. إنه كمن يلقي بالشباك في كل موضع لكي يقتنص الشرور، وهو لا يعلم أنه وهو يصطادها تصطاد نفسه في حبائلها.

أما الصديق، إذ هو أصيل في فكره ومبادئه يتحرك باتزانٍ لخير الجميع، يحتملهم بالحب ولا يدينهم.

كان رجلٌ شريفٌ له مدين، فظلّ يطالبه بالدين لمدة عشر سنوات ولم يُجبه، وكان الدائن يصبر عليه بطيب قلبه. وكان له صديق، فقال له: "إنني متعجّبٌ منك، كيف لم تحقد عليه، لأن لك زمانًا وأنت تطلب منه ولم يستجب؟"

فقال له: "أنت تعجب من أنني أطلت روحي عليه عشر سنوات، وهوذا الله يطلب مني أكثر من خمسين سنة أن أحفظ وصاياه، وحتى الآن لم أستجب له ولم أتمم مشيئته، وهو بطيب قلبه يصبر عليَّ. فإن كنتُ أنا الإنسان لم أستجب لله، وهو لا يغضب عليَّ، فلا عجب إن كان إنسانًا مثلي لا يستجيبني وأطيل روحي عليه".

اِشتكى أحد الإخوة إلى شيخ قائلاً: "ماذا أصنع يا أبي، فإنّ أخي يُحزنني لأنه دوّار؟" فقال الشيخ: "اِحتمله يا حبيبي، فإنّ الله يردّه إذا رأى صبرك ومعاملتك له بالرفق واللين، وأبعد عنك القسوة، فإنّ شيطانًا لا يطرد شيطانًا. وبرفقك وصبرك يرجع، لأنّ الله إنما يردّ الإنسان بطول روحه وطيبة قلبه واحتماله".

فردوس الآباء


9. الكلمات الخبيثة واللسان العذب

"في معصية الشفتين شرك الشرير،

أما الصديق فيخرج من الضيق" [ع 13]

يصدر الحكم على الأشرار في يوم الرب العظيم خلال كلماتهم الخبيثة التي نطقوا بها. ما حملوه في حياتهم من عصيان للوصية الإلهية، ومن شهوة للشر يدينهم، ولا يفلتون من الشباك التي نصبوها لأنفسهم وهم لا يدرون. أما الإنسان البار فيقف في يوم الرب العظيم متهللاً؛ يشعر أن ما احتمله من ضيقات وتجارب وآلام صارت سرّ مجدٍ أبديٍ له.

ولا ترافق ذا اللسان القاسي ولا متعظِّم القلب.

أنبا بولا الطموهي

قال شيخ: "إذا شتم الراهب أخاه بذكر شيء من الخطايا كأن يقول له: يا زاني أو يا سارق أو يا كذاب، فإن سكت المشتوم وغفر للشاتم، وقال في نفسه: بالحقيقة إنني خاطئ، فإن الخطية التي شُتم بذكرها وقال عنها إنه خاطئ تُغفَر له، وتصير على الشاتم لأنه بدلاً من الاعتراف بخطيته أظهر خطية أخيه، ولكون المشتوم احتمل إشهار خطيته يُحسَب له اعترافًا، ولكونه غفر لأخيه نال المغفرة".

فردوس الآباء

لا يُستعمل الوعاء الذهبي للأشياء الدنيئة لغِلوّ ثمنه، فكم بالحري الفم، فهو أثمن من الذهب والمرجان، فلا يجوز أن ندنِّسه بالكلام القبيح والشتم وطعن الآخرين.

السكوت هو نموٌ عظيمٌ للإنسان وراحة لنفسه. السكوت يعطي القلب عزلةً دائمة. السكوت يجلب الدموع للإنسان، السكوت يُبعِد الغضب، السكوت قرين النسك، السكوت يولِّد المعرفة، السكوت يحرس الحب، السكوت لا يوجع قلب إنسان ولا يشكِّك أحدًا، السكوت يعمل عمله بدون تذمُّر، السكوت يحفظ الشفتين واللسان ولا يُبقي في القلب شيئًا من الشرّ، السكوت هو كمال الفلسفة، فمَنْ يتمسّك بالسكوت يستطيع أن يتمسّك بجميع الحسنات. الذي يلازم السكوت بمعرفةٍ فقد خُتِم بخاتم المسيح، والذي يحفظه فإنه بلا شكٍّ يرث ملكوت السماوات.

القديس يوحنا الذهبي الفم

الإنسان يشبع خيرًا من ثمر فمه،

ومكافأة يديّ الإنسان تُرد له" [ع 14]

كثيرًا ما يركز الحكيم على اللسان، فالبار يشبع بالخيرات خلال لسانه العذب المقدس لحساب ملكوت الله، وما يمارسه يرتد إليه. هكذا باللسان كما بالعمل يزرع الإنسان ليحصد ثمرًا حسبما زرع. "فإن الذي يزرعه الإنسان، إياه يحصد أيضًا" (غل 6: 7).

إن الصمت من أجل الله جيد، كما أن الكلام من أجل الله جيد.

الأب بيمين


10. سامع المشورة حكيم

"طريق الجاهل مستقيم في عينيه،

أما سامع المشورة فهو حكيم" [ع 15]

الإنسان الغبي الذي تنقصه الحكمة الإلهية معتد بنفسه، لا يطلب مشورة الله، ولا يلجأ إلى أبٍ أو مرشدٍ. أما الحكيم ففي تواضعه يلجأ إلى الله، ويستشير، غير متشبث دون حوارٍ لائق.

من يعتمد على رأيه الذاتي، ولو كان قدِّيسًا، فهو مخدوع، وخطر خداعه أخطر من خطر المبتدئ الذي سلََّّم تدبيره بيد غيره.

فالأول يشبه ربَّان سفينة ألقى بنفسه في مركبٍ بلا شراعٍ ولا مجدافٍ في وسط البحر، متَّكلاً على حذاقته وفن تدبيره. والثاني أي المبتدئ يشبه من لا خبرة له في سفر البحر، فيطلب من نوتي ماهر أن يُركبه في سفينته العامرة بكل لوازمها واحتياجاتها.

فلا ينخدع أحدكم ويهرب من نير الطاعة اللين، عازمًا أن يتمسَّك برأيه في الأمور الروحيَّة، مثل الصوم والصلاة وغير ذلك من علامات الإيمان والنسك، ظانًا أنه بذلك يخلص!

القديس يوحنا الذهبي الفم

إن طريق الطاعة هو أقصر المسالك، وإن يكن أكثرها صعوبة. ولا يوجد إلاَّ طريق واحد متى سلكنا فيه ضللنا: وهو الذي ندعوه "الاتِّكال على الذات وعلى إرادتنا الشخصيَّة".

الطاعة احتجاج أمام الله. فإن سئلت منه: لماذا فعلت هذا؟ تجيبه: "أنت يا سيِّد أمرت بالطاعة، وأنا فعلت ما أمرت به"، فتجاوبه هكذا وتتبرَّر.

إن السفر بهذه السفينة فيه أمان من الغرق. فيسافر الإنسان وهو نائم، كما يسافر الإنسان في السفينة نائمًا ولا يلتزم بتدبيرها، لأن مدبرها حاضر. هكذا حال الإنسان السائر تحت الطاعة، يسافر نحو السماء والكمال وهو نائم من غير تعبٍ ولا تفكيرٍ فيما ينبغي أن يفعل. لأن الرؤساء هم مدبِّرو هذه السفينة والساهرون من أجله. حقًا، إنه ليس بالأمر الهيِّن بل هو عظيم جدًا. فالإنسان يجتاز بحر هذا العالم وهو على ساعد غيره وذراعه! هذه هي النعمة الكبرى التي يفعلها الله مع السالك تحت الطاعة.

القدِّيس يوحنا الدرجي

ابتدأ أبونا القديس يؤنس حياته الرهبانية بالطاعة الكاملة والتواضع لكي بهما يهدم أصول الخطية، وكان أنبا أموي يؤدِّبه بناموس الرب، وكان كل ما يعلِّمه إياه يتمِّمه ويحفظ المشورة وهو طائع جدًا، لذلك فقد كانت نعمة الله تؤازره.

كان القديس يؤنس يقول للإخوة: "اخضعوا بطاعةٍ كاملةٍ حسب سيرة آبائنا. اقبلوا المشورة بإيمانٍ وبالأخص بتواضع ونقاوةٍ وخوف الله والثبات في الله والانشغال به، هذه الأمور هي أسمى من كل الفضائل وتجعل النفس تضيء بالله باستقامتها". وقد ذكر الآباء عنه أنه كما أن الأرض لا يمكنها أن تسقط كذلك كان أنبا يؤنس القصير لا يمكنه أن يسقط بسبب عظم تواضعه، فقد أكمل طاعةً عظيمةً وهو تحت الخضوع لأبيه الروحاني إذ كان متّقدًا بنار الروح القدس.

فردوس الآباء


11. قمع روح الغضب والستر على الآخرين

"غضب الجاهل يعرف في يومه،

أما ساتر الهوان فهو ذكي" [ع 16]

يجدر بنا أن نقمع كل حركة من حركات الغضب ونلطفها تحت إرشاد التمييز (الحكمة)، حتى لا نتهور بالغيظ الأعمى، الأمر الذي قال عنه سليمان: "الجاهل يُظهر كل غيظهِ، والحكيم يسكنهُ أخيرًا" (أم 11:29). بمعنى أن الإنسان الجاهل يلتهب بانفعال الغضب لينتقم لنفسه، أما الحكيم فبسبب نضوج مشورته ولطفه يطفئ الغضب شيئًا فشيئًا ويتخلص منه.

يقول الرسول أمرًا مشابهًا: "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباءُ، بل اِعطوا مكانًا للغضب. لأنهُ مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الربُّ" (رو 12: 19). بمعنى لا تسمحوا لقلوبكم أن تُحبس في مضايق عدم الصبر والجُبن، حتى متى ثارت أية عاصفة عنيفة للغضب لا تقدر أن تحتملها، لكن لتكن قلوبكم متسعة تتقبل موجات كلمات الغضب في تيارات الحب المتسعة التي "تحتمل كلَّ شيءٍ... وتصبر على كل شيءٍ" (1 كو 13: 7). وهكذا تتسع أذهانكم بطول الأناة والصبر ويكون فيه أعماق المشورة الأمينة التي تستقبل دخان الغضب وتبيده.

يمكن أن تفهم العبارة بالمعنى التالي: إننا نضع مكانًا للغضب، وذلك بقدر ما نخضع بذهنٍ متواضعٍ هادئ لانفعال الآخرين، وننحني لعدم صبر الثائرين، كما لو كنا نستحق كل صنوف الخطأ (كتأديبٍ لنا).

أما الذين يشوِّهون معنى الكمال الذي يتحدث عنه الرسول مفسرين "وضع مكان الغضب" بأنه الابتعاد عن الإنسان في وقت غضبه، يبدو لي أنهم بهذا لا يقطعون أسباب الغضب، بل يهيجون بواعث النزاع. لأنه ما لم نصلح غضب القريب في الحال بإصلاحٍ مملوء تواضعًا فإن الابتعاد يثير القريب أكثر...

يتكلم سليمان عن أمرٍ كهذا قائلاً: "لا تسرع بروحك إلى الغضب، لأن الغضب يستقر في حضن الجهال" (جا 7: 9). و"لا تبرز عاجلاً إلى الخصام لئَلاَّ تفعل شيئًا في الآخر حين يخزيك قريبك" (أم 25: Cool. وهو بهذا لا يلوم التسرع في النزاع بمعنى أنه يمدح النزاع المتأخر.

بنفس الطريقة يجب أن نفهم القول: "غضب الجاهل يُعرَف في يومهِ. أما ساتر الهوان فهو ذكيّ" (أم 12: 16)، لأنه لا يعنى أن الحكيم يخزن انفجار الغضب خفية، إنما يلوم انفجار الغضب المتهور... يلزمه أن يخفي الانفجار بهذا السبب، وهو أنه عندما يتركه إلى حين يُهدئ روح الغضب إلى الأبد. لأن هذه هي طبيعة الغضب، عندما يترك له مكان (أي لا نتسرع به) يضعف ويبيد، أما إذا عُرض الغضب في حالة الثورة فإنه يحرق أكثر فأكثر.

يجب على القلوب أن تتسع وتنفتح حتى لا تنحصر في مضيقات الجُبن وتمتلئ بالغضب المتزايد، وتصير غير قادرة على تقبُّل وصايا الله، بما يدعوه النبي "اتساع القلب أو الاتساع الفائق". إذ يقول النبي: "في طريق وصاياك سعيت عندما وسَّعت قلبي" (مز 119: 32).

لأن بطء الغضب هو حكمة، نتعلمها بواسطة أقوال الكتاب المقدس الواضحة لأن "بطيء الغضب كثير الفهم، وقصير الروح معلّي الحمق" (أم 14: 29). لذلك يقول الكتاب المقدس عن من طلب من الرب عطية الحكمة: "وأعطى الله سليمان حكمةً وفهمًا كثيرًا جدًّا ورحبة قلب، كالرمل الذي على شاطئِ البحر" (1 مل 4: 29).

الأب يوسف

الجاهل في غباوة يفضح الآخرين كمن هو أفضل منهم، وأما الحكيم فيستر على الآخرين.

إذ سكر نوح وتعرَّى أخبر حام أخويه خارجًا (تك 9: 22). أما سام ويافث فأخذا رداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما (تك 23: 9).

جلب حام بن نوح على نفسه اللعنة، لأنه ضحك عندما رأى عورة أبيه. أما اللذين سترا عورة أبيهما فقد نالا البركة.

القديس أمبروسيوس

لا تقل إن فلانًا رديء بطبعه، وفلانًا جيد في طبعه. لأنه إن كان صالحًا بطبعه ألا يمكنه قط أن يصير رديئًا، وإن كان رديئًا بطبعه ألا يمكن قط أن يصير صالحًا؟ وأما الآن، فنحن نرى الانتقال يصير بسرعة من حالٍ إلى آخر... هذا لم نره فقط في الأسفار المقدسة، أعني أن العشارين صاروا رسلاً، والتلميذ صار مسلمًا لسيده، والزانيات صرن عفيفات، واللصوص صاروا من الفائزين، والمنجمين صاروا ساجدين لله، والكفار انتقلوا إلى حسن العبادة... هذا حدث في العهد القديم والعهد الجديد، بل وفي كل يوم يمكن لكل أحد أن يرى هذه الأمور حادثة... فلا يزمع أحد أن يبكت آخر قائلاً: أيها الشرير المستسلم لآلام الخطية.

إن كان يُحسب شرًا ألا يرى الإنسان خطاياه، فإن شرّه يكون مضاعفًا إذ يجلس على كرسي إدانة الآخرين بينما يحمل خشبة في عينيه.

القدّيس يوحنا الذهبي الفم


12. لسان الحكماء ولسان الجهلاء!

في الآيات التالية [ع 17-22] يتحدث الحكيم عن لسان الحكماء وما يقابله من لسان الأشرار الكاذب. ينطق الحكماء بالحق، ولا يعرفون الكذب، هذا هو موضع سرور الله نفسه بكونه الحق الذي لا يعرف الباطل. أما الأشرار فيستعذبون الكذب ويُسرون به، وهو مكرهة الرب الذي لا يطيق الباطل ولا الكذب ولا الخداع أو الخبث.

"من يتفوَّه بالحق يظهر العدل،

والشاهد الكاذب يظهر غشًا" [ع 17]

غالبًا ما يكشف اللسان عمَّا في القلب. فالناطق بالحق يشهد للبرّ أو العدل القائم في قلبه. أما من ينطق بالكذب فيكشف عمَّا في قلبه من التواء وغش.

"قال الأب بيشوي الشماس: قلتُ لأبوينا الروميين (مكسيموس ودوماديوس) مرةً: لو كنتما الآن في القسطنطينية فبالتأكيد كنا نجدكما ملكين الآن‘. فأدارا وجهيهما نحوي، وقالا لي بوداعةٍ: ’أين هي روحك أيها الأخ حتى قلتَ هذه الكلمة؟ لقد قلنا لك عدّة مرات يا أخ بيشوي إنه سواء كنتَ جالسًا معنا أو كنتَ في مسكنك يجب أن تتمسّك دائمًا باسم الخلاص الذي لربنا يسوع المسيح بلا انقطاع، لأنه بالحقيقة لو كان هذا الاسم الأقدس في قلبك لما قلتَ هذه الكلمة التي نطقتها الآن. لأننا لو أهملنا هذا الاسم الأقدس نموت بالتأكيد في خطايانا. فلنبغض الحرية (في الكلام) والمزاح والكلمات الباطلة التي تبدِّد كل ثمار الراهب. عندما كنا في سوريا كان الناس يحاولون إسعادنا دون أن يتركونا نفكر في خطايانا، ولكن الغربة والسكوت بفهم واحتمال الشدائد هذه هي خصائص جنسنا. فالشدّة تلد الصلاة في طهارة، والصلاة تلد مخافة الله والمحبة، وهذا ما يُنشئ الرجل، لأنه بالتأكيد لا جاه ولا غِنى ولا شجاعة مكرّمة عند الله، ولكن النفس القديسة التي تبحث عنه وعن ذبيحته وتضحيته، هذا هو خلاصنا".

فردوس الآباء

لا تسمح لروح الكذب أن يوجد فيك لئلاَّ يسلِّمك الرب للهلاك.

القديس أنبا بولا الطموهي

"يوجد من يهذر مثل طعن السيف،

أما لسان الحكماء فشفاء" [ع 18]

من يبث كلمات جارحة أو لطيفة - تحت مظهر المزاح والمرح - إنما يبث سمومًا، ويكون كمن يطعن الآخرين بالسيف، كما يطعن نفسه. أما الكلمات الجادة التي لها مسحة الروح الهادئ فتشفي الجراحات وتسند الآخرين، وأيضًا تبني نفسه.

الدالّة والمزاح والضحك تشبه نارًا تشتعل في قصبٍ وتُهلِك.

أنبا أغاثون

لأننا لا نتحفظ من الزلاّت الصغار نقع في الكبار. فمثلاً ضحْك إنسانٍ في غير وقت الضحك يجرّ غيره إلى الضحك، ثم يقول: ما هو الضرر من الضحك؟ وحينئذٍ تبدأ مخافة الله تنقلع منه، ثم يتولد من الضحك المزاح، ومن المزاح الأقوال القبيحة، وهذه تنتج عنها الأفعال المذمومة. فالعدو المخادع يسهِّل علينا الزلاّت الصغار، ومنها يسحبنا إلى الخطايا الكبار، ومن هنا يقودنا إلى اليأس. فبهذا التدرُّج يستدرجنا إلى الأمور بطريقةٍ مستورة. فيجب علينا أن نطرد هواجسه من بدايتها وألاّ نتهاون بالصغائر لأنّ العدو يكمن فيها ليجرّنا إلى الكبائر. لأنه لو كان يحاربنا بطريقةٍ ظاهرةٍ لكان قتاله سهلاً علينا وقهره متيسِّرًا لنا، لكنه ينصب لنا كمائنًا وفخاخًا لا نقدر أن نتخلّص منها سريعًا.

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

"شفة الصدق تثبت إلى الأبد،

ولسان الكذب إنما هو إلى طرفة العين" [ع 19]

من ينطق بالحق يثبت في الله الحق، وتصير كلماته خالدة تصحبه حتى الأبدية كسرّ مجد له. أما اللسان الكاذب فيلتصق بإبليس الكاذب وأب الكاذبين، وفي لحظة أو في طرفة عين ينكشف كذبه وخداعه، فتتدمَّر خططه كما تتدمَّر حياته.

"الغش في قلب الذين يفكرون في الشر،

أما المشيرون بالسلام فلهم فرح" [ع 20]

ما ينطق به الإنسان يرتد إليه، ويتفاعل مع أعماقه أكثر من أثره على الغير، فمن ينطق بالشر يحصد في قلبه وفكره غشًا وشرًا، ومن يقدم مشورة سلام يتمتع في أعماقه بالفرح الداخلي.

لا يصيب الصدِّيق شر،

أما الأشرار فيمتلئون سوءًا" [ع 21]

يبذل الأشرار كل الجهد لمضايقة الصدِّيق وإصابته بأضرار، لكن شرورهم ترجع إليهم، ولا تصيب الصدِّيق بأذى. ويبذل الصدِّيق كل الجهد ليقدم خيرًا للآخرين، وأول من ينتفع بهذه الخيرات الصدِّيق نفسه.

"كراهة الرب شفتا كذب،

أما العاملون بالصدق فرضاه" [ع 22]

كل كلمة ننطق بها سواء لصالح الآخرين وخيرهم أو لضررهم يحسبها الله موجَّهة إليه شخصيًا، فيُسر بالناطقين بالحق، ولا يطيق الكذب والغش.


13. هدوء مع معرفة وليس جهل مع ثرثرة

"الرجل الذكي يستر المعرفة،

وقلب الجاهل ينادي بالحمق" [ع23]

الإنسان الحكيم وإن نطق بكلمات قليلة إنما تخفي وراءها معرفة صادقة مُكرَّمة، أما الجاهل فينادي بأعلى صوته وفي ثرثرة يكشف عما في قلبه من جهالة وحماقة. إنه يفضح نفسه بكثرة كلماته.


14. المثابرة والتراخي

"يد المجتهدين تسود،

أما الرخوة فتكون تحت الجزية" [ع 24]

كثيرون أصحاب مواهب وقدرات، لكن إذ هم متراخون ومتكاسلون لا ينتفعون شيئًا بمواهبهم، بل تصير دينونة عليهم، وبكسلهم يصيرون في مذلةٍ كمن هم تحت الجزية. فإن حياتنا على الأرض هي وقت للعمل الجاد.

ولعلّ أهم الخطايا التي تبدو هيّنة لكنها محطِّمة، هي التهاون أو الكسل، وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [إذ يعرف بولس أن الكسل هو باب الهلاك يقول: "ويل لي إن كنت لا أبشر" (1 كو 9: 16).]

لِنَصْحُ ولنسهر حتى لا يكون نصيبنا مع تلك التي رآها هرماس إذ نظر النفس الخاملة كعجوزٍ خائرةٍ مسترخيةٍ على كرسي عاجزة عن الحركة، فلما سأل عن السبب قيل له [لأن روحكم الآن عجوز قد فقدت قوتها بسبب ضعفاتكم وشكوكم. لقد صارت كالشيوخ الذين فقدوا الأمل في تجديد قوتهم، ولم يعودوا بعد يتوقعون سوى أنهم يغطون في نومهم الأخير، وهكذا ضعفتم بسبب الانشغالات العالمية، وأسلمتم نفوسكم للخمول، ولم تلقوا همكم على الله (١ بط ٥: ٧).

"أتريد أن تبرأ؟" (يو 5: 6)... سأل السيِّد (مريض بيت حسدا)، لا لكي يعرف (إن كان يريد الشفاء)، فإنه لم يكن محتاجًا إلى ذلك، وإنما أراد إبراز مثابرة الرجل، وأنه بسبب هذا ترك الآخرين وجاء إليه...

مثابرة المفلوج مذهلة، له ثمانٍ وثلاثون سنة، وهو يرجو في كل عام أن يُشفي من مرضه. لقد استمر راقدًا ولم ينسحب من البركة...

لنخجل أيها الأحباء، لنخجل ونتنهد على شدة تراخينا.

ثمانٍ وثلاثون سنة وهو ينتظر دون أن ينال ما يترجاه، ومع هذا لم ينسحب. لم يفشل بسبب إهمال من جانبه، وإنما خلال ضغط الآخرين وعنفهم ومتاعبهم. هذا كله لم يجعله متبلدًا. بينما نحن أن ثابرنا في الصلاة لمدة عشرة أيام من أجل أمرٍ ما ولم ننله تثبط غيرتنا.

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم


15. القلق والفرح

"الغم في قلب الرجل يحنيه،

والكلمة الطيبة تفرحه" [ع 25]

يقول القديس أنطونيوس إنه كما يحتاج الجسم إلى طعامه ليقوته وينعشه، تحتاج النفس إلى الفرح. أما الكآبة والقلق والاضطراب فيحني النفس ويحطمها.

يليق بالمؤمن أن يفرح ويُفرح قلوب الآخرين بالكلمة الطيبة، وكما يقول الرسول بولس: "شجِّعوا صغار النفوس" (1 تس 5: 14). ويقول أيوب: "ما أشد الكلام المستقيم" (أي 6: 25).


16. طريقا البرّ والشر

"الصدِّيق يهدي صاحبه،

أما طريق الأشرار فتضلهم" [ع 26]

من كان مخلصًا ونقي القلب يسند نفسه كما يبني أخاه، أما الشرير فيهدم حياته ويضل عن الطريق الحقيقي.

"الرخاوة لا تمسك صيدًا،

أما ثروة الإنسان الكريمة فهي الاجتهاد" [ع 27]

من يسلك طريق البرّ يعيش أمينًا ومجتهدًا، وأما من يسلك طريق الشر فيعيش متراخيًا. الأول يحمل كنزًا في قلبه، إذ يكون أمينًا في القليل، مجتهدًا وجادًا في حياته، فينطلق من نجاحٍ إلى نجاحٍ. أما الثاني فمتكاسل، ومهما بلغت إمكانياته وقدراته إنما يصطاد الهواء.

كانت راعوث تلتقط السنابل الساقطة طول النهار حتى المساء (را 2: 17)، فصارت سيرتها مسجلة في الكتاب المقدس، وتأهلت أن تلد عوبيد أب يسَّى والد داود النبي الذي جاء من نسله السيد المسيح متجسدًا!

العبد الكسلان الذي دفن وزنته في التراب تأهَل للعقاب الأبدي (مت 25: 14-30).

"في سبيل البرّ حياة،

وفي طريق مسلكه لا موت" [ع 28]

طريق البرّ أو الحب يشرق يومًا فيومًا حتى يحل يوم الرب، فيتأهل السالكون فيه للحياة الأبدية. يتحول موتهم الجسدي إلى عبور للأبدية. يترنمون قائلين: "لأن الله هذا هو إلهنا إلى الدهر والأبد. هو يهدينا حتى إلى الموت" (مز 48: 14).

حقًا طوبى للمؤمن الذي يعبر خلال سبيل البرً وسط هذا العالم الشرير، فينطلق بالحب للحميع إلى مدينة الله، أورشليم العليا.

لكي لا نكون بين القتلة أو بين الأحياء الأموات، لنج
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالأحد مارس 06, 2011 12:43 am

الاصحاح الثالث عشر


سعادة الحكيم وشبعه


يفتح سليمان الحكيم أمامنا باب الرجاء والتمتع بالسعادة الحقيقية والفرح والثراء والشبع الداخلي، الأمور التي لا يستطيع العالم أن ينزعها من أعماقنا إن سلكنا بروح الحكمة الحقيقية، أي برَّ المسيح. وفي نفس الوقت يحذرنا من الهلاك الذي يعده الخطاة لأنفسهم، إذ يختارون بكامل حرية إرادتهم الخطية التي تفصل الإنسان عن الله مصدر الحكمة والحياة والفرح والشبع، كما يرفضون التأديب الأبوي.

هذا ويوضح الحكيم التزام الإنسان بالتعلم بروح التواضع سواء من والديه أو المشيرين الحكماء. بروح التواضع يشتهي أن يسلك الطريق الذي سبق فسلكه الآخرون في الرب.

1. الابن الحكيم .

2. عفة اللسان

3. غنى البرّ .

4. فرح البرّ .

5. روح الحكمة والاتفاق .

6. الحكمة والجهاد .

7. الوصية والمعرفة -.

8. الحكمة والسلام .

9. طريق الحكمة -.

10. الشبع الداخلي .


1. الابن الحكيم

"الابن الحكيم يقبل تأديب أبيه،

والمستهزئ لا يسمع انتهارًا" [ع 1]

يليق بالوالدين أن يُمثلا أبوة الله وأمومة الكنيسة المقدسة، يعلنان له منذ ولادته عن الحب الحقيقي الحكيم، فينشأ الطفل في جوٍ سماويٍ مفرحٍ، وينحني بروح الطاعة، ليغرف من الحكمة التي يعيشها الوالدان في الرب. هكذا يقبل الابن بروح الحكمة تصرفات الوالدين المملوءة حبًا حتى في حزمها و تأديبها له.

الابن الحكيم بروح الشعور بالحاجة والامتنان يطلب الحكمة والعون، أما الابن الذي لا يسمع لوالديه، في استهزاء واستهتار، فيفقد بركات الحكمة. يسلك في تشامخ مستهينًا بالغير، رافضًا التأديب والتوبيخ. بروح الاعتداد بذاته يستخف بكلمات الحكماء.

* يا أولادي، كل مَنْ يسمع التأديب ولا يقبله ولا يعمل به، فهو خاسر نفسه، ويُصبح معذَّب النفس دائمًا، لا يهدأ له سرٌّ أبدًا، ويصير غضوبًا حزينًا كئيبًا مهمومًا مغمومًا كثير الأفكار، تُطالبه نفسه بعمل الشر وبالكلام الرديء، لأنّ الأدب هو مثل طريق الملك التي عليها الحرّاس يحرسونها نهارًا وليلاً، فكل مَنْ يسلكها بالنهار أو بالليل يكون آمنًا على نفسه! أمّا الجهالة وقلة السمع والإعجاب بالنفس فهي طريقٌ وعرة غير مسلوكة، وكل مَنْ مشى فيها ضلّ وتعب وربما هلك، لأنّ موطن اللصوص هناك! وكل مَنْ مشى في الطريق المسلوكة واتفق أن عثر في أمرٍ أو عارضٍ كان عُذره مبسوطًا وعلاجه حاضرًا، أمّا مَنْ ترك عنه طريق الملك واختار أن يسير في الطريق الوعرة، فلا عُذر له ولا علاج.

القديس مقاريوس الكبير


2. عفة اللسان

يقول السيد المسيح: "الإنسان الصالح من الكنز الصالح يُخرج الصالحات، والإنسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور. ولكن أقول لكم إن كل كلمة بطَّالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابًا يوم الدين. لأنك بكلامك تتبرر، وبكلامك تدان" (مت 12: 35-37).

"من ثمرة فمه يأكل الإنسان خيرًا،

ومرام الغادرين ظلم" [ع 2]

يشتهي الإنسان الحكيم الخير للكل، فتصدر كلماته من بين شفتيه مملوءة عذوبة وحنوًا، يأكل منها فتفرح نفسه. أما الإنسان الشرير، فيصدر عن قلبه الغدر والخداع، تُعبر عنها كلماته، يأكل منها فتجوع نفسه بالأكثر إلى العنف والظلم.

بمعنى آخر فيما يقدم الإنسان كلماته للغير إذا بها تصير مأكلاً له. فإن قدم كلماته ممسوحة بالنعمة، تمتع بالنعمة في داخله، وإن قدم كلمات شريرة، ترتد إليه.

* يا ابني... ليكن قلبك متواضعًا، وفمك ينطق دائمًا بالحق.

* لا تغتبْ أحدًا من الناس لئلاّ يُبغِض الله صلاتك. إياك واللعب والاستهزاء، فإنه يطرد خوف الله من القلب.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

* علِّم فمك أن يقول ما في قلبك.

القديس أنبا بيمين

"من يحفظ فمه يحفظ نفسه،

ومن يشحر شفتيه فله هلاك" [ع 3]

من يحفظ فمه، إنما يحفظ حياته. الإنسان الناضج روحيًا يضبط لسانه لبنيانه، والإنسان الغبي يدمر نفسه بكلماته.

يرى البعض في شحر الشفتين أو فتحهما بطريقة مبالغ فيها يقصد بها أن يتكلم الإنسان بطريقة ملتوية، حيث تحمل الكلمات معْنَيين، المعنى الظاهر يخفي معنى خفيًا يدمر النفس.

ويرى البعض أن فتح الشفتين باتساع يعني عدم الالتزام بوضع حدود معينة للكلمات التي ينطق بها، وإنما يتكلم في كل شيء، وفي أي وقت وبلا حدود، بدون تفكير متزنٍ قبل أن يتكلم.

لقد وهب الله الإنسان عينيْن لكي يرى ويفحص ويدقق، وأيضًا أذنين لكي يسمع وينصت في طول أناة، ولكنه وهبه لسانًا واحدًا حتى يتحفظ ويختصر في كلماته، خاصة وأن اللسان محاط بحواجز هي الشفتان والأسنان.

* وليكن كلامك بحلاوة بلا خسارة، لأن المجد والهوان هما من قِبَل الكلام. أَحْبِب الرحمة وتذرَّع بالإيمان.

* يا بُنيَّ، لا تجعل قلبك رديئًا حتى يفكر في الشر، بل اجعله صالحًا، واطلب الصلاح واقتنِ غيرة في جميع الأعمال الحسنة. لا ترفع صوتك، وإذا مضيتَ إلى أحدٍ فليكن خوف الله في قلبك، واحفظ فمك لترجع إلى موضعك بسلامة. لا تُكثِر الكلام عند من هو أكبر منك.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

"نفس الكسلان تشتهي ولا شيء لها،

ونفس المجتهدين تَسمَنُ" [ع 4]

في الأمور الروحية كما في الأمور الجسدية، "إن كل أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا" (2 تس 3: 10). من يطلب باجتهاد الحق في كلمة الله يفرح بالكلمة كمن وجد غنيمة. وكما يقول المرتل: "اَبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنيمة وافرة" (مز 119: 162).

يليق بنا أن نعمل باجتهاد: "اجعلوا قلبكم على طرقكم" (حج 1: 6).

"أرأيت رجلاً مجتهدًا في عمله، أمام الملوك يقف، لا يقف أمام الرِّعاع (أم 22: 29).

"اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق" (لو 13: 24).

"لذلك بالأكثر اجتهدوا أيها الإخوة أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين، لأنكم إن فعلتم ذلك لن تزلوا أبدًا" (2 بط 1: 10).

"اجتهدوا لتوجدوا عنده بلا دنس ولا عيب في سلام" (2 بط 3: 14).

"أكتب إليكم واعظًا أن تجتهدوا لأجل الإيمان المُسلم مرَّة للقديسين" (يه 1: 3).

* يا ابني... فكِّر في أعمال الله ولا تكسل، لأن صلاة الكسلان كلام باطل. اجتهد أن تبتعد من الناس عادمي الرأي. إذا صنعتَ أعمالاً فاضلة، فلا تفتخر وتقول إني صنعتُها. لأنك إن ظننتَ أنك صنعتَها فلستَ بحكيمٍ. عار عليك أن تأمر غيرك بأوامر لم تصنعها في ذاتك، لأنك لا تنتفع بعمل غيرك. الرجل الحكيم يعرف طريق سلوكه، فلا يبادر بالكلام، بل يتأمل ما يقول وما يصنع.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

* هكذا أراكما ساقطين تحت هذا الضعف من الكسل الذي يصفه سفر الأمثال: "نفس الكسلان تشتهي ولا شيءَ لها"، وأيضًا "شهوة الكسلان تقتلهُ" (أم 13: 4؛ 21: 25). لأنه لا يليق بنا أن نستريح من جهة احتياجاتنا الزمنية مادامت هذه الاحتياجات ضرورية ومتناسبة مع دعوتنا. فإذا ظننا أننا نستطيع أن نقتني لنا ربحًا عظيمًا من تلك المباهج التي تنبع عن المشاعر الجسدية، فلا ننزع عنا سلوان أقاربنا، أما يصدنا قول مخلصنا الذي يستبعدنا عن كل ما ينسب إلى حاجات الجسد، قائلاً: "إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباهُ وأمهُ وامرأتهُ وأولادهُ وإخوتهُ وأخواتهِ... فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا" (لو 14: 26)؟

الأب إبراهيم

* يشير سليمان، أحكم الرجال، إلى هذه الرذيلة في كثير من كتاباته إذ يقول: "تابع البطالين يشبع فقرًا" (أم 28: 19)، إما عيانًا أو خفية، حيث لا مناص من أن يتورط المتراخي. ومن تلاحقه النقائص، فلا يفطن قط للتأملات الإلهية أو الكنوز الروحية، التي يشير إليها الرسول المبارك بقوله: "إنكم في كل شيء استغنيتم فيه في كل كلمة وكل علم" (1 كو 1: 5).

أما فيما يتعلق بهذا الفقر الذي يلحق المتكاسل أي الضجر، أيضًا يكتب: "الكسلان يكتسي بالخِرق" (أم 23: 21)، فمن المؤكد لا يستحق أن يتزيَّن بتلك الحُلة التي لن يعتريها البلاء أو الفساد، والتي يقول الرسول عنها: "البسوا الرب يسوع المسيح" (رو 13: 14) وأيضًا: "لابسين درع الإيمان والمحبة" (1 تس 5: Cool، والتي تكلم الرب ذاته عنها إلى أورشليم بلسان النبي قائلاً: "استيقظي، استيقظي، اِلبسي عِزِّك يا صهيون" (إش 51: 1).

أي شخص يستبد به نوم التراخي أو الضجر يفضل أن يكتسي لا بعمله وكده، بل بخرق التكاسل، مقتبسًا عبارات من الكتاب المقدس الراسخ (ويسيء استخدامها)، دون أن يكسو تكاسله بحُلة مجد وفخار، بل برداء العار وتلمس الأعذار. أولئك هم الذين يؤثرون هذا الكسل ولا يودُّون إعالة أنفسهم بكد أيديهم، كما كان الرسول يفعل دائمًا ويكلفنا أن نفعل، قائلين إنه مكتوب: "اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية" (يو 6: 27)، وأيضًا: "طعامي أن أعمل مشيئة أبي" (يو 4: 34). ولكن هذه الأدلة هي خِرق منتزعة من حُلة الإنجيل المكين الراسخ، اُقتبست لهذا الغرض، أعني تغطية فضيحة تكاسلنا وعارنا، بدلاً من أن توفر لنا الدفء، وأن نتزين بحلة الفضيلة الفخمة الكثيرة الثمن، إذ قيل إن المرأة التي ورد ذكرها في سفر الأمثال والتي كانت ملتحفة بالعز والبهاء، كانت تصنع ثيابًا إما لنفسها أو لزوجها، حتى يُقال عنها في كل حين: "العز والبهاء لباسها، وتضحك على الزمن الآتي" (أم 31: 25).

يعود سليمان مرة أخرى إلى ذكر آفة التكاسل، فيقول: "طرق الكسلان مفروشة بالأشواك" (أم 15: 29)، أي مفروشة بهذه وغيرها من النقائص المماثلة التي سبق أن ذكر الرسول أنها تنبعث من البطالة. كذلك يقول: "نفس الكسلان تشتهي ولا شيء لها" (أم 13: 4)، ويشير الرسول إلى هذا الاشتهاء حين يقول: "ولا تكون لكم حاجة إلى أحد" (1 تس 4: 12). أخيرًا عدَّد الرسول تلك الآفات التي ذكر سليمان الحكيم أنها غرس البطالة والملل، في الفقرة الآنفة الذكر، بقوله: "لا يشتغلون شيئًا بل هم فضوليون" (1 تس 4: 11). ويضيف إلى هذه الآفة آفة أخرى إذ يقول: "وأن تحرصوا على أن تكونوا هادئين"، ثم "أن تمارسوا أموركم الخاصة، وتشتغلوا بأيديكم وتسلكوا بلياقة عند الذين هم من خارج، ولا تكون لكم حاجة إلى أحد" (1 تس 4: 11).

أما أولئك الذين يسلكون بلا ترتيب ولا يطيعون الوصايا، فالرسول يوصي أبناء الطاعة الجادين أن يعتزلوهم، فيقول: "تجنبوا كل أخٍ يسلك بلا ترتيب، وليس حسب التعليم الذي أخذه منا" (2 تس 3: 6).

القديس يوحنا كاسيان

"الصدِّيق يبغض كلام كذب،

والشرير يخزي ويخجل" [ع 5]

القلب الملتزم بالحق يصير مصدرًا للبرّ العملي في المسيح يسوع. يصير عرشًا للقدوس، ويبغض الرجاسات الباطلة والكذب. يجد سعادته في الشركة مع الله وتمجيد اسمه القدوس في وسط هذا العالم الشرير المقاوم للحق. أما الإنسان الشرير فيفسد أعماقه بخطيته، ليحمل في داخله رائحة الموت والنتانة. يصير عاريًا في هذا العالم، ويُطرح في الظلمة الخارجية في يوم الرب العظيم.

إنسان الله ليس فقط يتجنب الكذب، وإنما يبغضه ولا يطيقه.

إيّاك والكذب، فهو يطرد خوف الله من الإنسان.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

* لنرفض شرف العالم وكراماته لنتخلّص من المجد الباطل، ولنستعمل اللسان في ذكر الله والحق لنتخلّص من الكذب.

القديس أنبا موسى الأسود


3. غنى البرّ

"البرّ يحفظ الكامل طريقه،

والشر يقلب الخاطئ" [ع 6]

من يرغب في جدية أن يسلك ببرّ المسيح في استقامة، فإن البرّ يحفظه من الأخطاء الخطيرة، يحفظه كاملاً في عينيّ الله، لينال شركة المجد الأبدي. أما المصمم على الشر، فإن هلاكه يأتيه من داخله، من الشر واهب الفساد.

"يوجد من يتغانى ولا شيء عنده،

ومن يتفاقر وعنده غنى جزيل" [ع 7]

يتظاهر البعض بالغنى وهم في داخلهم فقراء. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). هذه هي خطية المجد الباطل وحب العظمة مع الرياء. بينما يوجد أغنياء في أعماقهم يفيضون بالخيرات، وفي تواضعٍ يحسبون أنهم فقراء يحتاجون إلى نعمة الله المستمرة وصلوات الآخرين. يقول الرسول بولس الغني: "كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 10: 6) بينما يوبخ الرب ملاك كنيسة اللاودكيين، قائلاً: "لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمي وعريان" (رؤ 3: 16-17).

هذا هو عمل طبيعة الإنسان القديم التي ورثناها عن أبينا آدم، مع فقرنا الداخلي نتظاهر كمن هم أغنياء!

* مرض الغني هو الكبرياء الخطير.

الروح الكبيرة بالحقيقة في وسط الغنى لا تنبطح وتسقط في هذا المرض.

الروح أعظم من غناها، وتسمو فوقه، لا باشتهائها له، بل باستخفافها به.

عظيم بالحق ذاك الغني الذي لا يظن أنه عظيم بسبب غناه. أما إذا حسب نفسه عظيمًا، يكون بهذا متكبرًا ومُعدمًا!... إنه شحاذ في قلبه (الفارغ). إنه منتفخ وغير ممتلئ.

إن شاهدت زقي خمر، زق مملوء، والآخر منفوخ، فإن لهما ذات الحجم وذات الاتساع، لكن ليس فيهما ذات المحتوى. اُنظر إليهما، فلا تقدر أن تميز بينهما، أوْزِنهما فستجد الفارق بينهما. الزق المملوء يصعب تحريكه، والمنفوخ يمكن تحريكه بسهولة...

لست أخبركم أن تبددوا ثروتكم بل أن تنقلوها، إذ يوجد كثيرون رفضوا أن يفعلوا هذا، وللأسف الشديد لم يطيعوا، فقدوا ليس فقط غناهم، وإنما بسببه فقدوا أيضًا نفوسهم...

ليتواضع (الغني). ليُسر أنه مسيحي أكثر من كونه غنيًا. ليته لا ينتفخ أو يتعالى أو يتجبر. ليهتم بأخيه الفقير، ولا يرفض أن يدعو الفقير أخاه. فوق هذا كله، مهما كان غناه فالمسيح أكثر غنى، وقد أراد أن يكون كل الذين سفك دمه من أجلهم إخوته.

القديس أغسطينوس

"فدية نفس رجل غناه،

أما الفقير فلا يسمع انتهارا" [ع 8]

يفسر البعض هذه العبارة بأن الغنى كثيرًا ما يسبب فقدان السعادة، فيتعرض بعض الأغنياء للخطف، أو خطف أبنائهم بِغية الطمع في نوال نصيب من أموالهم كفِدية لهم، أما الفقير فليس من يفكر في خطفه!

هنا يتحدث عن الغني الذي يضع كل قلبه في أمواله، فيصير أسيرًا لممتلكاته، تملكه ولا يملكها، فيعيش في قلقٍ واضطرابٍ. كما يتحدث عن الفقير التقي الذي في تسليم كامل لا يهتم بالغد، أي لا تضطرب نفسه ولا تقلق. غير أننا لا ننكر أن بعض الأغنياء الذين وضعوا ثقتهم في الله كإبراهيم أب الآباء الذي كان غنيًا جدًَا جدًا كشهادة الكتاب المقدس، عاش في حياة مطوّبة سعيدة بالله. كما يوجد فقراء وهم لا يملكون شيئًا يعيشون في قلقٍ، لأنهم لم يضعوا قلوبهم في يد الله.

يقول العلامة أوريجينوس إن الذين يسيئون استخدام غناهم يخطئون. ويشاركهم في ذات العقوبة كثير من الفقراء الذين مع معاناتهم من الفقر يسلكون بطريقة خسيسة ودنيئة. بل وحتى الذين هم في حالة وسطى، بين الأغنياء والفقراء، فإن هذه الحال لا يعني أنها تحفظهم من السقوط في الخطية.

غنى الشخص يلزم أن يعمل لخلاص نفسه، لا لهلاكها. الغنى هو فداء من يستخدمه حسنًا. يكون الغنى شركًا لمن لا يعرف كيف يستخدمه. فما هو مال الإنسان ما لم يسنده في رحلته؟ الكم الكبير منه هو ثقل، والقليل منه نافع. إننا عابرو سبيل في هذه الحياة، كثيرون يسيرون معًا، لكن يحتاج الشخص أن يسلك طريقًا صالحًا. الرب يسوع مع من يسلك الطريق الصالح.

* الغني ليس ملومًا في ذاته، لأن "فدية نفس رجل، غناه"، فإذ يعطي الفقراء يخلِّص نفسه. إذ يوجد موضع للفضيلة حتى في الغنى المادي. إنكم تشبهون مديري دفة وسط بحرٍ متسعٍ. إن أدار الإنسان الدفة حسنًا يعبر سريعًا من البحر، ويبلغ إلى الميناء. أما الذي لا يعرف كيف يدير ممتلكاته، فيغرق مع حمولته. فإن ثروة الأغنياء مدينة قوية جدًا.

القديس أمبروسيوس

* في هذا المعني "أوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا، ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع، وأن يصنعوا صلاحُا، وأن يكونوا أغنياء في أعمال ٍ صالحة، وأن يكونوا أسخياء في العطاء، وكرماء في التوزيع" (1 تي 6: 17-18). وكما يقول سليمان: "الغنى" الصالح حقيقة هو "فدية حياة رجل" ، أما الفقر المضاد لهذا الغنى فهو مُدمر، إذ به "لا يقدر الفقير أن يسمع انتهارًا".

العلامة أوريجينوس

"فدية نفس رجلٍ، غناه". ماذا تقول؟ ماذا تقصد بتمجيدك مثل هذا الغنى؟ أول كل شيء لا يتحدث (سليمان) عن أي غنى، وإنما عن الغنى الذي يتحقق خلال أعمالٍ شريفة. لهذا فالفقر ليس شرًا. يقول: بالحري ليس من أحدٍ يقدر أن يهدد فقيرًا، حقًا كيف يمكن لأحدٍ أن يرهب من لا يملك شيئًا؟ لهذا فإن مثل هذه الحياة تتجنب الأحزان.

لعل (سليمان) يدعو "غناه" هنا "برُّه" الذي ينتزعه من الموت. فمن هو فقير في الفضيلة ليس لديه سلام العقل حينما يعاني من التهديدات وإعلان العقوبة.

* يقول بولس: "غير أن نذكر الفقراء، وهذا عينه كنت اعتنيت أن أفعله" (غل 2: 10). نجد الكثير بخصوص هذا الأمر في كل موضع في الكتاب المقدس. قيل: "فدية نفس رجل، غناه"... ويقول (المسيح): "إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعطِ الفقراء... وتعال اتبعني" (مت 19: 21). هذا هو جزء من الكمال.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* يؤكد الكتاب المقدس أن الغنى الحقيقي فدية الإنسان، بمعنى إن كان غنيًا يخلص بتوزيعه للغنى. فكما أنه بسحب المياه من الآبار يرجع تدفقها إلى مستوى القياس الأول، هكذا العطاء هو ينبوع حب نافع، بتقديم مياهه للعطاش يزداد ويمتلئ ثانية، وذلك كما اعتاد اللبن أن يفيض من الثدي عندما يُرضع منها أو تُحلب.

القديس إكليمنضس السكندري

* يتوق الرب إلى نفوس المؤمنين أكثر من غناهم. نقرأ في الأمثال: "فدية نفس رجل، غناه". بالحق يمكننا أن نطلع على غنى الإنسان بكونه الغنى الذي لا يصدر عن شخص آخر أو عن السلب، وذلك حسب الوصية: "أكرم الرب من أتعابك البارة" (راجع أم 3: 9). يصير المعنى أفضل إن فهمنا غنى الشخص أنه الكنوز المخفية التي لا يقدر لص أن يسرقها ولا سارق أن يغتصبها منه (راجع مت 6: 20).

القديس جيروم

* الغنى (الممتلكات) الصالح هو ما يمتلكه مقتني الفضائل... صانع البرّ الذي يمدحه النبي داود، قائلاً: "نسلهُ يكون قويًّا في الأرض. جيل المستقيمين يُبارََك. رغد وغنًى في بيتهِ وبرّهُ قائِم إلى الأبد" (مز 112: 2-3). وأيضًا "فدية نفس رجلٍ، غناهُ" (أم 13: Cool. ويتحدث سفر الرؤيا إلى المفتقر والمُعدم من هذا الغنى قائلاً: "أنا مزمع أن أتقيَّأَك من فمي. لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيءٍ، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان. أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مصفَّى بالنار لكي تستغني. وثيابًا بيضًا لكي تلبس فلا يظهر خزي عريتك" (رؤ 3: 16-18).

الأنبا بفنوتيوس

* افترض أنك شخص وضيع المولد وغير مرموق، فقير، من طبقة وضيعة، بلا بيت ولا مدينة، مريض، محتاج إلى القوت اليومي، ترهب أصحاب السلطة، ترتعد أمام كل أحدٍ بسبب ظروفك، يقول الكتاب المقدس: "أما الفقير فلا يسمع انتهارًا" (أم 13: Cool. نعم، لا تيأس ولا تفقد كل رجاءٍ صالحٍ، لأن حالك الحاضر لا تُحسد عليه مطلقًا. بالحري حوِّل أفكارك إلى البركات التي نلتها بالفعل من الله، والبركات المحفوظة لك بالوعد الخاص بالمستقبل.

القديس باسيليوس الكبير


4. فرح البرّ

"نور الصدِّيقين يُفرح،

وسراج الأشرار ينطفئ" [ع 9]

ما هو نور الصدِّيقين إلا روح الله القدوس واهب الاستنارة، فإنه يشرق على الأبرار، ويهبهم ثمره، أي الفرح، كما يفرح الروح بهم. يقول السيد المسيح: "أنا هو نور العالم"، فإذ يشرق على المؤمنين به يفرح بهم كعروسٍ منيرةٍ تحمل انعكاس بهائه، ويصيرون هم أنفسهم نور العالم.

أما سراج الأشرار، فهو نور معرفتهم الذاتية الذي وإن أنار إلى لحظات ينطفئ سريعًا.

يرى البعض أن النور والسراج هنا هما نسل الإنسان، فالأبرار إذ يهتمون بخلاص بنيهم يمتلئ البنون فرحًا، بل ويصير الأبناء مصدر فرح لوالديهم كما للمحيطين بهم. أما نسل الأشرار فيبدو ناجحًا، لكن سرعان ما ينطفئ نورهم.

قيل عن الملك أبيام: "لأجل داود أعطاه الرب إلهه سراجًا في أورشليم، إذ أقام ابنه بعده وثبَّت أورشليم" (1 مل 15: 4). كما قيل: "وأعطي ابنه سبطًا واحدًا ليكون سراج لداود عبدي كل الأيام أمامي في أورشليم المدينة التي اخترتها لنفسي لأضع اسمي فيها" (1 مل 11: 36).

في مَثل العشر العذارى (مت 25: 1-13)، كانت مصابيح العذارى الحكيمات متقدة، وتبقى متقدة أبديًا خلال زيت نعمة الله الفائقة والعاملة بالحب فيهم، أما العذارى الجاهلات فلم يستطعن إشعال مصابيحهن لأنهن لا يحملن زيتًا.

* الأبناء الخاضعون والمخلصون لله في طاعتهم لشريعته يجدون مصدر فيض للسعادة حتى في هذه الحياة الزمنية. الرجل الفقير مع أخلاقيات مسيحية يوحي للآخرين بتقديم الوقار له والحب. بينما من كان له قلب شرير منحرف، لن يُنقذه كل غناه من غضب كل أحد حوله وبغضه له.

القديس يوحنا الذهبي الفم


5. روح الحكمة والاتفاق

"الخصام إنما يصير بالكبرياء،

ومع المتشاورين حكمة" [ع 10]

تقوم الخصومات التي بين الأفراد أو العائلات أو الدول بسبب الكبرياء. لهذا قدم لنا السيد المسيح الخلاص بنزوله إلينا في تواضعٍ عجيبٍ، وقبوله عار الصليب ليصالحنا مع الآب، كما مع السمائيين، ومع بعضنا البعض.

إذ حدثت مخاصمة بين رعاة مواشي أبرام ورعاة مواشي لوط، استطاع أبرام بروح الحوار المملوءة تواضعًا أن يبطل الخصومة، إذ قال لابن أخيه: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك، وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أخوان. أليست كل الأرض أمامك؟ اعتزل عني. إن ذهبت شمالاً فأنا يمينًا، وإن يمينًَا فأنا شمالاً" (تك 13: 8-9).

* رجل الخصام الذي لا يهدأ من النزاع هو الذي لا يكتفي بالشقاق الأول فيثور غاضبًا من جديد. أما الذي هو ليس برجل خصام، فحينما يشتعل غضبه يرجع إلى نفسه في الحال، ويلوم نفسه، ويطلب المغفرة من أخيه الذي غضب منه، فيهدأ فيه الخصام لأنه أدان نفسه واصطلح مع أخيه، ولن يجد الصراع له فيه موضعًا كما قلت.

أمَّا الإنسان الغضوب الذي لا يهدأ الشقاق بداخله، والذي إذا غضب لا يدين نفسه بل يثور غضبه بالأكثر دون أن يندم على غضبه قط، بل ولا يكتفي بما قاله في غضبه فيزيد عليه؛ هذا يُدعى رجل خصام ولا يهدأ الغضب في داخله، لأن الحقد والمرارة والخبث تتبع الغضب. ليت الرب يسوع المسيح يخلِّصنا من مصير هؤلاء الناس، ويهبنا نصيب الودعاء والمتواضعين!

الأنبا زوسيما


6. الحكمة والجهاد

"غنى البُطل يقِل،

والجامع بيده يزداد" [ع 11]

يرى البعض أن الحكيم يتحدث عن الأغنياء الذين كوَّنوا ثروات طائلة لكنهم لم يبثوا في حياة أولادهم روح العمل والجهاد، فيتكلون على ما يرثونه أو على الربح الصادر من ميراثهم. يفقد الأبناء طعم الحياة خلال الرخاوة والاستهتار، كما قد يفقدون ميراثهم نفسه. أما الذي يدرب أبناءه على العمل والجهاد فإنه يورِّثهم حياة جادة ناجحة ونامية.

* إن علمناهم من البداية حب الحكمة الحقيقية، ستكون لهم ثروة أعظم وأفضل مما يجلبه الغنى. إن تعلم طفل التجارة أو نال تعليمًا عاليًا في مهنة مربحة للغاية، فإن هذا كله يُحسب كلا شيء إن قورن بفن التخلي عن الغنى. إن أردت أن تجعل طفلك غنيًا علمه هذا. يكون بالحقيقة غنيًا ذاك الذي لا يشتهي الممتلكات العظيمة، ولا يحيط نفسه بالثروة، بل لا يطلب شيئًا!

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى البعض أن الحديث هنا خاص بالحياة في الدهر الآتي، حيث يقف الأغنياء الذين تعلقت قلوبهم بالغنى الباطل في خزي، أما المثابرون بروح التقوى فيتمتعون بأمجادٍ فائقة. الإنسان التقي – في نظر القديس أغسطينوس - يميز بين استخدام الشيء والتمتع به. فيستخدم ما يلزم استخدامه، ويتمتع بما يلزم التمتع به، دون الخلط بينهما.

* أن نتمتع بأي شيء يعني أن نلتصق به بقوة لأجل الشيء في ذاته. وأما أن نستخدم شيئًا فهو أن نوظف ما نناله، لنحصل على ما نحتاج إليه، بشرط أن يكون من اللائق بنا أن نحتاجه.

* لا تظن أن الفضة أو الذهب يجب أن يُلاما بسبب الجشعين، ولا الطعام والخمر بسبب النهمين والسكارى، ولا الجمال النسائي بسبب الزناة والفاسقين. وهكذا في كل الأمور الأخرى، خاصة حينما ترى طبيبًا يستخدم نارًا بطريقة صالحة بينما قاتل يستخدم خبزًا به سم لتنفيذ جريمته.

* إذ فقد أيوب كل غناه وبلغ إلى أقصى الفقر، احتفظ بنفسه غير مضطربة، مُركزًا على الله ليظهر أن الأمور الأرضية ليست بذات قيمة في عينيه، بل كان هو أعظم منها، والله أعظم منه. فلو أن رجال أيامنا هذه لهم ذات الفكر، لما كنا مُنعنا بإصرارٍ في العهد الجديد من امتلاك هذه الأشياء لكي ما نبلغ الكمال. لأن امتلاكنا مثل هذه الأشياء دون التعلق بها لشيء جدير بالثناء أكثر من عدم امتلاكها نهائيًا.

القديس أغسطينوس

"الرجاء المماطل يمرض القلب،

والشهوة المتممة شجرة حياة" [ع 12]

هنا يتحدث عن الرجاء الميت، رجاء الإنسان المتهاون الذي يضع رجاءه في أن يبدأ العمل سواء الروحي أو الخاص بوظيفته أو تجارته أو العائلي الخ. في الغد، ولا يقوم بالتحرك. فإن الذي لا يعمل وفي تراخٍ يتوقع أنه يبدأ غدًا، ويؤجل من يومٍ إلى يومٍ، ينحط قلبه ويمرض، ويفقد كل حيوية. أما من يتمم شهوة قلبه ويبدأ بالعمل، فيصير كمن في جنة عدن حيث يجد شجرة الحياة!

أما الرجاء الحيّ فهو الرجاء العامل، حيث يقول مع الابن الضال: "أقوم وأذهب إلى أبي... فقام وجاء إلى أبيه" (لو 15: 18، 20).


7. الوصية والمعرفة

"من ازدرى بالكلمة يخرِّب نفسه،

ومن خشيَ الوصية يُكافأ" [ع 13]

تُقدم لنا الوصية الإلهية لا لتَحد حريتنا، وتكبت إرادتنا، وإنما لكي تشكلنا بروح الله القدوس أيقونة حية للسيد المسيح، نحمل إرادته القوية، وننعم بحياته عاملة فينا. من يستخف بالوصية يعزل نفسه عن الله، فيتحطم. أما من يخاف وصية أبيه الصادرة عن حب الله الأبوي، والتي نتقبلها بروح البنوة، فسننال مكافأة الاتحاد معه، ونُحسب أهل بيت الله، لنا حق الدخول في مدينة الله العليا، ولا نكون متغربين عن الله!

* المُخادع وغير النقي القلب والذي لا يقتني شيئًا نقيًا كما يقول الأمثال: ليس شيء صالحًا بالنسبة للمخادع (راجع أم 13:13) بالتأكيد يُحسب غير أهٍل أن يأكل الفصح، بكونه غريبًا مختلف الجنس عن القديسين، وقد قيل: "كل ابنٍ غريبٍ لا يأكل منه" (خر 12: 43). هكذا عندما ظن يهوذا أنه يحفظ الفصح إذ دبر مؤامرة بخداع ضد المخلِّص، صار متغربًا عن المدينة العليا، وعن الصحبة الرسولية. فقد أمرت الشريعة أن يؤكل الفصح بحرصٍ لائقٍ. أما هو إذ كان يأكله غربله الشيطان ودخل نفسه.

البابا أثناسيوس الرسولي

"شريعة الحكيم ينبوع حياة للحيدان عن أشراك الموت" [ع 14]

ما يقدمه الحكيم هو الوصية الإلهية، الينبوع الحيّ الذي يروي النفس، فلا تموت من العطش أثناء رحلتها وسط برية هذا العالم. المؤمن الحقيقي يرى في وصية الرب رفيقًا له في غربته، أشبه بصديقٍ حميمٍ يسنده في مواجهة الحياة. إنها مصدر تعزية له وسط الآلام، ومصدر لذة روحية، تحول وادي الدموع إلي حياة فردوسية مفرحة، لهذا لا يمارس الوصية عن إكراهٍ بل بلذة.

تقودنا الوصية إلى مجاري المياه الحية، فتحفظنا من الموت. الوصية ليست حرمانًا بل هي تمتع بفيض العطايا الإلهية التي تسندنا أثناء تغربنا حتى نبلغ إلى الأبدية. لهذا يقول المرتل: "غريب أنا على الأرض فلا تخفِ عني وصاياك" (مز 119: 19). عمل الوصية الإلهية الأساسي هو تهيئة الإنسان للمواطنة السماوية؛ بها يدرك حقيقة موقفه كغريبٍ ونزيلٍ فينضم إلى رجال الإيمان (عب 11: 13-16). وفي نفس الوقت شعوره بالغربة يدفعه إلى الالتصاق بالوصية كي تسنده كل زمان غربته وترفعه إلى الحياة السماوية.

* يحتاج الغرباء على الأرض إلى وصايا الله لكي تحميهم من أعمال الجسد ومحبة العالم.

من يتبع هذه الوصايا تعتاد نفسه عليها، ولا يقدر العالم أن يغلبه.

لكن توجد وصايا كثيرة مكتوبة برموز مثل: "والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من أمتعته شيئًا" (مت 24: 17؛ مر 13: 15؛ لو 17: 31)؛ "دع الموتى يدفنون موتاهم" (مت 8: 22)... كل هذه ليست واضحة في المعنى، كذلك الوصايا الخاصة بالذبائح والأعياد والحيوانات الطاهرة والنجسة... لهذا يليق بالغريب على الأرض أن يطلب من الله أن يضيء له وصاياه ولا يخفيها عنه، لكي يتممها ويحبها ويصير بلا لوم.

يوسابيوس القيصري

* تتمنى نفسي حفظ أحكامك، وأن تصنعها بشهوة لا بضجرٍ ومللٍ، وإنما بإرادة وموالاة دائمًا.

أنثيموس أسقف أورشليم

"الفطنة الجيدة تمنح نعمة،

أما طريق الغادرين فأوعر" [ع 15]

الفهم الصالح والحكمة الحقيقية تعطي نعمة لصاحبها كما تفيد الآخرين، أما طريق الغدر فوعر بالنسبة للغادرين أنفسهم كما للغير. الغدر أو الخطية تصيِّر الإنسان عبدًا، أما طريقها فمملوء باللعنات والأشواك، ويؤدي إلى جهنم الأبدية.

الأتقياء الذين يرتبطون بكلمة الله، ليدركوا إرادة الله ويتمموها. إنهم يصلون بغيرة طالبين النمو في الحكمة الإلهية والتمتع بالفهم كعطية إلهية، كما يثابرون على طلب نعمة الله لكي تسندهم على ممارسة الوصية لعلهم يبلغون حياة الكمال. هؤلاء يختبرون الحياة المطوَّبة بالرغم من مقاومة الأشرار لهم، وتتحول كلمة الله بالنسبة لهم إلى تسبحة مفرحة تحمل عذوبة خاصة.

* أعطني الحكمة حتى أستطيع أن أختبر شريعتك عمليًا بانتباه لائق بها، وهكذا يمكنني أن أستلم من هذه الشريعة الممارسة العملية.

أعطني الفهم الذي يخص العمل والتأمل، بهذا أستطيع أن "أحفظها بكل قلبي"، واقترب إليها دون ترددٍ.

إن كان يلزم الحكمة لفهم الشريعة، فأية حكمة يلزم أن يهبها الرب للمرتل حتى يكتشف فيها غايتها وهدفها؟

العلامة أوريجينوس

"كل ذكي يعمل بالمعرفة،

والجاهل ينشر حمقًا" [ع 16]

الحكيم لا ينطق بكلمة دون معرفة، فإن جهل شيئًا ما التزم الصمت، واعترف بعدم معرفته. أما الجاهل، ففي حماقة يتكلم حتى بما لا يعرفه.


8. الحكمة والسلام

"الرسول الشرير يقع في الشر،

والسفير الأمين شفاء" [ع17].

الرسول الشرير الذي لا يقدم شخص ربنا يسوع المسيح في صدقٍ يضلل الآخرين، فيؤذيهم ويؤذي نفسه أو يهلكها. أما من يشهد للسيد المسيح بأمانة، فيقدم كلمات السيد واهبة الشفاء.


9. طريق الحكمة

"فقر وهوان لمن يرفض التأديب،

ومن يلاحظ التوبيخ يكرم" [ع 18].

من يرفض التعليم بوسيلة أو أخرى يفقد كل شيء حتى نفسه، فيصيبه الفقر الداخلي والعار. فيسمح الصوت الإلهي: "أنا مزمع أن أتقيأك، لأنك تقول إني أنا غني" (رؤ 3: 16-17). أما الذي ينحني في تواضعٍ ليتعلم ولو بالتأديب أو التوبيخ، فيتمتع بمعرفة صادقة وكرامة.

"الشهوة الحاصلة تلذ النفس،

أما كراهة الجهال فهي الحيدان عن الشر" [ع 19]

من يشتاق إلى الحياة السعيدة الحكيمة، ويعلن اشتياقه بالتحرك العملي "الشهوة الحاصلة أو العاملة"، تتمتع نفسه بنوعٍ من العذوبة الفائقة. أما الذي يصر على الشر، فيحمل رجاسة (كراهة) الجهال.

لعله يقصد بالشهوة العاملة هنا قبول المؤمن التأديب برضا من أجل التمتع بالحكمة والمعرفة والحق، ويقصد برجاسة الجهال رفض الجهال التأديب، فيفشلون ويحل بهم العار والخزي.

"المساير الحكماء يصير حكيمًا،

ورفيق الجهال يضر" [ع 20].

الحكمة ليست أقوالاً تُتلى، ولا نظريات نتمسك بها، لكنها حياة تُعاش في كل تصرفاتنا. فالدخول في صداقات مع الحكماء بقصد التعلم والتدرب على الحياة الحكيمة يسند المؤمن. كذلك الدخول في صداقات وطيدة مع الأغبياء الأشرار له فاعليته في حياة الإنسان مهما كان حذرًا.

يُقال: "أرني أصدقائك والكتب التي تقرأها والأماكن التي تذهب إليها، وأنا أعرف شخصيتك!" كما يوجد مَثل شائع في كثير من اللغات: "الطيور على أشكالها تقع".

* قال أحد الآباء: "إذا عاش راهبٌ عمّال في مكان لا يوجد فيه رهبان عمّالين آخرين فلا يمكنه أن ينمو، إنه يستطيع فقط أن يصارع لكي لا يتأخر (أي تسوء حالته الروحية). ولكن إذا سكن راهبٌ متهاون مع رهبان عمَّالين فهو ينمو إن كان متيقِّظًا، وإلآّ فإنه لا يتأخر (أي يرجع إلى الوراء)".

* قال آخر: "إذا مشيت مع رفيق صالح من قلايتك إلى الكنيسة فهو يجعلك تتقدم ستة أشهر، وإذا مشيت مع رفيق رديء من قلايتك إلى الكنيسة فهو يؤخرك سنة".

بستان الرهبان

* لا تكن صديقًا لمحب الضحك والذي يؤثر أن يهتك الناس، لأنه يقودك إلى اعتياد الاسترخاء. لا تُظهِر بشاشةً في وجه المنحلّ في سيرته وتحفّظ من أن تبغضه. عبِّس وجهك لدى مَنْ يبتدئ أن يقع في أخيه قدامك... ينبوع عذب هو محادثة الفضلاء. مشير حكيم كسورٍ من الرجاء. صديق جاهل هو ذخيرة خسارة. أن تشاهد النادبات في منزل البكاء أفضل من أن ترى حكيمًا تابعًا لأحمق.

القديس مار اسحق السرياني

* إن كانت لك صداقة مع أحد الإخوة ويلومك فكرك على أن مخالطتك له تضرك فاقطع نفسك منه. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). وأنا أقول ذلك، أيها الحبيب، لا لكي تبغض الناس بل لكي تقطع أسباب الرذيلة.

القديس مار أفرام السرياني

* في الحقيقة أنه بنعمة الرب لا يمكن لأيّة عقبةٍ أن تُطيح بهدفكم السماوي: لا شهوة للغِنى، ولا تذكُّركم لأهلُكم، ولا ميراث من أقربائكم، ولا الألفة مع إخوتكم، ولا محبة أسركم، ولا المسرات أو التنعُّمات الجسدانية، ولا ولائم، ولا علاقات الصداقة، ولا مجد هذا الدهر؛ ولكنكم قد ازدريتم بكل ذلك، وأعمالكم نفسها تقتفي إثر كلام الرسول القائل: "من أجله خسرتُ كل الأشياء، وأنا أحسبها نفايةً لكي أربح المسيح" (في 3: Cool.

أنبا سيرابيون

* لا ترتبط بصداقةٍ مع أي إنسانٍ إلاّ مع إخوتك الفقراء، لا تُسرع نحو أي إنسان لكي يعمل لك خيرًا، بل أسرع إلى الله وحده واهتم بخدمته، إنه هو الذي يضمّك في أحشاء أبوّته. أما أنت فاحترس من الدالَّة مع الناس ولا تكن دالَّتك كلها إلاّ بينك وبين الله. لا تُسرع نحو أي إنسانٍ لكي تستمتع بالراحة في دالَّتك معه، لا تكن لك دالَّة على مسكنه، ولا تمكث عنده دون أن تتلقّى أمرًا بذلك حتى لا تكون ثقيلاً عليه. يا أخي، إذا أردتَ أن تكون في راحةٍ كل حياتك، وأن تكون أفكارك متحدةً بالله كل ساعةٍ، اِحترس من الدالَّة مع الناس. إذا أتى إليك أخوك حسب الجسد ولم تُرد أنت أن تصدّه، فخذه وسلِّمه ليديّ أخٍ آخر حيث يجد في قلوب الإخوة راحةً له لأنها قلوبٌ مخلصة، أما أنت فامكث في مسكنك حتى لا تفقد كنوز غناك.

القديس مقاريوس الكبير

* تجرَّد من الشرّ وارتدِ البساطة، اِخلع عنك العين الشريرة والبس البساطة والقلب الرحيم. لا تُبغض أي إنسان، لا تمشِِ إطلاقًا مع ذي السيرة الرديئة، بل مع مَنْ له سيرة أكمل منك ومع الذي يكمِّل تدبيره. لا تخشَ مذمّة الناس، اِبغض كل شيء فيه ضرر لنفسك، لا تترك إرادة الله لتعمل مشيئة الناس لكي يكون الله معك.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

"الشر يتبع الخاطئين،

والصدِّيقون يجازون خيرا" [ع 21].

يحل الشر على الخاطئين، لأنه يقتفي أثرهم حتى يحدق بهم. لقد فتحوا له الباب، وسلموه عجلة قيادة حياتهم، فيقودهم إلى الدمار. أما الصدِّيقون فتنتظرهم المكافأة.

ربما يدهش البعض أن الأشرار يزدهرون في العالم، بينما تحل بالصدِّيقين كثرة من الأحزان. لكن وإن نال الشرير الكثير مما يبدو نجاحًا وازدهارًا، إلا أنه فاقد لسلامه الداخلي، ويخشى الغد. أما المؤمن البار ففي وسط كثرة أحزانه تعزيات الله تملأ قلبه، وتنفتح بصيرته لرؤية الأمجاد المعدة له أبديًا.

"الصالح يورِّث بني البنين،

وثروة الخاطئ تُذخر للصدِّيق" [ع 22]

يقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم تفسيرًا رمزيًا، فيرى في الصالح هنا رمزًا للعقل الذي غالبًا ما يشبه والدًا ينجب أبناء صالحين، أي أفكارًا صالحة، وهذه بدورها تولد أفكارًا صالحة فتصير آباء لأعمال مماثلة.

نضرب مثلاً عمليًا لذلك، فإن القديسة مريم وهي بارة ومن الصدِّيقين، فاقت السمائيين والأرضيين، ليس لها بنين ولا أحفاد حسب الجسد. لكنها وقد حملت في أحشائها محب البشر، مخلص العالم، اتسع قلبها بالحب نحو كل البشر، فصارت حواء الجديدة، أم كل حيّ. صار لها أبناء حسب الروح، أي في المسيح يسوع. ماذا ورَّثت أبناءها وأبناء أبناءها؟ لقد تمتعت بالتطويب، إذ قالت: "هوذا منذ الآن جميع الأجيال تُطوِّبني" (لو 1: 48). ولعل أول من ورث من أبنائها هذا التطويب اللص اليمين، إذ تترنم الكنيسة في الجمعة العظيمة قائلة: "طوباك يا ديماس اللص".

"في حرث الفقراء طعام كثير،

ويوجد هالك من عدم الحق" [ع 23]

يقارن الحكيم بين إنسان فقير له حقل صغير يستغل إن أمكن كل بوصة منه، فيأتي بثمرٍ كثيرٍ، وإنسان غني له حقول متسعة، وفي تراخٍ وإهمال يترك الكثير من الأراضي بلا زراعة!

أما روحيًا فيشير هنا إلى الفقراء الذين يلتزمون بالعمل لساعات طويلة من أجل إعالة أسرهم، ومع هذا فيُصرُّون على تكريس أوقات ولو قليلة للعبادة، مع ذكر اسم الله وتقديم ذبائح شكر دائمة طول النهار، فينالون طعامًا روحيًا وفيرًا، بينما يعتذر بعض الأغنياء بأنه ليس لديهم الوقت للعبادة. يعتذرون بعدم وجود وقت لله، وفي الحقيقة ليس لديهم القلب المكرس لله!

* اُذكر أن القدِّيس باسيليوس الكبير قد أجاب على السؤال: كيف استطاع الرسل أن يصلُّوا بلا انقطاع؟ قائلاً إنهم في كل شيء كانوا يفعلونه يفكِّرون في الله، عائشين في تكريس دائم لله. هذا الحال الروحي كانت صلاتهم التي بلا انقطاع.

الأب ثيوفان الناسك

"من يمنع عصاه يمقت ابنه،

ومن أحبه يطلب له التأديب" [ع24]

عدم التأديب ليس حبًا أو حنوًا نحو الأبناء، بل هو نقص في الحب، لأن الوالدين اللذين يتجاهلان تأديب أبنائهما إنما يُعِدانهم للفشل والمرارة. هذا ما سقط فيه عالي الكاهن. إذ قال الرب لصموئيل: "قد أخبرته بأني أقضي على بيته إلى الأبد، من أجل الشر الذي يعلم أن بنيه قد أوجبوا به اللعنة على أنفسهم، ولم يردعهم، ولذلك أقسمت لبيت عالي أنه لا يُكفَّر عن شر بيت عالي بذبيحة أو بتقدمة إلى الأبد" (1 صم 12: 3-14).

* لا تخافوا من أن تنتهروهم وتعلموهم الحكمة بحزم، لأن تأديبكم لا يقتلهم، بل بالأحرى يحفظهم... من يهمل في نصح ابنه وتعليمه يكرهه.

قوانين الرسل

* إصلاح الأب لابنه، هذا الذي لا يمنع عصاه نافع، حتى يرد نفس الابن إلى الطاعة لوصايا الخلاص. أنه يؤدب بعصا، كما نقرأ: "سأؤدب معاصيهم بعصا" (راجع مز 89: 32).

القديس أمبروسيوس

* لا يأتي فساد الأطفال من فراغ بل من الجنون الذي يلحق بالآباء نحو الاهتمامات الأرضية. الاهتمام بالأرضيات وحدها، واعتبار كل شيء غيرها ليس بذي قيمة، يدفعهم لا إراديًا نحو إهمال نفوس أطفالهم. أقول، إن هؤلاء الآباء (ولا يظن أحد أن هذه الكلمات تتولد فيّ عن غضب)، أشر من قتلة الأبناء. الأول يفصل الجسم من النفس، أما الآخر فيطرح كليهما معًا في نيران جهنم. الموت أمر محتم حسب النظام الطبيعي، أما المصير الثاني فيُمكن للآباء تجنبه لو لم يؤدِ إهمال الآباء إليه. الموت الجسماني يمكن أن ينتهي في لحظة بالقيامة حينما تحل، لكن لا توجد مكافأة تنتظر النفس المفقودة. أنها لا تنعم بالقيامة، بل تعاني آلامًا أبدية. هذا يعني أنه ليس بغير عدلٍ ندعو هؤلاء الآباء أشر من قتلة الأبناء. إنه ليس بالأمر القاسي أن تَسِن سيفًا وتمسك به باليد اليمنى لتغرسه في قلب طفلٍ مثلما أن تحطم النفس وتذلها، فإنه ليس من شيءٍ يعادل النفس.

القديس يوحنا الذهبي الفم


10. الشبع الداخلي

"الصدِّيق يأكل لشبع نفسه،

أما بطن الأشرار فيحتاج" [ع 25]

قد يأكل الصدِّيق القليل من الطعام، لكنه يأكل بفرحٍ وبهجة القلب، فإن ما يشغله ليس لذة التذوق، بل شكر الله الذي يهبه الطعام ويقدم له الحياة. أما الشرير فلا يشبع مطلقًا، كلما أكل يطلب المزيد، حتى وإن امتلأت معدته، إذ ليس من شبع في أعماقه.

في مثل لعازر والغني كان الغني يتنعم كل يومٍ مترفهًا، لكن يطلب المزيد، وبعد خروجه من العالم صار يشتهي أن يُرسل إبراهيم لعازر المسكين ليبل إصبعه بماء ويبرِّد لسانه لأنه مُعذب في اللهيب (لو 16: 14).

* "فتأكلون خبزكم للشبع" (لا 26: 5)، لا أحسب هذا خاصًا ببركة مادية، كما لو كان الإنسان الذي يحفظ ناموس الله سينال ذاك الخبز العام في وفرة. لماذا لا؟ أليس الخطاة الأشرار أيضًا يأكلون خبزًا، ليس فقط في وفرة، بل وأيضًا في رغد وترف؟ لذا ليتنا بالحري نتطلع إلى ذاك القائل: "أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء" (يو 6: 51) "وإن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد" (يو 6: 51). إذ نلاحظ أن الذي قال هذا هو الكلمة الذي تقتات عليه النفس، نتحقق أي خبز هذا الذي يقول عنه الله في البركة: "تأكلون خبزكم للشبع"، يعلن سليمان عن أمرٍ مماثلٍ بخصوص الصدِّيق، إذ يقول في سفر الأمثال: "الصدِّيق يأكل ليشبع نفسه، أما نفوس الأشرار فتحتاج". لو فهم هذا حرفيًا فقط لبدت باطلة، لأن نفوس الأشرار تأكل بأكثر نهمٍ، وتصارع لكي تشبع بينما الصدِّيق أحيانًا يجوع. أخيرًا فإن بولس كان إنسانًا صدِّيقًا وقد قال: "إلى هذه الساعة نجوع ونعطش ونعرَّى ونُلْكَم" (1 كو 4: 11) وأيضًا يقول: "في جوع وعطش، في أصوام مرارًا كثيرة" (2 كو 11: 27). كيف إذن يقول سليمان أن الصدِّيق يأكل لشبع نفسه؟

الأب قيصريوس أسقف آرل

اعتمد القديس إكليمنضس السكندري على عبارات كتابية خاصة من سفر الأمثال (13: 5؛ 17:15،23: 3؛ 24: 41-44) ليقدم صورة حيَّة لسلوك المسيحي من جهة الطعام، ولذلك في كتابه "المُربي" ك2، ف1. جاء فيه:

1. الطعام ليس هدفًا نشتهيه، بل وسيلة حياة، فتقودنا كلمة الله لا لشهوة الطعام، بل للتمتع بالأبدية.

[لا يكون الطعام هو شغلنا الشاغل، ولا هو متعتنا وهدفنا في الحياة، بل هو وسيلة لحياتنا التي يدبِّرها الرب "الكلمة" ليقودنا إلى الأبدية.]

[لم يدركوا أن الله أعطى مخلوقه الإنسان الطعام والشراب لكي يعيش ويستمر في الحياة، وليس من أجل اللذة.]

[لقد خُلقنا لا لنأكل ونشرب، بل لنكرس أنفسنا لمعرفة الله... فإن البطن الشرير لا يشبع أبدًا (أم 13: 25)، إذ تملأه الشهية التي لا تشبع ولا ترتوي.]

2. ليكن كل شيء باعتدال، فلا نطلب الأطعمة الشهية المبالغ فيها، بل الطعام البسيط السهل الهضم.

[يلزم أن يكون لدينا نوع من التمييز فيما يختص بالطعام، فيكون الطعام بسيطًا، عاديًا جدًا، مناسبًا لأولاد بسطاء... يمهد لحياة تقوم على أمرين أساسيين هما الصحة والقوة. هذا يتفق مع كون الطعام بسيطًا بلا تعقيد، فيكون سهل الهضم، يجعل الجسد خفيفًا رشيقًا، يحقق النمو والصحة.]

[فن الطهي التعس يفسد التذوق، كما يحدث في فن صناعة الحلوى والفطائر.]

[لا يكتسب الجسم البشري أية فائدة من البذخ في أصناف الطعام، بل على العكس من ذلك فإن الذين يستخدمون الحد الأدنى من الطعام هم أكثر قوة وأفضل صحة وأكثر شرفًا وكرامة، فنرى الخدم أحسن صحة من سادتهم، والفلاحين أكثر صحة في البدن من أصحاب الأملاك.]

3. الطعام المعتدل يسند الإنسان في قدرته الفكرية.

[الفلاسفة أحكم من الأغنياء، لأنهم لا يدفنون العقل تحت أكوام الطعام، ولا يخدعون أنفسهم باللذات والمُتع، ولكن وليمة المحبة "أغابي" هي في الطعام السماوي، وفي وليمة العقل والتفكير السليم.]

[النهِم يكون كمن يدفن عقله في بطنه.]

4. الانشغال بالطعام السماوي المشبع لاحتياجات النفس:

[يقول الكتاب المقدس: "لا تشته أطايب الطعام لأنها خبز أكاذيب" (أم 23: 3)، لأنها تنتمي إلى نوع من الحياة الكاذبة والدنيئة، إذ يُولون اهتمامهم للأطباق الفاخرة من الأطعمة، والتي بعد قليل يكون مصيرها أن تُلقى في مجرى القاذورات. أما الذين يبحثون عن الطعام السماوي الباقي فيلزمهم أن يُخضعوا شهوات البطن، التي هي في مرتبة أدنى بكثير من السماويات.]

[حقًا أنه لجدير بالإعجاب أن نرفع عيوننا إلى فوق، إلى ما هو حق وصدق... فنتذوق ونستمتع بما هو بالبهجة الحقيقية والفرح الطاهر. لأن هذه هي المحبة (الأغابي) الحقيقية؛ هذا هو الطعام الآتي من المسيح والذي يليق بنا أن نشترك فيه.]

[الطعام الصادق الحق هو الشكر لله، فمن يقدم الشكر والحمد لله لا يشغل نفسه بالملذات والمتع.

إن أردنا تشجيع رفاقنا الضيوف على السلوك في الفضيلة، يلزمنا أن نبتعد عن الأطباق الفاخرة الغنية (عندما نستضيفهم)، فنُظهر أنفسنا نماذج واضحة متألقة للفضيلة... فنكسب إنسانًا للمسيح بقليل من ضبط النفس.]

* خُلقنا لا لكي نأكل ونشرب، بل لكي نبلغ إلى معرفة الله. يقول الكتاب المقدس: "الصدِّيق يأكل ويشبع نفسه، أما بطن الأشرار فدائمًا محتاجة"، جائعة على الدوام في جشع لا يمكن قمعه.

القديس إكليمنضس السكندري

* يلزمنا أن نحسب الطعام الموعود به في الناموس هو طعام النفس، الذي لا يشبع كِلا عنصري طبيعة الإنسان وإنما النفس وحدها: كلمات الإنجيل مع إمكانية احتوائها على معنى عميق، إلا أنه يُمكن أن تفهم في معناها الواضح البسيط، إذ تعلمنا ألا نقلق ونضطرب من وجهة طعامنا وملابسنا، لكن ونحن نعيش في بساطة ونطلب فقط ما هو ضروري نضع ثقتنا في عناية الله.

العلامة أوريجينوس

يرى العلامة أوريجينوس أن هذه العبارة لا يمكن تفسيرها حرفيًا بل روحيًا، فكثير من الصدِّيقين يجوعون ويحتاجون، بينما تشبع بطون الأشرار بالأطعمة والشراب. فالرسول بولس يقول: "إلى هذه الساعة نجوع ونعطش ونُعرَّى ونُلْكم، وليس لنا إقامة" (1 كو 4: 11)، كما يقول: "في جوع وعطش، في أصوام مرارًا كثيرة" (كو 11: 27). فما يقوله سليمان الحكيم إنما عن طعام آخر، وهو كلمة الله وحكمته، حيث تشبع نفس الصدِّيق منه.

* نتغذى نحن أيضًا بالكلمة التي تشبع نفوسنا لأنه مكتوب "ال
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 10, 2011 12:27 am

الاصحاح الرابع عشر


وصايا الحكمة عن مخافة الرب


يبدأ هذا الأصحاح بالمقابلة بين المرأة الحكيمة التي تخاف الرب والمرأة الجاهلة المستهترة، التي لا تحمل روح المخافة والتقوى. كما يقدم لنا نصائح عملية عن السلوك بالاستقامة، وفاعلية الكلام، والجدية في الجهاد مهما كانت التكلفة، والشهادة الصادقة والشهادة الزور الخ.

1. المرأة الحكيمة والمرأة الحمقاء .

2. السلوك بالاستقامة .

3. فاعلية الكلام .

4. الجدية في الجهاد .

5. الشاهد الأمين وشاهد الزور .

6. طلب الحكمة .

7. الصداقة .

8. الإفراز والتمييز .

9. فرح القلب وشبعه .

10. التدقيق .

11. الغضب .

12. المعرفة والجهل .

13. انهيار الأشرار .

14. المحاباة .

15. نهاية الشر .

16. العمل والتعب .

17. غنى المعرفة .

18. الشهادة الأمينة .

19. مخافة الرب .

20. القيادة الشعبية .

21. طول الأناة .

22. الجسد .

23. الاهتمام بالمساكين .

24. الفضيلة تحمل مكافأتها .

25. ليس خفي لا يُعلن .

26. البر يرفع شأن الأمة .

27. كرامة الحكيم .


1. المرأة الحكيمة والمرأة الحمقاء

المرأة الحكيمة تبني بيتها،

والحمقاء تهدمه بيدها [ع 1].

إن كان العالم الحديث يهتم جدًا بحقوق المرأة، فإن هذا الاهتمام هو وليد الفكر الإنجيلي الحي، غير أن ما يشغل الكثيرون هو الحقوق المادية والشكلية. أما الكتاب المقدس بعهديه فيتطلع إلى المرأة سواء بكونها زوجة أو أمًا أو أختًا، أنها العمود الفقري للأسرة، لها فاعليتها القوية على بقية أعضاء الأسرة، وعلى خلق جوٍ من الحب والدفء العائلي والوحدة.

في سلطان المرأة أن تبني بيتها وفي سلطانها أن تهدمه؛ ليس بجمال الجسد ولا بالإمكانيات المادية تُقيم المرأة بيتها، وإنما بالحكمة، كما بالجهالة والحماقة تهدمه. إن حملتْ مسيحها - حكمة الله - في داخلها إنما تجتذب رجلها وأولادها إليه، وينمو بيتها كنيسة مقدسة متهللة، أما إن سلكت خارج المسيح، وعاشت لأجل ملذات العالم، فتحدر بيتها إلى الهاوية.

خلال الحياة المقدسة الحكيمة في الرب تبني الكنيسة كما النفس البشرية مسكنها السماوي بالنعمة الإلهية، أما النفس الشريرة فتهدم المجد المُعد للمؤمنين بيدها، أي بحياتها الشريرة وسلوكها غير اللائق وتمردها.

* مكتوب: "المرأة الحكيمة تبني بيتًا، وأما الحمقاء فتهدم بيديها" (أم 14: 1). هذا يعني أن المرأة الحكيمة تشجع قريبتها في مخافة الرب، والمحبة التي في قلبها نحو أختها وأخواتها. ولكن من جانب الآخر المرأة الجاهلة تحطم بكلماتها المملوءة مرارة وكراهية وشرًا واستخفافًا، كما هو مكتوب: "في فم الجاهل قضيب لكبريائه اما شفاه الحكماء فتحفظهم" (راجع أم 14: 3).

القديس ويصا

* هنا (لقاء السيد المسيح مع المرأة السامرية يو4) أعلنت امرأة عن المسيح للسامريين، وفي نهاية الأناجيل أيضًا امرأة رأته قبل كل الآخرين تخبر الرسل عن قيامة المخلص (يو ٢٠: ١٨).

العلامة أوريجينوس

* "النساء الحكيمات يبنين بيوتهن". الكنيسة تبني بيتها بصبرها ورجائها في المسيح، أي تنهض الداخلين فيها وتصلحهم بتعليمها وإيمانها. "الجاهلة تهدمه بيدها". هذه هي الهرطقة التي تصير علة لموتهم الأبدي.

* إذ يتحدث عن مجد الرجل، يقيم بولس الآن توازنًا هكذا، فلا يفتخر الرجل فوق الحد اللائق، ولا يُضغط على المرأة. ففي الرب المرأة ليست مستقلة عن الرجل، ولا الرجل مستقل عن المرأة. إن كنت تسأل من الذي جاء بعد الآخر، فإن كل منهما هو علة الآخر، أو بالأحرى ليس كل من الآخر بل الله هو علة الكل.

* وقفت النسوة عند الصليب، الجنس الضعيف الذي ظهر أكثر قوة، وهكذا تغيرت كل الأمور تمامًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* واحدة هي الفضيلة عند الرجل والمرأة، بما أن خلقهما أُحيطا بشرفٍ متساوٍ. اسمعوا سفر التكوين: "خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرا وأُنثى خلقهم" (تك 1: 27). فبما أن طبيعتهما واحدة ولهما نفس الأفعال، فمكافئاتهما يجب أن تكون أيضًا واحدة.

القديس باسيليوس الكبير

* هذه التي كانت قبلاً خادمة للموت قد تحرّرت الآن من جريمتها بخدمة صوت الملائكة القدّيسين، وبكونها أول كارز بالأخبار الخاصة بسرّ القيامة المبهج.

القدّيس كيرلس الكبير


2. السلوك بالاستقامة

السالك باستقامته يتقي الرب،

والمعوِّج طرقه يحتقره [ع 2]

يقول ربنا يسوع: "أنا هو الطريق" (يو 14: 6)، وهو الغاية التي نصل إليها. فكل من الاستقامة في الطريق والانحراف عنه يرتبطان بعلاقتنا به. إن ثبتنا فيه وهو فينا نسلك الطريق الملوكي، وإن تجاهلناه في حياتنا ننحرف عن الطريق كما عن تحقيق الهدف.

المستقيم في طريقه يحمل مخافة إلهية (تقوى في الرب) تسنده فلا ينحرف يمينًا ولا يسارًا، بمعنى أنه لا يسقط في الشرور، ولا يفتخر متكبرًا كبارٍ. أما من يسلك باعوجاج عن الطريق الملوكي فيستهين بالله ولا يخشى الدينونة الأخيرة.

امشِ معه، فتصل إلى الله. به تسير، وإليه تذهب.

لا تتطلع إلى أي طريق آخر به تذهب إليه.

لو لم يقبل بنعمته أن يصير الطريق لبقينا في تيهٍ دائمٍ.

لست أقول لكم أن تتطلعوا على الطريق، فالطريق نفسه جاء إليكم؛ قوموا؛ سيروا.

* أيها الأحباء، نهاية كل الطرق هي المسيح، فيه نصير كاملين، لأن كمالنا هو أن نعود إلى بيتنا فيه.

لا تطلبوا شيئًا آخر غيره. هو غايتكم، وإليه أنتم راحلون، وإذ تبلغون إليه لا تطلبوا أمرًا آخر. فإنكم لا تستطيعون أن تشتهوا ما هو أفضل من أن يكون بيتكم فيه.

إنه يقودنا بكونه هو نفسه طريقنا، ويجتذبنا إليه بكونه بيتنا. نأتي بالمسيح إلى المسيح، خلال الكلمة الذي صار جسدًا، إلى الكلمة الذي هو في البدء كان الله ومع الله، إذ يقول: "أنا هو الطريق، وإليّ تأتون"

القديس أغسطينوس

* السالك باستقامة يخاف الرب". ليس كل خوف يجعل البشر يسلكون باستقامة، وإنما مخافة الرب... الحياة المُدعمة بالفضيلة هي شهيرة جدًا، أما إضافة مخافة الرب إليها فتجعل الأشخاص أكثر تقوى.

* "أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" يو 6:14...

إن كنت أنا الطريق، فإنكم لا تحتاجون إلى أحد يمسك بأيديكم...

إنه يقول: "إن كنت أنا هو السلطة الوحيدة التي تُحضر إلى الآب، أنتم بالتأكيد تأتون إليه، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بطريق آخر".

القديس يوحنا الذهبي الفم

* يقول إشعياء: "ما أجمل على الجبال أقدام المبشرين بالخير" (إش 52: 7). إنه يرى كم هو جميل وملائم إعلان الرسل الذين قد ساروا (في المسيح)، وهو القائل: "أنا هو الطريق" (يو 14: 6). يمتدح أقدام السائرين في الطريق المفكرين في يسوع المسيح، ويذهبون من خلال هذا الباب إلى الله (الآب).

إنهم يعلنون عن الخيرات، عن الأقدام الجميلة، أي يسوع.

العلامة أوريجينوس


3. فاعلية الكلام

"في فم الجاهل قضيب لكبريائه،

أما شفاه الحكماء فتحفظهم" [ع 3]

فم الجاهل عرش يجلس فيه ملك متعجرف يأمر وينهي، يطلب ما لكرامته وليس ما لصالح الآخرين، أما الحكيم فشفتاه تخرجان كلمات بنَّاءه تحفظه وتسنده.

فم الإنسان يحكم عليه، فالجاهل يحكم على نفسه بنفسه خلال الكلمات الخارجة من فمه، والصادرة عن كبرياء قلبه. أما الحكيم، فتشهد له كلماته الرقيقة والمملوءة بالحق الذي لا ينفصل عن الحب الذي في قلبه. الحكيم بطول أناته يواجه الغضب بالجواب اللين فيصرفه، تصدر أحكامه صادقة لأنه بطيء في الكلام، ومسرع في الاستماع.

في كبرياء وتسرع قال جليات الجبار لداود الصبي الصغير: "تعال إليَّ، فأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البرية" (1 صم 17: 44). أما داود ففي تواضع مع إيمان بقوة الله قال له: "أنت تأتي إليَّ بسيفٍ وبرمح وبترسٍ، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم" (1 صم 17: 45).

* أي حكم أكثر قسوة مما يصدر عن قلوبنا حيث به يقف كل واحدٍ مقتنعًا ومتهمًا نفسه بالضرر الذي سببه خطأ ضد أخيه؟ هذا ما تتكلم عنه الأسفار المقدسة بكل وضوح: قائلة: "في فم الجاهل قضيب الإثم"، إذن تُدان الحماقة إذ تسبب إثمًا. ألا يليق بنا أن نتجنب هذا أكثر من الموت، أو الخسارة، أو العوز، أو السبي أو المرض؟ من لا يحسب أن العيب الجسدي أو فقدان الميراث أقل بكثير من بعض عيوب النفس وفقدان السمعة؟

القديس أمبروسيوس


4. الجدية في الجهاد

"حيث لا ثيران فالمعلف نظيف،

وكثرة الغلة بقوة الثور" [ع 4]

حيث لا توجد ثيران يكون المعلف نظيفًا لكن بلا نفع، أما من لديه ثور قوي فيضع غلال كثيرة ويحتاج المعلف إلى تنظيف. هكذا من لا يعمل لا يُخطئ، لكنه لا يقتني خبرة ولا يكون له ثمر، أما من يخدم ويعمل فيُخطئ ويتعلم من خطئه وينال خبرة.

يوجه هذا المثل نظرتنا إلى خطورة التهور في معاملتنا للمخطئين. فإنه ليس من اللائق قتل ثورٍ يسبب عدم نظافة المعلف. حقًا بقتله يتحقق الهدف، وهو بقاء المعلف نظيفًا، لكن يفقد الشخص ثوره النافع له في الزراعة. كثيرون يتسرعون في طلب نقاوة الكنيسة باستقصاء المخطئين في تسرعٍ وتهورٍ، وفي غير طول أناة.

إن كان الله يهتم حتى بالثيران، فيأمرنا ألا نكُم أفواهها (1 كو 9: 9)، فكم بالأكثر يليق بنا أن نهتم بإخوتنا، ولا نكتم أنفاسهم دون السماع لهم ، والحوار معهم.

كتب القديس أمبروسيوس رسالتين، الأولي وجهها إلى أتباع نوفاتيوس الذين رفضوا قبول توبة الذين أنكروا الإيمان نتيجة الخوف من العذابات أو غيرهم ممن ارتكبوا خطايا لا تقبل التوبة عنها في نظرهم، وهي رسالة تكشف لنا جميعًا عن مقدار حب الله للخطاة، وفتحه أبواب الرجاء بلا حدود، وسهولة طريق التوبة والرجوع إلى الله، والتزامنا بطول الأناة معهم حتى نربحهم لملكوت الله. والثانية وجهها إلينا نحن الخطاة لئلا نستهين بمراحم الله، ونحول الرجاء في التوبة إلى فرصة للتراخي والتأجيل.

* اللطف هو اقتداء بحنان السماء نحو البشر، يهدف نحو خلاص الجميع، باحثًا عن هذه الغاية بوسيلة تحتملها آذان البشر، دون أن تخور قلوبهم أو تيأس نفوسهم.

فمن أُلقي على عاتقه إصلاح الضعفات البشرية، عليه أن يحتملها ولا يلقي بها عنه، حتى وإن أثقلت كتفيه، فالكتاب المقدس يذكر عن الراعي أنه يحمل الخروف الضال ولا يلقيه عنه... لأنه كيف يتقدم إليك من تزدري به، هذا الذي سيجد نفسه موضع تبكيت طبيبه. بدلاً من أن يكون موضع عطفه؟!

تحنن يسوع علينا حتى لا يخيفنا منه بل يدعونا إليه. جاء في وداعة، في تواضع... وبهذا قال: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). وبهذا أنعشنا الرب ولم يغلق علينا أو يطردنا.

وفي اختياره للتلاميذ، اختار من يترجمون إرادته، فيجمعون شعب الله دون أن يشتتوه. فالذين يجرون وراء آراء قاسية متعجرفة، ولا يكونون لطفاء وودعاء لا يُحسبون من تلاميذ الرب. هؤلاء الذين بينما يطلبون لأنفسهم مراحم الله ينكرونها بالنسبة لغيرهم. هؤلاء أمثال معلمي بدعة نوفاتيوس، الذين يحسبون أنفسهم أبرارًا...

أية قسوة أشر من أن يعاقبوا الآخرين بلا هوادة، ويرفضوا الغفران لمن يحثونهم لقبول التأديب والتوبة؟!

* يجب أن نعرف أن الله إله رحمة، يميل إلى العفو لا إلى القسوة. لذلك قيل: "أريد رحمة لا ذبيحة" (هو 6: 6)، فكيف يقبل الله تقدماتكم يا من تنكرون الرحمة، وقد قيل عن الله إنه لا يشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع (حز 18: 32)؟!

القديس أمبروسيوس


5. الشاهد الأمين وشاهد الزور

"الشاهد الأمين لن يكذب،

والشاهد الزور يتفوه بالأكاذيب" [ع 5]

دعوتنا هي أن نتبع ذاك الذي هو بالحق "الآمين، الشاهد الأمين الصادق" (رؤ 3: 14).

ترى قوانين الرسل في هذه العبارة صورة للشهداء الحقيقيين الذين يتمسكون بالحق ولن يكذبوا، مقدمين دماءهم شهادة حية للإيمان الحق.

هكذا يليق بنا إذ نثبت في الشاهد الأمين، أن نكون شهود حق لإنجيل المسيح، ننطق بالحق، ولا يكون للكذب موضع فينا.

يوصينا الكتاب المقدس أن نشهد بالحق، ولا نكون شهود زورٍ: "لا تقبل خبرًا كاذبًا، ولا تضع يدك مع المنافق لتكون شاهد ظلم" (خر 23: 1). كما يطالبنا ألا نصمت أمام شاهد زورٍ ضد أحدٍ ونحن نعرف الحقيقة، بل نشهد لننقذه: "وإذا أخطأ أحد وسمع صوت حلف وهو شاهد يبصر أو يعرف، فإن لم يخبر به حمل ذنبه" (لا 5: 1).

* تثبت شهادة المسيح فينا إن كنا نستطيع القول مثل الرسول بولس: "فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله في المسيح يسوع ربنا" (رو 8: 38-39). أما إذا كنا نضطرب لأتفه الأمور التي تحدث فلا تكون شهادة المسيح ثابتة فينا تمامًا.

العلامة أوريجينوس

* كل من القَسم الباطل والكذب يُعاقبان بحكم إلهي، وكما يقول الكتاب: "الفم الذي يكذب يقتل النفس" (حك 1: 11). فمن ينطق بالحق يحلف، فقد كتب: "الشاهد الأمين لا يكذب" (أم 14: 5).

الأب خروماتوس


6. طلب الحكمة

"المستهزئ يطلب الحكمة ولا يجدها،

والمعرفة هينة (سهلة) للفهيم" [ع 6]

الإنسان الذي يستهزئ بأخيه أو يسخر بخلاص نفسه وخلاص إخوته لا مكان لمخافة الرب في قلبه. قد يطلب الحق والحكمة بلسانه، أما قلبه وفكره فلا يباليان بالإجابة. لهذا لن يكون حكيمًا حتى إن سعى وراء الحكمة، فإنها لن تسكن في قلب غير محبٍ ولا جاٍد، أما الذي يفهم الأمور، ويدرك دوره في الحياة، في جدية فالمعرفة ليست بعيدة عنه، طريقها سهل بالنسبة له.

الإنسان الساخر لا يجد في كلمة الله ينبوع حياة يتمتع به، إنما يسخر حتى من كلمة الله، وينتقدها، بل ويتعثر حتى في شخص السيد المسيح مخلص العالم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). وكما قال السيد المسيح نفسه: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم" (يو 15: 22). كما قيل عن السيد المسيح: "ها أنا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة، وكل من يؤمن به لا يخزى" (رو 9: 33). "نحن نكرز بالمسيح المصلوب لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة" (1 كو 1: 23).

* يتعثر الناس عندما يتوقفون عن التفكير إلى أين هم ذاهبون، ويتطلعون إلى أمورٍ أخرى. هذا هو ما حدث مع اليهود، إذ كانوا مشغولين بأمورٍ خارج الناموس، فلم يدركوا الحجر الذي تنبأ عنه الأنبياء.

الأب ثيؤدورت أسقف قورش


7. الصداقة

"اذهب من قدام رجل جاهل،

إذ لا تشعر بشفتيّ معرفة" [ع 7]

ليهرب الإنسان من حضرة الجاهل الذي لا ينطق بكلمات المعرفة كمن يهرب من عدوه، لأنه يسبب متاعب ويضر من حوله.

يدرك الإنسان المسيحي قيمة كل ثانية من ثواني حياته، فمع محبته لكل البشرية، لا يسمح لنفسه أن يفسد وقته بالصداقة مع الأغبياء الأشرار، الذين يرون في الحياة كأنها لهو لا قيمة لها. وفي تركه لصداقتهم لا يستخف بهم ولا ييأس من خلاصهم، إنما يبذل بالحب كل ما استطاع لأجل بنيانهم، لكن ليس على حساب نفسه.

* "الصديق الأمين دواء الحياة" (سي 6: 16).

لا يوجد علاج مؤثر في شفاء الأوجاع مثل الصدِّيق الصادق الذي يعزيك في ضيقاتك، ويدبرك في مشاكلك، ويفرح بنجاحك، ويحزن في بلاياك. من وجد صديقًا هكذا فقد وجد ذخيرة. فالصديق الأمين لا شبيه له، فوزن الذهب والفضة لا يعادل صلاح أمانته (انظر ابن سيراخ 6: 14، 15).

بحق ليكن لك صديق تدعوه "نصف نفسي".

* لا توجد صداقة حقيقيّة، ما لم تجعلها كوصلة تلحم النفوس، فتلتصق معًا بالحب المنسكب في قلوبنا بالروح القدس.

القدّيس أغسطينوس

* يرتبط القوي بالضعيف فيسنده، ولا يسمح بهلاكه.

مرة أخرى إن ارتبط بشخصٍ متكاسلٍ يقيمه ويدفعه للعمل. قيل: "أخ يعينه أخ هو مدينة قوية". هذه لا يفوقها بعد المسافة ولا السماء ولا الأرض ولا الموت، ولا أي أمر آخر، إنما هي أقوى وأكثر فاعلية من كل الأشياء. هذه وإن صدرت عن نفسٍ واحدةٍ، قادرة أن تحتضن كثيرين دفعة واحدة.

اسمع ما يقوله بولس: "لستم متضايقين فينا بل متضايقين في أحشائكم. كونوا أنتم أيضًا متسعين".

القديس يوحنا الذهبي الفم


8. الإفراز والتمييز

"حكمة الذكي فهم طريقه،

وغباوة الجهال غش" [ع 8]

الذكي في حكمة يعرف طريقه ويدرك رسالته، أما الجاهل فيغش نفسه، ولا يدرك إلى أين يذهب. أقصى أنواع الخداع هو خداع الإنسان لنفسه. فالجاهل يظن أنه يعرف كل شيءٍ، ولا يحتاج إلى معينٍ يرشده، بينما يجهل حتى نفسه. أما الحكيم فمع ما وُهب له من حكمة، يتعطش إلى حكمة الله، فيطلبها بلا توقف، ويحترم حكمة الآخرين ويقدرها بروح التمييز.

* "حكمة القادرين تفهم طرق الحكمة، وغباوة الجهال تسير في اتجاه مضاد". تقول النبوة: "وإلى هذا أنظر، إلى الوديع والهادئ والمرتعد من كلماتي" (راجع إش 66: 2). إننا نتعلم أنه يوجد ثلاثة أشكال للصداقة. الشكل الأول وأفضلهم يقوم على الفضيلة، فإن الحب الصادر عن العقل ثابت. الشكل الثاني يقوم وسطًا بين الاثنين، أساسه المبادلة، حيث تتم المشاركة المتبادلة وهي نافعة للحياة. الصداقة على أساس العطاء المجاني هي مبادلة. الشكل الثالث والأخير نمارسه خلال العادة. يقول البعض إن هذا الشكل يزول ويتغير لأنه مؤسس على اللذة.

القديس إكليمنضس السكندري

"الجهال يستهزئون بالإثم،

وبين المستقيمين رضى (نعمة)" [ع 9]

يستخف الجهال بالخطايا، فيشربونها كالماء، وفي استهتارٍ لا يندمون على ما يرتكبونه. أما المستقيمون فيدركون قيمة حياتهم، ويشعرون بالالتزام، فينالون نعم إلهية، ويتمتعون بالبركات ويكونون موضع مسرة الله ورضاه.

كمثال للجهال أولئك الذين حملوا إرميا إلى مصر، وأصروا على عبادة الأوثان، وإذ وبخهم الرب على لسان النبي، قالوا: "إننا لا نسمع لك الكلمة التي كلمنا بها باسم الرب، بل سنعمل كل أمرٍ خرج من فمنا، فنبخر لملكة السماوات، ونسكب لها سكائب، كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا في أرض يهوذا وفي شوارع أورشليم، فشبعنا خبزًا، وكنا بخيرٍ ولم نرَ شرًا" (إر 44: 16-17). في جهالة قالوا بأنهم حين عبدوا الأوثان حلت بهم الخيرات، وحين تركوها صاروا في عوزٍ وفنوا بالسيف والجوع (إر 44: 18).

"القلب يعرف مرارة نفسه،

وبفرحه لا يشاركه غريب" [ع 10]

من يتذمر يقدم لقلبه مرارة، ومن يتهلل يقدم له الفرح. وكأن ما يغرسه الإنسان، إنما يأكل من ثمره في داخله. فمرارة النفس أو فرحها لا يعتمدان على الظروف المحيطة ولا على تصرفات الآخرين، بل على سلوك الإنسان نفسه.

كثيرًا ما يظن الإنسان أنه محتاج إلى تعزيات بشرية، ولكن كما قال أيوب البار خلال خبرته المرة: "سمعت كثيرًا مثل هذا، معزون متعبون كلكم" (أي 16: 2). فما يحمله القلب من ضيق ومرارة لا يمكن الخلاص منه إلا بالتعزيات الإلهية، وما يحمله من عذوبة وفرح وطوباوية لن يدركه أحد مثله! يقول المرتل:

"عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذذ نفسي" (مز 94: 19).

"هذه هي تعزيتي في مذلتي لأن قولك أحياني" (مز 119: 50).

"تذكرت أحكامك منذ الدهر يا رب فتعزيت" (مز 119: 52).

"فلتصر رحمتك لتعزيتي حسب قولك لعبدك" (مز 119: 76).

"كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا، و في أورشليم تعزون" (إش 66: 13).

"فنحن وإن لم تكن بنا حاجة إلى ذلك بما لنا من التعزية في الأسفار المقدسة التي في أيدينا" (1 مكابيين 12: 9).

"لأن كل ما سبق فكُتب كُتب لأجل تعليمنا، حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء" (رو 15: 4).

"مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح أبو الرافة وإله كل تعزية" (2 كو 1: 3).

"الذي يعزينا في كل ضيقتنا، حتى نستطيع أن نعزي الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزى نحن بها من الله" (2 كو 1: 4).

"لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا" (2 كو 1: 5).

* كثرة المحن التي تحل بنا تحتم عظم مكافأتنا، فبقدر كثرة الجراحات التي تصيبنا نتأهل لكثرة من الأكاليل... إنني اسكب دمعة واحدة، فأتأهل لتعزية واحدة. سكبت عشرة دموع فأتأهل لعشرة تعزيات. وزن توبتي تتعادل مع عدد تعزياتك.

القديس جيروم

* الاتكال على البشر يمنع كليةً الاتكال على المسيح، والعزاء الظاهر يمنع العزاء الخفي.

مار إسحق السرياني

"بيت الأشرار يخرب،

وخيمة المستقيمين تزهر" [ع 11]

يظن الشرير أنه يُقيم لنفسه بيتًا مستقرًا ودائمًا على الأرض، لكن سرعان ما ينهار بكل أساساته الواهية، أما المستقيم إذ يُدرك أنه غريب يُقيم خيمة يتنقل بها، ومع هذا فخيمته لا تنهار بل تزهو وحياته تنمو بلا انقطاع.

* رأيت في المواضع السفلية حفرة تنتظر الأشرار، وموضعًا آخر مغايرًا، مُعدًا للأبرار.

القديس غريغوريوس النزينزي

"توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة،

وعاقبتها طرق الموت" [ع 12]

ما أسهل أن يخدع الإنسان نفسه، فيسلك في طريق يبدو مستقيمًا مع أن نهايته الهلاك.

* نقرأ في الأمثال: "توجد طريق تظهر للبشر مستقيمة، وعاقبتها تقود إلى أعماق الجحيم". ها أنتم ترون أن الجهل أيضًا يُدان بوضوح في هذا النص، حيث يلزم الإنسان أن يفكر وإلا يسقط في الجحيم، ظانًا أنه قد بلغ الحق. يقول: "توجد أفكار كثيرة في قلب الإنسان" (راجع أم 19: 21). لكن ليست إرادته المزعزعة والمشكوك فيها والقابلة للتغيير، هي التي تغلب، بل مشورة الله.

القديس جيروم

* عندما تخطر بذاكرتك الخطايا السابقة، اهرب منها كما يهرب الإنسان البار الشريف متى وجد امرأة عاهرة شريرة تطلبه في الطريق العام، بواسطة حديثها معه أو تقبيلها إيَّاه. فإنه إن لم يهرب منها للحال، متباطئًا في الحديث معها بأحاديث مشوبة، فإنه وإن رفض التمتع باللذة المعيبة إلا أنه لا يقدر أن يتجنب احتقار العامة له، ونظرات السخرية المتسلطة عليه. هكذا نحن أيضًا، بتذكرنا المهلك هذا نسقط في أفكار كهذه. لهذا يلزمنا أولاً أن نمتنع عن التمسك بها، منفذين وصية سليمان القائل لا نذهب إلى هناك ولا نبطئ في مكانها، ولا نثبت نظرنا عليها، لئلا عندما ترانا الملائكة المارة بنا، أننا مشغولين بأفكار نجسة، فلا تقدر أن تقول لنا: "بركة الرب عليكم" (مز 129: Cool. فإنه يستحيل أن يستمر الفكر مشغولاً في الأمور الصالحة، إن كان النصيب الأكبر من القلب غارقًا في تأملاته الأرضية الشريرة. لقد حق قول سليمان: "عيناك تنظران الأجنبيات، وقلبك ينطق بأمور ملتوية. وتكون كمضطجع في قلب البحر أو كمضطجع على رأس سارية. يقول "ضربوني ولم أتوجع. لقد لكأُوني ولم أعرف" (أم 23: 33-35).

يلزمنا أن نهجر لا الأفكار الشريرة فحسب، بل والتفكير في الأمور الزمنية، رافعين اشتياقات نفوسنا نحو الأمور السمائية كقول مخلصنا: "حيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي" (يو 12: 26). لأنه يحدث أيضًا حتى من باب العطف أن نفكر في سقطات الغير أو أخطائهم، فنتأثر باللذة ونسقط بالتالي في هموم الآخرين. فتكون النتيجة أن ما بدأنا به حسنًا ينتهي نهاية مهلكة، لأنه "تُوجَد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت" (أم 14: 12).

الأب بينوفيوس


9. فرح القلب وشبعه

"أيضًا في الضحك يكتئب القلب،

وعاقبة الفرح حزن" [ع 13]

إن كان الله يدعونا إلى حياة الفرح الحقيقي، الصادر من الأعماق، لكنه يحذر من الضحك المملوء استهتارًا، والذي يمثل تغطية لكآبة القلب ومرارة الداخل. من يمارس الفرح الظاهر بلا أساس داخلي ينتهي فرحه بحزنٍ شديدٍ.

* إن أراد أحد أن يصعد، لا يطلب أفراح العالم، والملذات والمباهج، بل ما هو مؤلم ومبكي، فإن الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الفرح. حقًا ما كان لآدم أن ينحدر من الفردوس لو لم ينخدع باللذة.

القديس أمبروسيوس

* الغاية النهائية للكائنات البشرية هي الدخول في حالة تطويب. إن كان الرب يدعو في الإنجيل الحزانى مطوبين: "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون" (مت 5: 4)، فبحقٍ يدعو نهاية كل كائن بشري هو الحزن، لأن الذين يعيشون في حزنٍ يمتلئون من فيض البركات الروحية.

القديس أوغريس

* حيث يوجد الحزن لا توجد السلوكيات الشكلية (من الفرح). فإن المحبة تنزع الفرح والضحك (في المناسبات المؤلمة). أحيانًا نمتنع عن إظهار السعادة مراعاة للذين هم في حزنٍ أو يعانون من الألم. في بيت الوليمة يحدث العكس: الرقص والأغاني التي تسبب عارًا، لأنها تشير إلى حياة غير مضبوطة.

* يرى أغلب الناس أنه من الصواب تجنب انتقادات الرجل الحكيم، خاصة إن كانوا يحبون الخطية. من يرغب في اللهو والخطية يتجنب من يمنع الخطية. الذي بلا بصيرة يُسر بالمتملقين، مفضلاً التملق عن النقد. من سمات الحكيم أن ينتقد من يحبه... المتملقون يغنون بطريقة ما. حتى عندما يتحدثون عن الأخلاقيات يريدون أن يجعلوا أحاديثهم مبهجة أكثر منها نافعة. مثل هذه الأغنية هي حديث يقدم فرحًا، أما الانتهار فيعين الإنسان على وجود الطريق المستقيم.

* الأشواك التي تحترق تحت إناء تعطي أصوات فرقعة عالية. هذا يشبه ضحك الأغبياء. إنه يسبب ضوضاء وفرقعة، ولا يهذب النفس... كما أن الأشواك تسبب ضوضاء عندما تُحترق كنباتات تحت إناء، بنفس الطريقة ضحك الأغبياء يصدر عن نفس شريرة تحترق.

القديس ديموديوس الضرير

"المرتد في القلب يشبع من طرقه،

والرجل الصالح مما عنده" [ع 14]

المرتد backslider هنا يختلف عن جاحد الإيمان apostates، الأول هو ذاك الذي يفشل في البلوغ إلى المعرفة لاتكاله على فهمه وحكمته البشرية، أما الثاني فقد عرف الحق لكنه يجحده وينكره.

المرتد في القلب، هو ذاك الذي وضع كل فهمة على قلبه (فكره) ففشل في بلوغ الحق.

ما يفعله الإنسان يرتد إليه، فمن ينحرف بقلبه عن الطريق المستقيم، وإن لم يظهر ذلك علانية بسلوكه الظاهر، فإنه يشبع من طرق قلبه الشريرة، أما الصالح فيشبع من صلاح قلبه. وكأن الإنسان لا يأكل من يد آخرين، بل مما يقدمه له قلبه.


10. التدقيق

"الغبي يُصدق كل كلمة،

والذكي ينتبه إلى خطواته" [ع 15]

خلق الله الإنسان كائنًا عاقلاً، لكي إذ يرفع فكره نحو الله، ويطلب تقديسه، يسلك بفهمٍ وحكمةٍ في كل خطوة من خطوات حياته، ولا يسير بلا هدف.

يدعونا الحكيم إلى التمتع بروح الإفراز والتمييز، فلا نسير بغير حكمة في حياتنا اليومية وتعاملنا مع الآخرين، وفي سلوكنا الروحي.

* بالتوبة ندخل إلى نعيمه بنعمة الإفراز التي تظهر فينا. العادم من التوبة هو خائب من النعيم المزمع. القريب من الكل بعيد عن التوبة، والمبتعد من الكل بإفراز هو التائب بالحق.

* بالقراءة مع الإفراز اجمع عقلك من الكل وقُم للصلاة.

مار إسحق السرياني

* الإفراز هو أفضل من كل الفضائل.

الشيخ الروحاني

* أريد لك أن تكون مع الأبرار. تمسّك بالإفراز مثل مدير الدفّة، موجِّهًا السفينة بحسب الرياح. وعندما تكون مريضًا تصرّف بحسب مرضك في كل الأمور التي كتبت عنها، وعندما تكون معافى تصرّف بحسب صحتك. لأنه كما أنه عندما يكون الجسد مريضًا لا يقبل الطعام بطريقته المعتادة، هكذا في ذلك أيضًا يُثبت القانون أنه سقيم.

القديس برصنوفيوس وتلميذه يوحنا

* سُئل شيخ: "كيف يجد الإنسان الله، بالصوم أم بالأعمال أم بالتيقُّظ أم بالرحمة؟" فقال: "بواسطة هذه كلها بالتأكيد إذا امتزجَتْ بالإفراز. بل إنني أقول إنّ كثيرين عذّبوا أجسادهم بدون إفراز ثم رحلوا عنا دون أن يربحوا شيئًا. إنّ أفواهنا تصير عفنة من العطش، ونحن نردِّد الأسفار المقدسة بأفواهنا ونعبر على جميع مزامير داود النبي في خدمتنا، أما ما يتطلّبه الله وما هو ضروري فلا نملكه، أي الكلمة الطيبة من كلٍّ منا للآخر. لأنه كما أنّ الإنسان لا يمكنه أن يرى وجهه في المياه المضطربة، هكذا النفس إن لم تتطهّر من الأفكار الغريبة فلا يمكنها أن تظهر أمام الله في الصلاة".

بستان الرهبان

"الحكيم يخشى ويحيد عن الشر،

والجاهل يتصلف ويثق" [ع 16]

مع ما يتصف به الحكيم من شجاعة ودالة لدى الله لكنه يخشى الخطأ، ويخاف الله ويوقره. أما الأحمق فمع ما يحمله في داخله من قلقٍ وعدم سلام لكنه يتشامخ ويتهور. وكما قال أحدهم: "الأغبياء يندفعون بتهورٍ في الموضع الذي تخشى الملائكة أن تطأه!" هكذا بروح التمييز يوازن الحكيم بين الثقة والدالة وبين المخافة اللائقة بالرب، أما الغبي ففي استهتار لا يحمل روح التمييز والإفراز.

الإنسان الحكيم يعرف خطورة الشر وخداعاته، لهذا يخاف الشر ويهرب منه، أما الجاهل فيستهين بالشر ويثق في نفسه أنه لن ينحرف، فيتصلف وبالكبرياء يسقط.

* الخوف من السقوط هو رغبة في عدم الفساد، وشوق نحو التحرر من الأهواء.

القديس إكليمنضس السكندري

* رأس الحكمة مخافة الله. كما أن الضوء إذا دخل في بيتٍ مظلمٍ طرد ظلمته وأناره، هكذا خوف الله إذا دخل قلب الإنسان طرد عنه الجهل وعلَّمه كل الفضائل والحِكَمْ.

ليكن خوف الله بين أعينكم دائمًا، واذكروا مَنْ يُميت ويُحيي، وابغضوا العالم وكل ما فيه من راحة الجسد، وموتوا عن هذه الحياة الفانية لتحيوا بالله. اُذكروا ما وعدتم به الله، فإنه يطلبه منكم في يوم الدينونة.

إذا أحبّ أحد المسيح من كل قلبه وكل قدرته فإنه يثمر مخافةً لله، والمخافة تلد الدموع، والدموع تلد الفرح الروحاني، والفرح الروحاني يلد الحياة الملائكية، والحياة الملائكية تلد قوة العزاء. إنّ النفس تنال التبرير لكي تعطي ثمارًا لذيذة. وإذا رأى المسيح - الذي يحصِّن النفس - شجاعة الإنسان وصبره في كل شيء، فهو يقبله بفرح، وهكذا تكون النفس في غبطةٍ سماويةٍ في مواضع الراحة التي لا تنتهي أبدًا.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

ليس شيء يعلو على مخافة الله، لأنّ "مخافة الرب أعلى من كل شيء، (سي 25: 14)، وبمخافة الله يحيد كل واحدٍ عن كل الشرور. أطلب إليكم أن نقتنيها ونتحوّل عن كل ما هو غير مرضيٍّ لله. أيّ شيءٍ لا يُرضيه فلنحذر من أن نفعله بأي حالٍ، وكل ما نعمله فلنعمله متفكِّرين أنه يرى الكل، فليس شيء في الخليقة يخفى عن عينيه. إذًا "كل ما عملتم بقول أو فعل" (كو 3: 17) أو بالفكر، اِفحص إن كان هذا الأمر مرضيًا لله، عالمًا أنه يراه، وبعدئذٍ افعله. ونحن نعلم أننا مرضيين عنده حين نحفظ الاستقامة التي خلقنا عليها، وأننا نُحزنه عندما نُفسِد ما خلقه هو نفسه. فمع أنّ النفس قد خُلِقت على صورة الله، إلاّ أننا أفسدناها، وفي حين أنها تستطيع أن ترى الله وتتكلم بحرِّيةٍ مع سيدها؛ فقد جعلناها تضلّ (بعيدًا عنه)، حتى إنها لم تثبت بعد في خدمة الله بل في خدمة شهواتنا. إنه حقًا لأمر مرعب أن نكون في خدمة الشهوات. وقد قال أحد الحكماء: [بقدر ما توجد شهوات النفس بقدر ما يكون لها (أي للنفس) من أسياد.] عندما مضى الأب نستريون إلى المجمع الكبير قال: [إذا تعوّق أحد في الأوجاع، فهو عبد للوجع وليس لله.]

اثبتوا راسخين في مخافة الله واحفظوا نفوسكم بلا لوم. اِحرصوا ألاّ تؤخذ أرجلكم في إحدى فخاخ العدو المنصوبة (قدّامكم)، فإنّ العدو يطرح شباكه لكي يصطاد النفوس البريئة إذا وجدها مستسلمةً للنعاس. أمّا أنتم "فاصحوا واسهروا" (1 بط 5: Cool بأعين النفس النقية، وأنتم ترتلون قول المزمور: "يسقط الخطاة في شبكته وأكون أنا وحدي حتى يجوز الإثم" (مز 140: 10)، وأضف أيضًا هذا القول: "بمخافتك، يا رب، حبلنا وتمخّضنا وولدنا روح خلاصك على الأرض" (إش 26: 17).

القديس أنبا مقاريوس الكبير


11. الغضب

"السريع الغضب يعمل بالحمق،

وذو المكايد يُشنأ (ممقوت) [ع 17]

الغضوب لا يعرف الحكمة، بل يسلك في حماقة، ومن يدبر المكايد يكون مكروهًا حتى من المتملقين له.

كل جهادٍ يقوم به الغضوب، هو ضائع بالنسبة له كل يوم.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

الرجل الغضوب حتى وإن أقام أمواتًا، فهو غير مقبول عند الله، ولا أحد يُقبِل إليه.

القديس أبّا أغاثون

رجل الخصام الذي لا يهدأ من النزاع هو الذي لا يكتفي بالشقاق الأول فيثور غاضبًا من جديد. أما الذي هو بالعكس ليس رجل خصام، فحينما يشتعل غضبه يرجع إلى نفسه في الحال، ويلوم نفسه، ويطلب المغفرة من أخيه الذي غضب منه، فيهدأ فيه الخصام لأنه أدان نفسه واصطلح مع أخيه، ولن يجد الصراع له فيه موضعًا كما قلت. أمَّا الإنسان الغضوب الذي لا يهدأ الشقاق بداخله، والذي إذا غضب لا يدين نفسه، بل يثور غضبه بالأكثر دون أن يندم على غضبه قط، بل ولا يكتفي بما قاله في غضبه فيزيد عليه؛ هذا يُدعى رجل خصام، ولا يهدأ الغضب في داخله، لأن الحقد والمرارة والخبث تُتبع الغضب. ليت الرب يسوع المسيح يخلِّصنا من مصير هؤلاء الناس، ويهبنا نصيب الودعاء والمتواضعين!

القديس أنبا زوسيما


12. المعرفة والجهل

الأغبياء يرثون الحماقة،

والأذكياء يُتوَّجون بالمعرفة" [ع 18]

من لا يسلك بالحكمة يقتني الحماقة ميراثًا يلازمه، ومن يقتني الحكمة ينال مجد المعرفة وكرامتها.

سبق أن قال داود النبي: "قد أنتنت، قاحت حُبُر ضربي (أي جروحي)"، من أين؟ "من جهة حماقتي" (مز 38: 5). إذًا، فالحماقة هي مخزن لكل الشرور، لأنّ الحماقة ولدت عدم الطاعة، وعدم الطاعة ولدت جرحًا، وبعد الجرح ولدت الحماقة إهمالاً، والإهمال أدّى إلى نتانة وعفونة.

القديس برصنوفيوس

من الضروري أن يقترب الإنسان من الله بطريقةٍ معتدلةٍ وتقويةٍ تكريسيةٍ وهو يخطو متقدِّمًا روحيًا حسب طاقته وفي الحدود المسموح بها للبشر. إذن، ينبغي أن تكون إرادة الذين يطلبون الله حرّة من كل اهتمامات أخرى، لأنّ الكتاب يقول: "كفوا واعلموا أنّي أنا هو الله" (مز 46: 10). وعلى ذلك فالذي يُمنَح معرفةً جزئيةً لله - لأنه يستحيل نوالها بالكامل - يبلغ أيضًا إلى معرفة كل الأمور الأخرى. إنه يعاين أسرارًا، لأنّ الله يُريه إياها، إنه يرى مسبقًا ما يخص المستقبل ، إنه يتأمل في رؤى كما حدق مع القديسين، إنه يفعل عظائم، إنه يصير حبيبًا لله وينال من الله كل ما يطلبه.

القديس يوحنا الأسيوطي

لا تكن بلا معرفة، ولا تكن خاليًا من ذكر الله، بل اتَّقِ الله واحفظ وصاياه (جا 12: 13).

القديس إسطفانوس الطيبي

أساس حياة الراهب هو المعرفة الحقيقية، وجهل الراهب يُظلم نفسه.

القديس هيبريشيوس الكاهن

الجهالة هي أم لغالبية الشرور.

الجهالة هي ام كل الشرور، تنبع عن الإهمال والكسل، وتنتعش وتزداد وتتأصل في أحاسيس الإنسان بالإهمال.

ليس الجهل إلا عدم معرفة ما هو الصالح لنا، فما أن نعرفه حتى يتبدد الجهل. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لذلك يلزم البحث بغيرة عن معرفة الحق. لا يقدر أحد أن يمنحها إلا النبي الحق (ربما يقصد السيد المسيح). فإن هذا هو باب الحياة للذين يدخلون، وطريق الأعمال الصالحة للذاهبين إلى مدينة الخلاص.

الأكلمنضيات


13. انهيار الأشرار

"الأشرار ينحنون،

أما الأخيار والأثمة لدى أبواب الصدِّيق" [ع 19]

يظن الأشرار أنهم يُخضعون الأبرار بعنفهم وخداعاتهم فيذلوهم، لكن سرعان ما ينهارون أمامهم. ويشعر الأثمة باحتياجهم إلى بركة الصدِّيقين، فيأتون إلى أبوابهم في ضعفٍ شديدٍ. أما في يوم الرب العظيم فسينهار الأشرار، ليس فقط من أجل حرمانهم من التمتع بالمجد الأبدي، وإنما برؤيتهم لزملائهم الذين كانوا يسخرون بهم وبإيمانهم وبساطة قلوبهم، وقد صاروا ديانين لهم. يرتعب الأشرار من أجل الفرص التي قُدمت لهم أثناء حياتهم على الأرض واستخفوا بها.

يقفون كمن هم أمام أبواب الصدِّيقين يطلبون مع العذارى الجاهلات أن يعطيهم زيتًا لآنيتهم، لكنه قد ضاع وقت العطاء!

* قيل إنه عندما كان أنبا أنطونيوس يجلس على الجبل وحيدًا ويصير في دهشة في تأملاته كانت تُعلَن له بعض الرؤى بواسطة العناية الإلهية، فكان يتعلَّم هذا المغبوط من الله كما هو مكتوب (إش 54: 13؛ يو 6: 45).

وقال عنه القديس كرونيوس إنه قال: [كنتُ أصلِّي لمدة سنة كاملة لكي أعرف أماكن الأبرار وأماكن الخطاة. وذات ليلة ناداه واحد من فوق قائلاً: قم يا أنطونيوس وافرح وانظر. ولما خرج تطلَّع إلى فوق فرأى ماردًا واقفًا يصل طوله إلى السحاب، طويلاً ومرعبًا ومزعجًا... ويداه مبسوطتان إلى السماء، وتوجد تحته بحيرة كبيرة في حجم البحر، ورأى نفوسًا طائرة كأنّ لها أجنحة مثل الطيور. وبسط المارد يديه فسقط بعض الصاعدين بينما طار الباقون إلى فوق متفادين رأس المارد ويديه فخلصوا، وإذ خلا لهم طريق الجو إلى السماء حُمِلوا بلا عناء إلى فوق. أما الذين طوّقتهم يداه فسقطوا في البحيرة. عند ذلك صرَّ المارد على أسنانه، ولكنه شمت بأولئك الذين سقطوا. وللحال جاء الصوت إلى أنبا أنطونيوس: أتفهم ما ترى؟ فانفتح ذهنه وسمع صوتًا عظيمًا قائلاً له: هذه هي نفوس الأبرار التي رأيتها طائرة، فعبرت إلى الفردوس وخلصت، وأن ذلك الكائن الطويل هو العدو الذي يحسد المؤمنين، وأن الذين أمسكهم وصدَّهم عن العبور هم أتباعه الذين تبعوا شهوات الجسد، فغرقوا في جهنم وهذه هي دينونتهم. أما الذين عجز عن أن يمسكهم وهم يجتازون إلى فوق فهم الذين لم يخضعوا له.]

فلما رأى ذلك، وكلّما كان يتذكره، كان يزداد جهادًا كل يوم للتقدُّم إلى ما هو قدام.

ولم يكن القديس يريد أن يتحدث عن هذه الرؤى، ولكنه عندما كان يصرف وقتًا طويلاً في الصلاة متعجبًا ومتحيرًا، ويضغط عليه الذين معه بالأسئلة، كان يضطر إلى الكلام كأبٍ لا يستطيع أن يُخفي شيئًا عن أبنائه، وكان يعتقد أنه طالما كان ضميره خالصًا فإنّ شرح هذه الأمور ينفعهم لكي يعرفوا أن النسك أتى بثمارٍ جيدة، وأن الرؤى كثيرًا ما تكون عزاءً عن أتعابهم.

بستان الرهبان


14. المحاباة

"أيضًا من قريبه يُبغض الفقير،

ومحبو الغنى كثيرون" [ع 20].

إذ حلّ الفساد بالإنسان صارت معاييره مادية، يبغض الفقير لمجرد فقره، حتى وإن كان قريبه، ويتملق الغني ويحبه بلا سبب، وإنما لمجرد غناه. لهذا جاءت الوصية الإلهية تدافع عن الفقير المظلوم، وتنهي عن المحاباة للأغنياء.

"لا تُحرِّف حق فقيرك في دعواه" (خر 23: 6).

"إن كان فيك فقير أحد من إخوتك في أحد أبوابك في أرضك التي يعطيك الرب إلهك، فلا تُقس قلبك، ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير" (تث 15: 7).

"لا تظلم أجيرًا مسكينًا وفقيرًا من إخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك" (تث 24: 14).

"يقيم المسكين من التراب، يرفع الفقير من المزبلة، للجلوس مع الشرفاء ويملكهم كرسي المجد، لأن للرب أعمدة الأرض، وقد وضع عليها المسكونة" (1 صم 2: Cool.

"لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين، إذ لا معين له" (مز 72: 12).

"نجوا المسكين والفقير من يد الأشرار، اَنقذوا" (مز 82: 4).

"الفقير السالك باستقامته خير من معوج الطريق وهو غني" (أم 28: 6).

"الفقير يكرَم من أجل عمله، والغني يكرم لأجل غناه" (سير 10: 33).

"تضرُّع الفقير يبلغ إلى أذنيّ الرب، فيجري له القضاء سريعًا" (سي 21: 6).

"لا يحابي الوجوه في حكم الفقير، بل يستجيب صلاة المظلوم" (سي 35: 16).

"ولا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير، ولا يفكر أحد منكم شرًا على أخيه في قلبكم" (زك 7: 10).

"يا إخوتي لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة. فإنه إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم ذهب في لباس بهيّ ودخل أيضًا فقير بلباس وسخ. فنظرتم إلى اللابس اللباس البهيّ وقلتم له اِجلس أنت هنا حسنًا، وقلتم للفقير قف أنت هناك، أو اجلس هنا تحت موطئ قدمي. فهل لا ترتابون في أنفسكم، وتصيرون قضاة أفكارٍ شريرة. اسمعوا يا إخوتي الأحباء، أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه. وأما انتم فأهنتم الفقير. أليس الأغنياء يتسلطون عليكم وهم يجرونكم إلى المحاكم" (يع 2: 1-6).

* ما هو النفع الذي يعود عليك بتكريمك (محاباتك) للغني؟ هل لأنه أكثر استعدادًا لإبقاء محبة الآخرين له؟ فنقدم المعروف لمن نتوقع منهم أنهم سيوافوننا عنه. إنه يلزمنا أن نفكر بالأكثر فيما يخص الضعفاء والمحتاجين لأننا بسبب هؤلاء نترجى الجزاء من الرب يسوع، الذي في مثال وليمة العرس (لو ١٤: ١٢-١٣) قدّم لنا صورة عامة للفضيلة. فقد طلب منا أن نقدم أعمالنا بالأكثر لمن ليس في قدرتهم ردها لنا.

القديس أمبروسيوس

* الجميع عند الله متساوون، إنما تسمو منزلة كل واحدٍ منهم حسب إيمانه، وليس حسب أمواله.

القديس أغسطينوس

* كثيرون ينتهرونني قائلين: أنت دائمًا تُضيِّق على الأغنياء، وهم بالتالي يُضيِّقون على الفقراء.

حسنًا إنني أُضيِّق على الأغنياء، أو بالحري ليس على الأغنياء، بل على الذين يُسيئون استخدام الأموال. فأنا لا أهاجم أشخاصهم بل جشعهم. فالغِنَى شيء، والجشع شيء آخر، وجود فائض شيء والطمع شيء آخر.

هل أنت غني؟ أنا لا أمنعك من هذا. كن غنيًا. هل أنت جشع؟ إنني أتوَعَّدك... إنني لن أسكت.

هل تهاجمني بسبب هذا؟ إنني مستعد أن يُسْفَك دمي، لكنني أريد أن أمنعك عن أن تخطئ. إنني لا أُكِنُّ لك بغضة، ولا أشنّ عليك حربًا، إنما أريد أمرًا واحدًا، هو نَفْع المستمعين إليَّ.

إن الأغنياء هم أولادي، والفقراء أيضًا أولادي. إن رَحمًا واحدًا (المعموديّة) تَمَخَّض بهم بشدة. فالكل هم نسل لمن تَمَخَّض بهم. فإن كنتَ تَكيل الإهانات للفقير، فإنني أَتَوَعَّدك لأن الفقير في هذه الحالة لا تحل به خسارة مثلك. لأنه لا يسقط في الخطأ بل ما يصيبه من خسارة هو مجرد فقدانه المال، أمَّا أنت فكغني تلحق بك الخسارة في روحك.

القديس يوحنا ذهبي الفم

قيل إنّ الوالي أراد مرةً أن يرى أنبا بيمين ولكنّ الشيخ رفض ذلك، فقبض الوالي على ابن أخته وحبسه كأنه فاعل شرٍّ قائلاً: إذا جاء الشيخ وسألني بخصوصه سأطلقه. فجاءت أخته إليه وقرعت على بابه باكيةً، فلم يُجبها البتة. فوبّخته قائلةً: يا قاسي القلب، يا حديدي الأحشاء، ارحمني فإنه وحيدي وليس لي سواه! فقال لها: بيمين لم يلد أولادًا، فانصرفت. وسمع الوالي بذلك فقال: وإن سألني ولو بالكتابة فسأطلقه. ولكنّ الأب بيمين أرسل إلى الوالي قائلاً: افحص قضية الشاب حسب القانون، فإن كان مستحقًا للعقوبة فليُعاقَب، وإلاّ فافعل كما ترى. فتعجّب الوالي من فضيلته، وأطلق سراح الشاب.

حدث مرةً أنّ الوالي قبض على واحدٍ من بلدة أنبا بيمين الأصلية، فذهب كثيرون إلى الشيخ متوسلين إليه أن يتوسط في إطلاق سراحه، فقال لهم: اتركوني ثلاثة أيام ثم أذهب. ثم صلَّى القديس للرب قائلاً: لا تعطني يا رب هذه النعمة (أمام الوالي)، وإلاّ فإنهم لن يَدَعوني أمكث في هذا المكان. ثم ذهب الشيخ ليتشفع عند الوالي الذي أجابه: هل تتشفع أيها الأب من أجل لص؟ ففرح الشيخ لأنه لم يُمنح هذه النعمة.

فردوس الآباء

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [من هو ليس غنيًا في نفسه لا يمكن أن يكون غنيًا، كما أنه لا يمكن أن يكون فقيرًا من هو ليس بفقيرٍ في ذهنه. فإن كانت النفس هي أسمى من الجسد، فالأعضاء الأقل سُموًا ليس لها سلطان تؤثّر به حتى على ذاتها، أمّا ما هو أسمى فإنه يؤثر عليها ويغيِّرها]، كما يقول: [لا نفع للمال إذا كانت النفس فقيرة، ولا ضرر من الفقر إن كانت النفس غنية.]

ويُعلّق القدّيس كيرلّس الكبير على المرأتين اللتين تطحنان على الرحى فتُؤخذ الواحدة وتترك الأخرى قائلاً: [يبدو أن هاتين المرأتين تشيران إلى الذين يعيشون في فقر وتعب، فحتى هؤلاء يوجد بينهم اختلاف كبير. البعض منهم يحتملون الفقر بنضوجٍ وقوةٍ في حياة فاضلة، والآخر لهم شخصيّات مختلفة إذ يسلكون بدهاء في حياة شرّيرة دنيئة.]

"من يحتقر قريبه يخطئ،

ومن يرحم المسكين فطوبى له" [ع 21]

من يستخف بأخيه في كبرياء يخطئ، أما من يرحم المسكين، فإذ لا ينتظر منه مكافأة، ينال شركة الحياة المطوَّبة، لأنه يمتثل بالله الرحوم، إله المساكين والمطرودين والمرذولين والذين ليس لهم من يسأل عنهم.

* إن كان ملكوت الله للمساكين، فمن هو أغنى منهم؟

القديس أمبروسيوس


15. نهاية الشر

"أما يضل مخترعو الشر؟!

أما الرحمة والحق فيهديان مخترعي الخير" [ع 22]

الذين يتفننون في الشر يخطئون الطريق، أما الرحمة والحق فيقودان المهتمين بالخير في الطريق الملوكي.

* ليس شيء يجعلنا مساوين لله سِوى فعل الصلاح (الرحمة).

* لنأتِ بأنفسنا وأولادنا وكل من لنا إلى مدرسة الرحمة، وليتعلَّمها الإنسان فوق كل شيء، فالرحمة هي الإنسان... لنحسب أنفسنا كمن هم ليسوا أحياء إن كنا لا نظهر الرحمة بعد!

* المحبَّة (الرحمة) كما لو كانت أسمى أنواع الصناعة، وحامية لمن يمارسها. إنها عزيزة عند الله، تقف دائمًا بجواره تسأله من أجل الذين يريدونها، إن مارسناها بطريقة غير خاطئة!...

إنها تشفع حتى في الذين يبغضون! عظيم هو سلطانها حتى بالنسبة للذين يُخطئون!

إنها تحل القيود، وتبدِّد الظلمة وتُطفئ النار، وتقتل الدود، وتنزع صرير الأسنان.

أمامها تنفتح أبواب السماوات بضمان عظيم، وكملكة تدخل، ولا يجسر أحد الحُجَّاب عند الأبواب أن يسألها من هي، بل الكل يستقبلها في الحال.

هكذا أيضًا حال الرحمة، فإنَّها بالحق هي ملكة حقيقيّة، تجعل البشر كالله. إنها مجنحة وخفيفة لها أجنحة ذهبيّة تطير، بها تبهج الملائكة جدًا.

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم


16. العمل والتعب

"في كل تعب منفعة،

وكلام الشفتين إنما هو إلى الفقر" [ع 23]

الله لا ينسى تعب المحبة، ولا يحرم إنسانًا من ثمرة جهاده، أما الذي يتكلم ولا يعمل، فيسير في طريق الفقر ولا ينال شيئًا.

* أن تعرف الصلاح هذا لا يكفي لبلوغ الطوباوية، إن كان أحد لا يضع الصلاح موضع الممارسة بالعمل! التقوى في الله هي البدء العملي للمعرفة.

القديس ديموديوس الضرير

* التقوى في الله هي البداية (للتمييز). إنها تعمل كينبوعٍ ومصدر لإدراك الإلهيات حسب إنساننا الداخلي، حتى نرى النور الحقيقي، ونسمع الوحي الإل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 10, 2011 12:44 am

الاصحاح الخامس عشر


عبور الحياة بقلبٍ باشٍ

في الأصحاح السابق يشتهي الحكيم أن يتمتع المؤمن بمخافة الرب لتقوده في الحياة، فيسلك بروح الحكمة والتمييز، ويتمتع بالحصانة الإلهية. هذه الحياة الورعة ليست كما يظنها البعض تتسم بالحرمان والكآبة، وإنما تتسم بالشبع الداخلي وفرح الروح، هذا الفرح الذي ينعكس على كل حياة الإنسان حتى على وجهه، فيسكب عليه روح البشاشة مع وقارٍ واتزانٍ وفي اعتدالٍ.

1. اللطف والحوار بلا غضبٍ .

2. الاهتمام بإرضاء الله لا الناس .

3. عذوبة اللسان .

4. قبول التأديب الأبوي .

5. كنز البار .

6. عبادة مقبولة .

7. بغض المستهزئين له .

8. بشاشة الوجه والقلب .

9. القناعة مع الحب .

10. السلام مع طول الأناة .

11. الاجتهاد .

12. تهليل الأسرة به .

13. فهم وتروٍ .

14. كلمات حكيمة مفرحة .

15. استقرار عائلي.

16. قلب متعقل .

17. قرب لله .

18. فرح داخلي .

19. استماع وتعقل .

20. التواضع واهب الكرامة .


1. اللطف والحوار بلا غضبٍ

"الجواب اللين يصرف الغضب

والكلام الموجع يهيج السخط" [ع 1]

كثيرون تحولوا من أصدقاء إلى أعداء لسنوات طويلة بسبب الكلمات الجارحة، بينما كسب البعض أعداءهم وصاروا أصدقاء لهم بالكلمات اللطيفة الرقيقة.

تحت ستار الدفاع عن الحق، أو تحت ستار الصراحة والحب، كثيرًا ما نجرح مشاعر إخوتنا بالكلمات العنيفة القاسية. في عتاب السيد المسيح للمرأة الخاطئة قال: "أما دانِكْ أحد... ولا أنا أُدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضًا" (يو 8: 10-11). وفي حواره مع المرأة السامرية في لطفٍ طلب منها أن يشرب كمن هو محتاج إليها (يو 4: 7)، وإذ أجابته: "كيف تطلب مني لتشرب، وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية؟" لأن اليهود لا يعاملون السامريين، لم يجرح مشاعرها بكلمة واحدة، بالرغم من معرفته لماضيها المُشين وحاضرها غير اللائق. بلطفه كسبها، بل وكسب كل مدينة سوخار.

* فم العفيف يتكلم بالطيبات، ويلذذ صاحبه، ويُفرِّح سامعيه. من كان كلامه مرتبًا وعفيفًا، وهو طاهر بقلبه، فهو ابن ميراث المسيح، ومن كان كلامه بقلقٍ ومعكر بالغضب، فهو شيطانٍ ثانٍ.

* فم الجاهل يفيض مرارة، ويقتل صاحبه، ويُسكر الذين ينصتون إليه.

* الذي يلطف كلامه ويمكر ليضر هو شيطان ثانٍ.

الشيخ الروحاني

* قدم ربنا أغلب معونته بالإقناع أكثر من اللوم. الأمطار الهادئة تلين الأرض وتتسلل إليها تمامًا، أما المطر الشديد فيجعلها قاسية ويفسد سطح الأرض، فلا تمتص المياه. "الكلام الجاف يهيِّج السخط" ومعه يحدث ضرر. بينما تفتح الكلمة الجافة الباب يدخل الغضب، وعلى أعقاب الغضب يتم الضرر.

القديس مار أفرام السرياني

* من لا يقدر أن يضبط لسانه وقت الغضب، لن يقدر أن يغلب حتى ولا صغيرة من صغار الآلام (الشهوات).

الأب إيرايس

* "الغضب يحطم حتى المتعقل، والجواب اللين يصرف الغضب، والكلمة الموجعة تهيج السخط"، كل شيء يعتمد على قرارك، أن تثير الغضب أو تسلك بهدوءٍ... وإن كان الغضب يدمر حتى المتعقل، كم بالأكثر يدمر أولئك الذين يُقال عنهم إن هذا الغضب يهلك الجاهل؟ هذا يحدث بلا شك للمتعقل بسبب الإهمال. لكن الجواب اللين يصرف الغضب، أي الجواب بتواضعٍ ظاهر دون فظاظة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لسان الحكماء يحسن المعرفة،

وفم الجهال ينبع حماقة" [ع 2]

اللسان هو باب القلب، فالحكيم يُخرج كلمات معرفة لبنيانه وبنيان إخوته. والجاهل يُخرج كلمات حماقة تفسد حياته وحياة إخوته.

الحكيم يعرف ماذا يقول، ومتى، وإلى أي مدى، فكل كلمة لها وزنها الخاص، يفكر فيها قبل أن ينطق بها.

من أروع الأمثلة إجابة جدعون المملوءة حكمة وتواضعًا عندما خاصمه رجال أفرايم بشدة لأنه لم يدعُهم عند ذهابه لمحاربة المديانيين، إذ قال لهم: "ماذا فعلت الآن نظيركم؟ أفليس خصاصة أفرايم خيرًا من قطاف أبيعزر. ليدكم دفع الله أميريّ المديانيين غرابًا وذئبًا. وماذا قدرت أن أعمل نظيركم" (قض 8: 2-3). ويعلق الكاتب: "حينئذ ارتخت روحهم عنه، عندما تكلم بهذا الكلام". وعلى العكس عندما أخذ رجال أفرايم نفس الموقف مع يفتاح عند محاربته بني عمون، عوض الإجابة بروح التواضع وبخهم ودخل معهم في حرب، قُتل فيها اثنان وأربعون ألفًا من أفرايم (قض 12: 1-6).

* الذي يصوِّم فمه من الطعام ولا يصوِّم قلبه من الحقد ولسانه من الأباطيل فصومه باطل، لأن صوم اللسان أخير من صوم الفم، وصوم القلب أخير من صوم الاثنين. قوة الجسد في المأكولات وغذاء النفس في الكلام والحكايات، وكما أن الشره إلى كثرة الحكايات هو رغبة النفس؛ هكذا السكوت فهو ثمرة الحكمة المزمعة. الذي يُزيل من ضميره هفوات قريبه يزرع السلام في قلبه. الساذج الحكيم بالله أخير من الفهيم الغاش بضميره. الذي استعبد بطنه ولسانه أخير من الذي استعبد الأسد، والذي قمع الكلمة في قلبه أخير من الذي طمر وزنته في الأرض. الإنسان المجرد من الصلاح ويجادل بخصوص الفضائل لا فرق بينه وبين الأعمى المجرد من النور ويجادل بخصوص الحجارة الكريمة والألوان الكثيرة.

القديس إسحق السرياني


2. الاهتمام بإرضاء الله لا الناس

"في كل مكان عينا الرب مراقبتين الطالحين والصالحين" [ع 3]

إذ يدعونا الحكيم إلى الحديث اللطيف واللين حتى نصرف روح الغضب عمن يضايقنا، كما يُعلن أن كلماتنا هي ترجمة لما في قلوبنا وأفكارنا من حكمةٍ ومعرفةٍ صادقةٍ، فإن ما يشغلنا حقيقة هو إرضاء الله لا الناس. فمع الكلمات العذبة يلزمنا أن تكون أعماقنا مقدسة تتناغم من عذوبة الكلمات. فإن عينيّ الرب تتطلعان إلى أعماقنا.

عندما أرادت امرأة فوطيفار أن تجتذب يوسف الشاب للخطية، قال لها: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟" (تك 39: 9). وسط كل الظروف القاسية التي عاشها حيث حُرم من والديه، وبيع كعبدٍ، والتي تغريه هي سيدته، لكنه كان يدرك أن عينيّ الله تراقبانه!

أخطأ موسى النبي حين "التفت إلى هنا وهناك ورأى أنه ليس أحد فقتل المصري، وطمره في الرمل" (خر 2: 12). إنه لم ينظر إلى فوق ليدرك أن الله يراه! يليق بنا في كل تصرفاتنا، حتى في عبادتنا أن يشغلنا تطلع الله إلى قلوبنا ومشاعرنا الداخلية!

* عندما نجتمع مع الإخوة في موضعٍ واحدٍ ونحتفل بالذبيحة الإلهية مع كاهن الله، يلزمنا أن نضع في أذهاننا التواضع والتأدب ولا نقذف بصلواتنا بطريقة عشوائية بأصوات فظة ولا نلقي بطلباتنا بثرثرة عنيفة. بل بالحري يلزم أن تقدم طلبتنا لله في تواضعٍ، فإن الله يسمع لقلوبنا لا لأصواتنا.

الله الذي يرى أفكارنا، لا يُعاتب بصيحات، وكما يقول الرب: "لماذا تفكرون باطلاً في قلوبكم؟" (راجع مت 9: 4). وفي موضع آخر يقول: "ستعرف كل الكنائس أنني فاحص الاشتياقات والقلوب" (راجع رؤ 2: 23).

الشهيد كبريانوس


3. عذوبة اللسان

"هدوء (سلامة صحة) اللسان شجرة حياة،

واعوجاجه سحق في الروح" [ع 4]

بين الحين والآخر يعود الحكيم إلى الحديث عن اللسان، مدركًا مدى خطورته، ففي سلامته يتمتع المؤمن كما بشجرة الحياة، وفي اعوجاجه يفقد حياته، إذ تنسحق روحه وتتذمر! يمكن أن يكون اللسان بركة تحمل الإنسان إلى التمتع بالحياة الأبدية، كما يمكن أن يكون لعنة تدفع به إلى العقوبة الأبدية.

اللسان السليم ذو الصحة هو اللسان الذي يصنع سلامًا بين الإخوة، أما اللسان المريض المعوج، فهو الذي يصنع خلافات وانشقاقات بين الإخوة. يقول إبراهيم لابن أخيه لوط: "لا تكن مخاصمة... لأننا نحن أخوان" (تك 13: Cool.

* "سلامة اللسان هي شجرة الحياة". اللسان الذي لا يخطئ بالكلام يتسم بالصحة، فإن مرض اللسان هو خطيته. من يقدر أن يضبط لسانه ولا يخطئ، يكون مملوءً بالروح القدس.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* كن مالكًا قلبك واضبط لسانك (يع 1: 26). لا يلذّ لكَ أن تسمع قولاً ضد أحد حتى يكون لكَ سلام مع جميع الناس، لأن كل قديسي الرب هم في سلام، والله يسكن فيهم. كما هو مكتوب: "سلامة جزيلة لمحبي شريعتك" (مز 118: 165). فالذين يحبون الله يعيشون في سلام مع جميع الناس.

القديس إسطفانوس الطيبي

* الراهب الذي لا يخطئ بلسانه هو حقًا كوكب مضيء على هذه الأرض.

القديس هيبريشيوس الكاهن


4. قبول التأديب الأبوي

"الأحمق يستهين بتأديب أبيه،

أما مُراعي التوبيخ فيُذكى" [ع 5]

من الغباء أن يرفض الإنسان في كبرياء الانتفاع بخبرة من سبقه في الطريق، سواء من والديه أو من أبيه الروحي.

الإنسان الذي يحرص على خلاص نفسه يقبل انتهار من سبقوه وتأديباتهم، كما يقبل تأديبات الرب نفسه بكونه أباه السماوي المهتم بخلاص نفسه والدخول به إلى الأمجاد السماوية. قبول التأديب برضا دليل قوي على محبة الحكمة، يزكي المؤمن أمام الله.

* التعقل الحقيقي هو معرفة ما يلزم أن تفعله وما لا تفعله. من يقتنيه لن يحجم عن ممارسة الأعمال الفاضلة، ولن يُجرح بسهم الرذيلة القاتل. هكذا من يفهم كلمات التعقل يعرف الفرق بين ما هو غادرٍ، مبني على الخداع، وبين ما يذكرنا بهدوء الطريق الأفضل لنمارس الحياة. وذلك مثل ممارسة الصراف، فإنه يحجز ما هو حسن ويمتنع عن كل شبه شرٍ (1 تس 5: 21).

هب مثل هذا التعقل لباني بيته، فيضع أساساته على الصخر، أي يسنده بالإيمان بالمسيح، فلا يتزعزع عندما تهاجمه الرياح والأمطار والعواصف (مت 7: 25). فإن الرب يعلمنا خلال هذا المثل أن نبقى ثابتين عند هبوب التجارب، سواء كان مصدرها بشريًا أو فائقًا للطبيعة. بجانب هذا يعلمنا ألا نجهل الأمور الضرورية، بل نتزود بها في رحلة الحياة، فنتوقع مجيء العريس بقلوبٍ غيورةٍ.

التعقل هو السمة التي بها تتم كل الأشياء خلال مثابرة ماهرة، وبنفس الطريقة المكر هو السمة التي بها يُرتكب الشر. فإن كل نشاطٍ يمكن أن يُضاف إليه التعقل، حتى الشرور أيضًا يمكن أن تحدث في كل الأمور، لهذا فإن اسم التعقل يعني حقيقتين (من يمارس العقل للصلاح أو للشر).

فمن يستخدم الذكاء والمهارة لدمار الآخرين هو شرير، أما من يعمل باستقامة وحكمة يكشف عن صلاحه، هذا يقتني التعقل المستحق المديح.

اَنصتوا باجتهاد إلى صوت النفس المتعقلة، فستعرفون أنها تحوي مركزًا فيه تُقدم المشورة السليمة لنفعها ونفع قريبها ومستحقة المديح. أما التعقل الذي يُستخدم لأذية القريب فمستوجب الإدانة.

القديس باسيليوس الكبير

* إذا أخطأنا، فإنّ الله قد يُنهِض علينا أعداءنا ليؤدِّبنا، وعلى ذلك ينبغي ألا نحاربهم، بل أن نحاسب أنفسنا ونثقِّفها. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). وطالما أطلقهم علينا بسبب خطايانا، فمتى حاربناهم نصرهم علينا، ولهذا أمرَنا ألاّ ننتقم من أعدائنا. فلنقبل الامتحانات كقبول الأدوية من الطبيب لكي نخلص، وكقبول التأديب من الأب لكي نتهذّب. ولهذا قال الحكيم: "يا بُنيّ إن أقبلتَ على خدمة الرب الإله فاثبت على البرّ والتقوى وأعدد نفسك للتجربة" (سي 2: 1).

القديس يوحنا الذهبي الفم

* الذي يماحك قبالة التأديب يبعد عنه المراحم الأبوية. الذي يتذمر مقابل التجارب تتضاعف عليه. الذي لا يتأدب ههنا وينسحق بالتجارب يتعذب هناك بلا رحمة.

القديس مار اسحق السرياني


5. كنز البار

"في بيت الصدِّيق كنز عظيم،

وفي دخل الأشرار كدر" [ع 6]

بيت الصدِّيق الذي هو قلبه يضم كنزًا ثمينًا لا يُقدر، هو ثمر الروح من فرح ومحبة وسلام الخ. (غل 5: 22)، أما دخل الأشرار أو ما يقتنوه من شرورهم، فهو الكراهية والقلق والاضطراب الخ. هذه هي محصلة شرورهم!

سمة البار الفرح الداخلي والسلام الذي يفوق العقل، وسمة الشرير القلق والاضطراب الداخلي.

كنز الصدِّيق هو العريس السماوي، عمانوئيل الذي يحل بالإيمان في قلوبنا، وكدر الشرير حرمانه من العريس السماوي.

يتمتع الأبرار بقلوبٍ تحولت إلى بيوت عرس للعريس السماوي، وتتحول قلوب الأشرار إلى جحيم يسكنه عدو الخير.

* حرف "إيتا" يعني "إيل" باللغة العبرية التي تعني "الله"، لأنّ النبي إشعياء قال: "عمانوئيل" (إش 7: 14)، والقديس متى الإنجيلي المبشر بالفرح الذي لا يُنطَق به فسّرها بقوله: "عمّانو" تعني "معنا"، و"إيل" تعني "الله" (مت 1: 23).

فلنفحص أنفسنا، إذن، لنرى إن كان الله حقًا معنا. فإن كنا بعيدين عن الشرور، وغرباء عن الشيطان مصدرها، يكون الله حقًا معنا.

إذا ملكَت علينا شهوة الأعمال الصالحة وسررنا بها مع الاعتياد على اعتبار سيرتنا في السماويات (اُنظر في 3: 20)؛ يكون الله حقًا معنا.

إذا اعتبرنا جميع الناس متساوين وجميع الأيام كأنها متشابهة؛ يكون الله حقًا معنا.

إذا أحببنا الذين يُبغضوننا والذين يُهينوننا والذين يقسون علينا والذين يحتقروننا والذين يُسيئون معاملتنا والذين يكدِّروننا، مثل الذين يحبوننا والذين يمدحوننا والذين يُحسِنون إلينا ويُريحوننا؛ يكون الله حقًا معنا.

والعلامة على أنّ الإنسان قد بلغ إلى هذه الدرجة من الكمال هي إحساسه بأنّ الله دائمًا معه - وهو بالفعل دائمًا معه - وشعوره بأنه حصل على كل ذلك.

فليفرح في الرب مَنْ أدرك ذلك ومَنْ سيدركه ومَنْ له رجاء في أن يدركه!

"إيتا" تعني "مرشِد"، والمرشِد هو الذي يقود.

إنه يقودك إلى النور، فلا تطلب الظلمات.

هو يقودك إلى الاستقامة، فلا تطلب الكذب.

إنه يقودك إلى الحق، فلا يخدعك الوهم.

هو يقودك إلى السلام، فلا تطلب الخصام.

إنه يقودك إلى الفرح، فلا تسعَ إلى الحزن.

هو يقودك إلى التواضع، فلا تستسلم للكبرياء.

إنه يقودك إلى العدل، فلا تبحث عن الظلم.

يقودك ليُعينك على احتمال الشتائم والإهانات التي توجَّه ضدّك، فلا تطلب المديح والمجد الباطل.

إنه يقودك إلى الإماتة، فلا تطلب الراحة والهناء.

يقودك إلى ناحية اليمين، فلا تضع نفسك بين الذين عن اليسار.

إنه يقودك إلى الحياة الأبدية، فلا تطلب العقاب الأبدي في جهنم، النار التي لا تُطفَأ.

والعلامة في رفض الإنسان لما يجب أن يُرفض هي في اختياره للصالحات، وفي عدم الاستهانة قط بصلوات النهار والليل. فليفرح في الرب مَنْ أدرك ذلك ومَنْ سيدركه ومَنْ له رجاء في أن يدركه!

القديس برصنوفيوس

"شفاه الحكماء تذر معرفة،

أما قلب الجهال فليس كذلك" [ع 7]

شفاه الحكماء تعلن عما في قلوبهم من معرفة صادقة تبني النفوس وتبث البركة على السامعين. أما الجهلاء الأشرار فينطقون بما في قلوبهم من غباوة لا تفيد أحدًا إن لم تضرهم.

في بافوس تكلم بولس وبرنابا مع الوالي الذي كان يلتمس أن يسمع كلمة الله (أع 13: 7)، أما عليم الساحر فأراد بكلماته أن يفسد الوالي عن الإيمان (أع 13: Cool.


6. عبادة مقبولة

"ذبيحة الأشرار مكرهة الرب،

وصلاة المستقيمين مرضاته" [ع 8]

إذ يطلب الله نقاوة القلب يقبل صلاة الأبرار ويُسر بها، ويرفض ذبائح الأشرار وتقدماتهم. الله ليس بمحتاج إلى تقدماتنا وذبائحنا وعبادتنا، إنما يطلب قلوبنا.

* لا يحتاج الله إلى ذبائح، كما هو واضح جدًا في الأسفار المقدسة. "قلت للرب: أنت إلهي، لا تحتاج إلى خيراتي" (راجع مز 16: 2)، فإنه في قبولها أو رفضها يتطلع فقط إلى خير الإنسان. الله لا ينال أية منفعة من عبادتنا، إنما نحن ننال ذلك.

القديس أغسطينوس

* لم يبدأ قايين شره عندما قتل أخاه. فإنه حتى قبل ذلك، فإن الله الذي يعرف القلب لم ينظر إلى قايين ولا إلى ذبيحته. وإنما ظهرت دناءته واضحة عندما قتل هابيل.

العلامة أوريجينوس

* أول كل شيء قبل الله تقدمة هابيل بسبب نقاوة قلبه، ورُفضت تقدمة قايين (تك 4: 4). كيف نعرف أن تقدمة هابيل قُبلت، بينما رُفضت تقدمة قايين؟ وكيف شعر هابيل بقبول تقدمته؟ وكيف تأكَّد قايين من رفض تقدمته؟ سأحاول قدر استطاعتي شرح ذلك.

أنت تعلم يا عزيزي أن علامة التقدمة المقبولة من الله هي نزول نار من السماء وحرق التقدمة. عندما قدَّم هابيل وقايين تقدماتهما معًا، نزلت النار الحيَّة التي تخدم أمام الله (مز 104: 4) والتهمت ذبيحة هابيل النقيَّة، بينما لم تمس ذبيحة قايين غير النقيَّة. وهكذا عرف هابيل قبول تقدمته، وقايين رفض تقدمته. لقد عُرفت ثمار قلب قايين بعد ذلك حين اُختبر ووجد أن قلبه مملوء غشًا، حين قتل شقيقة، وهكذا فما حبل به في فكره ولدته يداه. ولكن نقاوة قلب هابيل كانت أساس صلاته.

الصلاة المحبوبة هي الصلاة النقيَّة الخالية من كل غش. وتكون الصلاة قويَّة عندما تعمل قوَّة الله فيها.

عزيزي، كتبت إليك أن الإنسان عندما يلتزم أن يتمم مشيئة الله، وتكون المحور الأساسي لصلاته، يسمو الإنسان في صلاته. قلت لك هذا لا تهمل الصلاة.

القديس أفراهاط

* يمكننا أن نكتشف مشورات كثيرة بخصوص أمور أخرى أيضًا مثل الصلاة. يقول الكتاب: الأعمال الصالحة هي صلاة مقبولة لدى الرب. يوصف الطريق للصلاة: إذا رأيت عريانًا أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن أعضاء أسرتك. حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك، وتشرق ثيابك سريعًا، يسير برَّك أمامك، ومجد الرب يحوط بك (راجع إش 58: 7-Cool.

القديس إكليمنضس السكندري

"مكرهة الرب طريق الشرير،

وتابع البرّ يحبه" [ع 9]

مسرة الله أن يتمتع الإنسان بالبنوة له، فيسلك كابن لله، حسب الروح، وليس حسب الجسد. "لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله... فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله" (رو 8: 7-Cool. كما سبق فقال إن ذبيحة الأشرار مكرهة الرب، ذلك لأن قلوبهم شريرة، وطرقهم شريرة. فلا يليق بالخاطي أن يقدم شيئًا لله ما لم يقدم التوبة، أي يرجع بقلبه لله، وتنحني نفسه بالطاعة له مشتاقة أن تتمتع بوجهه. هكذا إذ يتبرر الخطاة أمام الرب خلال التوبة، ويجدون مسرتهم فيه، ويطلبونه بإخلاص، يُسر هو أيضًا بطرقهم وعبادتهم وذبائحهم الروحية.

كأن الله يطلب قلب الإنسان وتجديد إنسانه الداخلي وتمتعه بعمل روحه القدوس، عندئذ يصير بكليته موضع سرور الله. بهذا يمكن للمؤمن أن يرتل بإخلاص ويقين: "أدخل إلى بيتك بمحرقات، أوفيك نذوري التي نطقت بها شفتاي، وتكلم بها فمي في ضيقي. أصعد لك محرقات سمينة مع بخور كباش أقدم بقرًا مع تيوس" (مز 66: 13-15). كما يقول: "إن راعيت إثمًا في قلبي لا يستمع لي الرب. لكن قد سمع الله، أصغى إلى صلاتي" (مز 66: 18-19).

* واضح أن الذبائح لم تُقم من أجل ذاتها، وإنما لكي توحي ببقية طريقة سلوكهم. فعندما أهملوا التزاماتهم الرئيسية ولم ينشغلوا بشيء إلا بالذبائح، قال الله لهم إنه لا يعود يقبلها (عا 5: 22، إر 6: 20، مي 6: 6-Cool.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* يقول الله نفسه إنه يطلب الطاعة لوصاياه عن تقديم ذبيحة له. يعلن الله ذلك، وقد أعلن موسى ذلك لشعب إسرائيل، كما يكرز بولس بذلك للأمم. لتفعلوا هذا الذي ترونه أفضل... "أريد رحمة لا ذبيحة" (مت 9: 13).

القديس إمبروسيوس

* معرفة الله أفضل من تقديم ذبيحة ومحرقات، إذ تحضرنا إلى الكمال في المسيح. فإننا به وفيه نعرف الآب، ونصير أغنياء في التبرير بالإيمان.

القديس كيرلس الكبير

"تأديب شر لتارك الطريق،

مبغض التوبيخ يموت" [ع 10]

يترجمها البعض: "التأديب (الإصلاح) خطير لمن يترك الطريق"، وذلك مثل آخاب الذي كان يبغض من يقدم له نصيحة صادقة أو يخبره بخطئه. قال آخاب ليهوشفاط: "إنه يوجد بعد رجل واحد لسؤال الرب به، ولكني أبغضه، لأنه لا يتنبأ عليّ خيرًا بل شرًا، وهو ميخا بن يملة" (1 مل 22: Cool وأيضًا حين التقى بإيليا قال له: "هل وجدتني يا عدوي!" (1 مل 21: 20) كما قال له: أأنت هو مكدر إسرائيل؟" (1 مل 18: 17). هكذا أيضًا كان موقف يهوياقيم بن يوشيا، الذي إذ سمع جزء مما جاء بالدرج أنه "شقّة بمبراة الكاتب، وألقاه إلى النار التي في الكانون، حتى فني كل الدرج في النار التي في الكانون" (إر 36: 23). مثل هذين الملكين لا يحتملون كلمة الله، ولا يقبلون رجال الله، ولا يقدرون قيمة التوبة، بل يبغضون كلمة الحق والإرشاد الصادق. هؤلاء إذ يبغضون التأديب يموتون في خطاياهم.

"الهاوية والهلاك أمام الرب،

كم بالحري قلوب بني آدم" [ع 11]

في الآية 3 يقول الحكيم إن عينيّ الرب مراقبتان الطالحين والصالحين في كل موضع. هنا يؤكد أن الله النور الحقيقي يرى كل شيء، حتى الهاوية والهلاك حيث قمة ظلمة الموت والدمار، فهما أمامه وليسا مخفيين عنه، فهل يختفي شيء مما في قلوب البشر عنه. وكما يقول الرسول: "كل شيء عريان ومكشوف لعينيّ ذاك الذي معه أمرنا" (عب 4: 13).

ما يبدو لكثير من البشر أنه غير منظور مثل السماء والفردوس وجهنم والجحيم هي حقائق منظورة بواسطة الله، يقدمها لبنيه بروحه القدوس، فلا يرونها خيالاً كما يظن الآخرون، بل يرونها وقائع، ويشتاقون بكل قلوبهم للعبور إلى الفردوس، والدخول في السماء، والخلاص من قوات الظلمة.

لقد وعدنا السيد المسيح أن روحه القدوس يأخذ مما له ويعطينا (يو 16: 15)، أي يأخذ مما هو منظور بالنسبة له، ويعلنه لنا، بل ونختبر الحياة الفردوسية، ونتذوق عربون السماويات، فلا نخشى الجحيم لأن لا موضع لنا فيه.

* لنعجب إلى أين رفع الكنيسة؟ لقد رفعها كما بوسيلة معينة وأقامها في الأعالي، وأجلسها على عرشٍ سامٍ، لأنه حيث يكون الرأس هناك يوجد الجسد أيضًا. لا يوجد فاصل بينهما، وإلا فلا يعود الجسد جسدًا، ولا الرأس رأسًا.

* في استطاعتنا - إن أردنا - ألا نكون في الجسد، ولا على الأرض، بل نكون في الروح، في السماء.

لندخل إلى نفوسنا... إلى السماء، في الروح!

لنمكث في سلام الله ونعمته، ولنتحرر من الجسديات، فننعم بالصالحات في المسيح ربنا.

* يليق بكم وأنتم خارجون من هذا الموضع أن تعلنوا عنه أنه موضع مقدس. تخرجون كأناسٍ نازلين من السماء عينها، مملؤين وقارًا وحكمة، ناطقين وعاملين كل شيءٍ بلياقة...

علِّموا الذين في الخارج أنكم في صحبة السيرافيم.

علِّموهم أنكم محصون مع السمائيين، معدودون في مصاف الملائكة، تتحدثون مع الرب، وتكونون في صحبة السيد المسيح.

وإذ يتطلعون إلى جمال نفوسكم المتلألئة تلتهب قلوبهم بمظهركم الصالح، مهما بلغ غباؤهم، لأنه إن كان جمال الجسد يغري ناظره، كم بالأحرى جمال النفس وتناسقها يهز ناظريها ويجذبهم إلى ذات الغيرة ؟!

* الكنيسة هي أعلى من السماء وأكثر اتساعًا من المسكونة.

القديس يوحنا الذهبي الفم


7. بغض المستهزئين له

"المستهزئ لا يحب موبخه،

إلى الحكماء لا يذهب" [ع 12]

بهذا المثل يوضح بالأكثر ما ورد في الآية 10. فالشخص غير الجاد، والمستهزئ لا يبالي بالأمور الأخروية، حتى وإن كانت حقائق راسخة منظورة أمام الرب. ما يشغله ملذاته وكرامته، فيبغض من يوبخه، ولا يود مجالسة الحكماء والحديث معهم. يحسب أحاديثهم عن الأبدية خيالاً ومضيعة للوقت وحرمانًا من الملذات.


8. بشاشة الوجه والقلب

"القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا،

وبحزن القلب تنسحق الروح" [ع 13]

تملأ التعزيات الإلهية قلب الإنسان الروحي، فتعكس على وجهه بشاشة دائمة، قادرة على مواجهة الضيقات.

يرى الإنسان الروحي مسيحه مقيمًا في قلبه يشبعه، ويقود حياته ويخلصه من الضيقات، بل ويحول الآلام إلى أمجاد، حيث تصير شركة آلام معه.

ليس شيء يحطم الإنسان مثل الحزن الداخلي الخفي، وعدم إدراكه لحقيقة عمل السيد المسيح بكونه مخلصه من الخطايا وحامل أثقاله.

* هذا الفرح لا ينفصل عن الحزن، لأنه بالحرى يلتصق بنا بطريقة عميقة. من يحزن على أخطائه ويعترف بها يفرح. فعِوض الحزن على الخطايا يتحقق الفرح في المسيح... بهذا يقول: "افرحوا في الرب" (في 4: 4). فإن هذا (الحزن) يصير كلاشيء بقبول حياة تتأهل للفرح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

في (الأحكام المطولة) جاء السؤال 17 بخصوص الضحك وقد أوضح القديس باسيليوس الكبير ضرورة التمييز بين الضحك المفسد وبين الضحك بمعنى فرح النفس وتهليلها بالله.

* أولئك الذين يعيشون تحت التأديب (انضباط النفس) يلزمهم تجنب حتى مثل هذا العمل المسرف بكل حرص حتى يستخدم بطريقة خفيفة. فالانغماس في الضحك بطريقة غير منضبطة ومُبالغ فيها علامة على الإسراف ونقص ضبط الإنسان لمشاعره، والفشل في قمع طيش النفس باستخدام العقل بحزمٍ. إنه ليس بالأمر غير اللائق أن نشهد عن مرح النفس بابتسامة مبهجة، إن كانت فقط توضح ما هو مكتوب: "القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا" (أم 15: 13). أما الضحك الأجش والذي بلا ضبط لحركات الجسم فهو ليس بمؤشرٍ عن نفس لها تدبيرها الحسن المعتدل أو عن وقارٍ شخصي أو من يسود على نفسه.

هذا النوع من الضحك يشجبه الجامعة خاصة بكونه مخربًا لثبات النفس، وذلك بالكلمات: "للضحك قلت: خطأ (مجنون)" (جا 2: 2). مرة أخرى: "كصوت الشوك تحت القدر هكذا ضحك الجهلاء" (جا 7: 6). علاوة علي هذا فإن الرب يظهر أنه أختبر هذه العواطف الضرورية الملازمة للجسم، كما أيضًا تلك التي ترتبط بالفضيلة، كمثال الحزن مع الحزاني والحنو عليهم، ولكن كما نعلم من قصة الإنجيل أنه لم يضحك قط. على العكس أعلن عن الذين يستسلمون للضحك أنهم غير سعداء (لو 6: 25).

لا نسمح لكلمة (الضحك) أن تخدعنا إذ لها معنيان.

فكثيرًا ما تستخدمها الأسفار المقدسة عن فرح الروح وبهجة المشاعر التي تتبع الأعمال الصالحة. كمثالٍ تقول سارة: "قد صنع إليّ الله ضحكًا" (تك 21: 6). ويوجد قول آخر: "طوباكم الباكون الآن، لأنكم ستضحكون" (لو 6: 21). بطريقة مماثلة كلمات أيوب: "عندما يملأ فاك ضحكًا" (أي 8: 21). كل هذه الشواهد للبهجة يشير إلى مرح النفس عوض المرح الصخب. لذلك من يكون سيدًا لكل هوى ولا يشعر بهياجٍ في مسرته، أو على الأقل لا يظهر تعبيرات خارجية، بل يميل إلي ضبط كل لذة ضارة بحزمٍ، مثل هذا فهو عفيف كامل، وهو في نفس الحق متحرر من كل خطية بكل وضوح...

إن كان إنسان يهرب من كل مثيرات الخطية لكنه يسقط فريسة ولو لواحدة منها، مثل هذا الإنسان ليس بعفيفٍ. وذلك كمن هو ليس بسليمٍ صحيًا متي عانى من مرضٍ واحد وحيد. وكمن يحسب ليس بالإنسان الحر من يسقط تحت سلطان أي شخص، بغض النظر عمن هو هذا الشخص.

القديس باسيليوس الكبير

"قلب الفهيم يطلب معرفة،

وفم الجهال يرعى حماقة" [ع 14]

قلب الفهيم لا يتشامخ بفهمه ومعرفته، إنما يعطش إلى أعماق جديدة للمعرفة، فيبقى دومًا يتطلع إلى نفسه كمن ينظر في مرآة في لغز، حتى يلتقي مع السيد المسيح - حكمة الله - وجهًا لوجه. عطشه للمعرفة وجوعه الدائم للحق يهبانه تواضعًا مع جدية وسعي للتمتع بخبرات سماوية إلهية جديدة.

أما فم الجهال فيفيض بما في قلوبهم من لهوٍ ومزاحٍ وعدم مبالاة بالأبدية، فتخرج كلماتهم كمرعى للحماقة، لا تشبع قلب أحدٍ ولا تسنده.

"كل أيام الحزين شقية،

أما طيب القلب فوليمة دائمة" [ع 15]

من لا يختبر عذوبة الخلاص يتملك الحزن على قلبه، وتأسره الكآبة، فيعيش في شقاءٍ وبؤس, أما من يتذوق حلاوة العشرة مع السيد المسيح، فيتحول قلبه إلى وليمة عرس بهجة. يفرح ويُفرِّح معه إخوته كما يبتهج الرب به، ويتهلل السمائيون بخلاصه.

* "افرحوا في الرب كل حين" (في 4: 4). هذا معناه أن نتيجة الوحدة في الفهم والإيمان هي أن يفرحوا في الرب، وأن يكون كل منهم عزيزًا لدى الآخرين. يقول: "افرحوا في الرب"، هذا قليل جدًا "وأقول أيضًا افرحوا". فإنكم إذ تتحدون معًا بالقلب تفرحون في الرب، وإذ تفرحون في الرب، تتحدون بالقلب وتقفون في الرب.

ماريوس فيكتورينوس


9. القناعة مع الحب

"القليل مع مخافة الرب،

خير من كنز عظيم مع هم" [ع 16]

هنا يقيم مقابلة بين مخافة الرب والهم، وكأن مخافة الرب ترتبط بالتسليم الداخلي الحقيقي والاتكال على القدير والتمتع بالسلام الداخلي. والحرمان من المخافة الإلهية يفقد الإنسان سلامه، حتى وإن تمتع بكنوز هذه مقدارها.

ليس من وجه للمقارنة بين دانيال المسبي بلا إمكانيات وجماعة الحكماء والسحرة مشيري أعظم ملك في ذلك الحين. الأول اقتنى مخافة الرب، فرفض أن يأكل من أطايب الملك المقدمة للأوثان، ليس من أجل صحته الجسدية (رجيم)، وإنما لأجل مخافة الرب، فصار الرجل الثاني بعد أعظم ملوك ذلك الزمان، أما الحكماء فكادوا أن يُقتلوا لو لم ينقذهم دانيال النبي بتفسيره حلم الملك.

"أكلة من البقول حيث تكون المحبة،

خير من ثور معلوف ومعه بغضة" [ع 17]

* هذه هي ذكرى لما سبق فقلناه إن البقول ليس أغابي في ذاتها، إنما يجب أن تُمارس الوجبات بمحبة. الطريق الوسطى هي الطريق الصالحة في كل شيء، وبالأخص في الولائم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). المبالغات في الواقع خطيرة، التواضع حسن، وكل ما يتجنب الحاجة المُلحة فهو متواضع. الاشتياقات الطبيعية لها حدودها بالشبع الداخلي.

القديس إكليمنضس السكندري

* "أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومع بغضة" (أم 15: 17). غالبًا ما نفضل الضيافة البسيطة الاقتصادية من المستضيفين الذين يقابلوننا بضميرٍ صالحٍ - ولكن ليس لديهم القدرة أن يقدموا ما هو أكثر - عن الذين بكلمات متعجرفة متشامخة ضد معرفة الله (2 كو 10: 5)، ويغووننا بتعلم غريب عن أب ربنا يسوع (مت 5: 17).

العلامة أوريجينوس

* كن مقتنعًا بما لديك، ولا تسمح بتحسين حالك بإصابة قريبك بضررٍ. تجد سبيل عيشك في بساطة البراءة. من له صلاحه الخاص به لا يعرف شيئًا عن وضع كمين للآخرين. إنه غير ملتهبٍ بالرغبة التي للطمَّاع، الذي ينال ربحه على حساب الفضيلة وبدافع الجشع. لذلك يلزمه أن يتعرف على بركاته، فيصير الفقير سعيدًا بحق، إذ يعيش بالبرّ بطريقة أفضل من كل كنوز العالم، فإن "القليل ومعه مخافة الرب أفضل من كل كنوز عظيمة بدون مخافة"... ليتنا نستخدم وزناتنا لطلب النعمة ونوال الخلاص، وليس بالتحايل على الغير الذين لم يضرونا في شيء.

* إذ يدعو أحد ضيوفًا جائعين للعشاء ولهم شهية مفتوحة للأكل، فإنه وإن قدم مائدة متواضعة تبدو وفيرة في نظر الضيوف الذين يسقطون على الأطباق برغبةٍ عظيمةٍ. بنفس الطريقة بخصوص الشهية الروحية التي لكم، فلا تتخلفوا، إن كنا نقدم لكم مائدة فقيرة وضيعة نقدمها بطريقة عادية أمام صلاحكم.

هذا أيضًا ما لاحظه حكيم فقال: "أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثورٍ معلوفٍ ومعه بغضة" (أم 15: 17)، مقترحًا أن المحبة تعطي وجهة نظر مختلفة، فتظهر الأمور العادية أمام أعينها غنية، وتظهر النفايات شهامة وسخاء.

القديس باسيليوس الكبير

* حسنة هي الضيافة بالبقول. إنني سأوضح ما يقوله (سليمان). من يخاف الرب ويُسر بمنافع الناس، خير له أن يكون له القليل عن أن يكون له الكثير. حقًا المسرة ليست في الوفرة (من الخيرات)، إنما الوفرة هي في المسرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم


10. السلام مع طول الأناة

"الرجل الغضوب يهيج الخصومة،

وبطيء الغضب يسكن الخصام" [ع 18]

التسرع في الغضب هو ثمرة طبيعة للكبرياء، حيث لا يحتمل المتكبر من يجرح مشاعره بإهانة، أو بما يبدو له من سلبٍ لحقوقه، فتلتهب فيه نيران الغضب، ويصعب عليه إخمادها، ويتحول الغضب إلى الخصومة وهياج. أما المتواضع فيشتاق إلى كسب كل نفسٍ مهما كانت التكلفة، وإن وجدت خصومة يقوم بتلطيفها خلال الكلام اللين.

عندما حمى غضب شاول الملك على داود حاول قتله، ولم يحتمل دفاع ابنه يوناثان عنه، حتى صوّب الرمح نحوه ليطعنه (1 صم 20: 33). صمم شاول على قتل داود، وعندما سقط شاول في يد داود لم يمسه بل قطع طرف جبة شاول، ولم يحتمل حتى ذلك إذ ضربه قلبه على ذلك. وفي لطف نادى وراء شاول، وخرَّ على وجهه إلى الأرض وسجد (1 صم 24: Cool. وقال: "هوذا قد رأت عيناك اليوم هذا، كيف دفعك الرب اليوم ليدي في الكهف، وقيل لي أن أقتلك، ولكنني أشفقت عليك، وقلت لا أمد يدي إلى سيدي، لأنه مسيح الرب هو" (1 صم 24: 10). رفع شاول صوته وبكى، ثم قال لداود: "أنت أبرّ مني... الرب يجازيك خيرًا عما فعلته لي اليوم هذا".


11. الاجتهاد

"طريق الكسلان كسياج من شوك،

وطريق المستقيمين منهج" [ع 19]

بينما يظن الكسلان أنه يستريح بعدم العمل، إذا بسياج من الشوك ينبت في أعماقه كما حَوله، فلا يجد سلامًا في أعماقه. أما السالك باستقامةٍ وباجتهادٍ، فمع كل ما يلاقيه من مقاومات، يصير طريقه ممهدًا. تتحول المضايقات إلى العمل لحسابه.

الأول مع كل تراخٍ تتعقد كل الأمور في حياته، فتصير حياته سلسلة من السأم الذي يحل به. أما الثاني إذ يعرف الطريق، ويتلمس هدفه في الحياة، يصعد من درجة إلى درجة. وإن تعثر في الطريق يقوم بأكثر قوة في رجاء مفرح.

إذ لم يعرف داود الكسل ترنم قائلاً: "لأني بك اقتحمت جيشًا،، وبإلهي تسورت أسوارًا" (مز 18: 29).

* إذ ينحرفون عن الطريق الملوكي يعجزون عن أن يصلوا إلى المدينة التي يلزمنا أن نبلغ إليها في رحلتنا، ويفقدون اتجاههم. يقول الجامعة: "تعب الجهلاء يحل بالذين لا يعلمون كيف يذهبون إلى المدينة" (جا 10: 15)... أعني أورشليم السماوية أمِّنا جميعًا (غل 26: 4).

القديس يوحنا كاسيان

* يوجد أولئك الذين يُدعون كسالي في سفر الحكمة، الذين يكسون طريقهم بالأشواك، ويحسبون الغيرة في حفظ وصايا الله أمرًا مضرًا للنفس، المعترضون على الوصايا الرسولية، الذين لا يأكلون خبزهم بالتعب، وإنما يترددون على الغير، ويجعلون من الخمول سُنة الحياة. عندئذ الحالمون، الذين يحسبون خداعات الأحلام موضع ثقة أكثر من تعاليم الأناجيل، ويدعون الخيالات إعلانات. بخلاف هؤلاء يوجد أيضًا الذين يقيمون في بيوتهم، ويحسبهم الغير غير اجتماعيين وحشيين لا يعرفون وصية الحب ولا يعرفون ثمر طول الأناة والتواضع.

القديس غريغوريوس النيسي


12. تهليل الأسرة به

"الابن الحكيم يُسر أباه،

والرجل الجاهل يحتقر أمه" [ع 20]

جاء هذا المثل مشابهًا ما ورد في أمثال 10: 1.

وكما سبق فقيل إن الابن الحكيم يشير إلى المؤمن الذي يفرح به أبوه السماوي، ويستقبله كوارثٍ للآب، وارث مع المسيح. أما الإنسان الجاهل الذي يعتد بآرائه الشخصية في تشامخٍ فيحتقر الكنيسة أمه، حاسبًا نفسه أكثر حكمة وفهمًا وروحانية من الكنيسة.


13. فهم وتروٍ

"الحماقة فرح لناقص الفهم،

أما ذو الفهم فيُقوِّم سلوكه" [ع 21]

الإنسان الجاهل، ناقص الفهم، يجد مسرته في الشر، وفي تصرفاته غير المسئولة الحمقاء، أما ذو الفهم فيسلك في مخافة الرب باستقامة، ويرفض الملذات الشريرة واللهو والمزاح.

"مقاصد بغير مشورة تبطل،

وبكثرة المشيرين تقوم" [ع 22]

الإنسان الحكيم لا ينفرد برأيه في الأمور الهامة، بل يستمع لأصحاب المعرفة والخبرة. لعله لهذا السبب أرسل الرب تلاميذه ورسله اثنين اثنين، حتى يتشاورا معًا، ويشتركا في الكرازة والعبادة.


14. كلمات حكيمة مفرحة

"للإنسان فرح بجواب فمه،

والكلمة في وقتها ما أحسنها" [ع 23]

الإجابة اللائقة في الوقت المناسب، وبأسلوب لائق، وفي حدود سليمة تبهج قلب المتكلم وقلب المستمع، ولا تترك مجالاً للإنسان أن يأسف على ما نطق به.

هنا يركز على أسلوب الإجابة وعلى اختيار الوقت المناسب. فالإجابة السليمة في الوقت غير المناسب قد تضر أكثر من الصمت وعدم الإجابة. وأيضًا الإجابة الخاطئة في الوقت المناسب قد تسبب كارثة!

"طريق الحياة للفطن إلى فوق

للحيدان عن الهاوية من تحت" [ع 24]

إذ يتمتع الحكيم بالحياة الحقيقية يعيش دومًا في مصاعد، يرتفع من مجدٍ إلى مجد (2 كو 3: 18)، وفي نفس الوقت يتفادى الانحدار إلى أسفل في الهاوية.

لا تعرف الحياة السكون، إما صعود نحو السماويات أو انحدار نحو الهاوية. ويشبِّهها البعض بمن يسبح في وسط النهر، إما يُكمل طريقه ليعبر إلى الشاطئ أو يتوقف عن السباحة فيغرق.

أمام الإنسان طريقان، طريق الحياة لا يعرف الخمول أو طريق الموت.

* لا يستطيع من يسعى في إثر الكمال، ويتمسك بالصعود إلى السماء، ويتطلع إلى درب العلو، أن يتمتع ويتوقف في علوٍ واحدٍ، ظانًا أنه اكتمل في عمله، ولم يعد في حاجة إلى الصعود إلى درجة أخرى، لكنه يسرع يوميًا ليرتفع إلى الأعلى، إلى أن يفتح له الموت الباب ليبلغ إلى ميناء القديسين. أقول لك يا محب الفضائل، يحسن بك أن تفكر وتتأمل أن تتقدم نحو الأمام. ويجدر بك أن تحسب أنه توجد سيرة أعظم من سيرتك. لو فكرت أنك تسلقت بواسطة الفضيلة بقدر ما كان ينبغي أن تتسلق، لكان سعيك باطلاً، وتبدأ في الهبوط بسبب الادعاء الذي يخامر نفسك، فتنحدر من جمال التواضع.

* إنني أصرخ بكل قواي: إذا وجدت موضعًا أبعد منك أهرب إليه، وإذا وجدت موضعًا في داخلك فانزوي إليه. لا تتوقف عن الهروب، ولا تسترح من الركوض إلى أن تدرك ذاك الذي من أجله أدركك المسيح (في 3: 13).

القديس مار يعقوب السروجي

* يتم النمو تدريجيًا من الطفولة حتى النضوج والكمال في المسيح. لأن الإيمان يزداد بواسطة عمل الروح القدس الإلهي وينمو. وتبعًا لذلك تتحطم حصون الأفكار الشريرة تدريجيًا إلى أن تنهدم بالكلية.

القديس مقاريوس الكبير


15. استقرار عائلي

"الرب يقلع بيت المتكبرين،

ويوطِّد تخم الأرملة" [ع 25]

لم يُقل عن الله أنه يقاوم فئة معينة من البشر سوى المستكبرين (1 بط 5: 5). هنا يؤكد أنه يقتلعهم كما من جذورهم، إذ يحملون روح إبليس الذي بكبريائه أراد أن يقيم من نفسه إلهًا معبودًا تخضع له كل الخليقة.

ذاك الذي يقاوم المستكبرين المعتدِّين بإمكانيتهم وقدراتهم وسلطانهم، يهتم بتخوم الأرملة التي يطمع فيها الكثيرون ليسلبوا حقوقها ويستولوا على ممتلكاتها. إنه قاضي الأرامل وأب الأيتام والمدافع عن المظلومين والمُضطهدين والمُذلين.

"مكرهة الرب أفكار الشرير،

وللأطهار كلام حسن" [ع 26]

إن كان الله يبغض الذبائح والتقدمات التي يقدمها الأشرار المصرون على شرورهم، فإنه يليق بهم أن يتخلوا عن شرورهم وأفكارهم الدنسة التي لا يطيقها القدوس.

يبغض الله الأفكار الشريرة، ويُسر بكلمات أولاده المقدسين، ويقبلها كتسابيح شكر طاهرة مقبولة ومرضية لديه.

* إن كانت الكلمة الشريرة مكرهة الرب إلهكم، كم بالأكثر تكون الكلمة الشريرة الجاحدة (للإيمان) والتي تعلن علنًا عن إله آخر، والقَسَمْ الشرير.

* نحن لا نقسو على الذين يتوبون. بالأحرى الأشرار هم أشرار لأنفسهم، لأن من يجهل التعليم يبغض نفسه. ومع هذا فإنه يلزمنا أن نطلب لهم الشفاء بكل طريقة ممكنة، حتى بالنسبة للشخص الذي انحرف تمامًا، ولم يعد يشعر بشروره، بل يسكر بمسكر أخطر من الخمر، المُسكر الذي يصدر عن ظلمة الشر.

العلامة أوريجينوس

"المولع بالكسب يكدِّر بيته،

والكاره الهدايا يعيش" [ع 27]

يشير البيت إلى الكنيسة، يكدّرها من يحولها عن رسالتها الروحية إلى عملٍ تجاري، أو عن قداستها، كما كدّر عاخان بن كرمي شعب الله كله (يش 7: 25).

ربما يشير هنا إلى القضاة والشهود، إذ تلعب محبة المال أحيانًا دورًا خطيرًا في المنحرفين منهم، فيحكمون أو يشهدون بالزور من أجل هدايا أو رشاوى تُقدم لهم، دون اعتبار لمشاعر المظلومين ومصائرهم.


16. قلب متعقل

"قلب الصدِّيق يتفكر بالجواب،

وفم الأشرار ينبع شرورا" [ع 28]

لا يسرع الإنسان البار بالكلام، بل يعطي الفرصة لقلبه أو فكره أن يدرس الأمر ليصدر إجابة حكيمة صادقة. أما الأشرار فينطقون في تهورٍ دون تفكيرٍ أو تروٍّ، لأن ما يشغلهم مكاسبهم المادية أو المعنوية.

يخشى البار الرب لا الناس، فيزن كل كلمة بكل تدقيقٍ، حتى لا يُغضب الله أو يظلم أحدًا.


17. قرب لله

"الرب بعيد عن الأشرار،

ويسمع صلاة الصدِّيقين" [ع 29]

اقتبس القديس بطرس الرسول عن المرتل القول: "لأن عينيّ الرب على الأبرار، وأذنيه إلى طلبتهم، ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر" (مز 34: 15-16؛ 1 بط 3: 12). حقًا إن الله يسمع كل شيء، ويرى كل شيء، لكن الأشرار ليسوا أهلاً أن يكونوا موضع معرفة الله ونظره وسماعه لهم. يصيرون كأنهم بعيدون عنه، إذ لا شركة بين القدوس والشر!

* بائس هو الإنسان الذي له أقنعة للشر، وسعيد هو الإنسان الذي له أقنعة كثيرة للصلاح.

"الأشرار كالتراب الذي يذريه الريح" (مز 4:1). يقول الكتاب المقدس إن الشرير سيكون بائسًا، فلا يكون حتى كتراب الأرض. فالتراب يبدو كأن ليس له كيان، لكن حتمًا له نوع من الوجود في ذاته... إنه يتبعثر هنا وهناك وليس له موضع واحد بل يجرفه الريح، وليس له قوة للمقاومة. نفس الأمر بالنسبة للشرير. ما أن ينكر الله حتى تجرفه نسمة الشيطان بالضلال ويلقيه أينما أراد.

القديس جيروم

* سيقبل الله أولئك الذين يتوبون، ويعاقب الذين يبقون في خطاياهم.

الأب هيسخيوس الأورشليمي


18. فرح داخلي

"نور العينين يفرح القلب،

الخبر الطيب يسمن العظام" [ع 30]

الأخبار المؤلمة تفسد سلام الإنسان وتنزع عنه فرحه الداخلي، وتؤثر حتى على صحته الجسدية. والأخبار المفرحة في الرب تنعش النفس، وتقوي عظام الإنسان، أي هيكله الداخلي، وتؤثر حتى على صحته.

تعبير "سمنة العظام" يقابله "جفاف العظام"، وهو يناسب البلاد التي تعتمد على الأمطار، فإذا حدث جفاف تفقد البلد رخاءها وتحل بها مجاعة، وقد تصاب بأمراض. فسمنة العظام تشير إلى الرخاء والانتعاش وفيض الخيرات.


19. استماع وتعقل

"الأذن السامعة توبيخ الحياة تستقر بين الحكماء" [ع 31]

أول كلمة في الوصايا العشرة "اسمع"، فالذي يهتم أن ينصت لصوت الحق يتأهل للانضمام إلي جوقة الحكماء.

الاستماع بروح الطاعة مرتبط بالحكمة.

"من يرفض التأديب يرذل نفسه،

ومن يسمع للتوبيخ يقتني فهما" [ع 32]

المتكبر الذي لا يقبل التأديب لا يرذل المشيرين بل يرذل نفسه، ويستخف بأبديته. أما من يتقبل كلمات النقد باهتمامٍ شديدٍ فينال فهمًا ومعرفة.

* يا لسعادة من يُميت إرادته، ويترك تدابير نفسه لذاك الذي أعطاه الله إياه أبًا ومعلمًا، فسيكون موضعه عن يمين يسوع المسيح المصلوب.

القديس يوحنا الدرجي

* يزرع الشيطان الشر في الناس عن طريق كراهيتهم للإرشاد وعندئذ يسقطون مثل الأوراق.

* إذا طلب الإنسان المشورة يكتشف خطط العدو. وإذا خضع للإرشاد يهرب الشيطان ولن يقدر أن ينشر شباكه. لذلك يحث الآخرين دائمًا إلا يخضعوا للإرشاد وألا يطلبوه.

القديس دوروثيؤس من غزة


20. التواضع واهب الكرامة

"مخافة الرب أدب حكمة،

وقبل الكرامة التواضع" [ع33]

يختم حديثه في هذا الأصحاح بمخافة الرب التي ينالها المتواضعون، فينالون أدبًا وحكمة، ويكرمهم الله كما البشر. كأن الدرس الأول والأخير هو طلب مخافة الرب بروح التواضع فنتعلم من الله الذي يرفع المتواضعين.

* التواضع صالح في كل وقت، وهو ينجى الذين يقتربون منه من كل ضيق.

ثمار التواضع عديدة، فهو يلد خيرات كثيرة. منه يُولد الكمال، وبه تزكى نوح أمام الله فخلصه، كما هو مكتوب أن الله قال له: "لأني إياك رأيت بارًا وكاملاً في جيلك" (أنظر تك 7: 1).

القديس أفراهاط

* يريدنا ألا نغتصب الرئاسات لأنفسنا، بل نبلغ العلويات السامية بالتواضع... يا لعظمة التواضع، إذ تربح (النفس المتواضعة) سكنى الآب والابن والروح القدس.

الأب ثيؤفلاكتيوس

* رفع التواضع موسى، أما المتكبرون فابتلعتهم الأرض.

* البس التواضع كل حين، وهو يجعلك مسكنًا لله.

* تسربل يا أخي بالتواضع كل حين فإنه يُلبس نفسك المسيح معطيه
القديس يوحنا سابا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 10, 2011 1:10 am

الاصحاح السادس عشر


وصايا الحكمة من العناية الإلهية


يدعونا سليمان الحكيم في هذا الأصحاح أن نضع في قلوبنا أن نعمل باجتهاد، وأن نفكر باتزان، لكننا لا نتكل على ذواتنا أو قدراتنا أو مركزنا، بل على الله الذي وحده يفحص القلوب، ويزن طرق الإنسان بمعاييره التي لن تخطئ. لندرك أن خطة الله لن تفشل، فقد خلق الإنسان له، كمحبٍ وعزيزٍ لديه، وأما الذي يهلك فبإرادته الشريرة يلقى بنفسه في الهلاك.

يطالب كل إنسان أن يتمتع بعمل الله ويثق في عنايته الإلهية بروح التواضع، فيقدسه الرب ويُنجح طريقه. يطلب من القادة خاصة الملوك أن يدركوا رسالتهم، ولا يستخفوا بدورهم، فيلزم أن تكون كلماتهم كأنها وحي تراعي العدالة والرحمة. أما الشعب فيليق به أن يسلك بالصلاح، فلا يخاف الملك، ويتكلم بالمستقيمات، فيكون موضوع حبه.

أخيرًا يحذر الجميع من روح الكبرياء ويدعوهم للسلوك بروح التواضع.

1. الرب العامل في مؤمنيه.

2. تشامخ القلب.

3. محبة الله والناس .

4. فاعلية الصلاح

5. التزام الملك أو القائد .

6. الاستقامة .

7. الكبرياء .

8. فاعلية اللسان .

9. الطرق الشريرة .

10. طول الأناة .

11. استخدام القرعة .


1. الرب العامل في مؤمنيه

"للإنسان تدابير القلب،

ومن الرب جواب اللسان" [ع 1]

قدّس الله حرية الإرادة، فأعطى للخليقة العاقلة حق الخيار. فمن حق الإنسان أن يختار الطريق، أي تدبير القلب والنية، لكن الله هو الذي يهب الإمكانية والقدرة حتى إمكانية الإجابة باللسان.

بدون الله لا يستطيع الإنسان أن يعمل شيئًا، لكنه لا يعمل في الإنسان قسرًا، بل يترك له اختيار الطريق.

يقول إرميا النبي: "عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقه، ليس لإنسان يمشي أن يهدي خطواته" (إر 10: 23). حتى الإرادة الإنسانية، وإن كنا قد نلنا حق الخيار، لكننا نحتاج إلى نعمة الله لكي تصير لنا قوة الإرادة، وكما يقول الرسول بولس: "لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (في 2: 13).

* بالتأكيد كما هو مكتوب: "للإنسان إعداد القلب، ومن الرب جواب اللسان" (أم 16: 10)، يخطئ البعض الطريق بسبب عدم الفهم، فيظنون أن إعداد القلب - أي بدء الصلاح - يخص الإنسان دون معونة النعمة الإلهية. حاشا لأبناء الموعد أن يفهموها هكذا.

* لا يروض الحصان نفسه، ولا أيضًا الإنسان يقدر أن يفعل هذا. الحاجة مُلحة للإنسان أن يروض الحصان، وبنفس الطريقة إلى الله كي يروض الإنسان.

القديس أغسطينوس

* لا يغصبنا الله ولا تُلزم نعمة الروح إرادتنا، لكن الله ينادينا وينتظر أن نتقدم إليه بكامل حريتنا، فإذا اقتربنا يهبنا كل عونه.

* الله لا يُلزم الذين لا يريدونه، لكنه يجتذب الذين يريدون.

* الله لا يُقيِّد رغباتنا أو إرادتنا بعطاياه، لكن ما نكاد نبدأ ونُظهر الاستعداد حتى نجده يعرض علينا فرصًا عديدة للخلاص.

* أوجدَ الخالق طبيعتنا سيدة نفسها. ففي رحمته يهبنا معونته على الدوام وهو يدرك ما هو خفي في أعماق القلب. إنه يرجونا وينصحنا وينهانا ويحذرنا من التصرفات الشريرة، لكنه لا يفرض علينا شيئًا قسرًا. يعرض الأدوية المناسبة، تاركًا الأمر كله لقرار المريض نفسه.

* نحن سادة، في إمكاننا أن نجعل كل عضو فينا آلة للشر أو آلة للبرّ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"كل طرق الإنسان نقية في عينيّ نفسه،

والرب وازن الأرواح" [ع 2]

منذ سقوط الإنسان، صار الإنسان يبرر تصرفاته، ويعطي لنفسه الأعذار، ويظن أنه يسلك بما يليق، حتى وإن أدرك أن ما يفعله خطأ أو جريمة يرتكبها، لكنه يحسب الظروف قد دفعته إلى ذلك. لهذا قيل: "تصور قلب الإنسان شرير" (تك 8: 21). القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه (إر 17: 9).

أما إذا قبل الإنسان عمل الله فيه، فعندئذ يدرك أن موازين الله وحساباته صادقة، فيُلقي باللوم على نفسه، وليس على الظروف المحيطة به أو على الغير، أو على الله نفسه. فإن الله لا يخطئ في حساباته.

يهب الله مؤمنيه أن يتمتعوا بإدراك موازينه، لا ليسحقهم بالحزن والمرارة على تصرفاتهم، وإنما لكي يجتذبهم إليه، فيرفعهم ويقدسهم، بل ويمجدهم.

جاءت دعوة الكثير من آباء الكنيسة مثل القديس إكليمنضس السكندري والقديس باسيليوس الكبير أن يعرف الإنسان حقيقة نفسه، أعماقه الداخلية، فيتعرف على الله الذي يطلب خلاصه، وأن يسكن فيه.

* "تأمَّل إذن ذاتك" حتى تبلغ إلى معاينة الله.

* تنبِّهك الكتب المقدَّسة إلى الاهتمام كثيرًا بنفسك. فلا تهتم بالجسد ولا بما هو مرتبط بالجسد، كالصحَّة والجمال، واللذَّة والعمر المديد. وكذلك لا تعر كبير اهتمام للغنى والمجد والسلطان، وكل ما هو مرتبط بالحياة الأرضيَّة. ولكن اهتم بنفسك فوق كل شيءٍ. فهذه هي الكنز الثمين لك. زيِّنها بالفضائل، نقِّها من الخطيئة، وجمِّلها بزينة الفضيلة التي هي أجمل زينة. تأمَّل جيدا بهذه الفكرة: إن الجسد يزول ويفنى، أما النفس فهي خالدة.

القديس باسيليوس الكبير

"اِلق على الرب أعمالك،

فتثبت أفكارك" [ع 3]

يقول المرتل: "سلِّم للرب طريقك، واتكل عليه، وهو يُجري" (مز 37: 5). إن كان الرب يحطم خطط الأشرار ضد الله وضد المؤمنين، فمن جانب آخر يقدم الطمأنينة لمؤمنيه المتواضعين. إنه سند لهم في خططهم وأعمالهم مادامت حسب مشيئته الإلهية.

* الشخص المتواضع يظهر لنا ما هو مستقيم بطريقة ليست هينة. فإن الشخص النادم لن يفتخر بأمورٍ عظيمة. أما الله فلا يرغب في أن يعرف أعمال المتكبرين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* أوصينا أن نُظهر طرقنا له، وأن نجعلها تسير نحوه، هذه التي تصير مستقيمة لا بمجهوداتنا الذاتية، بل بعونه ورحمته. لذلك كُتب: "اجعل طريقك مستقيمًا في عينيّ" أو كما جاء في نسخ أخرى: "اجعل طريقي مستقيمًا في عينيك"، بحيث ما يكون مستقيمًا في عينيه يظهر مستقيمًا في عينيّ. ويقول سليمان: "افتح أعمالك أمام الرب، فيوجه أفكارك" فإن أفكارنا تتوجه عندئذ فقط عندما نلتقي أمام الرب، كما إلى صخرة ثابتة لا تتزعزع، كل ما نفعله ننسبه إليه.

القديس جيروم

"الرب صنع الكل لغرضه،

والشرير أيضًا ليوم الشر" [ع 4]

إن كانت كل الخليقة السماوية والأرضية تمجد الله الخالق المعتني بخليقته، إلا أنه لم يخلقها عن احتياج إلى من يمجده، بل خلقها من أجل صلاحه وحبه وعطائه للغير.

يُعلن بالأكثر حبه ورعايته في يوم الرب العظيم حيث يتمتع المؤمنون الروحيون بالميراث الأبدي، أما الأشرار فيحكم شرهم عليهم بالدمار الأبدي.

بقوله: "صنع الكل لغرضه" يشعر المؤمن بقيمته، أن الله خلقه لأجله، لا لينتفع منه، ولا لاحتياج إليه، وإنما لأنه يحبه، يود أن يدخل به إلى أحضانه، وينسب نفسه إليه، فيقول: "أنا إله إبراهيم..."

يشعر المؤمن أنه ليس شخصًا بين زحام من البشر يبلغ عددهم البلايين، لكنه إنسان الله، العزيز جدًا عليه، والمهتم به شخصيًا.

كثيرًا ما يظن الإنسان أن قانون العالم هو الفوضى واللاقانون، وأن شريعة الغاب والعنف لها الغلبة. لكن وسط كل ما يبدو كأن عينيّ الله لا ترقبان الناس، وكأن الله لا يبالي بتصرفاتهم، توجد خطة إلهية تتحقق حتمًا، وبنجاحٍ أكيدٍ في الوقت المعين.

* هذه الأمور... ولو أن ظاهرها يشير إلى هدف واحد ونهاية واحدة (لأنها تحثنا على الابتعاد عن الأمور غير اللائقة) إلا أنها تختلف فيما بينها في السمو. لأن الإيمان والرجاء يليقان بالأكثر للذين لم يكتسبوا بعد محبة الفضيلة أثناء هدفهم نحو الصلاح. أما المحبة فتتعلق بالله، وبالذين نالوا في داخلهم أن يكونوا على صورة الله ومثاله. لأن الله وحده هو الذي لا يصنع الصلاح خوفًا ولا ابتغاء كلمة شكر أو نوال جزاء، إنما يصنع الصلاح ببساطة من أجل محبة الصلاح. وذلك كقول سليمان: "الرب صنع الكل لغرضهِ" (أم 16: 4). فبصلاحه يغدق بالخير على المستحقين وغير المستحقين، لأنه لا ينفعل غضبًا بسبب الأخطاء، ولا يتأثر بانفعالات خطايا البشر، إذ هو على الدوام كلي الصلاح غير متغير.

الأب شيريمون

* الله صالح، كامل الصلاح وحده، وإذ أنت صورته يليق بك أن تكون صالحًا. إنه سخي مع الجميع، فينبغي عليك أن تكون كريمًا، تتجنب الجشع، ولا تبخل على قريبك بأي شيء مادي زائل، فإن هذا أعظم كارثة وجهالة.

الأب يوحنا من كرونستادت


2. تشامخ القلب

"مكرهة الرب كل متشامخ القلب،

يدًا ليدٍ لا يتبرأ" [ع 5]

الذين يسلكون بروح الكبرياء يعزلون أنفسهم عن الله الذي في تواضعه خلق الإنسان، وأقامه ملكًا، وأعطاه سلطانًا على الأرض. تشامخ الإنسان يُفقده التصاقه بالله مصدر كل الخيرات، ويضع نفسه في مركز الخصم لله، ويظن أنه قادر على الدخول معه الند للندٍ، فلا يبرأ.

* ليس شيء غريب عن رحمة الله، ويبعث إلى نيران جنهم مثل طاغية الكبرياء. إن اقتنيناه داخلنا تصير كل حياتنا دنسة، حتى وإن مارسنا العفة والبتولية والصوم والصلاة والصدقة وأية فضيلة. يقول الكتاب: "كل إنسانٍ متشامخ مكرهة الرب". لذا يلزمنا أن نفحص تشامخ النفس هذا، ونقطع هذا السرطان، إن أردنا أن نكون أنقياء، ونتخلص من العقوبة المُعدة للشيطان.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* يظهر بثبات واضح بالأمثلة والشهادات من الكتاب المقدس أن خطية الكبرياء، بالرغم من تأخر ترتيبها (بين الخطايا) هي أولى الخطايا والأخطاء، وهي لا تموت بالفضيلة المضادة لها (التواضع)، وفي نفس الوقت محطمة لكل الفضائل، ولا تُغري فقط الناس العاديين والبسطاء، لكن بالأكثر الذين يقفون على قمة الشجاعة.

لهذا يتكلم الرسول عن هذه الروح... وكذلك داود الطوباوي، بالرغم من أنه كان شديد الحرص على مخازن قلبه لدرجة أنه تجرأ أن يخاطب الله الذي لا يُخفي عنه أسرار ضمائره (أسراره الداخلية) كما في مز 130 (131): 1-2؛ مز 100 (101): 1-2. مع هذا لكونه عرف صعوبة السهر حتى بالنسبة للكاملين لم يعتمد على مجهوداته الخاصة، بل صلى إلى الله، وطلب معونته، حتى يمكنه أن يخرج منتصرًا من ضربات عدوه، قائلاً: "خاصم يا رب مخاصميّ، امسك مجنًا وترسًا وانهض إلى معونتي" (مز 35: 1-2). ولأنه خاف وارتعب أن يسقط فيما قيل عن الكبرياء لذلك يقول: "يقاوم الله المستكبرين، وأما المتواضعين فيعطيهم نعمًة" (يع 4: 6)، "مكرهة الرب كل متشامخ القلب، يدًا ليد لا يتبرّأُ" (أم 16: 5).

القديس يوحنا كاسيان

* نقرأ عن أمرٍ كهذا في سفر الأخبار عن يوآش ملك يهوذا. عندما كان في السابعة من عمره استدعاه يهوياداع الكاهن ليصير ملكًا، وبشهادة الكتاب المقدس مُدح من أجل كل أعماله أثناء حياة الكاهن سالف الذكر، لكننا نسمع عنه بعد موت يهوياداع كيف انتفخ بالكبرياء وسُلم إلى حالة أكثر خزيًا. "وبعد موت يهوياداع جاء رؤساء يهوذا وسجدوا للملك، حينئذ سمع الملك لهم، وتركوا بيت الربّ إله آبائهم، وعبدوا السواري والأصنام، فكان غضب علي يهوذا وأورشليم لأجل إثمهم هذا" (2 أي 24: 17-18). قيل بعد قليل: "وفي مدار السنة صعد عليه جيش أرام، وأتوا إلى يهوذا وأورشليم وأهلكوا كل رؤساء الشعب من الشعب وجميع غنيمتهم أرسلوها إلى ملك دمشق، لأن جيش أرام جاء بشرذمة قليلة، ودفع الربّ ليدهم جيشًا كبيرًا جدًا، لأنهم تركوا الرب إله آبائهم. فأجروا قضاءً علي يوآش، وعند ذهابهم عنه، لأنهم تركوه بأمراض كثيرة" (2 أي 24: 23-25).

ها أنت تري كيف أن شهوة الكبرياء سلمته لشهوات دنس مخجلة من أجل أنه انتفخ بالكبرياء، وسمح لنفسه أن يُعبد كإله، كما يقول الرسول: "لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان وإلى ذهنٍ مرفوضٍ ليفعلوا ما لا يليق" (رو 1: 26، 28)، ولأن الكتاب المقدس يقول: "مكرهة الرب كل متشامخ القلب" (أم 16: 5). ذاك الذي انتفخ بكبرياء القلب المتزايد يُسلم لعارٍ وخزي عظيمين ليُغوى بهما.

هكذا عندما يتواضع يجب أن يعرف أنه اتسخ بدنس الجسد ومعرفة الشهوات الدنسة، الشيء الذي رفض أن يعرفه عندما كان في كبرياء قلبه. أيضًا هذا الفساد المخزي الذي للجسد يمكن أن يفضح دنس القلب المختفي الذي ارتبط به من خلال خطية الكبرياء، وكأن فساد جسده الواضح يمكنه أن يبرهن علي تلوثه الذي لم يكن يراه فيما مضي، فيعرف أنه أصبح دنسًا من خلال كبرياء روحه.

القديس يوحنا كاسيان

* نعم إن الذين يتكلمون بكلام الله أمام الله يفهمون أنهم قد قبلوا كلمات التعليم من الله، وبهذا يجب أن يسعوا لمسرة الله وليس لمسرة ذواتهم. كذلك ينبغي أن ينصتوا إلى قول الكتاب: "مكرهة للرب كل متشامخ القلب" (أم 16: 5). من الواضح أن هؤلاء عندما يسعون وراء مجدهم الباطل باستغلال كلمة الله، يغتصبون حق الله الواهب المعطي، لأنهم لا يخشون سلب المديح من الذين قبلوا التعليم بأمورٍ مقدسة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). ليسمعوا كذلك ما يقوله سليمان للمعلمين: "اشرب مياهًا من جُبِكْ، ومياهًا جارية من بئرك، لا تفض ينابيعك إلى الخارج، سواقي مياه في الشوارع، لتكن لك وحدك، وليس لأجانب معك." (أم 5: 15-17)[517]. فعندما يفحص المعلم أعماق قلبه وينصت إلى ما يقوله، يشرب من جُبِه. وهو يشرب من المياه الجارية من بئره إذا هو تأثر بارتوائه من ينبوع الكلمة. وعندما أضاف: "لا تفض من ينابيعك إلى الخارج سواقي مياه في الشوارع" يقصد أنه ينبغي أن يشرب الراعي أولاً ثم بعد ذلك يروي الآخرين بالتعليم. إن فيض الينابيع إلى الخارج ما هو إلا تقطير التعليم كالماء بقوة في الآخرين. وتعني "سواقي المياه في الشوارع" توزيع الكلمة الإلهية بين جموع غفيرة من السامعين، كل حسب شخصيته. ولأنه مع امتداد كلمة الله إلى معرفة الكثيرين يحشر المجد الباطل نفسه، هكذا جاء القول المناسب: "لتكن لك وحدك وليس لأجانب معك". وفي هذا المجال تدعو الحكمة الأرواح الشريرة "بالغرباء". لقد كتب النبي عن المجربين قائلاً: "لأن غرباء قد قاموا عليّ، وعتاة طلبوا نفسي" (مز 54 :3). لذلك يقول لتبقى سواقي المياه في الشوارع لك وحدك، ويعني هذا أنه "من الضروري أن يخرج الراعي للتعليم كالسواقي في الشوارع، ولكن عليه ألا يتحالف مع الأرواح النجسة وذلك من خلال الغرور. ينبغي ألا نتخذ من الأعداء شركاء في خدمة الكلمة الإلهية." علينا بذلك أن نبث تعليمنا بعيدًا ليتسع دون أن تغرينا أية رغبة في المديح الباطل.

البابا غريغوريوس (الكبير)


3. محبة الله والناس

"بالرحمة والحق يستر الإثم،

وفي مخافة الرب الحيدان عن الشر" [ع 6]

بقوله "بالرحمة والحق" يدفعنا نحو التوبة أو الرجوع إلى الله الكلي الرحمة، وفيه كل الحق. نرجع إليه، وننعم بشركة سماته، فتغفر لنا آثامنا بالدم الثمين.

مخافة الرب تقودنا في طريق الحق، فلا ننحرف يمينًا ولا يسارًا، بل نبقى ثابتين في البرّ بكونه الحق واهب البرّ والقداسة.

* يتكلم الروح القدس في الكتب المقدسة ويقول: "بالصدقة والإيمان يُستر الإثم" (راجع أم 16: 6)، بالتأكيد ليست تلك الخطايا التي اُرتكبت سابقًا، فإن هذه تغفر بدم المسيح وتقديسه.

وأيضًا يقول: "الماء يطفئ النار الملتهبة، والصدقة تكفر الخطايا" (سي 3: 33). وهنا يوضح أنه كما تنطفئ نار جهنم بماء الخلاص، هكذا بالصدقات والبرّ يخمد لهيب الخطايا (بالنسبة للمؤمنين بالدم). فإذ تُوهب في المعمودية مغفرة الخطايا مرة واحدة عن جميع الخطايا، فإن العمل المستمر الذي بلا انقطاع – تابعًا مثال المعمودية - يهب مراحم الله مرة أخرى.

وقد علمنا الرب أيضًا بهذا في الإنجيل، لأنه عندما أُشير إلى التلاميذ أنهم يأكلون بدون غسل أيديهم، أجاب قائلاً: "الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضًا. بل أعطوا ما عندكم صدقة، وهوذا كل شيء يكون نقيًا لكم" (لو 11: 40-41). إنه يُعلم بغسل القلب لا الأيدي، وأنه بالأولى انتزاع دنس الداخل لا قذارة الخارج، وأنه متى تنقى الذهن، عندئذ يبدأ الإنسان في تنظيف جسده. وإذ ينصحنا بكيفية الاغتسال والتنقية قال بضرورة تقديم الصدقات.

يعلمنا ذاك الحنون ويحثنا على إظهار العطف. فإذ هو يبحث عن خلاص أولئك الذين قدم عنه تضحية هذا مقدارها، أشار أيضًا إلى أولئك الذين بعدما نالوا نعمة العماد وصنعوا الخطية يمكنهم أن يطهروا من جديد.

الشهيد كبريانوس

* أيضًا مع الرحمة والإيمان تمحى الذنوب، إذ "بالرحمة والحق يُستَر الإثم" (أم 16: 6). وكثيرًا ما يكون ذلك بواسطة شوقنا وسعينا وتعبنا نحو خلاص الذين خلصوا بإنذاراتنا ووعظنا، كقول الكتاب: "فليعلم أن مَنْ ردَّ خاطئًا عن ضلال طريقهِ يخلّص نفسًا من الموت، ويستر كثرةً من الخطايا" (يع 5: 20).

الأب بينوفيوس

* أحبّائي... في أوقات كثيرة أذكّركم وأعترف لكم بما يدهشني كثيرًا فيما وردّ في الكتاب المقدّس، وهو ينبغي عليّ أن ألفت أنظاركم إليه كثيرًا.

أتوسّل إليكم أن تتأمّلوا ما قاله ربّنا يسوع المسيح عن نفسه، أنه عندما يأتي في يوم الدينونة، في نهاية العالم، سيجمع كل الأمم أمامه، ويقسّم البشر قسمين: قسم عن يمينه والآخر عن يساره.

يقول للذين عن اليمين "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم". وأما الذين عن اليسار فيقول لهم "اذهبوا عني... إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وكل ملائكته".

ابحثوا عن علّة هذا الجزاء العظيم أو العقاب المريع... لماذا يرث الأوّلون الملكوت؟ "لأني جعت فأطعمتموني". ولماذا يذهب الآخرون إلى النار الأبديّة؟ "لأني جعت فلم تطعموني"...

لم يقل الرب لهؤلاء: "تعالوا رثوا الملكوت، لأنكم عشتم أطهارًا، لم تخدعوا إنسانًا، ولا ظلمتم فقيرًا، ولا اعتديتم على تُخم أحد، ولا خدعتم أحدًا بقسمٍ"...

بل قال "كنت جوعانًا فأطعمتموني". يا لامتياز الصدقة عن بقيّة الفضائل جميعها، لأن الرب لم يُشر إلى الكل بل إليها وحدها!

كذلك يقول للآخرين: "اذهبوا إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وملائكته"، ومع أن هناك أشياء كثيرة يمكن أن يثيرها ضدّ الأشرار عندما يسألونه: "لماذا نذهب إلى النار الأبديّة؟" لكنه لا يجيبهم: "لماذا تسألون هكذا أيها الزناة والقتلة والمخادعون ومنتهكو حرمة المعًابد والمجدّفون وغير المؤمنين؟"... بل يقول لهم: "لأني جعت فلم تطعموني".

أراكم تتعجّبون مثلي، وحقًا إنه لأمر عجيب، فقد كتب: "الماء يطفئ النار الملتهبة، والصدقة تكفر عن الخطايا"، "أغلق على الصدقة أخاديرك فهي تنقذك من كل شرّ، لذلك أيها الملك لتحسن مشورتي لديك، وافتقد خطاياك بالصدقة" (راجع حكمة يشوع 3: 33؛ 9: 15).

توجد شهادات كثيرة من الوحي الإلهي يظهر فيها ما للإحسان من فوائد كثيرة في إخماد الخطايا وإزالتها، لذلك سيلصق الإحسان بهؤلاء الذين على وشك أن يدينهم الله، بل بالحري سيتوّجهم. وكأنه يقول لهم: إنه ليس من الصعب عليّ أن أجد عليكم علّة لإدانتكم متى امتحنتكم ووزنتكم بدقّة وفحصت أعمالكم، لكن ادخلوا الملكوت لأني كنت جائعًا فأطعمتموني، فستدخلون الملكوت ليس لأنكم لم تخطئوا، لكن بإحسانكم أزلتم خطاياكم.

كذلك كما لو كان يقول للآخرين: اذهبوا إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وملائكته... إنه ليس بسبب ما تفكّرون فيه من خطايا، بل لأني كنت جائعًا فلم تطعموني، فلو ابتعدتم عن أفعالكم الشرّيرة هذه، والتفتّم إليّ لخلصتم من كل جرائمكم وخطاياكم بإحساناتكم. لأنه "طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون" (مت 5: 7). ولكن الآن اذهبوا إلى النار الأبديّة "لأن الحكم بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة" (يع 2: 13).

القدّيس أغسطينوس

* من أجل أنك لم ترحم الآخرين، فلا يُصنع بك رحمة أيضًا، ولأنك أغلقت باب بيتك إزاء المساكين، فلا يفتح لك الإله باب ملكوته...

إن كنتم قد هربتم من الرحمة، فالرحمة تهرب منكم. وإن رذلتم الفقراء، يرذلكم ذاك الذي صار فقيرًا حبًا لكم.

القديس باسيليوس الكبير


4. فاعلية الصلاح

"إذا أرضت الرب طرق إنسان،

جعل أعداءه أيضًا يسالمونه" [ع 7]

للصلاح الحقيقي الذي هو ثمرة عمل نعمة الله في الإنسان قدرته على حب حتى الأعداء وكسبهم لصالحنا، مادمنا نقدمه لمجد الله.

لم يكن ممكنًا للابان أن يصنع شرًا بيعقوب، إذ ظهر الله بنفسه في حلم الليل، "وقال له: احترز من أن تكلم يعقوب بخيرٍ أو شرٍ" (تك 31: 24). أما عن عيسو الذي كان يود أن يقتله فقيل عنه: "ركض عيسو للقائه، وعانقه، ووقع على عنقه وقبله وبكى" (تك 33: 1-4).

* عجيب هو صلاح الرب. عندما رأى الله لابان قد مال ليحارب الرجل الصالح، وأن يدخل معه في صراعٍ، قال له كمن يراجع نيته بالكلمة: احذر لئلا تصير مخطئًا بكلمات شريرةٍ ضد يعقوب. لا تحاول أن تضايق يعقوب ولو بكلمة، بل احذر لنفسك. راجع هذا الهجوم الشرير الذي من جانبك. اضبط غضبك. اضبط أفكارك الثائرة، امتنع عن مضايقته ولو بكلمة. أسألكم أن تلاحظوا رأفات الله، فعوض أن يأمر لابان بالرجوع إلى مكانه وجهه ألا يصدر كلمات قاسية أو عنيفة ضد الرجل الصالح. لماذا حدث هذا على الأرض؟ لكي يتعلم الإنسان الصالح بالحقيقة وبالخبرة مدى رعاية الله له.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"القليل مع العدل،

خير من دخلٍ جزيلٍ بغير حقٍ" [ع 8].

إن ارتبط دخل الإنسان باستغلال إخوته، يرتبط بخطية القسوة، ويفقد سلام القلب، فلا يشعر بسعادة. فإن سعادة الإنسان لا تقوم على إمكانات الإنسان المادية، أو مركزه أو سلطانه، وإنما على اتحاده بالقدوس، وتمتعه بالحياة المطوبة.

من أجل الضمير الصالح، ومن أجل السلام الحاضر، والطوباوية المقبلة أبديًا، خير للإنسان أن ينال ربحًا قليلاً يعيش به، عن طريقٍ مشروعٍ، من أن يكسب الكثير بطرق العالم الشريرة.

ليتنا لا نحكم على إنسان من مظهره الخارجي، ولكن حسب ضميره الداخلي. وليتنا نسعى من أجل تحقيق الفضيلة والسعادة التي تأتي من أعمال البرّ والصلاح. ويا ليتنا جميعًا - الغني والفقير - نتمثل بلعازر، فهذا الرجل لم يتحمل اختبارات الفضيلة مرة أو مرتين أو ثلاث مرات بل مرات عديدة، وأنا أعني كيف أنه كان فقيرًا ومريضًا وليس له من يساعده وأُلقيَ مطروحًا عند باب بيت كان يمكن أن يريحه ويخفف عنه من كل متاعبه، ولكن لم يمنحه أية كلمة تريحه، وقد رأى الرجل الذي أهمله يتمتع بمثل هذا الترف وليس فقط يعيش مستمتعًا بهذا الترف، ولكن أيضًا يعيش في شرورٍ بدون أن يعاني أي محن أو ضيقٍ، ولم ينظر أو يهتم بأي فقير آخر مثل لعازر أو يبعث الراحة لنفسه بأي فكر عن القيامة. وبجانب هذه المصائب كانت له سمعة سيئة بين جموع الناس بسبب المحن التي أصابته. وليس هذا ليوم أو يومين أو ثلاثة ولكن طول حياته يرى نفسه في هذه الحالة ويرى الرجل الغني على العكس.

أي عذر سيكون لنا عندما يتحمل هذا الرجل كل هذه البلايا في وقت واحد وبهذه الشجاعة إذا لم نتحمل حتى نصف هذا؟

* إن الفاسق أو الزاني أو اللص ليس فقط عندما يُتَهم، ولكن حتى عندما يسمع عن آخرين متهمين بنفس الجرائم، يتخيل نفسه في نفس القصاص عن خطاياه، فيأخذ عبرة من عقاب الآخرين. آخر قد أدين، ولكن هذا الذي لم يدن يضطرب لأنه تجرأ وفعل نفس خطاياه، وهذا أيضًا في حالة الأعمال الصالحة عندما ينال البعض الثناء والتكريم، فإن هؤلاء الذين فعلوا نفس الأعمال الصالحة يبتهجون ويفرحون متصورين أنفسهم في نفس هذا التكريم. هل تعتقد أن هناك من هو أكثر بؤسًا من هذا الخاطئ الذي عندما يرى آخرين اتهموا يتسلل هاربًا ليختبئ؟ وعلى الجانب الآخر، هل هناك من هو أكثر سعادة من الشخص البار عندما يرى أبرارًا آخرين يُكرَّمون؟ فإنه يبتهج ويفرح متذكرًا أفعاله الصالحة في وسط الفرح والتهليل بالآخرين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"قلب الإنسان يفكر في طريقه،

والرب يهدي خطوته" [ع 9].

يتحرك قلب الإنسان برغبة شديدة للتفكير في تحقيق ما في نيته. مع ما للإنسان من حرية الإرادة، لكنه لن يقدر على التحرك بدون عناية الله أو سماح الله له. خلق الله الإنسان كائنًا عاقلاً، لا لكي يكتم الإنسان هذه العطية، إنما وهو يخطط يتكئ على صدر الله، ويتكل عليه، لكن ليس في عدم تفكير أو عدم تحرك للعمل. وكما يقول الرسول بولس: "والله نفسه أبونا وربنا يسوع المسيح يهدي طريقنا إليكم" (1 تس 3: 11).

* هل لا نزال نجسر ونفتخر بالإرادة الحرة ونهين بركات الله واهب العطايا إن كان الإناء المختار (بولس) يكتب بوضوح: "ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية ليكون فضل القوة لله لا منّا" (2 كو 4: 7)؟

القديس جيروم

* لم يعمل بولس لينال نعمة، وإنما نال النعمة لكي يجاهد.

* كيف إذن يمكن إتمام وصية الله ولو بصعوبة بدون عونه، حيث أنه ما لم يبنِ الرب باطلاً يتعب البنّاء.

القديس أغسطينوس

* يود بولس أن يذكرنا بأننا لا نخلص بمجرد استقبالنا لنعمة الله المجانية. إنما يلزمنا البرهنة على أننا نريد قبول هذه النعمة المجانية. فأبناء إسرائيل استلموها، لكنهم برهنوا على عدم استحقاقهم لها فلم يخلصوا.

العلامة أوريجينوس


5. التزام الملك أو القائد

"في شفتيّ الملك وحي،

في القضاء فمه لا يخون" [ع 10]

يليق بالملك أو القائد أن يدرك مسئوليته من جهة الشعب، فهو كمن يمثل الله، يلزمه أن يراعي العدالة في قراراته، وأن يطلب لا لمصلحته الشخصية، بل مصلحة الشعب. يليق به ألا يستهين بالكلمة التي تخرج من فمه.

"قبان الحق وموازينه للرب،

كل معايير الكيس عمله" [ع 11]

مهما بلغت دقة الإنسان وأمانته يصعب عليه أن يضع الأمور في وضعها الصحيح بدقةٍ، لذلك ميزان الحق هو للرب.

ماذا يقصد بمعايير الكيس؟ ربما يقصد الحقيبة التي تُحفظ في الهيكل، وبها الأوزان الدقيقة التي على أساسها تضبط موازين الناس. ولعل "الكيس" هنا يشير إلى الحقيبة التي كان التجار يحملونها ويضعون فيها الذهب والفضة وغيرها من المعادن التي يقتنوها أثناء تجارتهم.

إن كان التجار يلتزمون بالأمانة في الموازين، وأيضًا كل مؤمن، كم بالأكثر الملك الذي يليق به أن يمثل الله في قيادته ورعايته للشعب، فيلتزم بالعدالة، خاصة مع الموازين.

لا يليق بالتجار كما بالقادة خاصة الملك أن يفصل بين أمانته في التعامل مع الغير وعبادته لله البار العادل، والذي بلا لوم.

لا يليق بالإنسان أن يغش في الموازين، فيكيل بمعيارين، واحد يكيل به لأحبائه وأصدقائه وعائلته ولنفسه، وآخر يكيل به للغرباء والمقاومين له!

"مكرهة الملوك فعل الشر،

لأن الكرسي يثبت بالبرّ" [ع 12]

ليعلم الملك أن كرسيه يثبت، لا بإمكانياته العسكرية أو المادية أو الشعبية، وإنما بالبرّ الإلهي. فيليق به كملكٍ ليس فقط ألا يمارس الشر - وهذا في قدرته - وإنما يحسب مجرد التفكير فيه دنسًا لا يطيقه. يكره الشر سواء الصادر من الشعب أو من قصره أو منه هو شخصيًا.

بهذا يصير الملك ظلاً للسيد المسيح، ابن داود، ملك الملوك. الذي قيل عنه: "فيثبت الكرسي بالرحمة، ويجلس عليه بالأمانة، في خيمة داود قاضٍ، ويطلب الحق، ويبادر بالعدل" (إش 16: 5).

"مرضاة الملوك شفتا حق،

والمتكلم بالمستقيمات يحب" [ع 13]

كما يلتزم الملك (أو القائد) ليس فقط ألا يرتكب شرًا، وإنما يكره مجرد التفكير في الشر، سواء بالنسبة له أو للخاضعين له، هكذا يليق به أن يفرح بالناطقين بالحق ويحب المتكلمين بالاستقامة.

ما أصعب على الذين يحتلون المراكز الكبرى سواء في المجتمع أو في الكنيسة ألا يخدعوا بكلمات التملق الصادرة ممن حولهم أو من الشعب!

المثل الرائع لذلك هو الدور الذي قام به الأسقف فلابيوس لتهدئة الإمبراطور ثيؤدوسيوس حين قام شعب إنطاكية بالاعتداء على تماثيله والثورة ضده. بناء على نصيحة الكاهن يوحنا الذهبي الفم قطع الأسقف ألف ومئة كيلومتر حتى يصل إلى القسطنطينية ليقول للإمبراطور: [إن تاجك، يا سيد روما والعالم، وهو رائع، وهو دليل استحقاقك، لكنه يرمز إلى جود الذي نقله إليك. أما تاج إنسانيتك فالفضل فيه يرجع إلى حكمتك فقط. يُعجب الناس بالأحجار الكريمة اللامعة علي جبينك. إنما كم يكون إعجابهم بالانتصار الذي تحرزه على قلبك... إذا سامحت الانطاكيين ستنال مجدًا عظيمًا لا يسقط على مرور الأجيال... ستضم جماهير غفيرة إلى الدين المسيحي، إذ سيقولون: اُنظروا إلى الديانة المسيحية. لقد أطفأت غضب إنسانٍ ليس له في العالم معادل!]

"غضب الملك رسل الموت،

والإنسان الحكيم يستعطفه" [ع 14]

إن كان من واجب الملك ألا يفكر في الشر، ولا يتأثر بكلمات المديح، بل يطلب كلمات الحق، ويحب الكلمات المستقيمة، فمن واجب الشعب أن يدرك أن الملك إنسان له ضعفاته، وفي يده سلطان. فإن أثاره أحد يتعرض للموت. يليق بالإنسان أن يكون حكيمًا يستعطف الملك، معطيًا الكرامة لمن له الكرامة.

يقول الرسول بولس:

"لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله.

حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة.

فإن الحكام ليسوا خوفًا للأعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد أن لا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فيكون لك مدح منه" (رو 13 : 1-3).

"فأطلب أول كل شيء أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس.

لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب، لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقارٍ. لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله" (1 تي 2: 1-3).

* صلّوا لأجل الملوك (والرؤساء) (١ تي ٢: ٢)، والسلاطين والأمراء، صلّوا من أجل كل الذين يضطهدونكم ويبغضونكم، ومن أجل أعداء الصليب، حتى تكون ثمرتكم واضحة للجميع، وتكونوا كاملين فيه (المسيح).

القدّيس بوليكاربوس الشهيد

* نحن نتضرع إلى الله الأبدي، الله الحقيقي، الإله الحي، من أجل صحة رؤسائنا...

يليق بهم أن يدركوا ممن نالوا سلطانهم، إنهم كبشرٍ يعلمون ممن نالوا الحياة ذاتها. إنهم مقتنعون أنه هو الله الوحيد، وعلى قوته يعتمدون تمامًا...

إليه نحن المسيحيين نرفع أعيننا ونبسط أيادينا إذ نحن أبرياء، ورؤوسنا مكشوفة إذ لسنا في حاجة أن نخجل، وأخيرًا بدون حاجة إلى من يحثنا، لأننا نصلي من القلب، ونتضرع دومًا من أجل كل أباطرتنا. نطلب لهم حياة طويلة، وإمبراطورية هادئة، ومسكنًا آمنًا، وجيوشًا قوية، ومجلس شيوخ مُخلصًا، وعالمًا في سلامٍ وكل ما يشتهيه هذا الإنسان وقيصر.

العلامة ترتليان

"في نور وجه الملك حياة،

ورضاه كسحاب المطر المتأخر" [ع 15]

إرضاء الملك في الرب يجعله مبتهجًا، ملامحه تبعث على الحياة، كأنه يمطر على أرض جافة. المطر المتأخر هو المطر الذي يسقط قبل الحصاد بدونه لا تأتي الأرض بإنتاج لائق.

إن كانت مسرة الملك تبعث حياة في الخاضعين له، كم بالأكثر رضا ملك الملوك. وكما يقول المرتل: "أمامك شبع سرور، في يمينك نِعَمُ إلى الأبد" (مز 16: 11).

* لنتعبد له بكونه إله المؤمنين بتأنسه، لأنه لا نفع من القول عنه إنه إنسان وليس الله، أو أي خلاص لنا إن رفضنا الاعتراف ببشريته مع ألوهيته؟ لنعترف بحضوره إذ هو ملك وطبيب. لأن يسوع الملك إذ صار طبيبًا اتزر بكتان ناسوتنا، وشفي ما كان مريضًا. المعلم الكامل للرُضع صار رضيعًا بينهم (رو 20:2) لكي يعطى حكمة للجهلاء. خبز السماء نزل إلى الأرض لكي يطعم الجياع!

* لقد جاء في الإنجيل العبارة التالية: "الذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله" (يو 36:3). فالآب يغضب عندما يُستهان بالابن الوحيد. فإن الملك يحزن لمجرد إهانة أحد جنوده. فإن كان الملك يحزن لمجرد إهانة أحد جنوده، فإن احتقر أحد ابنه الوحيد فمن يقدر أن يطفئ غضب الآب من أجل ابنه الوحيد؟!

القديس كيرلس الأورشليمي

"قنية الحكمة كم هي خير من الذهب،

وقنية الفهم تختار على الفضة" [ع 16].

التمتع بالحكمة السماوية أفضل من كل غنى أرضى. فالحكمة تزين النفس، وتحفظ الجسد من الشر، ليعيش الإنسان بكليته متمتعًا بالله الكلمة، أو حكمة الله الأزلي. أما الذهب فيعطي للجسم جمالاً مؤقتًا، أو يُستخدم لاقتناء ما يعول الجسم ويغذيه، لكن حتمًا يموت الجسم، ويترك الذهب وراءه، أما الحكمة فترافق الإنسان حتى في الحياة العتيدة.

الفهم الروحي، وإدراك أسرار الله، والتعرف على أعماق الوصية الإلهية، أفضل من الفضة.

* كما أن الذهب أفضل من الفضة، هكذا الحكمة أسمي من التعقل. الأولى تختص بالمعرفة، والأخيرة بتفسير ما هو مخفي، فيمكنك تفسير مساكن الحكمة بكونها الكنائس أو مساكن القديسين في السماء. أما الحكمة فهي نفسها المسيح.

القديس ديديموس الضرير


6. الاستقامة

"منهج المستقيمين الحيدان عن الشر،

حافظ نفسه حافظ طريقه" [ع17].

منهج المستقيمين أو طريقهم العام هو السير دون انحراف يمينًا أو يسارًا، لا يستطيع أن يجتذبهم لا بالبر الذاتي أو الكبرياء ولا بالشهوات والملذات.

إذ يحفظ الإنسان نفسه، أي يحرص على أعماقه، وينشغل بخلاصه الأبدي، يحفظ استقامة طريقه في الرب حتى ينعم بالأحضان الإلهية.


7. الكبرياء

"قبل الكسر الكبرياء،

وقبل السقوط تشامخ الروح" [ع 18]

من يرفع نفسه يسقط. إذ لبس هيرودس الحلة الملوكية، وجلس على كرسي الملك... صرخ الشعب: "هذا صوت إله لا صوت إنسانٍ" (أع 12: 21). ففي الحال ضربه ملاك الرب، لأنه لم يعطِ المجد لله، فصار يأكله الدود ومات.

* ينبغي ألا نظن بأن إنسانًا ما يزل وينزل إلى الغم بسقطة مفاجئة، إنما ينحدر إلى سقطة ميئوس منها، إما عن طريق خداعه منذ البداية أثناء تدربه ببداية خاطئة، أو يزل من حالته الروحية الحسنة تدريجيًا خلال فترة طويلة بسبب الإهمال العقلي، فتزداد الأخطاء قليلاً. لأن "قبل الكسر الكبرياءُ، وقبل السقوط تشامخ الروح" (أم 16: 18). ذلك كالمنزل الذي لا يسقط فجأة دفعة واحدة، بل يحدث بعض الخلل في الأساس لفترة طويلة، أو يحدث نتيجة إهمال ساكنيه لمدة طويلة، فيحدث بعض (الرشح أو الخلل) وبعد هذا تنهار الحوائط المحصّنة تدريجيًا. لأنه "بالكسل الكثير يهبط السقف، وبتدلّي اليدين يَكِفُ البيت" (جا 10: 18)، هذا أيضًا ما يحدث للروح[533].

الأب ثيؤدور

* "قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح" (أم 16: 18).

يفتخر أناس بكونهم أبناء حكام، وبقدرتهم على إنزال بعض الكهنة من درجاتهم الكهنوتية، مثل هؤلاء يتعظمون ويفتخرون من أجل أمور تافهة لا طائل من ورائها، وبالتالي فإنه لا يوجد أدنى سبب لتعظمهم هذا... ويوجد من يفتخرون بأنهم قد حصلوا على ما يسمونه امتيازPromotion ، يمكنهم من الإطاحة برؤوس الناس: "إن مجد هؤلاء الناس يكون في خزيهم" (في 3: 19). وآخرون يفتخرون بغناهم، ليس الغنى الحقيقي، بل الغنى الأرضي... لا تستحق كل هذه الأشياء حتى أن تُوضع في الاعتبار، ولا يليق بنا أن نتفاخر بأي منها.

الأشياء التي تعطينا الحق في التعظم والتفاخر، هي أن نفتخر بأننا حكماء، أو أن نفتخر (بتعقّل) بأننا منذ عشر سنوات مثلاً لم نقترب من الملذات الجسدية والشهوات، أو لم نقترب منها منذ الطفولة؛ أو أيضًا حينما نفتخر بحمل القيود في أيدينا من أجل السيِّد المسيح، هذه أشياء تدعو للتفاخر عن حقٍ، ولكن حتى هذه الأشياء أيضًا، فإذا حكَّمنا عقلنا بالحق، نجد أنه ليس لنا أن نتعظم أو نفتخر بها.

كان لدى بولس الرسول ما يدعوه للافتخار بسبب الرؤى والإعلانات والمعجزات والعلامات وبسبب الآلام التي تحملها من أجل السيِّد المسيح، وبسبب الكنائس التي أقامها في أماكن كثيرة من العالم، في كل ذلك كان لديه ما يدعوه للافتخار، وبحسب الأشياء الخارجية الظاهرة التي تدعو للفخر، كان سيبدو افتخار بولس الرسول شيئًا طبيعيًا بالنسبة للناس؛ ومع ذلك، وبما أنه من الخطر عليه أن يتفاخر، حتى بالنسبة لتلك الأشياء، فإن الآب في رحمته، كما أعطاه تلك الرؤى، أعطاه أيضًا على سبيل الرأفة به، ملاك الشيطان ليلطمه لئلاَّ يرتفع؛ ومن أجل هذا تضرع بولس إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقه، فأجابه الله: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل" (2 كو 12: 7-9).

العلامة أوريجينوس

* هل نمدح كرم الضيافة؟ هل نعجب بالحب الأخوي والمحبة الزوجية والعذراوية وإطعام الفقراء والترنم بالمزامير والسهر في الصلاة طوال الليل والتوبة؟ هل نُذل الجسد بالصوم؟ هل نسكن مع الله من خلال الصلاة؟ هل نُخضع العنصر الأدنى فينا للعنصر الأسمى، أي التراب للروح، كما ينبغي إذا حكمنا الحكم الصحيح على طبيعتنا التي هي مزيج – مثل السبيكة - من الاثنين؟ هل نجعل الحياة تأمُلاً في الموت؟ هل نسيطر على أهوائنا متذكرين سمو ميلادنا الثاني؟ هل نُروِّضُ طباعنا المتكبرة والثائرة؟ أو تشامخنا الذي يسبق السقوط (أم 16: 18)،... وضحكاتنا غير المهذبة، وعيوننا التي لا سيطرة لنا عليها، وآذاننا الشرهة، وأحاديثنا غير المعتدلة، وأفكارنا الشاردة، أو أي شيء فينا يستطيع الشرير أن يسيطر عليه ويستخدمه ضدنا، فيدخل الموت من النوافذ (إر 9: 21) كما يقول الكتاب، ويُعني بالنوافذ هنا الحواس.

القديس غريغوريوس النزينزي

"تواضع الروح مع الودعاء

خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين" [ع 19]

تواضع الروح يهب روح الوحدة والانسجام مع الودعاء، فيعلن الرب حضوره في وسطهم، ويهبهم نعمته. أما الكبرياء فقد يجلب غنائم ومكاسب ضخمة مع المتكبرين مع كرامة زمنية، لكن يفقد الإنسان صداقته مع الله، ويستعبد نفسه لإبليس.

يرى القديس أغسطينوس أن دور المؤمن في هذه الحياة أن يصعد كما على برج يبلغ رأسه السماء. هذا البرج الصاعد من الأرض إلى السماء، يحتاج إلى حفر أساسات، ونزول في أعماقٍ بعيدةٍ في الأرض. كلما ارتفع البناء احتاج بالأكثر إلى نزول بالأساسات إلى أعماق أكثر. فمن أراد إنشاء برج رأسه في السماء احتاج إلى ممارسة تواضعٍ أعمق فأعمق. بدون أساسات التواضع ينهار برج حياتنا الروحية، وعوض الصعود مع مسيحنا المتواضع إلى السماء تتحطم نفوسنا تمامًا!

* لنحسب حساب نفقة البرج الروحي الشاهق العلو، ونتعمق في ذلك مقدَّما بحرص... لنأخذ في اعتبارنا أولاً الأخطاء بصورة واضحة، فنحفر ونزيل الفساد ونفايات الشهوات حتى يمكننا أن نضع أساسات البساطة والتواضع القويَّة فوق التربة الصلبة... أو بالحري توضع الأساسات علي صخر الإنجيل (6: 48)، بهذا يرتفع برج الفضائل الروحيَّة، ويقدر أن يصمد ويعلو إلى أعالي السماوات في أمان كامل ولا يتزعزع.

الأب اسحق

"الفطن من جهة أمرٍ يجد خيرًا،

ومن يتكل على الرب فطوبى له" [ع 20].

قد يتمتع إنسان ما بالفهم والقدرة على التدبير، هذا يسلك بفهم في أمور حياته الزمنية، فينال خيرات ونجاحًا وكرامة وتقديرًا من الغير. أما الذي يتقي الرب ويتكل عليه، فينال الحياة المُطوبة السعيدة، أي نختبر عربون السماويات.

* يتحقَّق الإنسان المستقيم أنه عندما تحلّ به أحزان أو مآسي أو متاعب أنها بإرادة الله الصالحة، فيقبلها. أمَّا صاحب القلب المعوج فيتطلَّع إليها بحزنٍ. إنه موافق أنه خاطئ، لكنَّه يقول أنه يوجد كثيرون أشرّ منه وهم سعداء.

القلب المستقيم يقبل كل ما يحدث له، قائلاً: "الرب أعطى، الرب أخذ، ليفعل ما يسره، مبارك هو اسم الرب".

تحل المتاعب من عند الرب (بسماح منه). إنها عقوبة للشرِّير وتأديب للابن. إن أردت أن تكون ابنًا، لا تتوقَّع أنَّك تهرب من الآلام، فإنه يؤدِّب كل ابن يقبله، هل كل ابن؟ هل بدون استثناء؟

أنصتوا، فإن الابن الوحيد وحده بلا خطيَّة، ومع هذا تألَّم.

حمل ضعفاتنا، احتمل الرأس أعضاء الجسد في شخصه.

كإنسانٍ دخل آلامه في حزنٍ، لكي ما تفرحوا أنتم.

دخل في مرارة لكي تنالوا أنتم تعزية. لقد قال: "نفسي حزينة حتى الموت، لكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك أيُّها الآب".

القدِّيس أغسطينوس


8. فاعلية اللسان

"حكيم القلب يدعى فهيمًا،

وحلاوة الشفتين تزيد علمًا" [ع 21]

القلب عند اليهود يقابل العقل عند اليونانيين، فمن كان حكيمًا ومتزنًا في تفكيره، يتمتع باحترام الغير له، وتقديرهم لشخصيته.

أما من يمزج هذه الحكمة والاتزان بعذوبة اللسان، فيزداد علمًا، بمعنى أنه يصير قادرًا على التعامل مع الغير، فينتفع بعملهم وخبرتهم، ويبادلوه ذات الأمر.

* قيل عن أنبا يوحنا القلزمي - لأنه سكن بعض الوقت بجوار القلزم أي السويس - إنه من كثرة تواضعه حمل برية الأسقيط كلها بخنصره، فكيف فعل ذلك؟

أجاب الشيخ: "في النسخ القديمة ذُكر أنه حملها نحو إرادته، وذلك لأنه مع التدبير والمعرفة والشيخوخة والتواضع كان مزيَّنًا جدًا بالبشاشة، فكان يُلاقي بفرح جميع الإخوة الذين يأتون إليه كل وقت ليكشفوا له حروبهم وأفكارهم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). فمعنى هذا القول أنهم كانوا يطيعون فكره في كل ما يريد ويقول ويأمر.

في ذلك الوقت كان أنبا مقار الإسكندراني رئيسًا للدير، وكان القديس يوحنا يجذب جميع رهبان الإسقيط إلى إرادته بالكلمة الخارجة من فمه المعطية للحياة وهو يعلِّم ويعظ جميع الإخوة".

فردوس الآباء

"الفطنة ينبوع حياة لصاحبها،

وتأديب الحمقى حماقة" [ع 22]

روح الفهم والتمييز يفيض بالبركات على المؤمن، وكأنه يحمل ينبوع داخلي يفيض عليه بالحياة. أفكاره تجعله ينمو ويتقدم. أما الأحمق فلا ينفعه الكلمة الطيبة ولا التأديب، إذ هو مُصِر على عدم التعلُّم.

* يُدعى الناس عادة "عقلاء"، مع سوء استخدام كلمة "عقلاء". فالعقلاء ليسوا هم الذين يدرسون أقوال الآباء الحكماء الأولين وكتاباتهم، بل من كانت نفوسهم عاقلة، تقدر أن تميز بين ما هو خير وما هو شر. فيجتنبون ما هو شر ومُضّر للنفس، ويحرصون بحكمة على ما هو خير ونافع للنفس ويمارسونه بشكر عظيم لله.

هؤلاء وحدهم بحق الذين يجب أن ندعوهم "عقلاء"...

إننا نصير جديرين بأن ندعى بشرًا، متى اتصفنا بالعقل (حسب المفهوم السابق)، فإذا لم يتوفر العقل (بهذا المعنى) فإننا لا نختلف عن الحيوانات العُجم إلا بشكل الأطراف وموهبة الكلام.

إذًا، ليعرف الإنسان العاقل أنه خالد، كارهًا الشهوات المخجلة التي هي عِلّة موت البشر.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

"قلب الحكيم يرشد فمه،

ويزيد شفتيه علمًا" [ع 23]

يعطي الكاتب أهمية عظمى للقلب (أو العقل)، أي للإنسان الداخلي، فإن صار مقدسًا يترجم هذه القداسة عمليًا خلال شفتيه، فتخرج كلماته باستقامة، ويتمتع بالبنيان المستمر.

* عندما يفحص الإنسان العاقل نفسه، يرى ما يجب عليه أن يفعله، وما هو نافع له، وما هو قريب لنفسه، ويقودها إلى الخلاص، كما يرى ما هو غريب عن النفس، ويقودها إلى الهلاك، وبهذا يتجنب ما يؤذي النفس باعتباره شيئًا غريبًا عنها.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

"الكلام الحسن شهد عسل،

حلو للنفس، وشفاء للعظام" [ع 24]

كلمات الإنسان التقي تحمل ثلاث سمات.

الأولى أنها تتمتع بسمة كلمة الله التي يتحدث عنها المرتل أنها شهد عسل (مز 19: 10).

ثانيًا أنها لا تقف عند كسب الآخرين ونمو روح الحب والصداقة وصرف روح الغضب، وإنما تحمل عذوبة خاصة داخل نفس المتكلم ذاته.

وأخيرًا فإنها مع لذتها وعذوبتها نافعة، حيث تشفي العظام التي هي هيكل الإنسان نفسه. وكأن الكلمات المملوءة بالنعمة نافعة من كل جانب، للمتكلم وللسامعين، وللنفس كما للجسد.

* يا من تحبون التعلّم، وتتوقون إلى الإصغاء، اقبلوا مرة ثانية الكلمات المقدسة، وأبهجوا أنفسكم بعسل الحكمة، لأنه هكذا هو مكتوب: "الكلمات الحسنة شهد عسل، وحلاوتها شفاء للنفس" (أم 16: 24). لأن عمل النحل حلو جدًا، وينفع نفس الإنسان بطرق كثيرة، أما العسل الإلهي الخلاصي، فيجعل أولئك الذين يستقر فيهم ماهرين في كل عملٍ صالحٍ، ويعلمهم طرق التقدم الروحي.

القديس كيرلس الكبير

* كونوا بطيئين ومتبلدين من نحو الكلام البطال، وحكماء وأصحاب معرفة في الاستماع إلى كلمات الأسفار المقدسة المخلصة. ليكن الاستماع إلى القصص العالمية ذات تذوق مر في أفواهكم، وأما أحاديث القديسين فتكون شهد عسل.

القديس باسيليوس الكبير

* البحر هو كتاب مقدس، يحمل فيه معانٍ عميقة، وأعماق سرية للأنبياء. يصب في هذا البحر أنهار كثيرة. مبهجة ونقية هي هذه المجاري. هذه الينابيع هادئة تفيض حياة أبدية (يو 4: 14). توجد أيضًا كلمات مبهجة كشهد العسل (أم 16: 24)، أحاديث لطيفة تروي النفوس بحلاوة الوصايا الأخلاقية. مجاري الكتاب المقدس متباينة، وأنتم تعرفون ما يجب أن تشربوه أولاً فثانيًا فأخيرًا.

القديس أمبروسيوس

يصف لنا السيناتور الروماني بولينوس من ميلان عن صديقه القديس أمبروسيوس أسقف ميلان أن والده ويدُعى أيضًا أمبروسيوس يقوم بإدارة ولايات بلاد الغال شاهد سربًا من النحل يدخل ويخرج من فم ابنه الطفل الصغير أمبروسيوس وهو في القماط، وقد فتح فمه. خشي الوالد وزوجته وابنته على الطفل، ولكنهم كانوا يتطلعون إلى المنظر في دهشة. انطلق السرب وصعد إلى الهواء عاليًا حتى اختفى تمامًا. قال الأب وهو مرتعب: "إن عاش هذا الطفل فحتمًا سيكون ذا شأن عظيم. يعلق السيناتور قائلاً: [فإن الرب كان يعمل أثناء طفولة خادمه حتى تتحقق الكلمات: "الكلام الحسن شهد عسل" فإن هذا السرب من النحل كان يغرس شهد عسل لأعماله التي جاءت مؤخرًا، والتي تشهد للهبات السماوية، وتوجه أذهان الشعب من الأرضيات إلى السماويات.]


9. الطرق الشريرة

"توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة،

وعاقبتها طرق الموت" [ع 25]

سبق الحديث عن هذه الطرق المخادعة التي تبدو للإنسان مستقيمة، لكنها تدخل به إلى الموت الأبدي (أم 14: 12).

هنا يحذرنا الحكيم من الاعتماد على الحكم الشخصي دون مشورة الله، والتمتع بخبرة الأتقياء الذين سبقونا في الطريق. يحذرنا الكتاب المقدس من اعتماد الإنسان على فكره الخاص، إذ قيل: "وفي تلك الأيام لم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالثلاثاء مارس 15, 2011 10:18 pm

الاصحاح السابع عشر


بيت المحبة


خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، ولا يمكن للصورة أن تشبع وتسعد ما لم تحمل سمات الأصل: الحب! بهذا الحب الداخلي لا تعاني النفس من فراغٍ، بل تبقى ينبوع يفيض حبًا بلا توقف. هذا ما ينعم به المؤمن الحقيقي حتى وإن كان متوحدًا في البرية أو سائحًا لا يرى وجه إنسان جسديًا، لكنه يحمل كل البشرية في قلبه.

هذا هو أساس الأسرة السعيدة، حيث يتبارى كل الأعضاء في عطاء النفس لبقية الأعضاء قبل العطاء المادي. وهذا هو أساس الكنيسة التي لا تنشغل بالأنشطة الكثيرة حتى تقديم ذبائح وعبادات للرب بقدر ما تنشغل بتقديم الحب لله والناس، الذي هو ثمرة روح الله القدوس.

1. الكنيسة والحب العملي.

2. الحكيم يتمتع بالميراث .

3. الحب والتأديب .

4. ليس من شركة مع الأشرار.

5. تكريم كل عضو في الكنيسة.

6. لتكن لغة المؤمن لائقة به.

7. العطاء ناموس بيت المحبة.

8. قبول الانتهار والانتفاع به.

9. الحماقة مدمرة .

10. مقابلة الخير بالخير.

11. التدقيق.

12. العدالة قانون البيت.

13. طلب الحكمة.

14. الحذر من الضمان بلا حكمة.

15. العصيان والكبرياء.

16. ينبوع الفرح في بيت المحبة.

17. الرشوة .

18. الحكمة والمعرفة.


1. الكنيسة والحب العملي

"لقمة يابسة ومعها سلامة،

خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام" [ع 1]

واضح أنه يتكلم عن مجتمع كنسي "ملآن ذبائح"، فإن كانت كنيسة العهد القديم قد انشغلت بأنواعٍ كثيرة من الذبائح من بينها ذبيحة السلامة (لا 3: 1-17) التي هي "رائحة سرور للرب" (لا 13: 5، 16)، فموضوع سرور الله هو مصالحة الإنسان مع خالقة كما مع إخوته، أي الحب العملي.

هكذا يليق بكل مؤمنٍ إذ يقدم ذبيحة شكر لله لكن لن يُسر الله بها، مادام يحمل في قلبه كراهية من جهة أخيه. كثيرًا ما ينشغل الإنسان أو الأسرة أو الكنيسة بأنشطة ضخمة، لكن بلا سلام داخلي، إذ يليق أن ينسحب الشخص إلى حين، ليجلس في هدوءٍ مع الله، يغرف من الحب الإلهي ويفيض قلبه بالحب من أجل خلاص كل البشرية.

لقد سحب الله موسى من وسط قصر فرعون بكل أنشطته وولائمه وإمكانياته، ليعيش في برية قاحلة لمدة 40 عامًا يتمتع بلقمة يابسة ومعها سلامة مع الله عن أن يعيش في قصر فرعون وسط ولائم وفيرة مع خصام.

وانسحب إيليا إلى جوار نهر كريت (1 مل 17)، وترك الكل يعاني من القحط ثلاث سنوات ونصف، ليختبر الجميع اللقمة اليابسة، ويتصالحوا مع الله كما مع أنفسهم، عن أن يتمتعوا بالخيرات مع خصام.

لننسحب إلى حين من الانشغال بالأنشطة الكنسية الكثيرة لنجلس مع الله بكوننا أهل بيت الله، فننعم بالسلام معه، وينعكس هذا السلام على علاقتنا بإخوتنا، وحتى على الأنشطة الكنسية ذاتها.

يقول الرسول: "فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح" (رو 5: 1). "اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عب 12: 14).

* السلام الحقيقي علوي. مادمنا مرتبطين بالجسد نحمل نيرًا لأمور كثيرة تتعبنا. ابحثوا إذن عن السلام, وتحرَّروا من متاعب هذا العالم. اقتنوا ذهنًا هادئًا، ونفسًا هادئة غير مرتبكة, لا تثيرها الأهواء، ولا تجتذبها التعاليم الباطلة, فتتحدَّى قبول إغراءاتها حتى يمكنكم أن تنالوا "سلام الله الذي يفوق كل فهمٍ يحفظ قلوبكم" (في 4: 7). من يطلب السلام يطلب المسيح, لأنه هو نفسه سلامنا, الذي يجعل الاثنين إنسانًا جديدًا واحدًا (أف 2: 14), عاملاً سلامًا بدم صليبه، سواء علي الأرض أم في السماوات.

القديس باسيليوس الكبير

* في بيت الله، في كنيسة المسيح، يسكن البشر بفكرٍ واحدٍ، ويستمرون في انسجامٍ وبساطةٍ.

* إنهم يواظبون معًا في الصلاة، معلنين بإلحاح وباتفاق صلواتهم أن الله يسكن مع من هم بفكرٍ واحدٍ في البيت. يدخل إلى البيت الإلهي فقط الذين لهم اتفاق في صلواتهم.

* أوصانا الله أن نكون صانعي سلام وفي وحدة وبفكرٍ واحدٍ في بيته... ويريدنا إذ وُلدنا ثانية أن نستمر هكذا. إذ صرنا أولاد الله نظل في سلام الله، وإذ صار لنا الروح الواحد يكون لنا أيضًا القلب الواحد والفكر الواحد.

لا يقبل الله ذبيحة المخاصم، بل يوصيه أن يترك المذبح ويتصالح أولاً مع أخيه، حيث يُسر الله بصلوات صانع السلام.

الشهيد كبريانوس

* لأن الرب يُسكن البشر بفكر واحد في بيت. من ثم يمكن للحب وحده أن يدوم دون انزعاج وسط من لهم هدف واحد وفكر واحد، يريدون ويرفضون معًا نفس الأمور.

الأب يوسف


2. الحكيم يتمتع بالميراث

"العبد الفطن يتسلط على الابن المخزي،

ويقاسم الإخوة الميراث" [ع 2]

يقارن بين حكيم يعرف كيف يدبر الأمور حسنًا، وبين ابن سيِّئ التصرف. فمن أجل حكمة العبد وأمانته، قد يسمح الإنسان أن يجعله شريكًا مع أبنائه في الميراث، كأحد أعضاء أهل بيته، بينما قد يمنح القليل للابن الغبي غير القادر على التصرف الحسن.

لقد كان في فكر إبراهيم أن يقدم كل ما له ميراثًا لخادمه الأمين الحكيم اليعازر (تك 15: 2)، لو لم يهبه الله اسحق. وثق إبراهيم في العبد وسلمه كل أمور بيته، أما أبشالوم الابن فقد تمرد على أبيه داود، ولم يكن يطلب أقل من رقبته.


3. الحب والتأديب

"البوطة للفضة،

والكور للذهب،

وممتحن القلوب الرب" [ع 3]

الضيقات والآلام بالنسبة للمؤمنين هي كالبوطة والكور لتنقية الذهب والفضة. وكما يقول المرتل: "لأنك جربتنا يا الله، مَحصتنا كمحص الفضة، أدخلتنا إلى الشبكة. جعلت ضغطًا على متوننا. ركبت أناسًا على رؤوسنا". (مز 66: 10-12) كما يقول الرب لبيت يعقوب: "هأنذا قد نقيتك وليس بفضةٍ. اخترتك في كورٍ المشقة. من أجل نفسي، من أجل نفسي أفعل، لأنه كيف يُدنس اسمي، وكرامتي لا أعطيها لآخر" (إش 48: 10-11).

يعرف الصائغ درجة الحرارة اللازمة للذهب الذي بين يديه، والمدة التي يسمح بها للذهب في البوطة. وتبقى عيناه متطلعتان إلى الذهب في البوطة، لا ينشغل بشيء آخر، حتى يصبه من البوطة، نقيًا من الشوائب. هكذا لن يسمح الله لنا بالتجارب أكثر مما نحتمل، إنما يعلم تمامًا ما هو لنقاوتنا وبنياننا، وتبقى عيناه وسط الضيق، يهتم بتقديسنا وتنقيتنا من كل شائبة.

* نحن نعلم أنه حتى القديسين يسمح الله أن تسقط أجسادهم تحت سلطان الشيطان وتحل بهم نكبات كثيرة، ذلك من أجل الهفوات (لتأديبهم)، لأن الرحمة الإلهية لا تطيق أن يكون فيهم وسخ أو دنس إلى يوم الإدانة، فينقيهم من كل شائبة، مُقدمًا إياهم إلى الأبدية مثل الذهب أو الفضة المصفّاة، غير محتاجين بعد إلى تنقية، فيقول الله: "وأنقي زغلكِ... وأنزع كل قصديركِ... بعد ذلك تُدعَين مدينة العدل القرية (المدينة) الأمينة" (إش 1: 25-26). وأيضًا كما تُمتحن الفضة في البوطة والذهب في الكور، هكذا يَمتحن الرب القلوب (أم 17: 3). وأيضًا "لأن الذي يحبُّهُ الربُّ يُؤَدّبهُ ويجلد كل ابن يقبلهُ" (عب 12: 6).

الأب سيرينوس

* ما أمجد الآلام! بها نتشبه بموته!

كما يُلقي ممحص الذهب بقطعة الذهب في الفرن لتحتمل النار إلى حين حتى يراها قد تنقت، هكذا يسمح الله بامتحان البشرية بالضيقات حتى تتنقى وتحصل على نفعٍ عظيمٍ... فليتنا لا نضطرب ولا نيأس عندما تحل بنا التجارب. لأنه كما أن ممحص الذهب يعلم الزمن الذي ينبغي أن يترك فيه الذهب في الفرن، فيُخرجه في الوقت المعين، ولا يتركه بعد في النار، حتى لا يفسد ولا يحترق، هكذا كم بالأكثر يعلم الله ذلك. فعندما يرانا قد تنقينا بالأكثر، يعتقنا من تجاربنا حتى لا ننطرح ونُطرد بسبب تزايد شرورنا.

عندما يحل بنا أمر ما لم نكن نتوقعه، لا نتذمر ولا تخور قلوبنا، بل نتحمل الله الذي يعرف هذه الأمور بدقةٍ، حتى يمتحن قلوبنا بالنار كيفما يُسر، إذًا يفعل هذا بهدفٍ لفائدة المجربين، لذلك يوصينا الحكيم قائلاً بأن نخضع لله في كل الأمور، لأنه يعرف تمامًا متى يخرجنا من فرن الشر (حكمة يشوع 1 :1-2).

نخضع له على الدوام، ونشكره باستمرار، محتملين كل شيءٍ برضا، سواء عندما يمنحنا بركات أو يقدم لنا تأديبات. لأن هذه الأخيرة هي نوع من أنواع البركات.

فالطبيب ليس فقط يسمح لنا بالاستحمام (في الحمامات)... أو الذهاب إلى الحدائق المبهجة، بل وأيضًا عندما يستخدم المشرط والسكين هو طبيب!

والأب ليس فقط عندما يلاطف ابنه، بل وعندما يؤدبه ويعاقبه... هو أب!

وإذ نعلم أن الله أكثر حنوًا من كل الأطباء، فليس لنا أن نستقصي عن معاملته، ولا أن نطلب منه حسابًا عنها، بل ما يحسن في عينيه يفعله. فلا نميز إن كان يعتقنا من التجربة أو يؤدبنا لأنه بكلٍ من الطريقين يود ردنا إلى الصحة، ويجعلنا شركاء معه، وهو يعلم احتياجاتنا المختلفة، وما يناسب كل واحدٍ منا، وكيف، وبأية طريقة يلزمنا أن نخلص.

لنتبعه حيثما يأمرنا، ولا نفكر كثيرًا إن كان يأمرنا أن نسلك طريقًا سهلاً وممهدًا أو طريقًا صعبًا وعرًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* إن كنتَ ذهبًا، فلماذا تخاف النار، فإنه في الكور يحترق الزغل وتخرج أنت نقيًا؟ وإن كنت حنطة، فلماذا تهاب الدرَّاس، مع أنك لا تظهر على ما أنت عليه إلاَّ به حيث يُنتزع عنك "التبن" ويظهر أصلك وشرفك؟

القديس أغسطينوس


4. ليس من شركة مع الأشرار

"الفاعل الشر يصغى إلى شفة الإثم،

والكاذب يأذن للسان فسادٍ" [ع 4]

عندما يكتم القلب شرًا في داخله تكون الأذنان على استعداد لسماع صوت عدو الخير، أي لشفة الإثم وكلماته المخادعة، أما إن كان القلب مستقيمًا، فإنه يعرف صوت عدو الخير، ويرفض حتى الحوار معه. بمعنى آخر يليق بنا ألا نلقي باللوم على الشيطان الذي يلقي بشباكه ليصطادنا، بل نلوم قلوبنا التي انحرفت، فصارت مستعدة للتجاوب مع حيل إبليس، والتلذذ بأفكاره الشريرة.

بنفس الطريقة حينما تنبأ الأنبياء الكذبة بالكذب وحكم الكهنة بالشر، تجاوب الشعب الشرير معهم: "الأنبياء بالكذب، والكهنة تحكم على أيديهم، وشعبي هكذا أحب" (إر 5: 31). يجد الإنسان لذة ومتعة حين يلتقي بمن هم على شاكلته، فيتجاوب معهم. فالشخص الكذاب يُسر بمجلس الكذابين، والزاني يتجاوب من أعماقه مع أحاديث الزناة... وهكذا يجد الخاطي ما يبرر به نفسه ويريح ضميره بمشاركته من يمارسون نفس خطيته، ومن جانب آخر فإن الأشرار يسندون بعضهم بعضًا في ممارسة الشر.


5. تكريم كل عضوٍ

"المستهزئ بالفقير يعيِّر خالقه،

الفرحان ببلية لا يتبرأ" [ع 5]

يسمح الله بوجود فقراء ومحتاجين وسط البشرية، لكي ما يمارس الإنسان حنوه ومحبته نحو أخيه، فالغني محتاج أن يعطي، والفقير يشكر من أجل موهبة العطاء التي يهبها الله للأغنياء، فيعيش الفريقان بروح الحب والاتفاق والانسجام معًا، والاحترام المتبادل.

يليق بالغني ألا يستخف بالفقير، لأن كثيرًا من الفقراء أغنى من الأغنياء، إذ يقتنون بالإيمان السيد المسيح كنز المعرفة وكل علم في داخلهم، ويعتزون بأبوة الله لهم ككنزٍ ثمين، وتُعد لهم أمجادًا أبدية فائقة. من يستهزئ بالفقير يستخف بهذه العطايا الإلهية المجانية المقدمة للجميع.

* في الكنيسة يكون الشخص غنيًا، إن كان غنيًا بالإيمان، لأن المؤمن يقتني عالم كامل من الثروات. هل هذا أمر غريب أن المؤمن يملك العالم، مادام يملك ميراث المسيح، الذي هو أثمن من العالم؟ لقد اُفتُديتم بالدم الثمين، هذا يقال بالتأكيد للكل، وليس للأغنياء وحدهم.

القديس أمبروسيوس

* المستهزئ بالفقير يهين خالقه". لماذا؟ لأن الله خالق الفقير. من هو قاسٍ، ليس فيه إنسانية، حتى يضحك عوض التزامه بالحنو لأنه يخطئ مثل هذا يُعاقب عليه. هذا الشخص يهلك لأنه يخطئ ضد عناية الله العالية والحكمة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إن كان الله يسمح لشخصٍ أو لأمةٍ ما ببليةٍ أو ضيقةٍ، فإن من يشمت في بلية الغير يسقط هو ولا يجد سندًا من السماء، لأنه لم يرحم أخاه. كانت خطية أدوم أنه شمت في إخوته حين سقطوا تحت الأسر لتأديبهم. (عو 12-16).

كان القديس أمبروسيوس وهو أسقف يخشى لئلا بعد أن صار مسيحيًا وسيم أسقفًا يهلك بإدانته لخاطئ ما، فيذكر دومًا ضعفاته ويضعها أمام عينيه، لا لييأس وإنما لكي يترفق بالخطاة. يقول:

[أنا أعلم أنني لم أكن مستحقًا أن أُدعى أسقفًا، لأني كرست حياتي للعالم، لكن بنعمتك صرت ما أنا عليه. وأنا بالحقيقة أقل كل الأساقفة، وأدناهم استحقاقًا. لا تسمح لذلك الذي كان ضائعًا قبل دعوته للكهنوت أن يضيع حينما صار كاهنًا.

أولاً هب لي أن أعرف كيف أبكي بكل وجداني الداخلي على الذين يخطئون. هذه أعظم فضيلة، إذ مكتوب: "لا تشمت ببني يهوذا يوم هلاكهم، ولا تفغر فمك يوم ضيقهم" (عو13). هب لي دومًا عندما أعرف خطية إنسانٍ ساقطٍ أن أتألم معه، ولا أوبخه بتشامخ، بل أحزن وأبكي، فببكائي على الغير أبكي على نفسي، قائلاً: "ثامار أبرّ مني" (تك 38: 26).]

"تاج الشيوخ بنو البنين،

وفخر البنين آباؤهم" [ع 6]

ليس من أمر يُفرح السماء عينها مثل الأسرة الحاملة أيقونة السماء، وكل عضو يرى عمليًا في بقية الأعضاء مجده وكرامته وغناه. فالشيخ لا يلفظ بكلمة جارحة ضد الجيل الجديد (بني بنيه)، ولا حتى بفكره، بل يرى فيهم إكليله ومجده. والشاب لا يستخف بالجيل السابق (والديه)، بل بروح الطاعة يكرمه.

الحب العملي والاحترام المتبادل يحوِّل البيت إلى سماء، والأسرة إلى أهل بيت الله، ويتلامس الكل مع وعد السيد المسيح: "لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم" (مت 18: 20). وحيث يحل السيد المسيح يجتمع الكل معًا كما في السماء من كل الأمم والألسنة والقبائل والشعوب، من كل الثقافات، ومن كل الأعمار، ولا توجد مشكلة وجود هوة بين الأجيال، بل يري كل واحدٍ انعكاس بهاء المسيح في الآخرين.

* قيل "تاج الشيوخ بنو البنين، ومجد البنين أبوهم". مجدنا هو أب الكل، وتاج الكنيسة كلها هو المسيح.

القديس إكليمنضس السكندري


6. لتكن لغة المؤمن لائقة به

"لا تليق بالأحمق شفة السؤدد،

كم بالأحرى شفة الكذب بالشريف" [ع 7]

اختلف البعض في ترجمة الكلمة اليونانية، المترجمة هنا "السؤدد"، فالبعض يترجمها بمعنى الرفعة أو السمو، وآخرون أنها تحمل التشامخ والكبرياء. فإن كان لا يليق بالأحمق أن ينطق بأمورٍ سامية مجيدة، فبالأولى لا يليق بشريفٍ أو حاكمٍ أو قائدٍ أن يُخرج كلمة كذب من شفتيه.

عندما تنبأ شاول وسط الأنبياء، "قال الشعب الواحد لصاحبه: ماذا صار لابن قيس, أشاول أيضًا بين الأنبياء؟" (1 صم 10: 11)، صار هذا مثلاً يُنطق به حينما ينطق أحمق بأمورٍ سامية. أما المثل المضاد لذلك فهو - في رأي البعض - إبراهيم أب الآباء الذي أنكر أن سارة زوجته، فإن مكانته العظيمة ومركزه جعل هذا التصرف غير لائقٍ به (تك 20: 1-13).


7. العطاء ناموس بيت المحبة

"الهدية حجر كريم في عينيّ قابلها،

حيثما تتوجه تفلح" [ع 8]

إذا ارتبطت الهدية بالحب الداخلي مع التواضع، يكون لها تقديرها الخاص لدى قابلها. يميز الكتاب المقدس بين الهدية والرشوة (أم 17: 24)، الأولى لكسب روح الحب والمودة، أما الثانية لاعوجاج طرق القضاء، أو نوال أمورٍ لا حق لنا فيها، أي غير مشروعة.

هدية يعقوب لعيسو نزعت الغضب، وحب الانتقام من عيسو (تك 33: 4)، وهدية يوناثان لداود كشفت عن تعلق نفسه به، وحبه له كنفسه (1 صم 18: 1-4).

"من يستر معصية يطلب المحبة،

ومن يكرر أمرًا يفرق بين الأصدقاء" [ع 9]

نبدأ كل صلاة جماعية أو أسرية أو فردية (شخصية) بتقديم ذبيحة شكر لله صانع الخيرات "لأنه سترنا". فإن كان القدوس الذي لا يطيق الخطية يستر علينا لكي ينتشلنا بروح الرجاء من خطايانا، ويدخل بنا إلى مقادسه، كم يليق بأبنائه أيضًا أن يتشبهوا به، فيسترون على إخوتهم بغية تمتعهم بالحياة المقدسة. "المحبة تستر كثرة من الخطايا" (ا بط 4: 8، راجع أم 10: 12).

الستر على الآخرين لا يعني المداهنة ولا التهاون مع الخطية، إنما بروح الحب والتواضع والوداعة يلزم الصلاة من أجل الساقطين لكي يستر الله عليهم وعلينا برجوعنا دومًا إليه. كما يمكن الحديث بهدوء مع الساقطين دون جرحٍ لمشاعرهم.

لعل من أجمل الأمثلة في الحديث مع الخطاة يوناثان النبي وحواره مع داود الملك والنبي لأجل توبته، حيث تحدث معه سرًا بعيدًا عن الأنظار، ومع صراحته وحزمه، فتح أمامه أبواب الرجاء (2 صم 12).

أما من "يكرر الأمر (النميمة)"، أي يُشهِّر بالساقطين، يجول يفضح خطاياهم قدام الغير فهو يحطم الحب!

* "أنتم ملح الأرض "(مت 5: 13). خواص الملح كثيرة، فهو يجعل التافه لذيذًا، وينزع الرطوبة المولِّدة للنتانة، ويشدد الرخاوة، كذلك أنتم اجتذبوا الناس وشددوا رخاوتهم، وأنذروهم لكي لا يميلوا إلى النفاق.

كما أن الملح يحفظ نفسه وغيره بلا فساد ولا نتانة، هكذا أنتم كونوا مهتمين بنفوس بني البشر لكي لا ينتنوا في الخطية. وقد دعا المحبة ملحًا بقوله: "أنتم ملح الأرض "أي أنتم محبة الأرض. فيجب أن تكونوا محبين لكل الناس، وكونوا في سلام مع بعضكم بعضًا.

ابن الصليبي

* قيل عن القديس مقاريوس: إنه صار كما هو مكتوبٌ إلهًا أرضيًا، فكما أن الله يستر على العالم، هكذا كان أنبا مقاريوس يستر على عيوب إخوته التي كان يراها كما لو لم يكن يَراها، والأشياء التي كان يسمعها، كأنه لم يكن قد سمع شيئًا.

* قيل عن القديس مقاريوس إنّ شاروبًا كان يلازمه منذ اليوم الذي بدأ فيه حياته النسكيّة في البريّة، وكان يشدِّده ويعطيه قوةً على احتمال النسك، وكان ينمو في ذلك كل يوم، متقدِّمًا في التزيُّن بالفضيلة، حتى إنّ شهرته الحسنة عمّت في ربوع الإمبراطورية الرومانية بأكملها ومناطق الشرق، لأنه في الحقيقة اجتذب إليه كل أحدٍ لأجل الحياة الإنجيلية العملية بسبب الرائحة العطرة لنسكياته السامية، حتى انتزع جمهورًا من الناس من الهلاك فنالوا الحياة الأبدية. وقد منحه ربنا يسوع المسيح موهبة رؤية خطايا الناس مثل زيتٍ موضوعٍ في إناءٍ من زجاجٍ، وكان يستر عليها كلها متشبِّهًا بالله.

فردوس الآباء

* احفظوا آذانكم من سماع كلام النميمة والوقيعة، لكي تكون قلوبكم طاهرة، لأنّ الآذان إذا سمعَتْ الحديث النجس لا يمكن حفظ طهارة القلب بدون دنس.

القديس مقاريوس الكبير

* لا شيء أردأ من الإدانة للإنسان، لأن منها يتقدم إلى شرورٍ ويسقط في شرور، فالذي يدين أخاه في قلبه يتكلم عنه بلسانه ويفحص أعماله وتصرفاته، ويترك النظر فيما يُصلح ذاته، ويشغل نفسه بما لا يعنيه عما يعنيه، ومن هنا ينشأ الازدراء والنميمة والملامة والتعيير، وحينئذ تتخلّى عنه المعونة الإلهية فيسقط في ما دان أخاه عليه.

النميمة هي أن يُخبر المرء بما فعله أخوه من خطية شخصية، فيقول إنه فعل كذا. أما الإدانة فهي أن يُخبر المرء عما لأخيه من خُلُق رديء، فيقول إنه سارق أو كذاب أو ما شابه ذلك، فيحكم عليه باستمراره في هذه الصفة وعدم الإقلاع عنها، وهذا أمرٌ صعبٌ جدًا.

لذلك شبّه الرب خطية الإدانة بالخشبة، والخطية المُدانة بالقذى، وعلى ذلك تزكّى العشار رغم آثامه وشُجب الفريسي لكونه دان غيره بالرغم مما له من صدقة وصوم وصلاة وشكره لله على ذلك.

فالحكم على خليقة الله يليق بالله لا بنا، وإدانة كل واحد وتزكيته هي لله وحده، لأنه هو وحده العارف بسرّ كل إنسان وأموره العلنية، وبما يجب من الحكم في كل أمرٍ، وعلى كل شخصٍ.

القديس دوروثيئوس

بالنميمة أغوت الحيّة حواء وأخرجتها من الفردوس وآدم معها، هكذا نظير الحيّة تمامًا مَنْ يقع في صاحبه، فإنه يُهلِك مَنْ يسمعه ونفسه لا تنجو.

أنبا شيشوي


8. قبول الانتهار والانتفاع به

"الانتهار يؤثر في الحكيم،

أكثر من مائة جلدة في الجاهل" [ع 10]

الإنسان الحكيم يطلب دومًا نموه الروحي وتقدمه في كل شيء، لهذا لا يقاوم كلمة الانتهار أو النقد البنَّاء. أما الجاهل فيظن دومًا أنه على صواب، أكثر حكمة وفهمًا من الجميع. الأول ينتفع بكلمات الانتهار الوديعة الهادفة، والثاني لا يتأثر حتى بالجلدات، فإنه متمرد وعنيد، وغليظ الرقبة ومتشامخ.

من أمثلة ذلك فرعون، فقد سقطت عليه لا مائة جلدة، بل الضربات العشرة كل منها أقسى من السابقة، ومع هذا وإن تأثر إلى لحظات يعود إلى قسوة قلبه وعناده. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لم ينتفع بالضربات حتى آخر لحظات حياته، حيث ألقى بنفسه مع جيشه وسط المياه ليموت الكل غرقًا!

لا نعجب إن كان الله كثيرًا ما يسمح بالتجارب لقديسيه، وكأنها توبيخ يقدمه لهم كحكماء مستعدين للاستماع لصوته الإلهي خلال التجارب.

قيل إنّ الأب هيلاريون ذهب إلى القديس أنبا أنطونيوس وكان عمره حوالي 15 سنة، ولمدَّة شهرين فقط تأمَّل طريقة حياته وسلوكه الوقور واجتهاده في الصلاة، وتواضعه في تعامله مع تلاميذه، وشدَّته في الانتهار، ونصائحه.

* هل يجب على مَنْ يوبِّخ أحدًا أن يقول له سبب توبيخه له؟

إن كنتَ لا تقول له فكيف يمكن أن يُصلِح حاله؟

إن كنتَ لا تُظهِر للجريح جرحه فكيف يتم علاجه؟

لذلك فمن الأفضل أن تقول له، أمّا إذا كانت النفوس ضعيفة ولا تقدر أن تسمع، فإننا نحاول أن نقول لها بطريقةٍ مستترةٍ ونراعي ضعفها، وذلك مثلما يُعطَى الخمر للمريض مخفَّفًا بالماء، وأمّا للسليم فخمرًا نقيًّا، فإذا وجدته قادرًا أن يسمع فمن الأفضل أن تُعرِّفه بغلطته.

إذا كنتَ حين توبِّخ أحدًا تستسلم للغضب، فأنت بذلك تُشبِع هواك (الخاص بالخطية)، فلا ينبغي أن تُهلِك نفسك لكي تخلِّص آخرين.

القديس مقاريوس الكبير

"الشرير إنما يطلب التمرد،

فيطلق عليه رسول قاس" [ع 11]

هنا يتحدث عن "الشرير المتمرد"، لأنه يوجد أشرار سقطوا في الشر بسبب الضعف أو لظروف محيطة بهم، هؤلاء يحتاجون إلى الحنو برقةٍ واللطف مع الصراحة.

أما الشرير المتمرد فيحتاج إلى رسولٍ قاسٍ، لأنه لا يقبل كلمة الانتهار الوديعة الرقيقة.

يقول الرب بإشعياء النبي: "اغتسلوا، تنقّوا، اعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيَّ، كفُّوا عن فعل الشر، تعلّموا فعل الخير… هلمّ نتحاجج يقول الرب، إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضُّ كالثلج، إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف، إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأنّ فم الرب تكلَّم". (إش 1: 16-20)


9. الحماقة مدمرة

"ليصادف الإنسان دبة ثكول،

ولا جاهل في حماقته" [ع 12]

الدخول مع الشرير المتمرد في حوارٍ أو جدالٍ لا يجدي، فإن اللقاء مع وحشٍ كاسرٍ نُزع عنه صغاره، مثل الدبة أهون من اللقاء مع جاهل أحمق في حالة ثورة.

اهرب دائمًا من كل إنسان لا يكفّ عن المجادلة في حديثه.

* إذا ابتعدَت النفس من كل مناقشةٍ وتشويشٍ واضطرابٍ؛ فإنّ روح الله يدخل فيها وتلك التي كانت عاقرًا تصير مثمرة.

الأب بيمين

أما الصديق الحكيم فيطيل أناته قي مناقشاته,

* كان أنبا أنطونيوس حكيمًا ذا عقلية وقّادة يدرك حقيقة الناس ببصيرةٍ نفّاذةٍ، فكان الذين يأتون إليه يمتلئون دهشةً إذ يجدون أنه قد أدركهم على حقيقتهم رغم عزلته وابتعاده عن الناس. وكان حديثه مطعّمًا بملحٍ سماوي حتى إنّ سامعيه كانوا يشعرون بغبطةٍ قلبيةٍ على ما وصل إليه من كمالٍ روحي حبّب فيه النفوس وجذب إليه القلوب.

كذلك كان أنبا أنطوني يمتاز بالصبر والجلَد في المناقشة، فيُصغي إلى كل ما يُقال له، ويُجيب عنه بكل اتِّزانٍ، فلا عجب إذا قيل إنّ الله قد أقامه طبيبًا روحانيًا لأبناء وطنه ولجميع الملتفين حوله.

القديس بالاديوس


10. مقابلة الخير بالخير

"من يجازي عن خيرٍ بشرٍ،

لن يبرح الشر من بيته" [ع 13]

إن كان لا يليق بالمؤمن أن يلاقي الشر بالشر، فماذا لو أنه لاقى الخير بالشر. فإن مثل هذا الإنسان لن يفارق الشر بيته أو أسرته أو أحفاده.


11. التدقيق

"ابتداء الخصام إطلاق الماء،

فقبل أن تدفق المخاصمة اتركها" [ع 14]

الإهمال في شرارة صغيرة صادرة من عود كبريت يمكن أن تشعل نيران تمتد لتحرق غابات تصل إلى آلاف الأفدنة. والإهمال في جرحٍ بسيطٍ يمكن أن يتضاعف ويؤدي بحياة الإنسان كلها. وثغرة صغيرة في خندق إن أُهملت يمكن أن تسبب تدفقًا لمياه غزيرة لا يمكن مواجهتها. هكذا إن أهملنا غضبًا طارئًا، وغربت الشمس على غيظنا يصعب التعرف على العواقب المريرة في حياتنا على الأرض وأبديتنا. لذلك يوصينا السيد المسيح: "كن مراضيًا لخصمك سريعًا مادُمت معه في الطريق" (مت 5: 25). ويوصينا الرسول: "لا تغرب الشمس على غيظكم" (أف 4: 26).

أيام غربتنا قليلة مقصرة وشريرة، فلا نضيعها في الخصام. وكما يقول الأنبا افراطس: ]يليق بالمتقدمين إلى الله أن ينظروا إليه وحده، ويلتجئوا إليه بورعٍ هكذا، حتى لا يعيروا الشتيمة التفاتًا، حتى ولو كانوا مظلومين ربوات من المرات.]

* من كان غضوبًا فهو خالٍ من طول الأناة والمحبة، يقلق سريعًا من الأقوال التافهة، ويثير الخصام لأمر يسير حقير، وحيثما لا يكون له مكان يطرح نفسه... فمن لا ينوح على مثل هذا؟ فهو مرذول عند الله والناس.

مار أفرام السرياني


12. العدالة قانون البيت

"مبرِّئ المذنب ومذنِّب البريء

كلاهما مكرهة الرب" [ع 15]

قيل: "ويل للقائلين للشرِ خيرًا، وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا، والنور ظلامًا، المر حلوًا، والحلو مرًا" (إش 5: 20). إن كان الله هو الحق، فإن من يستبدل الحق بالباطل، والخير بالشر، والنور بالظلمة، يكون كمن جحد الله نفسه الخير الأعظم والنور السرمدي. فتبرئة الظالم وتذنيب البريء إهانة موجهة ضد الله نفسه.


13. طلب الحكمة

"لماذا في يد الجاهل ثمن؟

ألاقتناء الحكمة وليس له فهم" [ع 16]

لماذا يمسك الجاهل بثمن؟ هل يريد أن يشتري الحكمة أو يقتنيها بالمال؟ بينما قلبه ليس في الحكمة، ولا يطلبها لأجل ذاتها.

هذا هو موقف بعض الأغنياء الذين يرفض أولادهم التعلم، فيظنون أنهم قادرون أن يستخدموا غناهم وأموالهم في إلحاق أولادهم بالكليات. قد يستطيعوا أن يشتروا الدرجات العلمية بوسيلةٍ أو أخرى، لكن قلوب أبنائهم لا تطلب العلم ولا المعرفة، ولا تبالي بالتقدم!

"الصدِيق يحب في كل وقت،

أما الأخ فللشدة يولد" [ع 17]

الصدِيق الحقيقي هو ربنا يسوع المسيح، محب كل البشرية، جاء كطبيبٍ من أجل المرضى ليشفيهم، وليس ليدينهم أو يحتقرهم. وقد وُلد جسديًا، أي تجسد وتأنس للشدة، أي ليحمل الصليب من أجل العالم كله! قيل عنه:

"أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى" (يو 13: 1).

"هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 19).

"لم آتٍ لأدين العالم، بل لأخلص العالم" (يو 12: 47).

"هو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل للخطايا كل العالم أيضًا" (1 يو 2: 2).

"لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضي" (مر 2: 17؛ لو 5: 13).

"لا أعود أسميكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سميتكم أحباء" (يو 15: 15).

"أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها" (إش 53: 4).

* عندما يُهاجم يسوع لاختلاطه بالخطاة، واختيار عشار مرذول تلميذًا له، فيسأل أحدهم: أية منفعة يمكن البلوغ إليها من هذا؟ خلاص الخطاة فقط! لوم يسوع لاختلاطه بالخطاة يشبه لوم طبيب لتنازله وتعبه من أجل إيجاد مواد لها رائحة صعبة من أجل شفاء المرضى.

القديس غريغوريوس النزينزي

* إذ لا يوجد بار كامل، لهذا لم يأتٍ المسيح ليدعو من هم ليسوا هنا (في العالم)، بل إلى جماهير الخطاة الحاضرة الذين امتلأ العالم بهم، متذكرين قول المرتل: "خلص يا رب، لأنه قد انقرض التقي" (مز 12: 1).

القديس جيروم

* أظهر (يسوع) لهم أن في حضوره الآن في العالم لم يأتٍ كقاضٍ بل كطبيبٍ، ويعمل ما يجب على الطبيب أن يمارسه، بأن يختلط بالذين هم في حاجة إلى الشفاء.

القديس كيرلس الكبير


14. الحذر من الضمان بلا حكمة

"الإنسان الناقص الفهم يصفق كفًا،

ويضمن صاحبه ضمانًا" [ع 18]

كثيرًا ما يحذر الحكيم من التسرع في تعهد إنسان بضمان آخر دون حساب النفقة والإمكانيات للسداد (أم 6: 1-5، 11: 15). لقد ضمن بولس أنسيموس، وكان مستعدًا لدفع الدين بنفسه (فل 18-19). كما ضمن يهوذا بنيامين (تك 42: 17، 44: 32). أما مسيحنا فمع معرفته لعجزنا عن دفع الدين، دفعه مقدمًا على الصليب، لكي بالإيمان الحي يصير لنا حق الدخول إلى الأحضان الإلهية.

روحه القدوس الساكن فينا أيضًا يشفع فينا، مقدمًا الضمان الذي دفعه السيد على الصليب لمن يقبل حبه ويتجاوب معه. "فمن ثم يقدر أن يخلص أيضًا إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم" (عب 7: 25).

"الروح نفسه يشفع فينا بأنَّاتٍ لا يُنطق بها، ولكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح، لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين" (رو 8: 26-27).

من هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله، الذي أيضًا يشفع فينا" (رو 8: 34).

* إذ يرى الروح القدس روحنا يصارع الجسد، وإذ ينسحب الروح للجسد، يبسط الروح القدس يديه ويعيننا في ضعفنا.

العلامة أوريجينوس

هنا نود أن نوضح أن بعض الآباء يرون أن شفاعة الروح القدس هنا لا تعني جوهر الروح القدس، إنما نعمة الروح القدس الساكن فينا، والحب الذي صار لنا بالروح القدس هو يوجه صلوات المؤمنين ليطلبوا عن أنفسهم وعن إخوتهم حسب مشيئة الله، وما هو لنفعهم. ويدعو القديس أغسطينوس هذه النعمة الإلهية "عطية الصلاة".


15. العصيان والكبرياء

"محب المعصية محب الخصام،

المعلي بابه يطلب الكسر" [ع 19]

الإنسان المتمرد يجد لذة في الخصام، وشبعًا في الجدال الغبي غير البنّاء، وفي تمرده يرفع من شأن نفسه، ويعتد بآرائه كمن يُعلي أبوابه، فيحطم نفسه بنفسه.

"الملتوي القلب لا يجد خيرًا،

والمتقلب اللسان يقع في السوء" [ع 20]

ما يزرعه الإنسان بقلبه الملتوي، ولسانه المتقلب لا يحصد خيرًا بل شرًا.

القلب الملتوي لا يمكنه أن يقدم لسانًا مقدسًا مستقيمًا، بل لسانًا مخادعًا متقلبًا، يخسر به أصدقاءه ويثير أعداءه، ويسبب له متاعب لا حصر لها.

"من يلد جاهلاً فلحزنه،

ولا يفرح أبو الأحمق" [ع 21]

ليس من مرارة تصيب الإنسان مثلما أن يكون له ابن (أو ابنة) جاهل وأحمق، فلا يقدر الفرح أن يتسلل إلى قلبه.

* يدعى الله أبًا، وتُدعى محبة الله للبشرية أمًا، وهي علة التجسد الإلهي وتألمه لأجلنا. مع أن الله هو أبونا، فإنه لا يفرح بمن نال التبني دون أن تكون له معرفة بالحكمة الإلهية والمعرفة، والذي يرتكب الشر. أما الابن المتعقل فيُسِر أمه، أي محبة الله نحو البشرية. إنها هي التي تحضرنا لله الآب كأبناء ناقصي التغذية (جائعين) نشتاق للطعام الروحي القوي. هذا يتحقق لكي ما يمكن لابنه - يسوع المسيح - الذي صار كأخ لنا (حب 2: 17)، أن يجعلنا مواطني مملكته وذلك بالكلمة والعمل، أيضًا أمنا الكنيسة التي خُطبت لله الآب بالروح القدس. إنها تلد بنين وبنات له أبديًا. والذين يتعلمون الحكمة السماوية والمعرفة يُسِرون الله أبونا وكنيسته أمنا. لكنها تحزن وتنتحب على غير المتعلمين الذين لا يريدون أن يتوبوا ويخلصوا بل يفضلون أن يستمروا على الشر.

العلامة أوريجينوس


16. ينبوع الفرح في بيت المحبة

"القلب الفرحان يطيب الجسم،

والروح المنسحقة تجفف العظم" [ع 22].

ليس ما يحطم جسم الإنسان مثل الكآبة والقلق ومرارة النفس. أما إذا امتلأ القلب بفرح الروح فتتهلل النفس، وينعكس تهليلها حتى على صحة البدن.

تقديم ذبيحة فرح وشكر وتسبيح يومي، نهارًا وليلاً يحول المؤمن إلى أشبه بملاكٍ متهلل، يتحدى لا المرض فحسب، بل وحتى الموت الجسدي! يردد المؤمن: "لأنك أنقذت نفسي من الموت، وعينيّ من الدمعة، ورجليّ من الزلق، أسلك قدام الرب في أرض الأحياء" (مز 116: 8-9).

* كل إنجيل يجلب فرحًا بسبب صالح.

العلامة أوريجينوس

* إنه لم يخف بل فرح أن يراه، لأن فيه الحب الذي يطرد الخوف خارجًا (١ يو ٤: ١٨). لم يقل: "تهلل لأنه رأى" إنما قال: "تهلل لأنه يرى"، مؤمنًا تحت كل الظروف، ويتهلل على رجاء أن يرى بفهمٍ. "فرأى وفرح"... إن كان الذين انفتحت أعينهم الجسدية بالرب قد تهللوا، فأي فرح لذاك الذي رأى بعيني نفسه النور الذي لا يوصف، الكلمة القاطن (في الآب)، البهاء الذي يبهر أذهان الأتقياء، الحكمة التي لا تسقط، الله الثابت في الآب، وفي نفس الوقت يراه آتيًا في الجسد دون أن ينسحب من حضن الآب؟ هذا كله رآه إبراهيم.

القديس أغسطينوس


17. الرشوة

"الشرير يأخذ الرشوة من الحضن

ليعوج طرق القضاء" [ع 23]

كثيرًا ما تَعمي الرشوة (الهدية بنية خاطئة) أعين المسئولين، فيصدرون أحكامًا غير عادلة. لذا لا يليق تقديم رشوة لنوال ما لا حق لنا فيه، ولا أن نقبل رشوة من أحدٍ حتى لا ننحرف عن الحق والعدل.


18. الحكمة والمعرفة

"الحكمة عند الفهيم،

وعينا الجاهل في أقصى الأرض" [ع 24]

ما يشغل فكر الإنسان الحكيم التقي هو معرفة الله والأسرار السماوية، لكي يسير به ومعه وإليه. أما الجاهل فلا هدف له. تجول عيناه يمينًا ويسارًا بلا غاية، فلا يستطيع أن يُقبل إلى معرفة الحق أبدًا (2 تي 3: 7، 4: 3-4).

"الحكمة هي إعلان الله عن ذاته لنا، نقتنيه، فنحمل الحكمة الإلهية والمعرفة السماوية. يرى القديس أغسطينوس أن الحكمة هي القدرة على تذوق الحقائق الروحية، والتمتع بالحق يؤدي إلى مجد الله والتعبد له بمخافة البنين. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الحكمة هي الإنجيل، أي التمتع بخطة الله الخلاصية المفرحة. أما العلم فهو الحيدان عن الشر (أي 28: 28)، وتقديم كلمة الخلاص للبشر.

يرى القديس إكليمنضس السكندري أن هدف الإنسان الروحي صاحب المعرفة (الغنوسي) أن يتعرف على الله (الحق) ويراه وجهًا لوجه، أي يعبر إلى كمال المعرفة بالإلهيات من خلال الإيمان، وذلك خلال خبرة الحياة النقيّة والتأمّل الدائم. فإن كنّا قد عبرنا من الوثنيّة إلى الإيمان، فيليق بنا أن نعبر من الإيمان إلى المعرفة[567]، لنرى الله ونعرفه. هذه المعرفة هي هبة إلهيّة نتقبّلها خلال الابن، وذلك بقبولنا إيّاه وتشبّهنا به؛ أي خلال نقاوة القلب، نعاين الله وندرك ما يبدو للآخرين غير مدرك.

* الغنوسية التي هي المعرفة وإدراك الأمور الحاضرة والمستقبلية والماضية، كأمور أكيدة وموثوق فيها، يمنحها ابن الله الذي هو "الحكمة" ويعلنها.

القديس إكليمنضس السكندري

الابن الجاهل غم لأبيه،

ومرارة للتي ولدته" [ع 25].

كثيرًا ما يكرر الحكيم مثل هذه العبارة، مؤكدًا أن الإهمال في توجيه الأبناء يعكس مرارة وحزنًا على الوالدين، كما حدث مع عالي الكاهن الذي بسبب إهماله في تربية ابنيه قُتل الابنان، وانهزم الشعب ومات والدهما.

"أيضًا تغريم البريء ليس بحسن،

وكذلك ضرب الشرفاء لأجل الاستقامة" [ع 26]

تحريف العدالة من جانب الحاكم أو القائد أو القاضي، مما يسبب خسارة لإنسانٍ بريء أو إهانة لشريفٍ مستقيمٍ أمر ممقوت.

"ذو المعرفة يبقي كلامه،

وذو الفهم وقور الروح" [ع 27]

الإنسان الحكيم مع ما لديه من معرفة، فإن كلماته قليلة ولها وزنها، ولها وقارها، كما لها هدفها الواضح.

* لتكن كلماتك بمعيارٍ، تحسبها بنفسك، عالمًا أنك تتقدم حسابًا لله عن ما يخرج من فمك، بما فيه من مزاحٍ أو كلمة ليست للبناء.

القديس باخوميوس

* من يطلب أن يعرف ما هي إرادة الله يطلب الحكمة، ويُظهر نفسه متعقلاً.

من يقتضب كلماته ليدخل إلي المعرفة، إن كان أحد يطلب الحكمة، راغبًا في تعلم شيء ما عن الحكمة، بينما آخر لا يطلب الحكمة، إذ لا يريد أن يتعلم شيئًا عن الحكمة، بل ويصد أقرباءه عن فعل هذا، فإن الأول أكثر تعقلاً من الأخير.

القديس هيبوليتس الروماني

"بل الأحمق إذا سكت يُحسب حكيمًا،

ومن ضم شفتيه فهيما" [ع 28]

إذ يتسم الجهال والحمقى بكثرة الكلام، بلا حساب ولا هدف، ويصعب عليهم جدًا أن يعترفوا بجهلهم، لهذا إن صمتوا يُحسبون حكماء، وإن ضمُّوا شفاهم يُعتبرون فهماء.

* كما في بيت عندما يُغلق الباب، لا يُعرف الأعضاء المختفين فيه، هكذا بوجه عام نقول، إن تمسك جاهل بحفظ رباطة جأشه (في صمتٍ) لا يظهر إن كان حكيمًا أو غبيًا. هذا يحدث طالما لا يمارس عملاً يكشف عما في فكر ذاك الصامت... وقد قيل بسليمان: "الأحمق إذا سكت يُحسب حكيمًا".

البابا غريغوريوس (الكبير)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس فبراير 23, 2012 11:42 pm

الاصحاح الثامن عشر


العزلة المقدسة والعزلة الشريرة


يدعونا سفر الحكمة إلى العزلة المقدسة التي فيها ينسحب الإنسان تحت قيادة روح الله القدوس إلى أعماقه، ليعيد تقييم نفسه، وتقييم عمل الله فيه، وإعادة النظر إلى كل شيء بعينيّ رب المجد يسوع، الحكمة الإلهي.

وفي نفس الوقت يحذرنا من العزلة الشريرة التي فيها ينسحب الإنسان من الجماعة المقدسة، حاسبًا نفسه أفضل من الجميع، معتمدًا على فكره الذاتي، رافضًا المشورة المقدسة والحوار المقدس.

1. العزلة الشريرة 1-3.

2. اللسان نهر متدفق 4-9.

3. الثروة الروحية 10-11.

4. بركة التواضع 12.

5. عطية الاستماع 13.

6. عطية الرجاء 14.

7. مزيد من الحكمة 15.

8. علاج الخصومات 16-19.

9. ثمار اللسان 20-21.

10. اختيار شريكة الحياة 22.

11. الفقير والغني 23.

12. الصداقة 24.



1. العزلة الشريرة

"المعتزل يطلب شهوته بكل مشورة يغتاظ" [ع 1].

يحدثنا الرسول يهوذا عن هؤلاء المعتزلين الذين في تشامخ يتعالون عن إخوتهم، ويطلبون تحقيق شهواتهم وملذاتهم. "هؤلاء هم المعتزلون بأنفسهم لا روح لهم (ليس لهم الروح القدس)" (يه 19). هؤلاء يعتزلون الحق الإلهي والجماعة المقدسة لمجد أنفسهم أو لإشباع شهواتهم، وليس لمجد الله، هؤلاء عنيدون متعصبون لأفكارهم الذاتية.

ما يشغل فكر هؤلاء المعتزلين هو إبراز مهارتهم أو ذكائهم أو عملهم، وليس بنيان نفوسهم وتقدمهم حتى في دراستهم لكلمة الله.

هؤلاء المعتزلون لحساب ملذاتهم، يرفضون الحكمة الحقيقية، خلاف المعتزلين الشر ومشاركة الأشرار شرورهم لأجل نقاوتهم في الرب خلال عضويتهم الكنسية. وكما يقول الرسول بولس: "لذلك أخرجوا من وسطهم، واعتزلوا يقول الرب، ولا تمسوا نجسًا فأقبلكم، وأكون لكم أبًا وأنتم تكونون لي بنين وبنات يقول الرب القادر على كل شيء" (2 كو 6: 17-18).

هؤلاء (المعتزلون) هم الذين يفصلون المؤمنين الواحد عن الآخر، وذلك بتأثير عدم إيمانهم. هؤلاء لا يستطيعون أن يميزوا المقدسات من جانب والكلاب من جانب آخر
القديس إكليمنضس السكندري

عدو الوحدة ليس له شركة في حب الله. أولئك الذين هم خارج الكنيسة، ليس لهم الروح القدس
القديس أغسطينوس

يليق بالمؤمن أن يعتزل الشر نفسه، ليس بألا يرتكبه فحسب، بل ولا يسمح لفكره بالحوار معه.

سأل إخوةٌ شيخًا بخصوص القولين السابقين قائلين: "هل إذا لم يكمِّل الإنسان الأفكار النجسة تبطُل“؟ فقال الشيخ: ”إنه يقصد ليس أن لا يتممها بجسده فحسب، بل أيضًا أن لا يتناقش معها، لأن أنبا بيمين يعلم أن الأفكار لا تكمل بالفعل إلاّ بالتفاوض معها وطاعتها، فإذا ترك الإنسان السبب والعلّة المؤدّية إلى الفعل فهو ينعتق من الأفكار ويغلبها، وهكذا بعد زمنٍ من الجهاد يتنقّى قلبه ويستنير ذهنه ويخلص من الأوجاع ويفرح بالله".

سأل أبّا أمون الذي من "رايثو" أنبا بيمين عن الأفكار النجسة والشهوات الباطلة التي تهاجم الإنسان، فقال له أنبا بيمين: "من اختصاص الشيطان أن يزرعها فينا، أما عملنا نحن فهو أن لا نقبلها".
فردوس الآباء

يا أولادي، فِرُّوا من الخطية واصبروا إلى الموت في حفظ وصايا الرب، ولا تقبلوا مشورة العدو من جهة كسر أي وصية مهما كانت صغيرة، لأنّ كسر أي وصية صغيرة كانت أم كبيرة يُغضِب الله. إنني أريد أن تكون نفوسكم، يا أولادي، مسكنًا دائمًا لله حتى تتفكّروا على قريبكم بالخير دائمًا ولا يكون فيكم مَنْ يذكر الشر لأخيه أو يتحرك بالبغضة عليه، فإنّ القلب الذي يتفكّر بالشر والبغضة لا يمكن أن يكون مسكنًا لله.
القديس مقاريوس الكبير

"الجاهل لا يسر بالفهم،

بل بكشف قلبه" [ع 2]

إن كان المعتزل لأجل إشباع شهواته لا يقبل مشورة حكيمة، بل يعتد برأيه وحده، فإنه لا يجد مسرة في الفهم، إنما مسرته أن يحقق ما في قلبه. مثل هذا الجاهل لا يقبل الحوار، ولا يهتم بما ينفعه وما يبني الآخرين.

* في كل ما تفعله خُذ لنفسك مشورةً لأنه مكتوبٌ: "من الحماقة العمل بغير مشورة" (قارن أم15: 22)، وإذا سألك أحدٌ أجبه وإلاّ فالصمت أفضل.

أنبا بيمين

* زار بعض الإخوة ومعهم علمانيون الأب "فيليكس" وتوسلوا إليه أن يقول لهم كلمة، ولكن الشيخ ظلّ صامتًا. ولما ألحّوا عليه لمدة طويلة قال لهم: "أتُريدون أن تسمعوا كلمة؟"

فقالوا: "نعم أيها الأب".

فقال لهم: "لا يوجد كلام بعد في هذه الأيام، لأنه عندما كان الإخوة يسألون مشورة الشيوخ ويعملون بما يُقال لهم، كان الله يُلهِم الآباء بما يقولون، أما الآن فلأنهم يسألون ولا يفعلون بما يسمعونه، فقد سحب الله نعمة الكلام من الشيوخ، ولا يجدون شيئًا يقولونه، لأنّ ليس مَنْ يعمل، لأنّ المرتل يقول: "الرب من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل مِنْ فاهمٍ طالب الله!" (مز14: 2).

فلما سمع الإخوة ذلك تنهّدوا وقالوا: "صلِّ من أجلنا يا أبانا".

فردوس الآباء

"إذا جاء الشرير جاء الاحتقار

وأيضًا ومع الهوان عار" [ع 3]

إذ يتمسك الشرير الجاهل برأيه، ويرفض الحوار، يجلب لنفسه خزيًا وتعييرًا. فإنه إذ يستخف بآراء الغير لا يجد الآخرون فيه مسرة. أما من يحترم الآخرين ويُقدر أفكارهم، ويحاورهم بالحب وفي تواضع، فإن روح الله القدوس العامل في المتواضعين يعطيه كرامة في أعين إخوته والمحيطين به.

إن كانت الخطية هي عار الشعوب (أم 14: 34)، فهي خزي كل إنسان يُصر على ارتكابها. الخطية هي الطريق التي تحدر الشعوب كما الأفراد إلى عار الهاوية.

إذ امتدت يد فشحور بن أمير الكاهن ليضرب إرميا النبي، ويجعله في المقطرة، صدر الحكم الإلهي ضده بأن يمتلئ خوفًا ورعبًا لما يحل به وبمحبيه، ويسقطون في السبي البابلي، وهناك يدفنون في عارٍ وخزيٍ (إر 20: 1-6).

*صدقوا هذا بتقوى وثباتٍ: الله لا يتخلى عن شخص ما لم يترك الشخص الله فعلاً. وبالرغم من ارتكاب الشخص خطايا خطيرة مرة ومرتين وثلاثًا، فإن الله يبقى يطلبه، كما يقول النبي أن برجوعه يحيا (خر 33: 11).

على أي الأحوال، إذ يستمر في خطاياه، يقدم فيه اليأس بسبب كثرة خطاياه، وتحدث قسوة بسبب اليأس. بينما ييأس الناس الملهمون بسبب خطاياهم إذ هي صغيرة، فإن هذه المعاصي البسيطة تتزايد، بل ويُضاف إليها جرائم، وتصير كومة تبتلعهم، وإذ يحدث هذا يتحقق المكتوب: "مع الشر يأتي العار"
الأب قيصريوس أسقف آرل

* مكتوب: "إذا جاء الخاطئ إلى أعماق الشر يسلك باستخفاف" (أم 18: 3). إنهم (الأشرار) لا يؤمنون كما ترون، فلا يمكن أن يُغفر لهم ما قد فعلوه، بهذا الحجر من اليأس يغطسون في أعماق أكثر مما كانوا عليه
القديس أغسطينوس

* عندما يسقط الأشرار إلى أعماق الشر، يفقد كل إحساسٍ بالوقار". إنه لأمر مرعب كما ترون أيها الأعزاء المحبوبون، أمر مرعب هو السقوط بين أنياب الشيطان، أعني أن النفس تصير كمن سقطت في شبكة، ومثل خنزير برِّي يسقط في شرك من الوحل، اقتنصته اللذة، يرتد إلى عاداته الشريرة، يفقد ملء الإحساس برائحة الخطية الكريهة. لهذا يلزمنا أن نستيقظ ونأخذ حذرنا، فلا نسمح لشيطان شرير أن يجد من البداية مدخلاً، فيضع غمامة على عقلنا، ويعمي بصيرة ذهننا الحادة، وكأنه يسلبنا نور الشمس، فلا نري أشعة شمس البرّ، فنسقط في الهاوية
القديس يوحنا الذهبي الفم

* العقل الشرير دائمًا في ألمٍ وتعب، إذ أنه إما يعاني من مصائب تحل عليه أو يخشى من حلولها عليه من آخرين. وبينما يخطط ضد الأقرباء يكون هو بالأكثر في رعبٍ من أن يخطط أقرباؤه ضده... حتى عندما يكون في سلام يرتاب من الخطط التي يتعامل معها بمكرٍ، حاسبًا أنه لا يوجد إنسان ما يسلك معه بأمانة
البابا غريغوريوس (الكبير)

* كلما تزايدت تلك الخطايا الخطيرة، تعتاد، النفس عليها بالأكثر، وتستهين بها. إذ يُقال: "عندما بلغ الشرير إلى عمق الشرور، يفكر فيها باستخفاف"
الأب يوحنا الدمشقي


2. اللسان نهر متدفق

"كلمات فم الإنسان مياه عميقة،

نبع الحكمة نهر متدفق" [ع 4]

إذ يسكن روح الله القدوس في المؤمن الحقيقي بربنا يسوع المسيح، تفيض من بطنه أنهار مياه حية (يو 7: 38)، هذا هو نبع الحكمة الذي لن ينضب قط. يعاتب الله شعبه قديمًا قائلاً: "لأن شعبي عمل شرين، تركوني أنا ينبوع المياه الحية، لينقروا لأنفسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماءً" (إر 2: 13).

* الكلمة في قلب الإنسان مياه عميقة، ونهر ونبع متدفق. يقصد سليمان بالمياه العميقة "مياه وفيرة". يمكن دومًا أن تفيض أنهارًا عديدة عوض نهر واحد. أو يقول: إنها تحوي ما هو خفي وعميق فيها. كما أن المياه لا تُقاس، هكذا الكلمة في قلب الشخص الذي يحيا في الرب فهي بلا حدود. لهذا يستخدم "الكلمة" عند المعرفة. هذا هو الشخص الذي في قلبه نبع ماء قد تدفق عند كلمات يسوع. يتحدث عنها (سليمان) أنها متدفقة، تمطر على الحقول، وترويها، فتصير مخصبة
القديس يوحنا الذهبي الفم

"رفع وجه الشرير ليس حسنًا لأخطاء الصديق في القضاء" [ع 5].

إذ يود الله أن تكون الكنيسة أيقونة السماء، والبشر سفراء عنه، يشدد على عدم المحاباة في القضاء، فلا يجوز تبرير الشرير، وتلفيق تُهم للصديقين الأبرار، كلاهما مكرهة للرب الديان العادل. جاء في سفر التثنية: "وأمرت قضاتكم في ذلك الوقت، قائلاً: "اسمعوا إخوتكم، واقضوا بالحق بين الإنسان وأخيه ونزيله. لا تنظروا إلى الوجوه في القضاء، للصغير كالكبير تسمعون. لا تهابوا وجه إنسان، لأن القضاء لله" (تث 1: 16-17).

* يلزم الذين يسمعون القضايا أن يحكموا بالعدل، ولا يقبلوا رشاوى على حساب البريء، "لأن الرشوة تعمي أعين الحكماء، وتعوِّج كلام الصديقين" (تث 16: 19). لئلا وهم يطلبون المال يفقدون النفس. لا يحصل أحد مكسب ظالم دون أن تحل به خسارة عادلة. حيث يوجد المكسب تكون الخسارة، المكسب في خزانة المال، ولكن الخسارة في الضمير
الأب قيصريوس أسقف آرل


هذا ما ارتكبه الشعب اليهودي حين رفعوا وجه الشرير باراباس لا لشيء إلا ليحكموا على رب المجد يسوع البار بالصلب ظلمًا.

"شفتا الجاهل تداخلان في الخصومة،

وفمه يدعو بضربات" [ع 6].

لا عمل لشفتي الجاهل (الأحمق) سوى الدعوة لإثارة خصومات، فإن كان فم البار ينبوع مياه حية، ممسوحة بمسحة الروح القدس، تطفئ نيران الغضب، وتسكب سلامًا وبرودة على النفوس الثائرة، فعلى العكس فم الأحمق مصدر متاعب وقلاقل، يجد لذة في إثارة الخصومات والمنازعات.

"فم الجاهل مهلكة له،

وشفتاه شرك لنفسه" [ع 7]

هذه الخصومات التي يثيرها فم الأحمق في حياة المحيطين به ترتد إليه، فيعاني من الهلاك، ويسقط في الشباك التي نصبها لإخوته.

"كلام النمَّام مثل لقم حلوة،

وهو ينزل إلى مخادع البطن" [ع 8]

يقدم النمَّام كلماته كلقمة حلوة، فيجد البعض لذة في الاستماع إليه، ربما كنوعٍ من التسلية أو لمجاملة النمَّام، لكن المستمع يعاني من هذه الكلمات، إذ تنزل كما في مخادع بطنه، لا يعرف الخلاص من سمومها.

* قال أنبا مرقس: "كل ما تقوله عن أخيك من ورائه ولا تستطيع أن تقوله أمامه هو نميمة ومذمّة، وكل اهتمامٍ لا يؤدّي إلى صلاح العبادة هو اهتمام دنيوي".

* سُئِل (الأب إشعياء) عما هي النميمة، فأجاب: "هي الجهل بمجد الله وبغضة الآخرين".
فردوس الآباء

"أيضًا المتراخي في عمله هو أخو المسرف" [ع 9].

كما أن الإنسان المسرف أو المبذِّر يبدد أمواله وينفقها في غير مكانها، هكذا المتهاون أو المتكاسل أو المتراخي يبدد وقته الثمين، يحسبه كأنه تراب لا قيمة له.

* كذلك إن لم تحاول الأيدي القوية أن تحمل الأعمال الصالحة التي بدأتها لتبلغ إلى حيث الكمال، فإن مجرد التراخي في الاجتهاد لا يتوافق مع ما تم إنجازه في البداية. لهذا يقول سليمان: "أيضًا المتراخي في عمله هو أخو المسرف" (أم 18 : 9)
البابا غريغوريوس (الكبير)


3. الثروة الروحية

"اسم الرب برج حصين،

يركض إليه الصدِّيق ويتمنع" [ع 10]

الالتجاء إلى اسم الرب هو دخول إلى الحصن الإلهي، الذي يحتمي فيه من يقبل عمل الله فيه. أما الشرير غير التائب، فلا ينتفع باسم الرب، لأنه يستخدمه لا لبنيان نفسه، وإنما لتحقيق أهداف أرضية. وكما جاء في سفر الأعمال: "فشرع قوم من اليهود الطوّافين المعزِّمين أن يُسمُّوا على الذين بهم الأرواح الشريرة باسم الرب يسوع قائلين: نقسم عليك بيسوع الذي يكرز به بولس... فأجاب الروح الشرير وقال: أمَّا يسوع فأنا أعرفه، وبولس أنا أعلمه، وأما أنتم فمن أنتم. فوثب عليهم الإنسان الذي كان فيه روح الشرير وغلبهم وقوي عليهم حتى هربوا من ذلك البيت عراه مجروحين" (أع 19: 13-16).

* كلمة "يسوع" مجيدة وتستحق كل سجود وعبادة. إنه الاسم الذي يفوق كل اسم.
العلامة أوريجينوس

* تألم الرأس في موضع الجمجمة. يا له من اسم عظيم نبوي! نفس الاسم يذكركم بأن تفكروا في المصلوب أنه ليس مجرد إنسان. إنه الرأس الذي له القوة.
القديس كيرلس الأورشليمي

"اَخبرني يا من تحبه نفسي". إنني أدعوك هكذا، لأن اسمك فوق كل اسم (في 2: 9). إنه لا يوصف، وغير مدرك بالعقل البشري. لذلك فإن اسمك يكشف عن صلاحك، علاقتي بك روحية.
القديس غريغوريوس النيسي

"ثروة الغني مدينته الحصينة،

ومثل سور عال في تصوره" [ع 11].

بينما يتحصن المؤمن الحقيقي باسم الرب كحصنٍ منيع، ويتمسك به بكونه كنزه وغناه مشبع لنفسه، يرتبط قلب الغني غير المؤمن بالمال، متصورًا أنه يهبه أمانًا وسلامًا ويشبع كل احتياجاته إلى الأبد. لكن سرعان ما تترك الثروة مقتنيها، أو يتركها الإنسان ليخرج من العالم عاريًا. وكما يقول السيد المسيح: "ويل لكم أيها الأغنياء، لأنكم قد نلتم عزاءكم، ويل أيها الشباعى لأنكم ستجوعون" (لو 6: 24). كما قال: "ما أعسر المتَّكلين على الأموال إلى ملكوت الله، مرور جَمل من ثقب إبرة، أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" (مر 10: 24-25).


4. بركة التواضع

"قبل الكسر يتكبر قلب الإنسان،

وقبل الكرامة التواضع" [ع 12].

يليق بالمؤمن أن يركز أنظاره على عطايا الله له، فما يناله من قدرات ومواهب وإمكانيات روحية أو عملية أو مادية هي عطايا مقدسة، فيشكر الله ويمجده. وكما يقول مار اسحق السرياني: "ليست عطية بلا زيادة إلا التي بلا شكر". أما من يحسب ما لديه هو من عمل يديه، جاحدًا فضل الله ونعمته، فإنه يفقد نفسه كما قد يفقد ما بين يديه.

التواضع هو تركيز الأنظار على الله الساكن فينا، فندرك أننا به ننعم بكل شيء وبدونه نصير كلا شيء.

* لاحظ الشجرة، كيف تميل أولاً إلى أسفل (الجذر) حتى يمكنها أن تتجه إلى أعلى. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إن ضرب بالجذر إلى أسفل في التربة، يمكنها أن ترتفع بقمتها نحو السماء. أليس من خلال التواضع تسعى لكي تقوم؟ فبدون تواضع لن تبلغ العلويات. إنك تريد أن تنمو في الهواء بدون جذر؟ مثل هذا ليس نموًا بل هو انهيار.
القديس أغسطينوس

5. عطية الاستماع

"من يجيب عن أمرٍ قبل أن يسمعه فله حماقة وعار" [ع 13]

كثيرًا ما يحذرنا الحكيم من الأحكام الطائشة بسبب التسرع، والكثرة في الكلام وعدم الاستماع للغير.

كيف يمكننا أن نقدم إجابة سليمة دون أن نستمع بتروٍّ إلى السؤال الموجه إلينا؟

كيف يمكن أن نكسب من نتحدث معه دون أن ننصت إليه باهتمام؟

كلمة الله الذي يدعونا إلى الاستماع، نزل إلينا ليكشف عن استماعه لطلبتنا، وشوقه للدخول في حوارٍ معنا. أنصت السيد المسيح للمرأة السامرية في طول أناة وبرقَّةٍ دون أن يجرح مشاعرها. وأنصت للص اليمين الذي كان قبلاً يعيره. ودخل في حوار مع إبراهيم قبل حرق سدوم وعمورة. ودعانا: "هلم نتحاجج يقول الرب" (إش 1: 18).


6. عطية الرجاء

"روح الإنسان تحتمل مرضه،

أما الروح المكسورة فمن يحملها" [ع 14]

إذا أصيب عضو في الجسم بمرضٍ يمكن علاجه، أما إذا انكسرت النفس باليأس أو القلق أو الكبرياء الخ. فيتحطم الإنسان كله، ويحتاج إلى تدخل يد الخالق نفسه لعلاجه وأقامته من جديد.

في أيام نحميا كانت أسوار أورشليم مهدمة وأبوابها محروقة بالنار، وكانت أيضًا أسوار قلوب الشعب وأبوابهم الداخلية محطمة. كانوا في حاجة إلى تدخل إلهي، لهذا اجتمع كل الشعب كرجلٍ واحدٍ إلى الساحة، وقرأ عزرا الكاتب الشريعة من الصباح إلى نصف النهار (نح 8: 3)، وكانت آذان كل الشعب نحو سفر الشريعة، وبارك عزرا الرب الإله العظيم، وأجاب جميع الشعب آمين، آمين. قال نحميا وعزرا الكاهن واللاويون المفهمون الشعب: "لا تحزنوا، لأن فرح الرب هو قوتكم" (نح 8: 10). يحتاج البشر كخطاة إلى حضرة كلمة الله في وسطهم، بل وفي داخلهم، فيصير فرحه قوتنا!

ليس من خطرٍ يلحق بكيان الإنسان مثل الكآبة القاتلة، وليس من قوة ترفع كل كيانه مثل فرح الروح وبهجة الحضرة الإلهية.

* أن تترجى الله من الله، هذا هو أن تحب الله صاحب النعمة.

* الرجاء يدفع الإنسان تجاه الأبدية نحو المستقبل، في إيمان عملي، ومثابرة مع فرحٍ وبهجةٍ وسط الآلام.

* لنصغ ولنبتهج في الرجاء حتى وإن كان الحاضر حياة لا تُحب وإنما تُحتمل، إذ تكون لك القوة على احتمال كل تجاربها.

* نفرح بالرجاء متطلّعين إلى الراحة المقبلة، بهذا نسلك ببهجةٍ وسط المتاعب.
القديس أغسطينوس

*ما هو رجاء الإنجيل إلا المسيح؟ فإنه هو سلامنا، الذي يعمل كل هذه الأمور... ومن لا يؤمن بالمسيح يفقد كل شيءٍ.

* الرجاء بالتأكيد يشبه حبلاً قويًا مُدَلَّى من السماوات يُعين أرواحنا، رافعًا من يمسك به بثبات فوق هذا العالم وتجارب هذه الحياة الشريرة، فإن كان الإنسان ضعيفًا وترك هذا الهلب المقدس، يسقط في الحال، ويختنق في هوة الشر.

* ليس شيء يجعل النفس شجاعة هكذا ومحبة للمخاطرة مثل الرجاء! وقبل نوالنا الأمور التي نترجاها يقدم لنا مكافأة هي: "صابرين في التجارب". قبل نوالنا الأمور المقبلة تتمتع في الحياة الحاضرة بصلاح عظيم خلال التجارب إذ تصير إنسانًا صبورًا ومجرّبًا...

الحب يجعل الأمور سهلة، والروح يعين، والرجاء ينير، والتجارب تصقلك، فتجعلك مُجربًا قادرًا على احتمال كل شيء بشهامة، يرافق هذا كله سلاح عظيم جدًا هو الصلاة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

* يرفع الرجاء ذاته بأكثر ثبات في الله بالنسبة للأمور الصعبة التي يعاني منها الإنسان من أجل الله. لا يمكن جمع الفرح بالمكافأة في الأبدية ما لم يزرع هنا أولاً في حزن تقوي. يقول المرتل: "الذاهب ذهابًا بالبكاء، حاملاً مِبذَر الزرع، مجيئًا يجئ بالترنم حاملاً حزمه" (مز 126: 6). هكذا يقول بولس: "إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه، إن كنا نتألم فسنملك أيضا معه" (2 تي 2: 11-12). كذلك يحذر تلاميذه، قائلاً: "بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله" (أع 14: 22).
البابا غريغوريوس (الكبير)

7. مزيد من الحكمة

"قلب الفهيم يقتني معرفة،

وأذن الحكماء تطلب علمًا" [ع 15]

يقول السيد المسيح: طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ لأنهم يشبعون" (مت 5: 6). كلما اقتنى المؤمن برّ المسيح ازداد عطشه وجوعه إليه، ويبقى يغرف من فيض نعمته الفائقة حتى يلتقي معه وجهًا لوجه. هكذا من يقتني المعرفة يصير فهيمًا، مع عطش إلى مزيد دائم، وتعطش أذنه للاستماع إلى العلم بلا ملل. لذلك يقول الرسول بولس: "أنسى ما هو وراء واَمتدّ إلى قدام" (في 3: 13).


8. علاج الخصومات

"هدية الإنسان ترحب له،

وتهديه إلى أمام العظماء" [ع 16]

يشغف سليمان الحكيم بالعطاء، عطاء القلب والنفس، كما عطاء المشاعر والأحاسيس، عطاء الحب العملي الباذل.

يُقدم العطاء للفقراء والمحتاجين والمرذولين، كما يقدم العطاء للأسرة، ويقدم بالحب للرؤساء كما المرؤوسين، ويقدم لمن يحملون خصومة أو سوء فهم من جهة الإنسان. لكن الخط الرئيسي في العطية ليست القيمة المادية، ولا بهدف الرشوة، إنما بالتعبير عن الحب والخضوع والعرفان بالجميل.

العالم في حاجة أن يأخذ، والكنيسة في حاجة أن تعطي. تعطي ثمار الروح من محبة وفرح وسلام... فابتسامة الإنسان النابعة من أعماق القلب بعمل روح الله القدوس أثمن بكثير من عطايا مادية كثيرة!

هذا والعطاء يحل الكثير من المشاكل والخصومات دون الالتجاء إلى المحاكم والقضاء.

"الأول في دعواه محق،

فيأتي رفيقه ويفحصه" [ع 17]

عطاء القلب ينزع الكثير من الخصومات، لكن يلجأ الكثيرون إلى القضاء لفض المنازعات. يليق بالقاضي أو القائد أن ينصت إلى الطرفين. فعند استماعه لمن يسبق ويشتكي يظن أنه على حق في دعواه، لكنه يلتزم أن يفحص الأمر مع الطرف الآخر، حتى وإن كان الإنسان واثقًا في صدق الأول. لأن كل طرف إنما يتطلع إلى الأمر من وجهة نظره، مبررًا تصرفاته، ملقيًا باللوم على الطرف الآخر.

ليس من الحكمة ولا من العدالة أن نصدر حكمًا ولو في فكرنا دون فحص الأمر من كل جوانبه.

* من يتهم نفسه في بداية حديثه محق (راجع أم 18: 17). ها أنتم ترون أن الاعتراف له قوة فاعلية عظمى لتصحيح الأخطاء. هكذا فإن إنكار الجريمة بعد ارتكاب الخطية أشر من الخطايا نفسها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

*دعونا نرتعد من جلال منظره الذي لا يوصف وللصوت الذي يذيع بلا انقطاع مدح ذاك الكائن الخفي. ولنمتلئ خوفًا ورعدة ساقطين على وجوهنا من الخوف أمامه. لندرك طبيعتنا الأرضية، عارفين أساس التراب الذي نحن منه، لنشارك النبي قوله بإحساس وقلب نادم "ويل لي" (إش 6: 5). لنكشف خطايانا وندين أنفسنا بشده كما يقال: "الأول في دعواه محق" (أم 18: 17).
مرتيريوس

"القرعة تبطل الخصومات،

وتفصل بين الأقوياء" [ع 18]

سبق الحديث عن استخدام القرعة (أم 16: 33). قديمًا كانوا يلجأون إلى القرعة عندما تصل المناقشات إلى باب مسدود، بكونها الطريق الوحيد لحل المنازعات.

بسبب خطيتها تُركت أورشليم في خرابٍ ولم يوجد حتى من يلقي حبلاً أو قرعة للفصل في المنازعات (مي 2: 5). الآن وقد تمتعنا بروح الله القدوس، صار هو قائدنا ومدربنا لنتعرف على الحق، ونقبل إرادة الله بفرح. الله نفسه "يدرب (يهدي) الودعاء في الحق، ويعلم الودعاء طرقه" (مز 25: 9).

"الأخ أمنع من مدينة حصينة،

والمخاصمات كعارضة قلعة" [ع 19]

الصداقة سند قوي للإنسان، فإذا فقد الصديقان الحب ودخلا في خصومه، يكونان كمن فقدا حصنهما، وخسرا قلعة الحب، ويخسر الطرفان عطية الصداقة. بدأ النزاع بين يهوذا وإسرائيل في أيام يربعام بن سليمان، وكان يمكن علاجه بكلمات حب رقيقة، لكن الكبرياء من كلا الطرفين أدى إلى نتائج مدمرة عبر العصور، وفقدت المملكتان بركة الوحدة والحب.

* هناك يهب الرب البركة، أين؟ في مثل هذه السكنى، في مثل هذا الانسجام معًا، في مثل هذا الاتفاق في السكنى معًا، في شركة. هذه بركة وعكس هذا لعنة. يمدح أحدهم هذا بالقول: "ثلاثة تشتهي نفسي... اتفاق الإخوة، والصداقة بين الجيران، وزوج وزوجته متفقان" (راجع سي 25: 1-2). كاتب آخر يشير إلى قوة ذلك بلغزٍ في الكلمات: "إن اِضطجع اثنان يحفظان الدفء، والخيط المثلوث لا ينقطع بسهولة" (راجع جا 4: 11-12). هنا يظهر بوضوح كلاً من المسرة والقوة، مظهراً حقيقة المسرة العظيمة التي تحدث للذين ينامان معًا، والقوة العظيمة التي تجلب للذين يعملون (معًا). مرة أخرى أخ يساعد أخًا هو مدينة قوية (راجع أم 18: 19). وقال المسيح: "لأنه حيثما اِجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم" (مت 18: 20). الآن الطبيعة نفسها تتطلب هذا، فإنه حتى في بداية خلقة الإنسان قال الله: "ليس جيدًا أن يكون الإنسان وحده" (راجع تك 2: 18).
القديس يوحنا الذهبي الفم


9. ثمار اللسان

"من ثمر فم الإنسان يشبع بطنه،

من غلة شفتيه يشبع" [ع 20]

اللسان المقدس ينبوع مياه عميقة (18: 4)، يمكن أن يروي النفس، فيحول برِّيتها إلي جنة مثمرة، وهو جنة مقدسة تفيض بالخيرات على صاحبها وعلى من هم حوله، فتشبع أعماقه (بطنه) ويقوت إخوته بالحب.

"الموت والحياة في يد اللسان،

وأحباؤه يأكلون ثمره" [ع 21]

باللسان نزرع إما حبًا يهب حياة، أو خصومات ومنازعات تقدم موتًا. ليس من كلمة ننطق بها لا تأتي بثمرٍ، حتى وإن كانت عابرة.

* احذر اللسان الثرثار والأذنين المتلهفتين لسماع الأخبار. لا تحط من شأن الآخرين، ولا تصغِ إلى من يحط من شأن الغير.

* السيِّدة العجوز المهذارة، والشيخ الذي يتحدث بخرافات، والسوفسطائي في كلماته، هؤلاء جميعًا يصادرون الكتب المقدسة، ويمزقونها إلى قطع، قد يُعلِّمون بها دون أن يتعلَّموها.

* كلما أخطأ اللسان، صار بالأكثر بائسًا!

القدِّيس جيروم

* كيف يمكن للجسد أن يكون ذبيحة؟ لا تدع عينك تنظر إلى شيءٍ شريرٍ، فتصير بالفعل ذبيحة (مت 5: 29، 6: 22، 18: 9) . ليت لسانك لا ينطق بكلمة دنسة فيصير تقدمة. ولا تفعل يدك أمرًا رديئًا، فتصير محرقة كاملة. ولكن حتى هذا لا يكفي إذ نلتزم بممارسة أعمال صالحة أيضًا (2 تي 2: 21). تلتزم اليد بتقديم صدقات، والفم أن يبارك الذين يلعنوه، والأذنان أن تجدا وقتًا لتصغي لقراءة الكتاب المقدس. هذه هي بكور كل الأعمال.

القديس يوحنا الذهبي الفم

تقديس اللسان لا يتحقق بتقديس الكلمات الصادرة عنه فحسب، وإنما بتقديس الصمت، حين يترك الأعمال المقدسة تتكلم بلغة الحب والحنو، فتبلغ كلماتها إلى قلوب السامعين.

قال الأب بيمين عن الأب نستروس إنه كان مثل الحيّة النحاسية التي رفعها موسى النبي لأجل شفاء الشعب، فقد كان يمتلك كل فضيلة، ودون أن يتكلم كان يشفي كل واحد.

فردوس الآباء


10. اختيار شريكة الحياة

"من يجد زوجة يجد خيرًا،

وينال رضى من الرب" [ع 22]

ليست كل زوجة (أو زوج) هو من الله، لكن من يسلم حياته في يد الرب، ويطلب ما هو لبنيانه وبنيان الجماعة، يرشده الرب إلى الزوجة (أو الزوج) المقدسة، وتكون الأسرة كنيسة مرضية ومحبوبة للرب، موضع سروره.

* ليس هناك شيء أثمن، ولا يمكن أن يوجد شيء أثمن من أن يُحَّب الإنسان من زوجته ويحبِّها!

يقول الكتاب: "زوجة تتّفق مع رجلها" (كإحدى البركات الثلاث التي ذكرها الحكيم) (ابن سيراخ 25: 1-2)، لأنه حيث يوجد هذا (الحب) يوجد الغنى ويفيض الرخاء، وحيث ينعدم هذا لا يفيد أي شيء آخر، بل تسير كل الأمور في طريق خاطئ، وتصبح الحياة بؤسًا وقلقًا.

ليتنا نطلب هذا قبل كل شيء!

من يطلب المال لا يطلب شيئًا. لتطلب ما يدوم!

لا تطلب الزوجة من بين الأغنياء، لئلا زيادة الغنى من جانبها يسبب عجرفة.

يليق بنا ألا نطلب الزوجة من أجل ثروتها، بل نطلبها شريكة لنا في الحياة من أجل التدبير لتكون معينة من أجل إنجاب الأبناء.

لقد أعطى الله المرأة لا لتجلب مالاً بل لتكون معينة!

* الزوج والزوجة هما واحد كما أن الخمر والماء هما واحد عند امتزاجهما معًا. كما أن الشريك غير المؤمن يفسد المؤمن. لهذا السبب فإن الذي لم يتزوج بعد يلزمه بكل حرص إما أنه لا يتزوج نهائيًا أو يتزوج في الرب.

العلامة أوريجينوس

11. الفقير والغني

"بتضرعات يتكلم الفقير،

والغني يجاوب بخشونة" [ع 23]

كثيرًا ما يعتمد الغني على مقتنياته، ويتكلم بروح التشامخ كمن يتكئ على ثروته، لكن يليق به أن يدرك أن الرب نفسه ينصت إلى تضرعات الفقير المظلوم وصرخاته الخفية.


12. الصداقة

"المكثر الأصحاب يخرِّب نفسه،

ولكن يوجد محب ألزَق من الأخ"

يخشى الحكيم من كثرة الأصدقاء غير الحكماء، فيفسدون وقته، لكن مع تقديم الحب للكل، خاصة الزملاء، يلزم أن يختار الإنسان صديقًا روحيًا يكون ألزق من أخيه حسب الجسد.

* تصور دائرة تخرج من مركزها أشعة أو خطوط. فبقدر ما تبتعد الخطوط عن المركز تفترق عن بعضها البعض... وبالعكس كلما اقتربت من المركز تقاربت نحو بعضها البعض. افترض أن هذه الدائرة في العالم ومركز الدائرة هو الله. والخطوط من المركز إلى المحيط أو من المحيط إلى المركز هي طريق حياة البشر، فإننا نجد نفس الأمر، فبقدر ما يتحرك القديسون في داخل الدائرة تجاه المركز راغبين في الاقتراب من الله، يقترب كل منهم نحو الآخر.

القديس دوروثيؤس

*لنصادق الصديقين ونعيش معهم فترات طويلة، لا ليحسبنا الآخرين أننا قديسون مثلهم، بل بقصد الإقتداء بهم ونوال بركتهم. فصداقة المجاهدين تلهب القلب بالغيرة والجهاد. لكن لندرك أنهم بشر، معرضون للسقوط، وليسوا آلهة معصومين من الخطأ، بهذا فإن أخطأوا لا نخطئ مثلهم ولا نيأس نحن من خلاصنا!

* كما أن الذين يجالسون باعة المسك والأطياب العبقة يكتسبون الروائح الذكية، هكذا ينبغي علينا أن نلازم الحكماء والمعلمين وأرباب الفضيلة، لنقتدي بمثالهم في الصالحات.

القديس يوحنا الذهبي الفم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالجمعة فبراير 24, 2012 12:10 am

الاصحاح التاسع عشر


يا لعظمة السلوك بالكمال


يربط سليمان الحكيم في سفر الحكمة كما في سفر الأمثال بين الحكمة والتقوى، كما بين الحماقة والشر. فالإنسان الحكيم يخشى الله ويتقيه ويسلك بالحب لله والناس، أما الأحمق ففي كبريائه يرفض الوصية الإلهية ويسلك بقلبٍ ملتوٍ في غير استقامةٍ.

1. بين طريق الحق والطريق المعوج1-3.

2. محبة المال تفسد الحياة 4-7.

3. الحكمة وخلاص النفس 8.

4. شهادة الزور والكذب 9.

5. ترف الجاهل وتسلط العبد 10.

6. التعقل والغضب 11.

7. كسب أصحاب السلطة في الرب 12.

8. الأسرة المؤمنة 13-14.

9. التراخي والكسل 15.

10. حفظ الوصية عمليًا 16-17.

11. التأديب الأبوي 18-19.

12. قبول المشورة 20-21.

13. محبة الفقراء 22.

14. مخافة الرب 23.

15. الكسل 24.

16. التأديب 25.

17. الابن المتمرد 26-27.

18. شهادة اللئيم 28.

19. القصاص 29.


1. بين طريق الحق والطريق المعوج

"الفقير السالك بكماله،

خير من ملتوي الشفتين وهو جاهل" [ع 1].

يقارن بين إنسانٍ فقيرٍ ماديًا لكنه يسلك بالاستقامة ،،طالبًا حياة الكمال، وإنسان يفتخر بما لديه من غنى ومعرفة وهو جاهل. فإن الحكمة أو الاستقامة في الحياة (التقوى) أو الكمال أفضل من غنى العالم.

يتكون الإيمان من أمور عديدة، ويبلغ إلى الكمال بأنواع كثيرة. إنه يشبه بناءً يُبنى بقطع كثيرة من الأعمال البارعة، يرتفع إلى القمة.

لتعلم يا عزيزي أن الحجارة تُوضع في أساسات المبنى، ويرتفع البناء كله فوق الحجارة حتى يتم. هكذا الحجر الرئيسي ربنا يسوع المسيح هو أساس كل إيماننا. عليه يتأسس الإيمان. عليه يقوم كل بنيان الإيمان حتى يكمل.

فالأساس هو بدء كل البناء... بنيانه لا يمكن أن تزعزعه الأمواج، ولا تؤذيه الرياح، ولا تسقطه العواصف، لأن البناء يُشيد على صخرة الحجر الحقيقي.

إن كنت قد دعوت المسيح الحجر، فهذا القول ليس من عندي، فقد سبق الأنبياء وتنبأوا عنه ودعوه "الحجر"
القديس أفراهاط

* إنني لن أكتفي بأي شيء معتدل يبقى فيك، بل أشتاق أن تسمو في كل شيء فتكون كاملاً في كل أمر
القديس چيروم

* مكتوب: طوبي للرجل الذي لا يسلك في مشورة الأشرار. طوبى للذي تؤدبه وتعلمه شريعتك، طوبى للذين لا يتنجسون في الطريق.

طوبى للذين يتكلون عليك.

طوبى للشعب الذي إلههم هو الرب.

طوبى لمن لا يدين.

طوبى للرجل الذي يخاف الرب (مز1: 1، 94، سيراخ 14: 2، مز 112: 1)...

ألا ترون كيف أن الشرائع الإلهية تعلن في كل موضع الطوبى لا للأغنياء ولا للأشراف، ولا لأصحاب المجد، بل لمن يقتني الفضيلة. فإن ما يُطلب منا هو الأساس. فإن غرست هذا كجذر فإنه يكون موضع سرورك لا الحياة السهلة والمكرمة والمجيدة فقط، وإنما حتى العداوات والنكبات والإهانات والعار والعذابات، كل هذه دون استئناء تُبهجك!

وكما أن جذور الأشجار مرة في ذاتها، لكنها تنتج ثمارًا حلوة، هكذا فإن الحزن السليم يجلب سعادة فائقة...

وكما أقول على الدوام، ليس طبيعة الأشياء بل وضعنا هو الذي يجعلنا حزانى أو فرحين
القديس يوحنا الذهبي الفم

"أيضًا كون النفس بلا معرفة ليس حسنًا،

والمستعجل برجليه يخطأ" [ع 2]

ينتقد الإنسان المتجرد من المعرفة، وفي غيرته يتعجل في قراراته أو تحركه بغير فهم أو حكمة. إذ يليق بالإنسان أن يكون حكيمًا، وأن يتروَّى في قراراته، فلا يتحرك قبل أن يفكر باتزانٍ.

"حماقة الرجل تعوِّج طريقه،

وعلى الرب يحنق قلبه" [ع 3].

التجرد من الحكمة السماوية يدخل بالإنسان إلى الطريق المعوج، وفي اعتداده برأيه وتثبته بفكره يحنق قلبه على الرب نفسه. المثل الواضح في هذا شاول الطرسوسي، فقد تربى على يديّ غمالائيل معلم الناموس، وكان فريسيًا غيورًا على تقليدات آبائه وكرامة شعبه وحفظ الناموس، يحسب نفسه ربما أبرّ رجل في العالم بعد معلمه، لكن في جهالة جدف على الله، واضطهد كنيسة المسيح، وافترى على المؤمنين، كما اعترف بنفسه فيما بعد.


* عندما يسمعون المسيح يعلن في الإنجيل: "تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم"، للحال يلقون عنهم ثقل خطاياهم، ويتحققون ما قد جاء بعد ذلك: "لأن نيري هيّن وحملي خفيف" (مت 11: 28، 30).

إذن طريق الرب مريح لمن يحفظ وصيته. لكننا إذا كنا ببعض السهو المتعب نجلب لأنفسنا أحزانًا وأتعابًا فإننا نبذل جهدًا عظيمًا تابعين طريقًا معوجًا لحفظ وصايا العالم، وفي هذا الطريق نجعل نير المسيح ثقيلاً وحمله صعبًا، وذلك كقول العبارة: "حماقة الرجل تعوّج طريقهُ وعلى الرب يحنق قلبهُ" (أم 19: 3). وإذ يقال "ليست طريق الرب مستوية" يجيب "أَطريقي هي غير مستوية؟ أَليست طرقكم غير مستوية؟!" (حز 18: 25).

في الحقيقة تستطيع أن تتبين كيف أن نير المسيح أسهل، وحمله أخف جدًا إذا ما قارنت زهرة البتولية الحلوة العطرة الرائحة، ونقاوة الطهارة بالنسبة لحمأة الشهوة الدنسة الكريهة الرائحة، وقارنت هدوء الرهبان وسكونهم وابتعادهم عن المخاطر والخسائر التي تشغل أذهان الناس في العالم، باهتمامات الغنى واضطراباته القارضة المملوءة قلقًا...
الأب إبراهيم

* ينبغي أن نعظ الغضوب بطريقةٍ، والحليم بطريقةٍ أخرى.

علينا أن نقول للغضوبين إنهم عندما يهملون تطهير أرواحهم يندفعون بتهورٍ إلى أخطاءِ كثيرة حتى التي لا يقصدونها، لأنه من الواضح أن التهور يدفع الذهن إلى حيث لا يشاء أو يرغب.

في مثل هذه الحالة الذين يسقطون في التهور يقومون بأفعال لا يدركون منتهاها، وسيندمون عليها عند الإقرار بفعلها. وعندما يتصرف غير الحلماء تحت تأثير العواطف يفعلون ذلك على عكس طبيعتهم، وبالكاد يدركون الخطأ الذي ارتكبوه. وعندما لا يقاومون الاضطرابات العقلية يقلبون الأمور الخيِّرة التي كان يمكن أن يفعلوها في حالة صفاء الذهن. وبالانفعال الفجائي يهدمون ما قد شيدوه بالعمل المتواصل الممتد. وحتى فضيلة المحبة، وهي أمٌ لكل الفضائل، تتوارى بسبب الغضب، لأنه مكتوب: "المحبة تتأنى وترفق." (1 كو 13: 4) لذلك إن اِنعدمت المحبة انتفى الحلم. وبسبب عدم الحلم، يتلاشى التعليم الذي هو تمريض للفضائل، فالكتاب يقول: "تَعَقُّلُ الإنسان يُبطئُ غَضَبَهُ" (أم 19: 11).

فبقدر ما يفتقر الإنسان إلى الحلم، بقدر ما يبدو وكأنه يضيق بالتعليم وهو لا يستطيع في الحقيقة أن يقتني ما هو صالح بالتعليم إنْ كان لم يتعلم في حياته الخاصة كيف يحتمل شرور الآخرين بهدوء بالٍ وسكينة
البابا غريغوريوس (الكبير)

2. محبة المال تفسد الحياة

"الغني يُكثر الأصحاب،

والفقير منفصل عن قريبه" [ع 4]

في الآيات 4-7 يبرز الحكيم كيف أفسدت محبة المال الحياة في العالم مقدمًا أمثلة لذلك، أولها أن الناس غالبًا في محاباةٍ يطلبون ود الأغنياء، ويطمعون في صداقتهم، بينما يهربون من الالتصاق حتى بأقربائهم الفقراء. لقد أعطى الإنسان للمال تقديرًا يفوق مشاعر الصداقة والود والمحبة.

"يا إخوتي لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة. فإنه إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم ذهب في لباس بهي و دخل أيضًا فقير بلباس وسخ. فنظرتم إلى اللابس اللباس البهي، وقلتم له اجلس أنت هنا حسنًا، وقلتم للفقير قف أنت هناك أو اجلس هنا تحت موطئ قدمي. فهل لا ترتابون في أنفسكم، وتصيرون قضاة أفكار شريرة؟ اسمعوا يا إخوتي الأحباء أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه؟ (بع 2: 1-5)

* لا وجود للعظيم بغير الصغير، ولا للصغير بدون العظيم، بل يرتبط بعضنا البعض لأجل نفع الجميع. لنأخذ الجسد كمثال: فالرأس لا يقدر أن يوجد بغير الرجلين، ولا الرجلان بغير الرأس، "بل بالأولى أعضاء الجسد التي تظهر أضعف هي ضرورية" (١ كو ١٢: ٢١-٢٢)، ونافعة للجسد كله. نعم إن الأعضاء كلها تعمل في وفاق، وترتبط مع بعضها في طاعة كاملة لأجل سلامة الجسد كله.

بهذا نحفظ جسدنا المسيحي أيضًا في كماله، فيخضع كل منا لصاحبه حسب عطيّته الخاصة. فيلزم على القوي أن يهتم بالضعيف، والضعيف أن يحترم القوي. ويعول الغني الفقير، والفقير يشكر الله الذي وهبه من يعوله. والحكيم لا يُظهِر حكمته في كلام بل في أعمال صالحة. والمتواضع لا يتباهى بتواضعه بل يترك الشهادة له من الغير. والعفيف أيضًا لا يفتخر عالمًا أن ضَبْطَ نفسه هو عطيّة من آخر (الله). يلزمنا أن نحب الإخوة من القلب، هؤلاء الذين خلقوا من نفس المادة التي خلقنا نحن منها
القديس إكليمنضس أسقف روما

الغني الحكيم لا يبدد أمواله، بل يكسب به أصدقاء. وكما يقول رب المجد: "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم، حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية" (لو 16: 9).

فالمال عطية يمكنك أن تكون مقدسة إن أُُحسن استخدامها، ويمكن أن تكون شريرة إن استخدمت للتباهي والتشامخ والانغماس في الملذات والشهوات.

* الثروة ليست ملكية، إنها ليست مقتنيات، بل هي قرض للاستخدام. إذ كيف تزعم بأنها مقتنيات بينما عندما تموت أردت أو لم ترد يذهب كل شيء إلى آخرين، وهم بدورهم يتركونه لآخرين مرة أخرى. فكلنا رُحًّل... الملكية في الواقع ليست إلا كلمة، فكلنا مُلاك لكن لمقتنيات أناس آخرين... فالثروة ليست ملكنا، والمقتنيات ليست ممتلكات بل هي قرض. الفضيلة وحدها قادرة أن ترحل معنا وترافقنا في العالم العلوي.

* أليست الأرض وملؤها لله؟ فإن كانت ممتلكاتنا تخص الرب العام للكل، فهي أيضًا تخص العبيد رفقاءنا. ممتلكات الرب عامة للكل.

* إن كنت تحزن على ثروة ما، لا تنتفع شيئًا. إن كان بسبب مرض لا تربح شيئًا، بل يزداد حزنك. سمعت كثيرين بعد خبرة طويلة يلومون أنفسهم، ويقولون: أي نفع نلته على حزني (من أجل مال أو صحة الخ)، فقد أضررت نفسي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"شاهد الزور لا يتبرأ،

والمتكلم بالأكاذيب لا ينجو" [ع 5]

إذ يتحدث عن إساءة استخدام المال، أو محبة المال، يشير إلى شهادة الزور والكذب، كثيرًا ما يكون دافعهما الربح المادي أو الحيز للأغنياء وأصحاب السلطة، وتجاهل حقوق الفقراء والمظلومين.

لقد استأجرت الملكة إيزابيل شهود زور ضد نابوت اليزرعيلي لكي تغتصب حقله بعد قتله! إنها قتلت وورثت!

* يجب على كل أحدٍ أن يعطى اهتمامًا عظيمًا لئلا يسلبه "الكذب"، لأن الكذاب لا يتحد مع الله.

الكذاب غريب عن الله. ويقول الكتاب المقدس بأن الكذاب هو من الشيطان إذ هو "كذاب وأبو الكذاب" (يو 44:Cool.

هكذا ُدعي الشيطان أبو الكذاب، أما الحق فهو الله، إذ يقول بنفسه: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 6:14).

أما ترون إذن كيف أننا نصير غرباء عن الله بالكذب وبمن نتحد (عن طريقه)؟! لذلك إن أردنا بحق أن نخلص، يلزمنا أن نحب الحق بكل قوتنا وكل غيرتنا، ونحرس أنفسنا من كل كذب، حتى لا يفصلنا عن الحق والحياة.

الأب دوروثيؤس

"كثيرون يستعطفون وجه الشريف،

وكلُّ صاحب لذي العطايا" [ع 6]

كما أن محبة المال تجتذب الكثيرين لمصادقة الأغنياء، فإن الانشغال بالمصالح الشخصية تسحب الكثيرين لمصادقة الشرفاء أصحاب السلطة ومجاملتهم. أما السيد المسيح فقد جاء يصادق الخطاة والمرذولين والمحتاجين (لو 15: 1). انتقد الرسول يعقوب الكنيسة متى سلكت في محاباة للأغنياء (يع 2: 1-6).

* لننزع عن النساء الشريفات زينتهن وعن السادة عبيدهم، فستلاحظ أن هؤلاء لن يختلفوا بأي شكل عن العبيد الذين يُشترون بالمال، ولا في طريقه المشي ولا في الملامح ولا في أحاديثهم. وإنما يشبهون في كل شيء من هم خاضعين لهم. وإن اختلفوا عنهم في شيء، إنما في أنهم أضعف في البنية وأقل قوة من الآخرين (العبيد)، لأنهم نشأوا نشأه مترفة تعرضهم للمرض.

القديس إكليمنضس السكندري

"كل إخوة الفقير يبغضونه،

فكم بالحري أصدقاؤه يبتعدون عنه،

من يتبع أقوالاً فهي له" [ع 7]

ينسحب عن الفقير ليس فقط الغرباء والأصدقاء وإنما حتى الأقرباء والإخوة حسب الجسد. إنهم يتجاهلونه. لقد افتقر مسيحنا الغني، واهب الغنى، لكي بفقره يغنينا (2 كو 8: 9). فنجد سعادتنا في اللقاء معه خلال إخوته الفقراء، ونغتني بحبه الذي يسكبه فينا، فنحب الكل، خاصة المحتاجين دون انتظارٍ لمكافأة!

3. الحكمة وخلاص النفس

"المقتني الحكمة يحب نفسه،

الحافظ الفهم يجد خيرًا" [ع 8]

في دراستنا لسفر الحكمة رأينا كيف يربط الحكيم بين الحكمة والبرّ، فالإنسان الحكيم في الرب يتمتع بالبرّ الإلهي، فيتقي الله ويحب البشرية. لكن كيف يمكنه أن يتقي الله ما لم يدرك حقيقة نفسه الثمينة موضوع حب الله وعشقه. وكيف ينفتح قلبه للآخرين ما لم يكتشف ملكوت الحب القائم فيه. لا يستطيع الإنسان الحكيم أن يعزل اهتمامه بأعماقه عن اهتمامه بالغير.

من يقتني حكمة الله يُحسن إلى أعماقه الداخلية، إذ يدرك اهتمام الله واعتزازه به. بهذا يحفظ وصية الله بفهمٍ وتحفظه الوصية، وتحرسه أعماقه كأنها كنز ثمين.

الحكمة ترد للإنسان كرامته الداخلية الحقيقية أمام الله كما أمام نفسه قبل نوال أية كرامة من البشر.

من يزرع الحكمة بروح الله القدوس يتمتع بثمرها، بنوال خيرات لا حصر لها من عمل المخلص.


4. شهادة الزور والكذب

"شاهد الزور لا يتبرأ،

والمتكلم بالأكاذيب يهلك" [ع 9]

يشهد الإنسان بالزور، أي ينطق بالكذب، فيسبب أضرارًا لأبرارٍ، إما لنوال رشوة أو مكسب مادي أو لكسب ود إنسان غني أو صديق أو قريب. لكن حتمًا سينكشف الكذب، هذا وتتخلى عنه نعمة الله، فيسقط في متاعبٍ لا ينجو منها. وأخيرًا يمضي إلى حيث يوجد إبليس أب الكذابين، أي إلى الظلمة، ويهلك أبديًا.
5. ترف الجاهل وتسلط العبد

"التنعم لا يليق بالجاهل،

كم بالأولى لا يليق بالعبد أن يتسلط على الرؤساء" [ع 10]

أمران خطيران في حياة الإنسان كما على المجتمع، أن يعيش جاهل في رفاهية حتى وإن كان من أصلٍ نبيلٍ وغنيٍ، فيبدد موارد المجتمع دون نفع له أو لغيره، وتزيده الخيرات الزمنية حماقة. والأمر الثاني أن يحتل إنسان عبد (لشهواته أو ممتلكاته أو للكرامة الزمنية) لم يذق عذوبة الحرية الداخلية، مركز قيادة، فتصير قيادته إذلالاً للناس بلا حنو ولا لطف ولا عدالة!


6. التعقل والغضب

"تعقل الإنسان يبطئ غضبه،

وفخره الصفح عن معصية" [ع 11].

الذي تعلم في مدرسة الله الطويل الأناة، وتجاوب مع روح الله القدوس، فنال ثمرة الحب، إن غضب يُطيل أناته ويضبط نفسه، ويعطي لغيره الأعذار، كما يبذل كل الجهد لكسب من أساء إليه، وإذا بلغ إلى الصفح عن المسيء إليه يكون قد بلغ المجد الداخلي. لقد تمم الوصية الإلهية: "كن مراضيًا لخصمك مادمت معه في الطريق" (مت 5: 25).

* لا تظنوا أن الغضب أمر يُستهان به، إذ يقول النبي "تعكرت (ذبلت) من الغضب عيناي" (مز 6: 7). وبالتأكيد لا يستطيع متوعك العينين أن يعاين الشمس. فإذا حاول رؤيتها تؤذيه ولا تبهجه.
القديس أغسطينوس

* يجب قلع سم الغضب القاتل من جذوره في أعماق النفس، لأنه إذا بقي روح الغضب واستقر في قلوبنا أظلمت عقولنا وفقدت قدرتها على الرؤية، لأن الغضب يصيب بالعمى وبظلمة ضارة تجعل الرؤية الروحية مستحيلة. فلا تقدر على الحكم الصائب في أمرٍ من الأمور، بل يتعذر علينا التأمل الصالح الذي ينمي الحكمة فينا، بل لا نقدر أن نثبت في الصلاح، أو نقبل النور الحقيقي الروحي، لأنه مكتوب: "عيني قد تعكرت من الغضب" (مز 6: 7).

وقد يمدحنا الناس كحكماءٍ، ولكننا لن نكون حكماء إذا لازمنا الغضب، لأنه مكتوب: "الغضب يسكن مستريحًا في صدر الأحمق" (جا 7: 9 LXX). وهو يعرضنا لفقدان ميراث الحياة الأبدية. وقد يظهر لنا أننا نفهم الطبيعة الإنسانية وندرك أسرارها، ولكن إذا ظل الغضب فينا، تم فينا ما هو مكتوب: "الغضب يدمر الحكماء" (أم 15: 1 LXX). ويحرمنا الغضب من إدراك "برّ الله"، لأننا بسبب الغضب نفقد الإفراز، ومع أن الناس قد يقولون عنا إننا قديسون وكاملون إلا أنه مكتوب "غضب الإنسان لا يصنع برّ الله" (يع 1: 20).

القديس يوحنا كاسيان

* لقد طلبت من الله أن يعرفني جواب سؤالك فقال لي: طهِّر قلبك من كل أفكار الإنسان العتيق وأنا أجيبك إلى سؤال قلبك، لأن مواهبي إنما تكون في الأطهار ولهم تعطي، ومادام قلبك يتحرك بالغضب وبالحقد وبسائر الآلام العتيقة، فلن تدخل فيه الحكمة.

إن كنت تشتهي أن تنال نعمتي ومواهبي فاخرج رجل العدو وأبعده عنك، ومواهبي تأتي إليك...

فمن يشتاق إلى مواهبي فليقتفِ آثاري، لأني مثل الحمل الذي لا شر فيه...

ومع أني أوصيتكم بأن تكونوا ودعاء مثل الحمام، إذ بي أجدكم قد اتخذتم لأنفسكم قسوة الآلام.
الأنبا برصنوفيوس

7. كسب أصحاب السلطة في الرب

"كزمجرة الأسد حنق الملك،

وكالطل على العشب رضوانه" [ع 12]

مع اعتزاز المؤمن بانتسابه لله، وعدم خوفه من الناس، ولا من الموت، لكن بروح التواضع يلتزم بأن يخضع لأصحاب السلطة في الرب، معطيًا الكرامة لمن له الكرامة، فيستريح، ويقضي أيامًا هادئة مطمئنة في كل تقوى ووقار (راجع 1 تي 2: 2). كان بعض الربيَين يصلون: "يا رب بارك الإمبراطور، واحفظه بعيدًا عنا".

إن كان هذا هو موقف المؤمن من الملك أو الرئيس حتى وإن كان غير مؤمنٍ، فماذا يكون موقفه من ملك الملوك ورب الأرباب؟ إنه الأسد الخارج من سبط يهوذا، جاء لخلاص البشرية، وليس لدينونتهم. لكنه سيأتي يوم الدينونة، فتتهلل نفوس المؤمنين الحقيقيين، ويحسبه الأشرار يوم غضبه العظيم، من يقدر أن يقف أمامه؟

يقول العلامة ترتليان: [لذلك فإنه بخصوص الكرامات الواجبة للملوك والأباطرة، لدينا نص كافٍ أنه يليق بنا أن نكون في تمام الطاعة وذلك كوصية الرسول "أن يخضعوا للرياسات والسلاطين" (تي ٣ : ١) ولكن حدود الطاعة في هذا أن نحفظ أنفسنا منعزلين عن عبادة الأوثان. ولنا في هذا أيضًا مثال الثلاثة فتية، الذين مع طاعتهم للملك نبوخذنصر ازدروا بتقديم التكريم لتمثاله فلم يقبلوا العبادة له... وهكذا أيضًا دانيال، كان خاضعًا لداريوس في كل الأمور، ثابتًا في واجبه مادام بعيدًا عن أساس إيمانه (دا ٦)


8. الأسرة المؤمنة

"الابن الجاهل مصيبة على أبيه،

ومخاصمات الزوجة كالوكف المتتابع" [ع 13]

ما أبأس البيت الذي يضم ابنًا جاهلاً وزوجة مخاصمة. غالبًا ما يتفق الاثنان معًا، فحيث توجد خصومات في الأسرة ينحل الأبناء، ويحاولون القيام بدورٍ خطيرٍ بين الوالدين، ليظهروا لكل منهما أنهم في جانبه، ويكسبون الود، وينتفعون بنوال تسهيلات، يُنزع عن الأبناء الشعور بالالتزام والمسئولية.

* إن كان الرسول يأمرنا أن نهتم بالآخرين أكثر من اهتمامنا بأنفسنا، وإن كنا نُحسب مخطئين متى أهملنا ما هو لنفعهم، ألسنا بالأكثر نكون مخطئين إن كان هذا يخص من هم قريبون منا؟

سيقول لنا الرب: "ألست أنا الذي أعطيت لهؤلاء الأطفال مكانًا في عائلتكم؟ ألست أنا الذي عهدت بهم لرعايتكم، وجعلتكم سادة وحراسًا وقضاة عليهم؟ لقد أعطيتكم سلطانًا كاملاً عليكم. سلمتهم بالكامل لأيديكم من أجل تنشئتهم.

ستخبرونني أنهم لم يريدوا أن يحنوا رقابهم للنير، وأنهم طرحوه عنهم. لكن هذا كان يُمكن تجنبه من البداية ذاتها. كان يليق بكم أن تحنوا نفوسهم الصغيرة تحت نير الالتزام، وتعودوهم على ذلك، وتعلموهم هذا، وتضمدون الجرح في بداية انفتاحه.

كان يليق بكم أن تقتلعوا الزوان عندما بدأ يظهر حول النبات، وما كان يليق بكم أن تنتظروا حتى تتعمق جذوره، فصار لا يمكن ضبط الأهواء وترويضها بتقويتهم تدريجيًا خلال تكوينهم ونموهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم

الحوار الهادئ البنَّاء نافع للأسرة، فيه يحترم كل طرف الأطراف الأخرى، ولا يتشبث برأيه، فيتعلم الأبناء روح الحوار المقدس. أما الخصومات والنزاع والغضب واعتزال الواحد الآخر، يفقد البيت حلول السيد المسيح في وسطهم، كما يفسد روح التقوى في الكل: الآباء والأبناء، ويبث في الجيل الجديد روح التمرد والتشبث بالرأي.

يشبِّه الزوجة المحبة للخصام بقطرات المياه التي تتساقط باستمرار دون توقف. يشعر الزوج - كما الأولاد - أنهم في بيت تتساقط من سقفه قطرات ماء بلا انقطاع، فلا يعرفون كيف يعملون أو يستريحون أو ينامون، لا يجدون في البيت مكانًا جافًا يلجأون إليه.

من كلمات القديس غريغوريوس النزينزي في مديحه لوالديه:

[هوذا الراعي الصالح هو ثمرة صلوات زوجته وإرشادها، وقد تعلم منها حياته الرعوية المثالية. بقوة هرب من عبادة الأوثان، وبعد ذلك صارت الشياطين تهرب منه… لقد صارا متساويين في التعقل والبهاء، غيورين يسندان بعضهما البعض، يطيران فوق الجميع...

كان لهما جسدان، ولكن كأنه قد تحول الجسدان إلي روحٍ، حتى قبل انحلالهما... كانا يملكان كل شيء ولا يعوزهما شيء. لقد رفضا الغنى، فصارا غنيين في الكرامة ...

أقول فقط كلمة واحدة عنهما، إنهما بحقٍ وعدلٍ قد عُين كل واحدٍ منهما لجنسه، عُين هو زينة للرجال، وهي زينة للنساء، ليس فقط زينة، بل ومثالاً للحياة الفاضلة

"البيت والثروة ميراث من الآباء،

أما الزوجة المتعقلة فمن عند الرب" [ع 14]

يرث الإنسان منزلاً أو أراضٍ أو أموالاً عن والديه، أما الزوجة الحكيمة فهي عطية إلهية، يقدمها الرب لمن يعيش بحق بروح التقوى، وله نظرة صائبة في مفهوم الزواج، ويطلب من الله أن يرشده ويختار له. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). حين تخضع الإرادة للرب، يقدم الرب الزوجة أو الزوج حسبما يرى فيه خلاص البيت كله.

لدى الله أبناء وبنات مقدسين أعزاء لديه، يود أن يقدمهم لمن يطلب خاضعًا لمشيئته، فيقدم له أو لها ما يناسب الشخص.

ما أجمل أن يقدم الإنسان لله ذبيحة شكر يومية من أجل عطية شريكة الحياة التي تسلمها من يد الله!

* عندما تحدث الرسول عن الزواج والبتولية قال: "ليكن كل واحدٍ له موهبته من الله، الواحد هكذا والآخر هكذا" (1 كو 7: 7). أنه يقول بأن الزواج هو موهبة. فقد كتب: "المرأة أُعطيت للرجل من عند الرب" (أم 19: 14)، لكن هذه العطية ليست موهبة روحية بطريقة حازمة، فإنه توجد أمور كثيرة يمكن أن تُدعى عطايا من الله مثل الغنى والقوة الجسمانية والجمال الجسدي والسلطة الزمنية. هذه العطايا هي أيضًا من الله، وكما يقول دانيال: "يعزل ملوكًا وينصب ملوكًا" (دا 2: 21).
العلامة أوريجينوس


9. التراخي والكسل

"الكسل يلقي في السبات،

والنفس المتراخية تجوع" [ع 15]

كثيرون لا يدركون قيمة العمل والالتزام، وأيضًا قيمة الوقت، وإن التهاون في العمل وإضاعة الوقت وعدم الالتزام، كلها أمور تُفسد حياة الإنسان الروحية والاجتماعية والنفسية والصحية البدنية، وتُفقده حتى ما قد ناله، ويعطي حسابًا عن هذا كله!

يقول الرسول: "مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة" (أف 5: 16) "اسلكوا بحكمة من جهة الذين من خارج، مفتدين الوقت" (كو 4: 6).

* غالبًا ما نناله بالغيرة يحطمه الكسل، وما يفقده التردد يعيده الاجتهاد
القديس غريغوريوس النزينزي

10. حفظ الوصية عمليًا

"حافظ الوصية حافظ نفسه،

والمتهاون بطرقه يموت" [ع 16]

من يحفظ الوصية الإلهية تحفظه الوصية أبديًا. في الطاعة للوصية لذة الحب لله، وتذوق لبركة الطاعة، وتمتع بالغلبة على الموت بالمسيح واهب النصرة. أما من يستخف بالوصية فيستخف بالله نفسه، ويُلقي بنفسه في هوة الموت الأبدي.

* يليق بنا أن نتطلع إلى وصايا اللَّه عندما تُقرأ، أو عندما تستدعيها الذاكرة وذلك كمن يتطلع في مرآة كقول الرسول يعقوب. مثل هذا الإنسان يريد أن ينظر إلى وصايا اللَّه كما في مرآة ولا يرتبك، لأنه يختار لا أن يكون سامعًا للوصايا فحسب بل وعاملاً بها. لهذا يرغب في أن تتجه طرقه نحو حفظ قوانين اللَّه. كيف تُوجه إلا بنعمة اللَّه؟ وإلا فإنه لا يجد في شريعة اللَّه مصدر فرحٍ بل مصدر ارتباكٍ، إن اختار أن ينظر إلى الوصايا ولا يعمل بها.
القديس أغسطينوس

* من يحفظ وصية ويترك غيرها يكون قد غدر بجميع الوصايا، إذ يهين اللَّه الذي أوصى بها وربطها بعضها ببعض. فإن الذي قال لا تزنِ قال أيضًا لا تسرق، فإن سرقت تصير مدينًا للشريعة كلها، ولكن من يحرص على جميع الوصايا لا يخزى في يوم الدينونة الرهيبة.
أنثيموس أسقف أورشليم

"من يرحم الفقير يقرض الرب،

وعن معروفه يجازيه" [ع 17].

يربط حفظ الوصية بالرحمة، خاصة بالنسبة للفقراء. فإن خالق الفقير يحسب كل حنوٍ يُقدم للفقير مقدمًا له شخصيًا، ويعتبره قرضًا يرده مضاعفًا. يقول داود المرتل: "كنت فتى وقد شخت، ولم أرَ صديقًا تُخلِّيَ عنه، ولا ذرَّية له تلتمس خبزًا، اليوم كله يترأف ويُقرض ونسله للبركة" (مز 37: 25-26).

* إن كان الرسول قد قدم اعترافًا كهذا (1 كو 15: 9) كم بالأكثر يليق بالخاطئ أن يعترف؟ يقول الكتاب: "البار يتهم نفسه حين يبدأ يتكلم" (راجع أم 19: 17).

* إن كان البار يتأهب لاتهام نفسه كم بالأكثر يكون الخاطئ؟
القديس جيروم

* تمسكوا إذن بطلب الدين منه، فإنه من غير اللائق أن نتركه ونطلب سداد الدين من آخر سواه، فإنه يرى فيما تفعلونه خطأ، وكأنه يقول لكم: لماذا تفعلون هذا وبأي جحود تتهمونني، هل تزعمون أنني فقير؟ حتى إنكم تعتزمون أخذ الدين من آخرين؟ فهل تقرضون (الله الواحد) ثم تطلبون من آخر أن يسدد هذا القرض؟ لأنه رغم أن الإنسان هو الذي أخذ القرض، فإن الله هو الذي أوصاكم أن تعطوه، ومشيئته أن يكون هو المدين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وفي الحقيقة، إن الرب يعطيكم أضعاف أضعاف الفرص لاسترداد الدين منه في كل حين وفي كل مكان. فلا تدعوا هذه الفرصة السانحة تضيع منكم هكذا بسهولة، ولا تبددوا هذا السخاء الوفير طالبين الدين ممن لا يملكون شيئًا. فلأي غرض تظهرون رحمتكم بالمساكين؟ ماذا؟ ألم أكن أنا الذي قلت لكم أعطوا، ألم تسمعوا ذلك مني، أن تستردوا عطاياكم مني أنا، ألم أقل "من يرحم الفقير، يقرض الرب" (أم 19: 17)، وأنتم قد أقرضتم الله، فضعوا هذا الدين على حسابه، حتى لو لم يسدد لكم الدين كله الآن، حسنًا، إنه إنما يفعل ذلك لخيركم أيضًا. فيا له من مدينٍ، ليس ككثيرين يرغبون هكذا ببساطة أن يردوا ما اقترضوه من دين، بينما الرب يدبر كل شيء، لاستثماره في أمانٍ لأنه قرض مُعطى للرب. لهذا كما ترون يسدد بعضه هنا ويؤجل الدين للبعض الآخر
القديس يوحنا الذهبي الفم

11. التأديب الأبوي

"أدِّب ابنك لأن فيه رجاء،

ولكن على إماتته لا تحمل نفسك" [ع 18]

بروح الرجاء يؤدب الإنسان ابنه في حزمٍ ممتزج بالحنو والحب. أما العقوبات العنيفة المتطرفة فتحمل جريمة قتل، كما تثير الأبناء، وتدفعهم إلى العناد، فلا يكون التأديب للإصلاح بل للتحطيم.

خلال التأديب يلزم الدخول في حوار بنََّاء ليدرك الابن ما وراء التأديب، ويدرك الأب ما وراء تصرف ابنه، فلا يؤدب بتسرعٍ وانفعال

الحرية المتسيبة والحزم العنيف كلاهما مهلكان ومحطمان للأبناء كما للأسرة.

شاول الملك في غضبه عوض الحوار المفتوح من ابنه يوناثان صوَّب نحوه الرمح ليطعنه (1 صم 20: 33)، ففقد الابن ثقته في أبيه، وانعزل بقلبه عنه.

* يحتمل الله كل ضعفات البشر، لكنه لن يسمح بترك الإنسان الدائم التذمر بدون تأديب
القديس مار اسحق السرياني

"الشديد الغضب يحمل عقوبة،

لأنك إذا نجيته فبعد تعيد" [ع 19]

يربط البعض بين هذا المثل والمثل السابق له، فيفسرونه هكذا. إنه إذا كان الابن شديد الغضب يلزم تأديبه أو معاقبته بحكمةٍ وتروٍ حتى يكف عن الغضب، فإن لم يؤدب سيكرر هذا الانفعال فيسقط تحت عقوبة أمر، أي يعاقب نفسه بنفسه. كأن من لا يؤديه والداه، سيؤدب نفسه بنفسه، أو كما يُقال: "من لا يؤدبه والداه، يؤدبه الزمن".


12. قبول المشورة

"اسمع المشورة واقبل التأديب،

لكي تكون حكيمًا في آخرتك" [ع 20]

يرى البعض أن هذا المثل مفتاح السفر كله، الدعوة لقبول المشورة لكي يصير المؤمن حكيمًا. يزدري الحمقى بالمشورة، أما الحكيم فيقبل المشورة بفرحٍ، ويفكر بجديةٍ في التوبيخ أو الانتهار بل وحتى في التأديب الذي يحل عليه، لأنه محب للتعلم والانتفاع بخبرة الآخرين.

"في قلب الإنسان أفكار كثيرة،

لكن مشورة الرب هي تثبت" [ع 21]

كثيرًا ما يتردد الإنسان في أفكاره، ما يقبله الآن قد يرفضه بعد دقائق أو العكس. وقد ينصت إلى مشيرين كثيرين فيُصاب بنوع من الارتباك والتشويش، لكن الالتجاء إلى الله العارف وحده الحق، والمحب لخليقته، فهو يقدم مشورة صادقة ناجحة وثابتة.


13. محبة الفقراء

"زينة الإنسان معروفة،

والفقير خير من الكذوب" [ع 22].

زينة الروح معروفة، وهي الحب والحنو والرحمة مع العطاء. تتزين الروح بإزالة كل أنانية، لتتسع وتحوي الآخرين فيها. مع هذا الحب العملي يلزم للروح أن تكون صادقة مع نفسها، فإن كان الإنسان عاجزًا عن عطاءٍ معين، فليكن صريحًا ويعتذر لفقرة أو عجزه، ولا يعد الآخرين وهو يعلم بعجزه عن التنفيذ.

في صراحة كاملة أعلن بطرس للمُقعد عجزه عن العطاء المادي، لكنه يقدم له ما هو أعظم، إذ قال له: "ليس لي فضة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإياه أعطيك. باسم يسوع المسيح الناصري قم وأمشٍ" (أع 3: 6).


14. مخافة الرب

"مخافة الرب للحياة،

يبيت شبعان لا يتعهده شر" [ع 23]

الذي يخاف الرب ويتقيه، يلجأ إليه ويحتمي فيه كملجأ له وحصنه. يعيش في أمان، لا يعوزه شيء. يشعر أن كل الأمور تعمل معًا للخير. يتغنى دومًا بأنشودة النصرة، قائلاًَ مع الرسول بولس: "ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارها بالذي أحبنا. فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا عُلو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (رو 8: 27-29). هكذا يتهلل خائف الرب، إذ ترتوي نفسه من ينابيع حب الله، وتشبع من المائدة السماوية.

*الصلاح العظيم، ليس أن تملك مالاً، بل أن تقتني خوف الرب، وكل وسائل التقوى
القديس يوحنا الذهبي الفم

* إن أراد أحد أن ينال حب الله، فليكن فيه خوف الرب، لأن الخوف يولِّد بكاء، والبكاء يولد قوة. وإذا ما كملت هذه كلها في النفس، تبدأ النفس تثمر في كل شيء. وإذ يرى الله في النفس هذه الثمار الحسنة، فإنه يشتمها رائحة بخور طيبة، ويفرح بها هو وملائكته، ويشبعها بالفرح، ويحفظها في كل طرقها حتى تصل إلى موضع راحتها دون أن يصيبها ضرر.

إذ يرى الشيطان الحارس العلوي العظيم يحيط بالنفس، يخاف أن يقترب منها أو يهاجمها بسبب هذه القوة العظيمة.

إذًا، اقتنوا هذه القوة حتى ترتعب الشياطين أمامكم، وتصير أعمالكم سهلة، وتتلذذوا بالعمل الإلهي، لأن حلاوة حب الله أشهي من العسل.

حقًا أن كثيرين من الرهبان والعذارى في المجامع، لم يتذوقوا هذه الحلاوة الإلهية، ولم يقتنوا القوة الإلهية، ظانين أنهم قد نالوها، بالرغم من عدم جهادهم. أما من يجاهد لأجلها فينالها حتمًا خلال المراحم الإلهية، لأن الله لا يحابى الوجوه.

فمن يريد أن يكون له نور الله وقوته، يلزمه أن يستهين بكرامات هذا العالم ودنسه، ويبغض كل أمور العالم ولذة الجسد، وينقى قلبه من كل الأفكار الرديئة. ويقدم لله أصوام ودموعًا ليلاً ونهارًا بلا هوادة كصلوات نقية، عندئذ يفيض الله عليه بتلك القوة.

اجتهدوا أن تنالوا هذه القوة، فتصنعوا كل أعمالكم بسهولة وُيسر، وتصير لكم دالة عظيمة قدام الله، ويهبكم كل ما تطلبونه.
القديس أنطونيوس الكبير


15. الكسل

"الكسلان يخفي يده في الصحفة،

وأيضًا إلى فمه لا يردها" [ع 24]

يصور الحكيم الإنسان الكسول وقد قُدمت أمامه مائدة فاخرة، مملوءة بالأطعمة، يمد يده ويضعها في الصحفة، ومن شدة كسله ورغبته في النوم والنعاس، يستصعب أن يرفع يده ليضع الطعام في فمه. يُفضل أن يعاني من الجوع وهو متراخٍ عن أن يمد يده بالطعام ليأكل ويشبع.هكذا يفعل كثيرون، إذ يقدم لهم الله مائدة شهية في الكتاب المقدس، غذاء النفس، لكنهم في رخاوة وكسلٍ لا يستفيدون من الفرصة المقدمة لهم ليأكلوا ويشبعوا.


16. التأديب

"اضرب المستهزئ فيتذكَّى الأحمق،

ووبخ فهيمًا فيفهم معرفة" [ع 25]

إن تُرك المستهزئ يمارس استخفافه بالوصية أو بالآخرين دون توبيخ أو تأديب يجد ما يبرر تصرفاته، غير مبالٍ بنتائج شروره. أما الحزم مع المستهزئ فإن لم ينتفع به الشخص نفسه، فسينتفع الآخرون، إذ يخشون لئلا تحل بهم عقوبات. أما الفهيم فإذ يُوبخ على خطأ ارتكبه ينتفع من التوبيخ، إذ يود دومًا أن يتعلم وينمو في كل عملٍ صالحٍ.


17. الابن المتمرد

"المخرب أباه والطارد أمه

هو ابن مخز ومخجل" [ع 26]

الابن المتمرد يخرب أباه، إذ يبدد ثروته ومقتنياته لأجل تحقيق ملذاته وشهواته. وفي عناده يفقد كل حنو حتى على أمه فيطردها، فيوصم الأسرة بالخزي والعار. يظن المتمرد أنه بهذا السلوك المشين مع والديه يمارس حقه في الحرية، وكسر كل القيود، ولا يدري أنه يمارس التهور والتسبب، وتنتهي حياته بالفضيحة والدمار.

إن كان التمرد ضد الرئيس أو الملك يدفع بصاحبه إلى القتل أو الإعدام، فماذا تكون عقوبة الطاغية المتمرد على الله ووصيته؟

يقول القديس أغسطينوس إنه بالتمرد فقد بعض السمائيون مركزهم، وانحدروا إلى الهلاك الأبدي، ولم يعد لهم حق الشركة مع الملائكة. بينما (بالطاعة) ينال الإنسان وعدًا أن يصير بعد القيامة معادلاً للملائكة.

"كف يا ابني عن استماع التعليم للضلالة عن كلام المعرفة" [ع 27]

يقدم الحكيم نصيحته أو وصيته للابن المتمرد، الذي يعتنق مبادئ وفلسفات الإباحية والتمرد، حاسبًا في الضلالة عن الحق وعدم المبالاة بالحياة الروحية دعوة لممارسة الحرية. يطالبه الحكيم أن يحمل روح التمييز، ليسلك في النور ويرفض الظلمة. يسد أذنيه عن التعاليم المضللة، لينصت ويخضع للحق الإلهي.


18. شهادة اللئيم

"الشاهد اللئيم يستهزئ بالحق،

وفم الأشرار يبلع الإثم" [ع 28].

إذ يشهد الشرير على قريبه باطلاً يدفع نفسه إلى سلسلة من الشرور وممارسة الظلم والعنف، ويحسب فمه الذي أقسم باطلاً وشهد بالكذب معملاً للإثم.


19. القصاص

"القصاص معد للمستهزئين،

والضرب لظهر الجهال" [ع 29]

المستهزئون الذين يستخفون بالمقدسات الإلهية يلقون بأنفسهم في قصاص خطير، ويُضربون كجهلاء وحمقى.

يوم الرب قادم حتمًا، وتحل الدينونة على الأشرار حقًا إن ملذات الخطايا وقتية، لكن عقوبتها أبدية!

يصور لنا القديس يوحنا الذهبي الفم يوم الرب العظيم الذي فيه تتم الدينونة، ويُحاكم الأشرار، فيقول:

* كل الأشياء ستكون مذهلة للغاية ومملوءة رعبًا ورعدة. حتى الملائكة أنفسهم سيتملكهم الخوف، ليس فقط الملائكة بل ورؤساء الملائكة والعروش والسلاطين والرؤساء والقوات. إننا نقرأ: "وقوات السماوات تتزعزع" (مت 24: 29). لأن العبيد رفقائهم يُطلبون أن يقدموا حسابًا عن حياتهم على الأرض. لو أن مدينة واحدة تُدان أمام حكام هذا العالم، لأرتعب كل الناس حتى الذين هم خارج الخطر، فكم إذا أًستدعى العالم كله أمام ديانٍ كهذا لا يحتاج إلى شهودٍ ولا إلى إثباتات، وإنما بدون هذا كله يستحضر الأفعال والكلمات في صورة يراها الذين يرتكبون الخطايا والذين يجهلونها، أليس من الطبيعي أن تُذهل كل القوات وترتعب؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالجمعة فبراير 24, 2012 12:44 am

الاصحاح العشرون


وصايا الحكمة
عن وسائل الحياة وغايتها

في ختام هذا الفصل يحذرنا الحكيم من استخدام وسائل خاطئة في الحياة، فإنها تنحرف بنا عن هدفنا السامي للحياة.

1. حياة السُكر 1.

2. إثارة الحاكم 2.

3. الحفاظ على السلام 3.

4. ثمر الكسل4.

5. المشورة العميقة 5.

6. التقوى والطهارة 6-12.

7. السهر 13.

8. الخداع 14.

9. شفتا الحكيم 15.

10. التهور في الضمان 16.

11. الكذب 17.

12. التهور والاندفاع 18.

13. الوشاية 19.

14. إهانة الوالدين 20.

15. تكديس الثروة والممتلكات21.

16. عدم الانتقام 22.

17. الموازين الغاشة 23.

18. النعمة الإلهية 24.

19. التسرع 25.

20. اعتزال الشر 26.

21. النور الداخلي 27.

22. الرحمة 28.

23. القوة والحكمة 29.

24. جراحات التأديب 30.


1. حياة السُكر

"الخمر مستهزئة المسكر عجاج،

ومن يترنح بهما فليس بحكيم" [ع 1]

هنا لأول مرة نجد وصية تحذر من الخمر المُسكر، ليعود الحكيم ويحذر مرات أخرى (23: 20-21، 29-35، 31: 4-5).

مع ما للخمر من فوائد طبية، ومع كونها خليقة مقدسة، لكن لم يجد عدو الخير صعوبة في جذب الملايين نحو إدمان الخمر والسُكر، وتحطيم حياتهم الروحية والنفسية والصحية. إذ سَكر نوح تعرَّى، وصار في خزي، وإذ سَكر لوط نام مع ابنتيه.

ثمار السُكر المدمرة واضحة في كل المجتمعات، ومع هذا ينجذب إليه الكثيرون، إن لم يكن علانية، ففي الخفاء. تسخر الخمر بالإنسان الذي يشربها في مبالغة، وتستخف به، والعجيب أنها تجعله أحمق، فيسخر بمن حوله، ويسخرون هم به.

* قبل كل شيء يلزم على الراهب أن يمنع الاجتماع بالنساء وشرب الخمر، لأن الخمر والنساء يدفعون حتى بالحكماء إلى السقوط (جا 19: 2)
القديس باسيليوس الكبير

* كان أخٌ محارَبًا من أفكاره أن يترك ديره، فأخبر أنبا أنطونيوس بذلك، فقال له الشيخ: ”اذهب، اجلس في قلايتك وارهن جسدك لحوائط قلايتك ولا تغادرها، ودع الفكر يذهب حيثما يشاء، فقط لا تسمح لجسدك أن يخرج من القلاية... سيقول لك: ’اشرب قليلاً من الخمر مثل الطوباوي تيموثاوس‘ (1 تي5: 23)، فأجبه أنت أيضًا: ’اذكر أبناء يوناداب الذين حافظوا على وصايا أبيهم‘ (إر35: 6).

* لا شيء يجدِّد النفس التي شاخت مثل مخافة الله والصلاة النقية والتأمل المتواصل في كلام الرب مع إمداد النفس بزاد الصلاة والمداومة على الأسهار وعدم الإفراط في شرب الماء، ففي الحقيقة يجب على الراهب أن يزهد في شرب الماء كما يزهد تمامًا في الخمر، لأنه كما أنّ الشجرة التي تُروى بالماء هي فقط التي تُحمَّل بالثمار هكذا أيضًا الجسد الذي يمتلئ بالماء فهو يُصاب بالرخاوة والخمول، ومن الرخاوة يأتي التواني والكسل، والتواني يلد النعاس، ومن النعاس يتولد الترف، وهكذا شيئًا فشيئًا تزداد أوجاع النفس وتطرحنا في عمق جهنم، وتصير أجسادنا مسكنًا للأرواح النجسة وأفكارنا مستعبَدةً للأوجاع المخزية.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير

* لأنه من المؤكَّد أنّ نفوس الخطاة تُشبه ينابيع مختلفة: فالشرهون والولعون بالخمر يشبهون ينابيع قد تلطَّخت، والجشعون والمحتالون هم مثل ينابيع مليئة بالضفادع...
القديس أنبا بفنوتيوس


2. إثارة الحاكم

"رعب الملك كزمجرة الأسد،

الذي يغيظه يخطئ إلى نفسه" [ع 2]

يليق بنا الإقرار بسلطان أصحاب المراكز القيادية، خاصة الملك أو الرئيس، والخضوع لكل ترتيبٍ بشريٍ من أجل الرب (رو 13: 1؛ 1 بط 2: 13).

من يغيظ الملك يخطئ إلى نفسه، لأن غضبه ينصب على المقاومين له ومضايقيه.

من يسلك بالتقوى لا يخشى الحاكم، إذ يقول الرسول: "إن من يقاوم السلطان يقاوم الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة. فإن الحكام ليسوا خوفًا للأعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد أن لا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فيكون لك مدح منه. لأنه خادم الله للصلاح" (رو 13: 2-4).


3. الحفاظ على السلام

"مجد الرجل أن يبتعد عن الخصام،

وكل أحمق ينازع" [ع 3]

ليس ما يسكب على الإنسان من مجدٍ وكرامة ووقار مثل حلمه وطول أناته. "ليكن حلمكم معروفًا عند جميع الناس" (في 4: 5).

الإنسان الحكيم يبتعد ما استطاع عن الخصومات والمنازعات من أجل سلامه الداخلي، ولكي يمارس أعمالاً إيجابية بناءَّة، ويترك العمل هو الشاهد للحق، ويحول المقاومين إلى أحباء، أما الأحمق فيُسر بالمنازعات، ويلهو فيها.

*من يطلب السلام يطلب المسيح، لأنه هو سلامنا (كو 1: 20)، الذي يجعل الاثنين واحدًا (أف 2: 14)، صانعًا السلام بدم صليبه سواء على الأرض أو في السماء
القديس باسيليوس الكبير

* لا تجعل في قلبك عداوةً لأي إنسان، ولا تُبغض مَنْ يُعادي قريبه ولا تدِن عداوته، ولا تغضب على أخٍ يغضب على قريبه، لأن هذا هو السلام الحقيقي: أن تشجِّع نفسك بهذا الفكر: الضيق يستمر لوقتٍ قصيرٍ، في حين أن السلام أبديّ بنعمة الله الكلمة.
أنبا موسى


4. ثمر الكسل

"الكسلان لا يحرث بسبب الشتاء،

فيستعطي في الحصاد ولا يُعطى" [ع 4]

يبحث الكسلان عن أية علة ليجد لنفسه عذرًا فلا يعمل، يهمل حقله بينما يبذل جيرانه كل الجهد لزراعة حقولهم. وإذ يحل وقت الحصاد، ينشغل الجيران في حصاد حقولهم، بينما يستجدي منهم فضلاتهم فلا يعطونه.

موسم الحرث في منطقة الشرق الأوسط هو نوفمبر وديسمبر، فيعتذر الكسلان بأنه وقت شتاء ولا يحتمل البرد، فلا عجب إن جاء موسم الحصاد فيجد حقله بلا ثمر.

* ينبغي أن نعظ الكسالى بطريقةٍ، والمغامرين بطريقة أخرى. ينبغي أن يقتنع الكسالى بأن لا يضيعوا فعل الخير بتأجيله، وعلى المغامرين أن لا يفسدوا استحقاقات أفعالهم الصالحة بتسرع يفتقر إلى التروي في ترقب مواقيت هذه الأفعال.

ليدرك المتكاسلون بأن عدم الرغبة قد تَحُولَ دون فعل ما نقدر على فعله من صلاح في الوقت الملائم عندما تحل هذه الرغبة. إن العقل المتبلد عندما لا يتحرك بفعل الحمية الصادقة في موعده يفقد تمامًا كل إحساس بالرغبة في فعل الصلاح، لأن هذا التهاون يكبر ويزداد بقوة، ولكن دون أن نشعر به. لذلك يقول سليمان بوضوح: "الكسَلُ يُلْقِي في السَّبات" (أم 19: 15).

الكسول بالرغم من أنه يكون متيقظًا بمشاعر حقيقية إلا أن كسله يزيد من التهاون، ولذلك قيل إن الكسل يلقي بالإنسان في سبات عميق. فعندما يتوقف السعي في عمل الخير فإنه يبدأ تدريجيًا في فقدان الإحساس بالمشاعر الحقيقية. حسنًا أضيف إلى هذه الفقرة: "والنفس المتراخية تجوع" (أم 19: 15)، فعندما تهمل النفس ذاتها ولا يتم كبح جماحها بقوة، ولا تتجه بجهدها إلى الأمور السماوية، فإن الشهوات الدنيوية تؤذيها وهكذا عندما تتجاهل قيود التهذيب، فإنها بالأحرى تفقد طريقها وهي تسعى وراء الملذات، لذلك أيضًا كُتِبَ بسفر الأمثال على لسان سليمان: "شهوة الكسلان تقتله" (أم 21: 25).

لأجل ذلك يعلمنا الحق ذاته أن البيت يصير نظيفًا عندما يخرج الروح الشرير، ولكن عندما يظل فارغًا يرجع إليه مع أرواح أخرى ليتملك عليه.

إن الكسلان عادة ما يهمل ما يجب فعله، متصورًا العقبات والمخاوف التي لا أساس لها، وهو يركن إلى مبررات يختلقها بسبب خموله وبلادته. إلى هؤلاء يقول سليمان بالحق: "الكسلان لا يحرث بسبب الشتاء، فيَسْتَعْطِي في الحصاد ولا يُعْطَى." (أم 20: 4). الذين لا يجتهدون في أعمال البرّ الآن لن يحصدوا شيئًا (في الصيف)، وهذا يعنى أنه عند ظهور شمس الدينونة الحارقة يستعطي لدخول الملكوت لكن دون جدوى.

لهذا يقول سليمان أيضًا: "من يرصد الريح لا يزرع، ومن يراقب السحب لا يحصد" (جا 11: 4). إن الريح ليست إلا تجارب الأرواح الشريرة، والسحب التي تدفعها ما هي إلا النكبات التي يوقعنا فيها الأشرار. نعم تدفع الرياح السحب عندما تحرك ضربات الأرواح الشريرة الأشرار، وهكذا فإن من يرصد الريح لا يزرع، ومن يراقب السحب لا يحصد، إذ أن الذين يخشون تجارب الأرواح الشريرة وظلم الأشرار لا يبْذُرون بِذارًا صالحة الآن، ولا يحصدون بعد ذلك الثواب المقدس
البابا غريغوريوس (الكبير)


5. المشورة العميقة

"المشورة في قلب الرجل مياه عميقة،

وذو الفطنة يستقيها" [ع 5].

صاحب الحكمة والمشورة يتأنى ويسمع ويخزِّن في أعماقه، فيصير قلبه أشبه ببئر عميق يختزن فيه المعرفة الصادقة. لكن الحمقى إذ بطبعهم كثيرو الكلام ينسبون للحكيم عدم المعرفة والجهالة بسبب قلة كلامه. لكن ما أن يستقي، أي يسحب مياه المعرفة في الوقت المناسب، كما من بئر قلبه يدرك الكل أنه ذو فطنة.

* لا تعمل عملاً في زمان توبتك بدون مشورة،ٍ فتعبر أيام حياتك بكل نياح.
الأب إشعياء

* ينبغي على الراهب أن يأخذ المشورة من إنسان حكيم، وأن لا يجعل مشورة الجاهل تسكن في قلبه.
القديس هيبريشيوس الكاهن

6. التقوى والطهارة

في هذه الأمثلة [6-12] نرى صورة حية للإنسان الحكيم التقي، الذي يسلك بالطهارة، ويود أن يعيش كاملاً.

"أكثر الناس ينادون كل واحدٍ بصلاحه،

أما الرجل الأمين فمن يجده" [ع 6]

يرى الناس كثيرين أنهم صالحون، لكن شتان ما يبن ما يراه الإنسان من الخارج وبين الواقع الحقيقي الداخلي.

فما أصعب أن نجد إنسانًا أمينًا مع نفسه ومخلصًا. يليق بنا ألا ننخدع بمديح الناس لنا، فلا يعرف الإنسان إلا روح الإنسان. يلزمنا أن نفحص أنفسنا بنور روح الله القدوس، فنستنير ونتقدس به.

"الصدِّيق يسلك بكماله طوبى لبنيه بعده" [ع 7]

لا يغتر الصدِّيق بمديح الناس له، كما لا يهتز بذم الآخرين ونقدهم اللاذع له، إنما ما يشغله هو الكمال الذي يهبه له الله ككنزٍ داخليٍ، يتمتع به، ويقدمه ميراثًا لبنيه، الذين ينتفعون من صلواته عنهم، ويقتدون به.

يعلم الآباء أبناءهم بالحياة العملية والسلوك والصلوات الخفية من أجلهم، ذاك أفضل من تقديمهم نصائح وتعليمات بالكلام.

يستطيع الأبناء أن يتلامسوا مع عمل الله في حياة آبائهم، كما يكتشفون رياءهم وخداعهم إن حملوا مظهرًا غاشًا. تستطيع قلوب الأبناء أن تخترق قلوب آبائهم، وتتعرف على أسرارهم وتكشف حقيقة علاقتهم بالله!

* لا تحسب من هو متغير وضعيف أبًا لأولادك، بل يليق بك أن تجعل الله الأبدي غير المتغير أبًا لأولادك الروحيين. سلمه ثروتك التي تريد أن تدخرها لهم. اجعله حارسًا عليهم وضامنًا وحافظًا لهم بقدرته الإلهية، ضد كل مصائب الزمن. فإنك إذ تعهدها في يد الله لا ينتزع أحد ملكيتها ولا يغتصبها بيت المال، ولا يلحقها جور قضائي، بل يكون الميراث في أمان متى كان محفوظًا في حراسة الله.

بهذا تمد ورثتك الأعزاء بتطويبات المستقبل.

هذا ما تمليه عليك العاطفة الأبوية من جهة الاعتناء بوارثيك، معتمدًا على قول الكتاب: "كنت فتى والآن شخت، ولم أجد صدِّيقًا تخلي عنه، ولا ذرية له تلتمس خبزًا". وقوله: "الصديق يسلك بكماله. طوبى لبنيه بعده" (أم 20: 7).

لذلك فإن لم تهتم بإرشاد أولادك وحفظهم في الإيمان والتقوى لا تستحق أن تُدعى أبًا بل تكون أبًا خائنًا، يا من تحرص على ممتلكاتهم الأرضية أكثر من حرصك على ممتلكاتهم السمائية، فتوصيهم بالشيطان لا بالمسيح. وبذلك تخطئ خطيئتين، وترتكب جريمة مزدوجة:

أ. إنك لم تمد أولادك بمعونة الله أبيهم.

ب. إنك تعلمهم أن يحبوا ممتلكاتهم أكثر من المسيح[627].
الشهيد كبريانوس

"الملك الجالس على كرسي القضاء

يذري بعينه كل شر" [ع 8].

إذ يجلس الملك الحكيم على كرسي القضاء يستطيع بنظرات عينيه أن يغربل الأشرار، ويفصلهم عن الأبرار. هنا يحذر الحكيم الأشرار من محاولتهم خداع الملك القاضي، فحتمًا سيكتشف خداعهم، ويضيفون إلى شرورهم شرًا جديًدا هو الكذب على الملك. هذا بالنسبة للملك الأرضي الضعيف متى وُهب له روح الحكمة وأراد أن يمارس العدل، فماذا بالنسبة لملك الملوك حين يأتي على السحاب ليدين الأحياء والأموات؟ كل الأمور مكشوفة أمامه، حتى الأفكار الخفية ونيات القلب!

يؤمن أوريجينوس أن في القيامة ينقسم الناس إلى قسمين: الأبرار الذين خلصوا، والأشرار الذين يستحقون الدينونة. سيمتلئ الآخيرون بالحزن مما يتلاءم مع حياة وأعمال من استهانوا بوصايا الرب وهم في هذه الحياة، وطرحوا عنهم كل خوفٍ من الدينونة، ومارسوا النجاسة والطمع

يقول العلامة أوريجينوس ستتم الدينونة في نهاية العالم، عندئذ يتحقق التمييز الحاسم بين الصالح والشرير

* في يوم الدينونة، ما من شك أن الصالحين سيُفصلون عن الطالحين، والأبرار عن الأشرار. وسوف يخصص لكل نفس من خلال دينونة الله مكانًا يليق بجدارتها واستحقاقها، إن شاء الله"
العلامة أوريجينوس

* مادام (الله) يرى كل شيء، ويسمع كل شيء، فلنخشه ونتخلَّ عن الأعمال الشريرة النابعة عن شهوات دنسة، حتى تحمينا رحمته من الدينونة العتيدة

القديس إكليمنضس الروماني

"من يقول إني زكيت قلبي،

تطهرت من خطيتي" [ع 9]

إن كان الأشرار لا يستطيعون أن يتزكوا أمام ملكٍ بشريٍ، فمن من البشر يقدر أن يتزكى أمام ملك الملوك؟ من يقدر أن يعصم نفسه من الخطأ؟ من يظن في نفسه أنه طاهر بلا خطية، يضل وليس الحق فيه. هنا الحاجة ملحة لمن بدمه يقدر أن يغسلنا من خطايانا. "هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسلوا ثيابهم وبيَّضوا ثيابهم في دم الخروف" (رؤ 7: 14). حقًا "الجميع زاغوا وفسدوا معًا، ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد" (رو 3: 12).

* إذن ليتنا أيها الإخوة الأحباء نعرف تلك العطية واهبة الشفاء التي للرحمة الإلهية، نحن الذين لا يمكن أن نوجد بلا جراحات من جهة الضمير.

ليته لا يتملق الإنسان ذاته متوهمًا أن قلبه نقي مختون، معتمدًا على برِّه الذاتي، حاسبًا أن جراحاته غير محتاجة إلى دواء، بينما كتب: "من يقول إني زكيت قلبي، تطهرت من خطيتي؟!" (أم 20: 9)، وجاء في رسالة يوحنا: "إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا" (1 يو 1: Cool. فإن كان لا يوجد إنسان بلا خطية، وإن من يقول إنه بلا خطية يكون متكبرًا أو غبيًا، فيا لحنو الرحمة الإلهية، لأننا نعرف أنه لا تزال توجد جراحات فيمن ينالون الشفاء حتى بعد نوالهم له، لهذا قدمت أدوية شافية لكي تشفي الجراحات التي تستجد!
الشهيد كبريانوس

* لذلك يحزن جميع القديسين بتنهدات يومية من أجل ضعف طبيعتهم هذا. وبينما هم يستقصون أفكارهم المتنقلة ومكنونات ضمائرهم وخلواتهم العميقة يصرخون متضرعين: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرَّر قدامك حيّ" (مز 143: 2)، "من يقول إني زكَّيتُ قلبي، تطهرتُ من خطيتي" (أم 20: 9). وأيضًا: "لأنه لا إنسان صدِّيق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئُ" (جا 7: 20). وأيضًا: "السهوات من يشعر بها؟" (مز 19: 12). وهكذا أدركوا أن برّ الإنسان عليل وغير كامل ويحتاج دائمًا إلى رحمة الله، حتى أن أحدهم بعد رؤيته السيرافيم في الأعالي وكشفه المكنونات السمائية قال: "ويل لي.. لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعبٍ نجس الشفتين" (إش 6: 5). أظن أنه ما كان يشعر بنجس شفتيه ما لم يكن قد مُنح له أن يُدرك نقاوة الكمال الحقيقي التام برؤية الله، الذي فجأة صار عالمًا بنجاسته التي كان جاهلاً بها من قبل ونجاسة من حوله... شاملاً في توسله العام ليس فقط جماعة الأشرار بل وجماعة الصالحين أيضًا قائلاً: "ها أنت سخطت إذ أخطأْنا. هي إلى الأبد فنخلص، وقد صرنا كلنا كنجسٍ وكثوب عِدّة" (إش 64: 5-6)
الأب ثيوناس

* "إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا، وليس الحق فينا" (1 يو 1: Cool.

أية عظة يمكنها أن تعلن عن سرب خطايا النفس والإرادة الحرة. يقول: "من الداخل تخرج الأفكار الشريرة" (مر 7: 21؛ مت 15: 19). ويضيف قائمة بالأفكار التي تدنسنا. فإن كانت شباك الخطايا منتشرة حولنا من كل جانب خلال كل الحواس وحركات النفس الداخلية، من يقدر أن يفتخر بأن قلبه طاهر كما يقول الحكمة (أم 20: 9 )؟ أو كما يشهد أيوب بذات الأمر: "من هو طاهر من وصمة" (أي 14: 4 )؟ الوصمة التي تلحق بنقاوة النفس هي اللذة الحسية التي تمتزج بالحياة البشرية بطرقٍ متنوعة خلال النفس والجسد، بالأفكار والحواس والحركات المتعمدة والتصرفات الجسدانية.

إذن مَنْ نفسه طاهرة من هذه الوصمة؟

كيف يوجد أحد غير مضروب بالخيلاء وغير مدوسٍ تحت قدم الكبرياء؟

من لم يهتز قط بأيدٍ خاطئة، ومن لم تجرِ قدمه قط إلى الشر؟

من لم يفسد قط بتجوال عينيه نحو الفساد أو أذنيه غير المضبوطتين؟

من لم ينشغل قط في تذوقه بمتعة، ومن لم يتحرك قلبه قط بعواطف باطلة؟
القدِّيس غريغوريوس النيسي

"معيار فمعيار، مكيال فمكيال،

كلاهما مكرهة عند الرب" [ع10].

من يحمل النقاوة في داخله، ويسلك في طريق الكمال، تصير معاييره صادقة وأمينة، فلا يكيل لإنسان بكيلٍ، ولآخر بكيلٍ آخر. الله القدوس يبغض الغش في المكاييل والأوزان والمعايير، هكذا أولاده المقدسون فيه لا يطيقون الغش، مهما كانت دوافعه.

سبق فتحدث عن الغش مع الموازيين (11: 1؛ 16: 11)، وسيتحدث أيضًا عنها (20: 23).

* اِهتموا، يا أولادي، بخلاص نفوسكم وارجعوا إلى الرب بتوبةٍ نقيّةٍ من الغشِّ، وببكاءٍ وتضرُّعٍ اِعترفوا بنقائصكم.
القدِّيس مقاريوس الكبير

* يا ابني، لا تُظهِر كلمتك لمن لا يعرفها. اجعل سائر الناس أحباء، لكن لا تجعلهم كلهم مشيرين، بل اتخذ لك قبل كل شيء تجربة (أى اختبار). لا تجعل كل الناس أصدقاء، وإن صاروا لك أصدقاء فلا تأمن لهم كلهم، لأن العالم قد ثبت في المكر. لكن اجعل لك أخًّا واحدًا يخاف الرب، والتصق أنت بالله فقط مثل ولد مع أبيه. لأن الناس بأجمعهم يسلكون بالغش، ما خلا النذر اليسير منهم؛ والأرض قد امتلأت من الباطل والأتعاب والأحزان. فإن كنتَ، يا ابني، تحب المعيشة في الهدوء فلا تختلط مع المهتمين بالباطل. وإن صرتَ في وسطٍ فيه اختلاط بكثيرين، فكن كمن هو ليس مختلطًا بهم إن كنتَ تحب أن تُرضى الله.
القدِّيس الأنبا أنطونيوس الكبير

"الولد أيضًا يُعرف بأفعاله،

هل عمله نقي ومستقيم" [ع 11].

ليس فقط الكبار، وإنما حتى الأطفال الصغار تُعرف نقاوتهم واستقامتهم من سلوكهم العملي، كما في حالة صموئيل الصبي الصغير في الهيكل (1 صم 3: 18-21).

"الأذن السامعة والعين الباصرة،

الرب صنعهما كلتيهما" [ع 12].

إن كان الجميع لا يتزكون، إذ هم في حاجة إلى العمل الإلهي لتطهيرهم، تسللت الخطية إلينا وهي ليست من صنع الخالق. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إنما خلق الله الأذن لتنصت للوصية والعينين لتبصرا السماويات، كل خليقته صالحة. الشر دخل إلينا بإرادتنا، حيث قبلنا مشورة إبليس.


7. السهر

"لا تحب النوم لئلا تفتقر،

افتح عينيك تشبع خبزا" [ع 13]

كثيرًا ما يحذرنا الحكيم من الكسل، فإذ يمارسه الإنسان يحل به الفقر الروحي كما الاجتماعي والمادي. يفقد كل شيء ويفتقر، ولا يجد ما يشبعه. أما الذي يجتهد ويسهر فالليل يتحول بالنسبة له إلى نهارٍ، يحقق وصية الرسول: "استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات، فيضيء لك المسيح" (أف 5: 14).

القلب السهران يترقب مجيء السيد المسيح بفرح.

* العين الساهرة تطهر العقل، وكثرة النوم تظلم النفس

* النوم الكثير يسبب النسيان، والسهر ينقي الذاكرة
القديس يوحنا الدرجي

8. الخداع

"رديء رديء يقول المشتري،

وإذا ذهب فحينئذ يفتخر" [ع14]

المشتري المخادع يبخس من سمات البضاعة، فيدعي أنها رديئة حتى يستطيع أن يشتريها بثمنٍ بخسٍ. وإذ يبلغ غايته يفرح أنه استطاع أن يخدع البائع، مفتخرًا بذلك أمام أسرته وأصدقائه.


9. شفتا الحكيم

"يوجد ذهب وكثرة لآلئ،

أما شفاة المعرفة فمتاع ثمين" [ع15]

كلمة الحق الصادرة عن معرفة صادقة أثمن من الذهب وكثرة اللآلئ.

10. التهور في الضمان

"خذ ثوبه لأنه ضمن غريبًا،

ولأجل الأجانب ارتهن منه" [ع 16]

سبق فحَذَّر الحكيم المؤمن من التسرع في ضمان إنسانٍ غريبٍ لا يعرفه، ولا يقدر أن يوفي الدائن بما ضمنه، فيفقد حتى ثوبه الذي يستره. يليق بالمؤمن أن يدقق في حساب النفقة، ولا يأخذ قرارًا بضمان أحدٍ متسرعٍ، وفي غير دراسة وروية.


11. الكذب

"خبز الكذب لذيذ للإنسان،

ومن بعد يمتلئ فمه حصى" [ع 17]

قد ينجح الكذب والخداع، وقد يُسر الناس به، لكنه سرعان ما ينكشف الحق، فيتطلعون إلى فم الكذاب كما لو كان ممتلئًا بالحصى.

* الكذب هو هلاك الحب وتغيبه، والحنث هو إنكار الله

* الذي اقتني مخافة الرب، قد أبعد عنه الكذب، لأن له ضميره قاضيًا نزيهًا
القديس يوحنا الدرجي


12. التهور والاندفاع

"المقاصد تثبت بالمشورة،

وبالتدابير اعمل حربًا" [ع 18]

يطالبنا السيد المسيح ألا نتهور، بل في كل قرارٍ يلزمنا أولاً أن نحسب النفقة. "أي ملك إن ذهب لمقاتلة ملك آخر في حربٍ لا يجلس أولاً ويتشاور، هل يستطيع أن يلاقي بعشرة آلاف الذي يأتي بعشرين ألفًا. وإلا فمادام ذلك بعيدًا يرسل سفارة ويسأل ما هو للصلح" (لو 14: 31-32).


13. الوشاية

"الساعي بالوشاية يفشي السر،

فلا تخالط المُفَتح شفتيه" [ع 19]

الذي يقوم بالوشاية ضد شخص، فيُظهر لطفًا أمام وجهه، بينما يشوِّه صورته أمام الآخرين، إنسان مخادع لا يعرف المحبة. لا يليق بنا أن نأتمن مثل هذا المتملق، ولا ننصت لكلماته.

*سمعت البعض يغتابون قريبهم، فوبختهم. فأجابني فاعلو الشر مدافعين عن أنفسهم بقولهم إنهم يعملون هذا من تلقاء حبهم واهتمامهم بمن يغتابونه. فقلت لهم: "كفُّوا عن مثل هذا الحب، وإلا فإنكم تكذِّبون القائل: "الذي يغتاب قريبه سرًا كنت أطرده" (مز 101: 5). فإن هذا هو نوع الحب الذي يقبله الله

* إن الحكم على الآخرين، هو اختلاس وقح لسلطةٍ تخص الله وحده، إدانة الرفيق إهلاك للنفس
القديس يوحنا الدرجي


14. إهانة الوالدين

"من سب أباه أو أمه، ينطفئ سراجه في حدقة الظلام" [ع 20]

من يهين والديه يجد نوره قد انطفأ، ويحوط الظلام بنفسه. فإنه وإن أخطأ الوالدان يليق بالأبناء الستر عليهم، وذلك كما فعل سام ويافث عندما تعرَّى نوح بسبب سكره (تك 9: 23).


15. تكديس الثروة والممتلكات

"رب مُلْكٍ مُعجِّل في أوله،

أما آخرته فلا تبارك" [ع21]

اكتناز ثروة بطريق غير مشروع يفقد الإنسان بركة الرب (أم 21: 6، 28: 20).

*هؤلاء عندما يتحرقون بشهوة الامتلاء والشبع من كل أنواع الثروات وبسرعة، هؤلاء يقول لهم الكتاب: "المستعجل إلى الغنى لا يبرأ" (أم 28: 20) ومن الواضح أن الذين يسعون لزيادة ثرواتهم بجهدٍ، لا يهتمون بتحاشي الخطيئة، ويقلدون الطيور عندما ترْقُب الطُعْم الأرضي بنَهَم.

إنهم لا يدركون أنهم يختنقون في شراك الخطيئة، ويتوقون للمكاسب العالمية، ويتجاهلون الخسارة التي سيعانون منها مستقبلاً، هؤلاء عليهم أن يسمعوا الكتاب القائل: "رُبَّ مُلْكٍ مُعجِّلٍ في أوله، أما آخرته فلا تُبَارَكْ" (أم 20: 21).

هذه الحياة هي في الحقيقة بداية حتى ندخل في النهاية إلى أرض المختارين. لأنه عندما نرغب في الغنى هنا بحب الشر، ننزع عن أنفسنا الميراث الأبوي الأبدي. الذين يرغبون في نيل الكثير ويمكنهم أن يحققوا كل ما يرغبون فيه، يقول لهم الكتاب: "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟" (مت 16: 26). وكأن الحق يقول بوضوح: "ماذا يربح الإنسان إذا استطاع أن يجمع كل شيء حوله ولعن نفسه؟".

وعادة ما تنصلح شهوة الأشرار المغتصبين بسرعة عندما يوقنون بالإرشاد أن هذه الحياة عابرة وفانية. إننا نُذَكِّر الذين يثابرون ليكونوا أثرياء في هذا العالم بأن غناهم لن يدوم طويلاً وسيفاجئهم الموت العاجل ليجردهم من كل ما جمعوه بوسيلة شريرة. فإنهم هكذا يحملون معهم للدينونة اتهامًا بالنهب. ليتأملوا أمثلة لأناس كانوا يلعنونهم. لقد فحصوا ضمائرهم وخجلوا، لأنهم قاموا بتقليد أشخاص قد سبق ولعنوهم لأنهم ارتكبوا بأنفسهم نفس الأعمال الشريرة
البابا غريغوريوس (الكبير)


16. عدم الانتقام

"لا تقل إني أجازي شرًا،

انتظر الرب، فيخلصك" [ع 22]

يشعر المؤمن أن حياته كلها في يد الرب إلهه، فلا ينتقم لنفسه، بل ولا يشتهي النقمة من مقاوميه حتى عن طريق آخرين، إنما يشتهي خلاصهم، ويؤمن بأن الله يحول كل الأمور لخيره وخيرهم. يقول الرسول: "لا تجازوا أحدًا عن شرٍ بشرٍ، معتنين بأمورٍ حسنة قدام جميع الناس. إن كان ممكنًا، فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس. لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب، لأنه مكتوب: ليَ النقمة أنا أجازي يقول الرب" (رو 12: 17-19).


17. الموازين الغاشة

"معيار فمعيار مكرهة الرب،

وموازين الغش غير صالحة" [ع 23]

سبق الحديث عنها (20: 10)


18. النعمة الإلهية

"من الرب خطوات الرجل،

أما الإنسان فكيف يفهم طريقه" [ع 24]

لا يستطيع الإنسان بفهمه الذاتي، ولا بمجهوده الشخصي، أن يتعرف على طريق الحق ويسلك فيه. إنه محتاج إلى تدخل إلهي، إلى نعمة الله. يقول إرميا النبي: "عرفتُ يا رب أنه ليس للإنسان طريقة، ليس لإنسانٍ يمشي أن يهدي خطواته". كما يقول: "أدبني يا رب ولكن بالحق، لا يغضبك، لئلا تفنيني" (إر 10: 23-24).

الله مستعد لأن يرشد أولاده ويقودهم ويسندهم: "أعلمك وأرشدك الطريق التي تسلكها، أنصحك، عيني عليك" (مز 32: Cool.

لم يكن ممكنًا لموسى أو غيره من الأنبياء أن يسلك الطريق بدون قيادة الله له. فكثيرًا ما أكد له: "أنا أكون معك" (خر 3: 12)، "فالآن اِذهب وأنا أكون مع فمك، وأعلمك ما تتكلم" (خر 4: 12).

* لن تتم هذه الأمور التي أمر بها الله إلاَّ كعطية من مقدم الوصايا وبمعونته، لأنه باطلاً نسألها إن كنا نقدر أن نتممها دون معونة نعمته
القديس أغسطينوس

* للرب الباكورة (بدء العمل) والإنجازات (تكملته). فلكي أبدأ السير في الطريق يلزم أن أُدعى، لأنه: "من الرب خطوات الرجل، أما الإنسان فكيف يفهم طريقه؟" (أم 24:20). ولكي لا انحرف عن الطرق المستقيمة وحتى لا أسلك في طريق معوج. أقول بأسلوب التمني: "فيا ليت طرقي تستقيم إلى حفظ حقوقك". فإنني لا أحفظ حقوقك ما لم تكن طرقي تحت إرشادك وتدبيرك.
العلامة أوريجينوس

* هل لا نزال نجسر ونفتخر بالإرادة الحرة ونهين بركات الله واهب العطايا إن كان الإناء المختار (بولس) يكتب بوضوح: "ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية ليكون فضل القوة لله لا منّا" (2 كو 4: 7)؟
القديس جيروم

* من الذي يكتب في القلوب؟ الله هو الذي يكتب بإصبعه في كل الضمائر الناموس الطبيعي الذي أعطاه للجنس البشري. فيه نبدأ ونأخذ بذور الحق للدخول به إلى العمق. هذه البذور التي إن اعتنينا بزراعتها تأتي فينا بثمارٍ جيدة بالمسيح يسوع
العلامة أوريجينوس

* كانت عادة بولس أن يطلب نعمة المسيح أن تكون مع الذين يكتب إليهم
ثيؤدورت أسقف قورش


19. التسرع

"هو شرك للإنسان أن يلغو قائلاً مُقدَّس،

وبعد النذر أن يسال" [ع 25]

لا يليق بنا التسرع في الحكم بأن أمرًا ما مقدسًا دون فحصه والسؤال عنه، كما لا يجوز التسرع في النذر.

لقد تسرع يفتاح في نذره، فقدم ابنته الوحيدة ذبيحة (قض 11: 30-40).


20. اعتزال الشر

"الملك الحكيم يشتت الأشرار،

ويرد عليهم النورج" [ع 26]

الملك الحكيم يزيل من قصره الأشرار، ويحوِّط نفسه بأناس مخلصين محبين للحق والبرّ، فيطمئن لخلاصهم كما لمشورتهم، ويمكنه الاعتماد عليهم في أمورٍ كثيرة. بهذا يتمتع الملك كما المملكة بنوعٍ من الاستقرار.

ما نقوله عن الملك والملكوت الزمني ينطبق أيضًا على ملكوت الله الذي يقيمه في نفوسنا، فلكي ننعم بهذا الملكوت يلزمنا ألا نترك أثرًا للشر والفساد فينا. لا نستطيع أن نمارس الخير ما لم نكف عن الشر إذ ليس من شركة بين النور والظلمة، وبين المسيح وبليعال.

طالب الرسول بولس كنيسة كورنثوس أن تعزل الخبيث من بينهم، حتى لا يكون خميرة فاسدة تفسد العجين كله!


21. النور الداخلي

"نفس الإنسان سراج الرب،

يفتش كل مخادع البطن" [ع 27]

يهب الله روح الإنسان نور المعرفة، "لأن مَن مِنَ الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟" (1 كو 2: 11). يدعو الروح هنا "سراج الرب"، ينير ليس من ذاته، وإنما بعمل الله فيه، لذا لم يقل: "نور الرب" بل سراجه. عن طريق الروح يتحدث الله مع الإنسان، ويجتذبه إليه، ويكشف له عن أسراره.

"يحبلون ويلاً، ويلدون إثمًا، ويعد رحمهم خداعًا" (أي 15: ٣٥ ).

يحبل (الإنسان) ويلاً عندما يدبر أمورًا شريرة، ويلد إثمًا عندما يبدأ في تنفيذ ما دبره.

بالتمتع بالحسد يحبل ويلاً، وبالنطق بالافتراءات يلد إثمًا.

إنه لشر عظيم عندما يجاهد الشرير أن يُظهر الآخرين أشرارًا، حتى يبدو هو نفسه قدِّيسًا، إذ يظهر الغير غير مقدَّسين.

* يلزمنا أن نضع في ذهننا أنه يُستخدم لقب "البطن" أو "الرحم" في الكتاب المقدَّس ليُفهم بهما "العقل". قيل بسليمان: "سراج الرب طرق البشر يبحث عن كل الأجزاء الداخلية للعقل (الذهن)" (أم ٢٠: ٢٧).

بلقب "الرحم" يُفهم "العقل". فكما أن النسل يُحبل به في الرحم، هكذا الفكر يتولد في العقل. وكما أن اللحم يوجد في البطن هكذا الأفكار في العقل. هكذا فإن رحم المرائي يعد خداعات، إذ يحبل دومًا في عقله شرورًا عظيمة ضد أقربائه، تتناسب مع أهدافه نحو نفسه، أن يظهر بريئًا أمام كل البشر.

* آلام الجسد نعمة عظيمة لا بد أن يدركها المريض، فهي تطهر من الآثام، وتحد من الخطايا التي يمكن ارتكابها. كذلك يعاني العقل من الجراح القاسية الاحتمال التي تتسلط عليه من ضربات خارجية. لذلك يقول الكتاب المقدس: "حُبُرُ جُرْحٍٍ منقيةٌ للشرير، وضرباتٌ بالغةٌ مخادِعَ البطن" (أم 20: 30). نعم إن حُبُرُ الجراح تنقي من الشرور؛ أي أن آلام التطهير تنقي من الشرور، سواء التي بالفكر أو بالفعل. البطون تشير عادة إلى العقول، لأنه كما تستهلك البطون الطعام يتمثل العقل الهموم بالتأمل والتفكير فيها. إننا نتعلم أن العقل يشار إليه بالبطن من العبارة المكتوبة: "نفس الإنسان سراجُ الربِ، يفتش كل مخادعِ البطن." (أم 20: 27)، أي أن سراج الوحي الإلهي يدخل إلى النفس البشرية فينيرها كاشفًا لها كمرآةٍ. لأنه قبل حلول الروح القدس كانت النفس تلهو بالآثام، ولكنها لم تعرف كيف تُقَدِر أخطارها.

نعم، إن حبر جرح منقية للشرير، وضربات بالغة مخادع البطن. أي أنه عندما نُضْرَب من الخارج، فإننا نُسْتَدعَى في صمت مُعَذَبين لنتذكر خطايانا ونراها بعيوننا. وبمقدار ما نتألم خارجيًا، بقدر ما نحزن داخليًا على أفعالنا. وهكذا تتزامن جروح الجسد الخارجية مع الآلام السرية التي تطهر مخادع البطن تمامًا. إن الحزن على الجراح الخفية يشفي خبث الأفعال الشريرة.

ينبغي أن نعظ العليل حتى يحتفظ بفضيلة الحلم، وحتى يتفكر كم هي عظيمة العذابات التي تحملها مخلصنا على أيدي الذين جبلهم. وكم كانت تلك الإهانات بالغة ومفزعة، كم كانت الصفعات على الوجه الطاهر كثيرة على أيدي الهازئين. هذا كله بينما يختطف المخلص كل يوم نفوسًا من الأسرى الذين في قبضة العدو القديم. وبينما كان يغسلنا بماء الخلاص، لم يجفف وجهه من بصاق الغادرين. لقد تحمل في صمت سبابنا ليحررنا من العذاب الأبدي من قِبَل دوره كوسيطٍ، لقد تَحمَّل اللطم ليمنحنا مجدًا خالدًا مع جوقات الملائكة. وبينما خلصنا من تبكيت خطايانا، لم يخشَ من أن يُعرِّضَ رأسه للشوك. لقد قبل مرارة الحقد في عطشه لكي يُسكرنا بعذوبة الماء الأبدي. وعندما قدموا له العبادة مستهزئين صمتَ، وقدم عنا عبادة الحب للآب مع أنه مساوٍ له في الجوهر. وبالرغم من أنه هو الحياة، عبر إلى الموت حتى يُعِدَّ الحياة للأموات. إذًا لماذا يصعب على الإنسان أن يتقبل الضربات الإلهية بسبب أفعاله الشريرة، إذا كان الله قد تحمل شرًا هذا مقداره جزاء أفعاله الصالحة؟ ومن ذاك الحكيم والعاقل الذي يتنكر للجميل لأن الآلام قد ضربته، بينما لم يَسْلَم المخلص الذي عاش بلا خطية من ضرب السياط؟
البابا غريغوريوس (الكبير)

22. الرحمة

"الرحمة والحق يحفظان الملك،

وكرسيه يسند بالرحمة" [ع 28]

ليس ما يعطي لكرسي الملك من استقرار مثل عمل الرحمة والتمسك بالحق. بهذا يتشبه بالسيد المسيح الذي قدم رحمته للعالم كله بالصليب، ووهبنا ذاته بكونه الحق.

* ليس شيء يجعلنا مساوين لله سِوى فعل الصلاح (الرحمة).

* لنأتِ بأنفسنا وأولادنا وكل من لنا إلى مدرسة الرحمة، وليتعلَّمها الإنسان فوق كل شيء، فالرحمة هي الإنسان... لنحسب أنفسنا كمن هم ليسوا أحياء إن كنا لا نظهر الرحمة بعد!

*هذا هو عمل الله... لقد خلق الله السماوات والأرض والبحر. عظيمة هي هذه الأعمال ولائقة بحكمته! لكن ليس شيء من هذه لها سلطان تجتذب الطبيعة البشريّة إليه، مثل رحمته وحبُّه للبشر!

* المحبَّة (الرحمة) كما لو كانت أسمى أنواع الصناعة، وحامية لمن يمارسها. إنها عزيزة عند الله، تقف دائمًا بجواره تسأله من أجل الذين يريدونها، إن مارسناها بطريقة غير خاطئة!...

إنها تشفع حتى في الذين يبغضون، عظيم هو سلطانها حتى بالنسبة للذين يُخطئون!

إنها تحل القيود، وتبدِّد الظلمة وتُطفئ النار، وتقتل الدود، وتنزع صرير الأسنان.

أمامها تنفتح أبواب السماوات بضمان عظيم، وكملكة تدخل ولا يجسر أحد الحُجَّاب عند الأبواب أن يسألها من هي، بل الكل يستقبلها في الحال.

هكذا أيضًا حال الرحمة، فإنَّها بالحق هي ملكة حقيقيّة، تجعل البشر كالله. أنها مجنحة وخفيفة لها أجنحة ذهبيّة تطير بها تبهج الملائكة جدًا
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم


23. القوة والحكمة

"فخر الشبان قوتهم،

وبهاء الشيوخ الشيب" [ع 29]

* عمل الحكمة هو البرّ، لأنها تحول عطيتها من المعاندين وغير المؤمنين إلى المؤمنين شعب الله المطيع. على أي الأحوال من المفيد هنا أن نراعي باهتمام هذه الملاحظة: "تُعرف الحكمة بأعمالها" (راجع مت 11: 19)

القديس هيلاري أتسقف بواتييه

* "الحكمة عند الشيب، والفهم بطول الأيام". ذلك لأن الحكمة نقتنيها بالدراسة، والتعلم يغرس في الذهن بدروس البشر. أما بالنسبة لله فالأمر على غير ذلك، لأنه هو نفسه الحكمة في شخصه، وهو الذي يعلم دروس الحكمة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي


24. جراحات التأديب

"حُبر جُرحٍ منقية للشرير،

وضربات بالغة مخادع البطن" [ع 30]

التأديب هو علامة البنوة، فالأب يهتم ببنيان ابنه الشرعي، ولا يبالي بالنغول (الأبناء غير الشرعيين): "وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ". وكما قال القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان عدم التأديب علامة خاصة بالنغول، إذن يليق بنا أن نفرح بالتأديب كعلامة شرعية بنوتنا

*الأب لا يهذب ابنه لو لم يحبه، والمعلم الصالح لا يصلح من شأن تلميذه ما لم يرَ فيه علامات نوال الوعد. عندما يرفع الطبيب عنايته عن مريض، يكون هذا علامة يأسه من شفائه.
القديس چيروم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 01, 2012 12:19 am

الاصحاح الحادى والعشرون

وصايا للقادة
خاصة الملوك والرؤساء

أدرك سليمان الحكيم أنه قد نُصِّب ملكًا بأمر إلهي، ونال ما ناله من حكمةٍ ومجدٍ وغنى، وبناء هيكل الرب من قِبل الرب نفسه. ففي محبته لإخوته في البشرية اشتهى أن يكون الكل ملوكًا روحيين، وقد عبَّر عن ذلك في سفر الحكمة بقوله: "يا صانع كل شيء بكلمتك، ومكوِّن الإنسان بحكمتك، لكي يسود الخلائق التي صنعتها. ويسوس العالم بالقداسة والبرّ، ويجري الحكم باستقامة نفسٍ" (حك 9: 2-3).

إنه يود أن يحمل كل إنسان - أيَّا كان مركزه أو عمره أو إمكانياته - روح القيادة الحقيقية. وقد جاء حديثه في هذا الأصحاح يبرز كيف يتمتع الإنسان بروح الملوكية، ويتحاشى طريق المذلة.

1. التناغم مع الإرادة الإلهية 1-4.

2. الاجتهاد بروح البرّ 5-8.

3. التمتع بالسلام الأسري 9.

4. علاقات اجتماعية حكيمة 10-12.

5. روح العطاء 13.

6. سلوك مقدس 14-30.

7. نصرته في الرب 31.


1. التناغم مع الإرادة الإلهية

قَلْبُ الْمَلِكِ فِي يَدِ الربِّ،

كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ [1].

في الليلة الأخيرة من مملكة بابل أراد دانيال النبي أن يكشف لبلشاصر الملك أن الله وراء قيام كل مملكة، له خطة خاصة في حياة كل ملك، هذا الإله الذي دنس بيلشاصر آنية بيته (دا 5: 1-4)، فقال له: "أنت أيها الملك، فالله العلي أعطى أباك نبوخذنصر ملكوتًا وعظمة وجلالاً وبهاءً.." (دا 5: 18 الخ).

كل الملوك الأتقياء والأشرار، المؤمنون وغير المؤمنين، لن يتحركوا بدون سماح الله أو إرادته. كثيرون منهم يظنون أنهم قادرون على العمل على مستوى عالمي مثل فرعون مصر، وملوك أشور وبابل وقياصرة روما وإسكندر الأكبر ونابليون بونابرت. ولم يعلموا أنهم لن يستطيعوا العمل بدون سماح الله. لقد أعلنوا علانية أو سرًا استقلالهم عن الله. هذا ما يشعر به كثير من القادة، بل ومن الشعب أنهم يفعلون ما يشاءون. إننا في حاجة أن نحتفل يوميًا بإعلان اتكالنا على الله القدير وليس استقلالنا عنه.

لقد أدركت أستير هذا وصرخت مع شعبها، وحرك الرب قلب الملك كما جاء في كل السفر، خاصة حين طار نوم الملك منه، وقرأ في سفر تذكار الأيام عما فعله مردخاي، وتحركت الأحداث لحساب شعب الله (دا 6).

حركت يدّ الله كورش الفارسي، إذ قيل: "هكذا يقول الرب لمسيحه، لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أممًا..."

إن كان هذا هو عمل الله حتى مع الملوك الأشرار، فكم يكون دوره في حياة مؤمنيه، إذ يقول لإرميا النبي: "قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيًا للشعوب" (إر 1: 5).

كوازن للقلوب هو الطبيب الوحيد المتخصص في إصلاح القلب وتجديده، لذا نصرخ إليه في مقدمة الصلاة في كل ساعة: قلبًا نقيًا اَخلقه فيّ يا الله" (مز 51).

من هو الملك الذي قلبه في يد الرب؟

1. القائد البار: كل قائد بار يشعر أن دوره القيادي لا يقوم على نواله مركزٍ معينٍ، سواء على مستوى المجتمع أو الكنيسة، أو العمل أو الأسرة الخ، إنما يتحقق حين يقتني في داخله قلبًا ملوكيًا، باتحاده بالرب ملك الملوك. يسلك القائد في تواضعٍ وتسليمٍ بين يديّ الله الذي يوجِّه قلبه وعقله ومشاعره وأحاسيسه. فدوره القيادي في حقيقته هو سلوك حسب إرادة الله قائده.

2. القائد الشرير: يرى البعض أن الله يسمح به لتأديب الأشرار الخاضعين له ولتزكية أولاد الله، فيستخدمه الله للبنيان. بهذا فإن قلبه في يد الرب. وذلك كما قيل عن نبوخذنصر وغيره من الملوك الذين أذلوا شعب الله لتأديبهم، فدُعي نبوخذنصر الوثني الشرير عبد الرب.

3. كل نفس مقدسة تُحسب في عينيّ الله ملكة أو ملكًا، وكما يقول القديس يوحنا الحبيب: "وجعلنا له ملوكًا وكهنة لله أبيه" (رؤ 1: 6). يقول الحكيم: "نفوس الأبرار في يد الله" (حك 3: 1).

* سلِّم نفسك في يديّ الرب. ليس فقط عندما ترحل من الجسد، بل وأيضًا عندما تكون في الجسد، إنها في يديّ الرب، وإن كنت لا تراها ولا ترى مصدرها ولا مكان بلوغها. إنها فيك ومع الرب. لهذا فإن "قلب الملك في يد الرب"، هذا الذي يقودها ويسود عليها. القلب أيضًا ممتلئ بالروح، لأن الروح هي الجزء الحاكم في النفس، وهي قوة النفس. أقول إن القوة لا تكمن في الذراعين، بل في المشورة، وفي ضبط النفس، والتقوى، والعدل. إن كان قلب الإنسان في يد الرب فبالأكثر تكون نفسه
القديس أمبروسيوس

* إن كان "قلب الملك في يد الله"، فإنه لا يخلص بقوة الأذرع بل بالقيادة الإلهية. الآن ليس أي إنسان عشوائيًا هو في يد الله، وإنما من كان مستحقًا لاسم الملك
القديس باسيليوس الكبير

* بالتأكيد لا يشير النبي إلى ملوك هذا العالم، إذ هو مكتوب: "قلب الملك في يد الله".

هل تظن ولو إلى لحظة أن قلب يوليانوس الجاحد في يد الله؟ حاشا!

أو قلب نيرون أو مكسيميانوس أو ديوسيوس المضطهدين؟ حاشا!

إنه يتكلم عن أولئك الذين يتحكمون على الخطية، فالآن هؤلاء قلوبهم في يد الله ينتصرون على الرذائل وشهوات نفوسهم ويغلبون الخطية

*هل قلوب يوليانوس المضطهد أو نيرون أو ديوسيوس في يد الله؟ لا!

القلوب التي في يد الله هي قلوب الذين يسيطرون على أجسادهم ويخضعونها ويستعبدونها، لئلا وهم يكرزون للآخرين هم أنفسهم يُرفضون (1 كو 9: 27).

هؤلاء هم الملوك الذين يقول عنهم الحكمة في سفر الأمثال: "يعطي ملوكية للملوك" (راجع أم 8: 15)
القديس جيروم

* الله وحده الذي يعرف أسرار الإنسان. اسمع ما يقوله النبي: "أنت وحدك تعرف القلوب" (2 أي 6: 30)، وأيضًا: "الله يفحص القلوب ويملك" (مر 7: 9)، ويقول إرميا: "القلب عميق فوق كل الأشياء، وهو إنسان، من يعرفه؟!" (أم 21: 9). ينظر الإنسان الوجه، وأما الله فينظر القلب" (1 صم 16: 7)

* معرفة أسرار الناس تخص الله وحده... "القلب عميق أعمق من كل الأشياء، أنه إنسان، من يقدر أن يعرفه؟!" (أم 21: 9
القديس يوحنا الذهبي الفم

كُلُّ طُرُقِ الإنسان مُسْتَقِيمَةٌ فِي عَيْنَيْهِ،

وَالربُّ وَازِنُ القُلُوبِ [2].

أول عائق للتناغم مع إرادة الله الصالحة تبرير الإنسان نفسه، فيظن أن كل ما يفكر فيه وكل ما يسلكه هو حق، لهذا يقول الرسول بولس: "فإني لست أشعر بشيءٍ في ذاتي، لكنني لست بذلك مبررًا، ولكن الذي يحكم فيَّ هو الرب" (1 كو 4: 4).

يبرر الإنسان موقفه أمام نفسه كما أمام الناس، لكنه لا يقدر أن يبرر نفسه أمام الله وازن القلوب وفاحصها. يقول إرميا النبي: "القلب أخدع من كل شيء، وهو نجيس، من يعرفه؟" (إر 17: 9).

* أليس أولئك الذين يدينون خطاياهم مسيحيين حقيقيين أفضل من الذين يفكرون في الدفاع عنها؟ الإنسان البار يتهم نفسه في بدء كلماته (أم 18: 17 ). من يتهم نفسه عندما يخطئ فهو بار، وليس من يمدح نفسه
القديس أمبروسيوس

كوازنٍ للقلوب، يهتم الله باستقامة قلوبنا واتساعها بالحب الحقيقي واتسامها بالرحمة، فيقول: "أريد رحمة لا ذبيحة" (هو 6: 6؛ مت 9: 13؛ مت 12: 7).

* تُفتح الأبواب لكل شخصٍ يرجع إلى الله بالحق وبكل قلبه، ويتقبل الآب الكلي البهجة ابنه التائب حقيقة. والتوبة الحقيقية هي عدم الارتباط بعد بالخطايا التي جحدها... بل يستأصلها تمامًا من نفسه. فباقتلاعها يجعل الله مسكنه فيك. فقد قيل يوجد فرح عظيم بفيض، وعيد في السماويات مع الآب والملائكة عندما يرجع خاطئ ويتوب. هذا هو السبب الذي لأجله يصرخ "أريد رحمة لا ذبيحة"
القديس إكليمنضس السكندري

فِعْلُ العَدْلِ وَالحَقِّ أَفْضَلُ عِنْدَ الربِّ مِنَ الذبِيحَةِ [3].

إن كان الله هو القائد الخفي، فإنه يليق بالمؤمن أن يتعرف على إرادته خلال كلمته ليسلك حسب مشيئته الإلهية.

*يقول الله نفسه أنه يفضل الطاعة لوصاياه عن تقديم ذبائح الله. يعلن الله هذا، ويقوم موسى بإعلانه لشعب إسرائيل، ويكرز بولس بهذا للأمم. افعل ما تراه أفضل حاليًا
القديس أمبروسيوس

طُمُوحُ العَيْنَيْنِ وَانْتِفَاخُ القَلْبِ نُورُ الأَشْرَارِ خَطِيَّةٌ [4].

إن كانت كلمة الله تسند المؤمن - كملكٍ - فيملك الله على قلبه ويقوده حسب مشيئته الإلهية، فإن أخطر عدو يفسد القلب هو العيون العالية والقلب المتشامخ، حتى وإن قدم الإنسان أعمالاً تبدو مجيدة، أو نورًا، ما لم يرجع بروح التواضع إلى الله في توبةٍ صادقةٍ. لو أن حاكمًا لولاية تمرد على الإمبراطور، أو على رئيس الدولة، فإنه مهما فعل من أعمال تبدو مجيدة، يُوصَم بالتمرد، ما لم يرجع ويسلم أسلحته للإمبراطور أو الرئيس. هذا ما اتهم به بولس الرسول إسرائيل: "أشهد لهم أن لهم غيرة الله، ولكن ليس حسب المعرفة، لأنهم إذ يجهلون برّ الله ويطلبون أن يثبتوا برّ أنفسهم لم يخضعوا لبرّ الله" (رو 10: 2-3).

من تتعالى عيناه على إخوته، فينظر إليهم باستخفافٍ، حتى وإن لم ينطق بكلمةٍ واحدةٍ ضدهم، ينظر الله إلى أعمال برّه الذاتي كخِرقة الطامث. وكما يقول إشعياء النبي: "قد صرنا كلنا كنجسٍ، وكثوب عدة كل أعمال برّنا" (إش 64: 6).

* إن كان لأحد حب نحو الله، لكنه لا يعرف أن الحب يستلزم أن يكون صبورًا، لطيفًا، غير حاسدٍ، لا يصنع خطأ، ولا تشامخ، ولا يكون طماعًا، لا يطلب ما لنفسه وهكذا، فإنه إذ لا يكون له هذه الأمور في محبته، وإنما يحب الله بعواطفه المجردة، فبحقٍ يُقال عنه أن له محبة الله ولكن ليس حسب المعرفة
العلامة أوريجينوس

* إذ ينقاد كثيرون بروحهم واثقين في فضائلهم الذاتية، مكتفين فقط بالاستماع للناموس دون طلب معونة النعمة، هؤلاء ليسوا أبناء الله. أمثال هؤلاء يقول عنهم الرسول: "إذ كانوا يجهلون برّ الله، ويطلبون أن يثبتوا برّ أنفسهم، لم يخضعوا لبرّ الله" (رو10: 3). قال هذا عن اليهود الذين في اعتدادهم بذواتهم احتقروا النعمة ولم يؤمنوا بالمسيح.

إنه يقول إنهم أرادوا أن يقيموا برّهم، هذا البرّ الذي من الناموس. لا أنهم ينفذون الناموس، بل يقيموا برّهم في الناموس عندما يحسبون في أنفسهم أنهم قادرون على تنفيذ الناموس بقوتهم، جاهلين برّ الله، لا البرّ الذي لبولس الرسول، بل البرّ الذي يمنحه الله للإنسان
القديس أغسطينوس

2. الاجتهاد بروح البرّ

أَفْكَارُ المُجْتَهِدِ إِنَّمَا هِيَ لِلخِصْبِ،

وَكُلُّ عَجُولٍ إِنَّمَا هُوَ لِلعَوَزِ [5].

يليق بالمؤمن كقائدٍ روحي أن يكون مثالاً حيًا بسلوكه العملي، دائم العمل باجتهادٍ وأمانةٍ وفي غير تسرعٍ. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). فالاجتهاد فضيلة، بينما التسرع وعدم التروي خطأ. يليق بالمؤمن في اجتهاده أن يعرف ماذا يعمل، ومتى يعمل، وإلى أي مدى، بل ومتى يتوقف. فلا يليق به أن يفسد وقته وطاقاته وإمكانياته بدون حكمة. "العامل بيدٍ رخوة يفتقر، أما يد المجتهدين فتُغني" (أم 10: 4). "يد المجتهدين تسود، أما الرخوة فتكون تحت الجزية" (أم 12: 24)، "الرخاوة لا تمسك صيدًا، أما ثروة الإنسان الكريمة فهي الاجتهاد" (أم 12: 27). "نفس الكسلان تشتهي العسل ولا شيء لها، ونفس المجتهدين تسمن" (أم 13: 4).

هذا لن يتحقق بالتسرع في العمل. وكما يقول الحكيم: "المستعجل برجليه يخطئ" (أم 19: 2). "أرأيت إنسانًا عجولاً في كلامه، الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به" (أم 29: 20).

* يلزم كل واحد أن يستخدم بالكمال كل ما لديه لأجل الصالح العام. فإن كان لديك حكمة أو قوة أو غنى أو أي شيء آخر، فلا يكون ذلك لدمار العبيد زملائك ولا لدمارك أنت

* من أين يأتي التباين الكبير في أحوال الحياة؟ من طمع الأغنياء وغطرستهم
القديس يوحنا الذهبي الفم

جَمْعُ الكُنُوزِ بِلِسَانٍ كَاذِبٍ،

هُوَ بُخَارٌ مَطْرُودٌ لِطَالِبِي المَوْتِ [6].

الغنى في ذاته ليس شرًا، لكن جمعه بالكذب والاحتيال بروح الطمع مدمر للإنسان روحيًا واجتماعيًا وأحيانًا جسديًا. يروي كل من Vernon McGee, Henry Ironside في تعليقهما على هذه العبارة، قصة البدوي الذي كان يحتضر جوعًا، ووجد في طريق إحدى القوافل حقيبة، فظن أنه يجد فيها طعامًا أو علب عصير فاكهة. فتحها بسرعة ليعرف ما بها، فأُصيب يحالة من الإحباط الشديد وهو يقول: "يا للآسف إنها لآلئ!" حقًا إنها كنز ثمين، لكنها لا تقدر أن تشبع من يتضور جوعًا!

* لاحظ كيف أنه لا يوجد نزاع على الأشياء المشتركة، بل الكل يستخدمها في سلام. لكن بمجرد محاولة أحد أن يقتني شيئًا ويجعله حكرًا له، يظهر النزاع. كما لو كانت الطبيعة نفسها تحتج على هذا التصرف. فبينما يجمعنا الله بكل وسيلة نسعى نحن لننقسم وننفصل عن بعضنا، وذلك عن طريق تخصيص أشياء مع استخدام الكلمتين الباردتين "لي ولك". عندئذ تظهر الصراعات والبغضة، وحيث لا يحدث هذا لا يظهر نزاع أو صراع.

* لنتعلم من دروس الحكمة الحقيقية ونقول: إننا لا نمنع طلب الغنى، وإنما نمنع الثروات المكتسبة بطريقة غير مشروعة. فإنه لأمر شرعي أن تكون غنيًا، لكن بدون طمعٍ أو نهبٍ أو عنفٍ، وبدون سمعةٍ رديئةٍ لدى كل الناس.

القديس يوحنا الذهبي الفم

اِغْتِصَابُ الأَشْرَارِ يَجْرُفُهُمْ،

لأَنَّهُمْ أَبُوا إِجْرَاءَ العَدْلِ [7].

قد يقتني الإنسان الكثير بالظلم والاغتصاب، لكنه يفقد حياته وسعادته، بل ويهلك، إذ يرفض إجراء العدل. لا يقبل الله الاغتصاب، حتى لو قدم الإنسان ما اغتصبه للفقراء أو للكنيسة.

*ليتنا نضيف بصلواتنا أجنحة التقوى لصدقاتنا، ونصلي لكي تطير بسرعة أعظم إلى الله. علاوة على هذا فإن النفس المسيحية تدرك أهمية تجنب سرقة خيرات الآخرين، بإدراكها أن عدم مشاركة ما يزيد عن الحاجة مع المحتاجين هو نوع من السرقة.
القديس أغسطينوس

*عدم إعطاء الإنسان جزءِ من ممتلكاته للغير يُحسب بالفعل نوعًا من اللصوصية... يقول الرب: "أخذتم ما للفقراء". هذا ما يقوله ليوضح للأغنياء أن ما يمتلكونه يخص الفقراء, حتى وإن كان ميراثًا من آبائهم، أو حصلوا على بعض الأموال من أي مصدرٍ. يقول في موضع آخر: "لا تسلب الفقير معيشته" (سي 4: 1)
القديس يوحنا الذهبي الفم

*يلزمك أن تتجنب خطية الجشع، ليس برفض الاستيلاء على ما يخص الغير فحسب، وإنما أيضًا بعدم تعلقك بممتلكاتك الخاصة التي لا تصبح ملكك فيما بعد. يقول الرب: "وإن لم تكونوا أمناء في ما هو للغير، فمن يعطيكم ما هو لكم" (لو 16: 12). الذهب والفضة ليسا لنا، الذي لنا هو الميراث الروحي
القديس جيروم

طَرِيقُ رَجُلٍ مَوْزُورٍ هِيَ مُلْتَوِيَةٌ،

أَمَّا الزكِيُّ فَعَمَلُهُ مُسْتَقِيمٌ [8].

تنعكس علاقة الإنسان بالله على حياته، فإن كان متمردًا وعنيدًا تصير طرقه ملتوية كالحية، مقدمًا أعذارًا وتبريرات لتصرفاته. أما من له شركة مع الله، فيسلك بروح الله في استقامة، وينفر من كل خبثٍ واعوجاجٍ.

يقدم لنا الكتاب المقدس أمثلة للصنفين، فمن الذين تمردوا أخاب الملك وتبعه الشعب في هذا المسلك. لهذا "تقدم (إيليا) إلى جميع الشعب وقال: حتى متى تعرجون بين الفرقتين، إن كان الرب هو الله فأتبعوه، وإن كان البعل فأتبعوه" (مل 18: 21). ومن الذين سلكوا باستقامة دانيال النبي الذي حاول الوزراء والمرازبة أن يجدوا عليه علة للخلاص منه، "لم يقدروا أن يجدوا علة ولا ذنبًا، لأنه كان أمينًا، ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب" (دا 6: 4).

* بالحقيقة ليس شيء يجعل الناس أغبياء هكذا مثل ممارستهم عادات شريرة، عندما يكون الإنسان مخادعًا، عندما يكون ظالمًا، عندما يكون فظًا (وهذه بالتأكيد هي أشكال مختلفة لفعل الشر)، عندما يسدد ضربات مؤلمة دون سبب... عندما يستتر على تحايل، كيف لا يُظهر علامات غباوة كاملة؟
القديس يوحنا الذهبي الفم

* من يبني منزله من الظلم إنما يبني لِذاته شهادة الهلاك
القديس مار أفرآم السرياني


3. التمتع بالسلام الأسري

اَلسُكْنَى فِي زَاوِيَةِ السطْحِ،

خَيْرٌ مِنِ امْرَأَةٍ مُخَاصِمَةٍ وبَيْتٍ مُشْتَرِكٍ [9].

إذ كان قلب ميكال ابنة شاول مشغولاً بالمجد الباطل لم تستطع أن ترى رجلها - داود - يرقص متهللاً عند إحضار تابوت العهد إلى أورشليم، فقالت له في استخفاف: "ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم، حيث تكشف اليوم في أعين إماء عبيده كما يتكشف أحد السفهاء" (2 صم 6: 20).

مَثل آخر لزوجة تحمل روح المخاصمة، وهي امرأة أيوب، التي عوض أن تشدد رجلها في وقت الضيق، قالت له: "أنت متمسك بعد بكمالك، بارك (العن) الله ومت" (أي 2: 9).

لأهمية اختيار شريك حياة مقدس في الرب تكررت هذه العبارة في أمثال 25: 24، 21: 9.

لم يطلب الحكيم من الرجل أن يطرد الزوجة المخاصمة، إنما يحسب البيت للزوجة، ولا طلب منه أن يطلقها، ولا أن يدفعها للسكنى على سطح البيت، بل يقوم هو بالسكنى على السطح بعيدًا عن المحاورات الغبية، لعلها ترجع عن روح الخصام، ويعيش الاثنان بروح الحب في سلام.

* قلوب الأحبّاء لها أجنحة... الحب يمكن أن يتحوّل إلى بغضة، إن زحف إليه أسباب هامة لعدم الاحترام المتبادل.
القدّيس إكليمنضس السكندري

* إذ يعدّد الحكيم الأمور التي تُحسب بركات يذكر ضمنها "زوجة تتّفق مع رجلها" (سي 25: 1): وفي موضع آخر يذكر بين البركات أن تسكن امرأة في انسجام مع زوجها (سي 40: 23).

في الحقيقة من البداية أظهر الله اهتمامًا خاصُا بهذه الوحدة، وحسب الاثنين واحدًا. لقد قال: ذكرًا وأنثى خلقهما الله (تك1: 27)، وقيل: "ليس ذكر وأنثي" (غل 3: 28). أنه لا توجد علاقة بين إنسانٍ وآخر في قوّة العلاقة التي تقوم بين الرجل وامرأته، إن كانا مرتبطين معًا كما ينبغي!

لذلك عندما أراد الحكيم أن يعبّر عن الحب الفائض في حزنه علي شخص عزيز لديه... لم يشر إلى أب أو أم أو ابن أو أخ أو صديق، بل إلى ماذا أشار؟ إنه يقول: "محبتك لي أعجب من محبّة النساء" (2 صم 1: 26). حقًا إن هذا الحب عنيف أكثر من أي عنف، لأن الأنواع الأخرى (من الحب) قويّة، لكن هذا الود ليس فقط قويًا بل لا يذبل أيضًا.

يوجد حب معين مستقر في العمق، في طبيعتنا، يربط أجساد بعضنا البعض بطريقة لا تُدرك.

من البداية عينها خرجت المرأة من الرجل، وبعد ذلك يخرج كل رجل وامرأة من الرجل والمرأة معًا (1 كو 11: Cool.

أتدرك شدة الرباط وقوّة العلامة؟! كيف أن الله لم يسمح لطبيعة مغايرة أن تتدخّل من الخارج. لاحظ كيف امتلأت التدابير من العناية الإلهيّة؟! فإنه سمح للرجل أن يتزوّج أخته، لا ليس أخته بل ابنته، ليس ابنته بل ما هو أكثر من ابنته، إنها جسده! (هنا يشير إلى زواج آدم بحواء).

هكذا خلق الله الكل من بداية واحدة، فيجتمع بعضهم البعض كالحجارة في المبنى في وحدةٍ واحدةٍ.

لم يخلقها من الخارج حتى لا يشعر الرجل أنها غريبة عنه، ولا أوقف الزواج عندها وحدها، حتى لا تقتصر علي نفسها، وتظن أنها مركز الكل (هنا يقصد لا تقدر أن تنجِب بدون الرجل، وإلا لتشامخت عليه، ولما قامت المحبّة بينهما، إنّما شعورها بالحاجة إليه للإثمار يجعل من البنين علامة الاتحاد والحب بينهما). ليس هناك شيء يلحم حياتنا مع بعضنا البعض هكذا مثل حب الرجل وزوجته
القدّيس يوحنا الذهبي الفم

* إنكم تفضّلون خبزًا يابسًا يؤكل في البرية والملح والماء للشرب أفضل من الترف ومسرات الحياة في المدن المقترنة بمشاغلها وهمومها: "لقمة يابسة ومعها سلامة خيرٌ من بيت ملآن ذبائح مع خصام" (أم 17: 1). وكاتب سفر الأمثال - بقوله هذا منذ زمانٍ طويلٍ - كان يُنبئ عنكم، أيها الرهبان المحبوبون جدًا عند الله، أنكم أحرار من كل شيء. لا توجد عندكم امرأة لتغريكم بحليِّها، ولا بنون ولا بنات يثقِّلون عليكم بمطالبهم المتعدِّدة، ولا عبد يسرق نقودكم ويهرب بها، ولا اهتمامات لأجل الثراء لتحرمكم من نومكم، وكما يقول الجامعة: "أما الذي هو متخمٌ بالثروة فلن يتيسر له النوم" (جا 5: 11).
القديس أنبا سيرابيون أسقف تميّ


4. علاقات اجتماعية حكيمة

نَفْسُ الشرِّيرِ تَشْتَهِي الشرَّ.

قَرِيبُهُ لاَ يَجِدُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ [10].

يعكس الإنسان ما في قلبه على ما حوله وعلى من هم حوله، فكل شيء طاهر للطاهرين، ونجس للنجسين (تي 1: 15). فالشرير يرى كل شيء شريرًا، لا يرى إنسانًا فاضلاً أو تقيًا، ليس من يجد نعمة في عينيه. إنه لا يكف عن أن يدين كل أحدٍ.

* قال الأب إشعياء: "إذا خطر على بالك فكر دينونة على قريبك بسبب خطأ ما، فتفكّر أولاً في نفسك أنك خاطئ أكثر منه بكثير، والصلاح الذي تعتقد أنك تفعله لا تظن أنه أرضى الله، وبذلك فلن تتعرّض لخطر إدانة قريبك".

* وقال أيضًا: "لا تُدِن قريبك واحتقر ذاتك، وبذلك تشعر براحة الضمير".
بستان الرهبان

بِمُعَاقَبَةِ المُسْتَهْزِئ يَصِيرُ الأَحْمَقُ حَكِيمًا،

وَالحَكِيمُ بِالإرْشَادِ يَقْبَلُ مَعْرِفَةً [11].

بينما يحتاج الأمر إلى الشدة والحزم مع المجرمين المستهترين ليكونوا عبرة لغيرهم، فإن الحكماء وإن أخطأوا يحتاجون إلى النصح والإرشاد، فبروح الإقناع والحوار يُمكن تهذيبهم. لقد استخدم الرسول بولس الحزم الشديد مع المستهتر المقاوم للحق عليم الساحر (أع 13: 8-13) بينما اكتفى بالحوار مع بطرس وبرنابا.

سبق أن قدم سليمان الحكيم ذات المفهوم بقوله: "اَضرب المستهزئ فيتزكى الأحمق، ووبخ فهيمًا فيفهم معرفة" (أم 19: 25). ويقول الرسول بولس: "الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع لكي يكون عند الباقين خوف" (1 تي 5: 20).

* هنا توجد معضلة، كثيرًا ما تحدث. إن عاقبت إنسانًا ربما تهلكة، وإن لم تعاقبه ربما تُهلك إنسانًا آخر. أضيف بأنني أخطئ في هذا الأمر كل يوم
القديس أغسطينوس

* الحنو الزائف للشرير هو خيانة للحق، وعذر بالمجتمع، ووسيلة ليتعود الإنسان على التهاون مع الشر... "الذين يخطئون وبخهم" يقول الرسول، وقد أضاف في الحال السبب، قائلاً: "لكي يكون عند الباقين خوف"
القديس باسيليوس الكبير

اَلبَارُّ يَتَأَمَّلُ بَيْتَ الشرِّيرِ،

وَيَقْلِبُ الأَشْرَارَ فِي الشرِّ [12].

يرى بعض الدارسين مثل Joseph Parker أن البار هنا يُقصد به الله القدير Righteous One، فمع طول أناته على الشرير وكل أهل بيته، يتركه يزدهر إلى حين لعله يتوب، فإن لم يتب يرجع شره إليه.

غير أن البعض مثل متَّى هنري يرون أن البار هنا هو الحاكم أو القاضي البار، فإنه يبحث بكل اجتهاد قضية الشرير في دقةٍ حتى متى حكم عليه لا يظلمه.

على أي الأحوال فإن الإنسان البار يرى بيت الشرير يزدهر دون أن يتضايق ولا يضطرب لنجاحه، إنما يُصر على شركته مع الله مهما كانت تكلفتها، دون أن ينحرف مع الشرير، فيصير بذلك شاهدًا وديانًا للشرير يوم انهياره في يوم الرب العظيم، أو في الحياة الحاضرة، لأن نجاح الشرير لن يدوم.


5. روح العطاء

مَنْ يَسُدُّ أُذُنَيْهِ عَنْ صُرَاخِ المِسْكِين،ِ

فَهُوَ أَيْضًا يَصْرُخُ وَلاَ يُسْتَجَابُ [13].

في أمثال 19: 17 تأكيد من جانب الله أن من يرحم الفقير يُقرض الرب، الذي يرد له هذا القرض كضامنٍ لمخلوقه الفقير. هنا يحذر من سد الأذنين عن صرخات المسكين، فإن صرخاته هو أيضًا لا يُستجاب لها.

* من لا يرحم لا يُمكن أن يتأهل لمراحم الله، ومن لا يكون عطوفًا على طلبة الفقير لا ينال أية طلبة من الحب الإلهي بصلواته
الشهيد كبريانوس

* الإحسانات المُقدمة للمحتاجين من مكاسب ظلم غير مقبولة لدى الله. بل والذي يمتنع عن ممارسة الظلم ولا يشرك أحدًا في الخيرات التي يملكها لا يتأهل للمديح... إن كنت تقدم لله من ثمار الظلم والنهب، فكان من الأفضل ألا تملك مثل هذه الثروة عن أن تملكها وتعطي تقدمة
القديس باسيليوس الكبير

* ألاَ تتفقوا بأن الفقر- كما قلت - أكثر قسوة من أي حيوان مفترس؟ لهذا يلزمكم أن تساعدوا الذين يسقطون تحته.

أميلوا أذانكم للفقراء، وأصغوا إليهم، كما هو مكتوب: "من يسد أذنيه، فهو أيضًا يصرخ ولا يُستجاب" (أم 21: 13). أعطوا لكي تنالوا، اسمعوا لكي يُسمع لكم، اَغرسوا القليل الذي لديكم فتحصدوا الكثير. بجانب هذا فإن لذة الجسد هزيلة ومؤقتة وتنتهي بالفساد. أما من يمارس العطاء والمحبة للفقراء فيكلل بمجد من قبل الله، ويقودانه إلى السعادة غير الفاسدة التي يمنحها المسيح للذين يحبونه
القديس كيرلس الكبير

* إن العلاج لاستعطاف الله قد أُعطى لنا في كلمات الله نفسه، إذ تعلم التعاليم الإلهية الخطاة ما يلزمهم أن يفعلوه، وهو أن الله يكتفي بأعمال البرّ (خلال دم المسيح). فبالرحمة يستحقون غفران الخطية. وقد جاء في سليمان: "اغلق على الصدقة في أخاديرك (في قلب الفقير)، وهي تنقذك من كل شرٍ" (سي 29: 15).

وأيضًا "من يسد أذنيه عن صراخ المسكين، فهو أيضا يصرخ ولا يُستجاب" (أم 21: 13). لأن من لا يرحم لا يقدر أن يتأهل لمراحم الرب. ومن ليس لديه إنسانية تجاه طلبات الفقير، لا يستدر بصلواته أي نصيب من العطف الإلهي. هذا ما أعلنه الروح القدس في المزامير مؤكدًا "طوبى للذي ينظر إلى المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب" (مز 41: 1).

تذكر أية وصية قدمها دانيال لنبوخذنصر الملك عندما كان قلقًا وخائفًا من الحلم الخطير، مقدمًا له علاجًا ليحصل على عون إلهي ينتزع الشرور، إذ يقول: له "لذلك أيها الملك فلتكن مشورتي مقبولة لديك، وفارق خطاياك بالبرّ، وآثامك بالرحمة للمساكين..." وإذ لم يطعه الملك سقط تحت المصائب والشرور التي رآها، والتي كان يمكنه أن يهرب منها بالصدقات.

ويشهد روفائيل الملاك بمثل هذا حاثًا على إعطاء الصدقة باختيار وسخاء، إذ يقول: "الصلاة جيدة مع الصوم والصدقة، لأن الصدقة تنجي من الموت، وتطهر عن الذنوب" (طو 12: 8-9). إنه يظهر أن صلواتنا وأصوامنا ما لم تعينهما الصدقة تصير أقل نفعًا. لأن من يفعلها دون أن يسندها بالأعمال الصالحة تكون قوتها ضعيفة في بلوغ طلبته.

أعلن الملاك وأوضح وشهد بأنه بالصدقات تصير توسلاتنا فعّالة، وتصير الحياة بلا خطر، وتتخلص الروح من الموت
الشهيد كبريانوس


6. سلوك مقدس

اَلهَدِيَّةُ فِي الخَفَاءِ تَفْثَأُ الغَضَبَ،

والرشْوَةُ فِي الحِضْنِ تَفْثَأُ السخَطَ الشدِيدَ [14].

ليس ما يهدِّئ غضب الإنسان مثل تقديم هدية ممن غاضب عليه، على أن تُقدم بفكرٍ نقيٍ ونيةٍ صادقةٍ مشفوعة بروح التواضع ومساندة الرب له. تُقدم في الخفاء، وليس علانية مما يشكك الغاضب في نية مقدمها. ولعل في تقديمها في الخفاء لا يعطي للأشرار فرصة تشويه هذا العمل.

تقديم الهدايا بروح طيبة حتى بين أعضاء الأسرة تعطي سلامًا أفضل من كثرة الحوار والجدال ودفاع الإنسان عن نفسه. أما من يقدم الهدية كرشوةٍ لإفساد العدل، ونوال ما لا حق له فيه فهي مخزية ومعيبة.

يربط القديس أوغريس بين الهدية المادية والنية الصادقة والحياة المستقيمة.

* "هدية الإنسان" تُدعى الحياة المستقيمة. هذه الهدية تجعل له موضعًا، وتؤهله إلى كل ملء الله (أف 3: 19). إنها هي بعينها التي تُدعى عرش القوات المقدسة. بالحق عرش العقل هو الحالة السامية التي يبلغ أولئك الذين يجلسون في حالة ثابتة لا تتزعزع
القديس أوغريس

إِجْرَاءُ الحَقِّ فَرَحٌ لِلصدِّيقِ،

وَالهَلاَكُ لِفَاعِلِي الإثْمِ [15].

يفرح الصديق بالحق حتى وإن كان فيه خسارة مؤقتة، فإنه يثق في مكافأة الله له. أما الشرير فلا يتناغم مع الحق، إذ يتراءى له شره ويخشى العقاب الذي يتوقعه.

صاحب العمل الأمين وإن مرّ بضيقات مالية لكنه سينجح، أما المخادع والشرير فإنه وإن كسب الكثير سيخسر كل ما جمعه ظلمًا.

يفرح الصديقون لتحقيق العدالة في القضاء ومن جانب الحاكم، أما الشرير فيخشاها لئلا يحل يوم القضاء ضده!

لا يُعجب الصديق بنجاح الأشرار وسلوكهم مهما كان مركزهم الاجتماعي، أو قرابته له أو صداقته معه. إنه يعجب بالعدل والبرّ، لذلك قيل: "رفع وجه الشرير ليس حسنًا" (أم 18: 5).

* ليس حسنًا أن نُعجب من الأشرار، حتى وإن كان أحدهم له مركز هام، أو يغطي على ما هو حق بحديثٍ مُقنع. من يعجب بسلوك الأشرار إنما يُقر بالإثم الذي يوحي به الشيطان
القديس يوحنا الذهبي الفم

اَلرجُلُ الضالُّ عَنْ طَرِيقِ المَعْرِفَةِ،

يَسْكُنُ بَيْنَ جَمَاعَةِ الأخِيلَةِ [16].

من يضل عن طريق الحق يفقد طعم الحياة مهما نال من كرامات أو أمجاد أو ممتلكات، فيصير كمن يعيش في مجتمع الأرواح الشريرة "الأخيلة"، أو مجتمع الموتى. هذا ما حدث مع يهوذا حين خان سيده، فحسب نفسه في عدا د الموتى، وجاء انتحاره ترجمة واقعية لما يعيشه في داخله ويتخيله.

*ضلالة الرجل ألا يعرف الكتب؛ ويضل ضلالاً مضاعفًا من يعرفها ويتهاون بِها
القديس مار أفرآم السرياني

مُحِبُّ الفَرَحِ إِنسَانٌ مُعْوِزٌ.

مُحِبُّ الخَمْرِ وَالدهْنِ لاَ يَسْتَغْنِي [17].

يقصد بالفرح هنا الانغماس في الملذات والأفراح الزمنية، فيظن الإنسان أن لا طعم للحياة بدون الإسراف في الملذات، فيحل به الفقر المادي، والحرمان من الفرح الداخلي. هذا كان مصير الابن الضال المسرف، لكن رجوعه إلى حضن أبيه أنقذه مما حلّ به.

عبَّر عن الانغماس في الملذات هذا بحب الخمر والأطياب المبالغ فيها.

* يستخدم الكتاب المقدس الخمر دومًا بمعنى سري، كرمزٍ للدم المقدس، ويمنع أي إفراط في استخدامه
القديس إكليمنضس السكندري

* كل الذين أُعدوا ليصيروا تلاميذ يسوع يلزمهم الامتناع عن الخمر المسكر
القديس باخوميوس

*يصير الذين يأكلون الخبز السماوي سمائيين دون شكّ! تعلمنا الخمر أنها تجعل الذين يشغفون بها يشبهونها، فهي تبغض المولوعين بها، وتجعلهم سكرى وفي خبلٍ وموضوع سخرية
القديس مار أفرآم السرياني

*"محب الفرح إنسان معْوَز؛ محب الخمر والدهن لا يستغني" (أم 21: 17).

إنه في كمال الوضوح لا يستطيع أحد أن يقترب من طهارة الله ونقاوته دون أن يتطهَّر أولاً. لذلك لابد أن نقيم فواصل عالية وقويَّة بيننا وبين الملذَّات الجسديَّة، لأننا حين نقترب من الله ينبغي ألاَّ تتدنَّس طهارة قلوبنا ثانيةً. يعلِّمنا المختبرون أنه كما تنفصل المياه إلى تيَّارات كثيرة من جدولٍ واحدٍ. فاللذَّة تنشر نفسها على محبِّيها من خلال الحواس والطرق المؤديَّة إليها. والشخص الذي يخضع للذَّة خلال أيَّة حاسة، يكون قد جرح نفسه بتلك الحاسة. وهذا يتَّفق مع تعليم المسيح: من ارتضى باللذَّة عن طريق العين يكون قد تلقَّى الخطيَّة في القلب. لذلك يمكننا أن نضيف إلى قوله: من يسمع... من يلمس، أو من يستخدم أيّة حاسة لخدمة ملذَّاته يكون قد أخطأ في قلبه... ولكي نمنع ذلك لابد أن نضبط ذواتنا وحياتنا. يجب علينا ألاَّ ندع عقولنا تسكن حيث تقع الشهوة. في كل شيء نفعله يجب أن نختار ما يفيدنا. ونترك الباقي الذي قد يؤذي الحواس
القدِّيس غريغوريوس النيسي

الشرِّيرُ فِدْيَةُ الصدِّيقِ،

وَمَكَانَ المُسْتَقِيمِينَ الغَادِرُ [18].

تقتضي العدالة معاقبة الشرير المجرم، فيخلص الإنسان البار أو الصديق، ويلزم معاقبة الغادر حتى يجد المستقيمون لهم موضع راحة.

لعله يشير هنا إلى نزع الخميرة الشريرة حتى لا يفسد العجين كله. اضطر يشوع بن نون إلى معاقبة عخان بن زارح حتى يرجع الرب عن حمو غضبه (يش 7: 17-26). وخرب فينحاس الكاهن الرجل الإسرائيلي ومعه المرأة الوثنية المديانية اللذين دخلا إلى خيمة الاجتماع، فامتنع الوباء عن الشعب (عد 25: 6-11).

*أيها الحبيب منذ حداثتك اختر التأديب، فتجده في شيخوختك عقلاً وفهمًا
القديس مار أفرآم السرياني

شكرًا الله الذي في محبته بذل ابنه القدوس ليهبنا برَّه، فصار كلمة الله المتجسد ذبيحة إثم عنا.

السكْنَى فِي أَرْضٍ بَريَّةٍ،

خَيْرٌ مِنِ امْرَأَةٍ مُخَاصِمَةٍ حَرِدَةٍ [19].

ليس شيء أمر من أن يعيش الإنسان في بيت فيه خصام، فالسكنى في زاوية السطح أو في برية قاحلة أفضل من الوجود في بيت فيه خصام.

* "السكنى في أرضٍ برية خير من امرأة مخاصمة خردة" (أم 21: 19). لذلك فلتظهرن أيتها الزوجات تقواكن بتواضعكن ووداعتكن لكل الذين هم خارج الكنيسة، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، وذلك لهدايتهم وتقدمهم في الإيمان. وإذ نحن نحذركم ونرشدكم في اختصار، إذ نعتبركن أخوات وبنات وأعضاء لنا، لتسلكن بحكمة، وتحفظن أنفسكن في طريق الحياة بلا لوم. لتطلبن أن تعرفن مثل هذا النوع من التعلم الذي به تبلغن إلى ملكوت ربنا وتسرن إياه، وتسترحن إلى أبد الأبد
قوانين الرسل

كَنْزٌ مُشْتَهى وَزَيْتٌ فِي بَيْتِ الحَكِيمِ،

أَمَّا الرجُلُ الجَاهِلُ فَيُتْلِفُهُ [20].

يتطلع الإنسان الحكيم إلى المستقبل، حين تضعف قدرته على العمل فيجد ما قد اكتنزه في أيام شبابه، يجد مصباح حياته لا ينقصه زيت. أما الجاهل فيسرف في اللهو، ويتلف ما كسبه، ويصير في عوزٍ. هكذا يعيش أولاد الله، إذ يتطلعون إلى المستقبل الأبدي، ويجمعون كنوزًا خلال عمل النعمة الإلهية بالحب لله وللقريب، فمتى جاء العريس السماوي يجد له موضعًا مع العذارى الحكيمات اللواتي يأخذن زيتًا في آنيتهن مع مصابيحهن، ويدخل العرس السماوي (مت 25: 4-7).

يري البابا غريغوريوس (الكبير) أنه يفهم من الكنز هنا الهدايا التي قدمها المجوس من ذهبٍ ولبانٍ ومُرٍ هدايا روحية. فالذهب يشير إلى تقديم كلمة الحكمة الصادرة من فهم المؤمن، واللبان هو الصلاة، والمُر هو إماتة الجسد.

*يوجد ما يفهم بالأكثر من جهة الذهب والبخور واللبان والمر. يشهد سليمان أن الذهب يرمز للحكمة عندما يقول: "كنز مُشتهى يكمن في فم الحكيم" (أم 21: 20 LXX). يشهد المرتل عن البخور أنه الصلاة المقدمة لله، إذ يقول: "لتصعد صلاتي كبخور أمام عينيك" (مز 140: 2 LXX). ويشير المُر إلى إماتة أجسادنا حيث تتحدث الكنيسة المقدسة عن العاملين فيها، المجاهدين حتى الموت من أجل الله: "يداي تقطران مُرًا". هكذا نحن نقدم ذهبًا عندما نتلألأ أمام عينيه ببهاء الحكمة التي من فوق. وأيضًا نقدم له بخور إن كنا نحرق على مذبح قلوبنا أفكارنا البشرية بإتباع الصلاة، فتقدم رائحة طيبة يشتمها الله برغباتنا السماوية. ونقدم المُر إن كنا نميت رذائل أجسادنا بإنكار الذات
البابا غريغوريوس (الكبير)

* (عن الحيوانات الطاهرة والحيوانات الدنسة) هكذا أولئك الذين يسمعون بإهمال، يمكن القول إنهم يبتلعون ما يسمعونه، فلا يعودون يتذوقونه في أفواههم، بل يدفنون ما يسمعونه تحت النسيان. أما الذين يتأملون في ناموس الرب نهارًا وليلاً (مز 1: 2)، فإنهم يجترونه، كمن يتمتعون بنكهة الكلمة بنوع من حاسة التذوق للقلب
القديس أغسطينوس

اَلتابِعُ العَدْلَ وَالرحْمَةَ،

يَجِدُ حَيَاةً حَظًّا وَكَرَامَةً [21].

بالشركة مع القدوس يتمتع المؤمن ببرّ المسيح، وينعم بسمة الرحمة، فيقوم كما من الموت إلى الحياة، ومن عار الخطية إلى كرامة أولاد الله ومجدهم. البرّ والرحمة يرفعان راية المؤمن بل والشعوب، والخطية تحدر الإنسان إلى الهاوية والعار الأبدي.

اَلحَكِيمُ يَتَسَوَّرُ مَدِينَةَ الجَبَابِرَةِ،

وَيُسْقِطُ قُوَّةَ مُعْتَمَدِهَا [22].

الحكمة فوق القوة، فكم من دول عظيمة كانت تعتمد على حصونها وجيوشها وقدراتها لكنها انهارت أمام أناس حكماء.

إن كان عدو الخير يظن في نفسه أنه رئيس هذا العالم، فبحكمة الصليب انهار، إذ به "جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا، ظافرًا بهم" (كو 2: 15).

* "الشخص الحكيم يهاجم المدن القوية، ويحطم الحصون التي يعتمد عليها الأشرار" (راجع أم 21: 22)؟ هل تظن أن سليمان عندما قال هذا يريد أن يعلمنا أن الشخص الحكيم يهاجم مدنًا ويحطم حصونًا مبنية من الحجارة؟ بل بالحري أنه يشير إلى المدينة والأسوار التي هي تعاليم الأشرار والقياسات المنطقية للفلاسفة التي بها يضيفون كل شرٍ مضاد للشريعة الإلهية والتي يمارسها الوثنيون والبرابرة وتلك الأمور التي يضعها الهراطقة كبراهين مقتبسة من الكتاب المقدس كجبالٍ عالية. يلزم أيضًا اعتبار هذه بين المدن المحصنة والمقامة على الجبال، مثل هذه المدن يحطمها الإنسان الحكيم الذي يعلن كلمة الحق
العلامة أوريجينوس

مَنْ يَحْفَظُ فَمَهُ وَلِسَانَهُ،

يَحْفَظُ مِنَ الضيقَاتِ نَفْسَهُ [23].

كثيرًا ما يردد سفر الأمثال، بل الكتاب المقدس ككل، ضرورة ضبط اللسان وتقديس الفم، حتى يصرخ المرتل طالبًا حراسة إلهية على فمه: "ضع يا رب حافظًا لفمي، وبابا حصينًا لشفتيّ". مع كل صباح يجدد المؤمن هذه الطلبة في صلاة باكر.

*يقف اللسان في الوسط مستعدًا لأي الاستعمالين، وأنت هو سيده. هكذا يوجد أيضًا السيف في الوسط، إن استخدمته ضد العدو يصير أداة لإنقاذك، وإن جرحت به نفسك يصير علة موتك، ليس السيف بل عصيانك للناموس. لنفكر في اللسان بنفس الكيفية، كسيفٍ في الوسط. اجعله حادًا لتتهم نفسك على خطاياك، ولا تستخدمه لجرح أخيك.

لهذا فقد أحاط الله اللسان بحائط مزدوج - بحاجز من الأسنان وسورٍ من الشفتين - حتى لا تنطق بسهولة، وتسرع بكلمات لا يجوز النطق بها
القيس يوحنا الذهبي الفم

المُنْتَفِخُ المُتَكَبِّرُ اسْمُهُ "مُسْتَهْزِئٌ،

عَامِلٌ بِفَيَضَانِ الكِبْرِيَاءِ [24].

يرى الحكيم الإنسان المتشامخ في زهو الكبرياء غارقًا في فيضان مُهلك، تلعب به أمواج الكبرياء وهو لا يدري. إنه موضوع سخرية واستهزاء.

*لا يوجد شيء تتكبر به، فإن من يغطس إلى حالة الكبرياء ينال النتائج الواردة في النص: "قبل الكسر يتكبر قلب الإنسان، وقبل الكرامة التواضع". هذه الكلمات أيضًا تخص النص: "اسمعوا واصغوا، لا تتعظموا لأن الرب تكلم" (إر 13: 15)
العلامة أوريجينوس

* لأنه في الكبرياء يسكن القائل: "اصنع بقوتي وبحكمة فمي اَنتزع تخوم الأمم واَرتقي قوتِهم وأزلزل مدنًا مسكونة، وأتناول المسكونة كلها بيدي مثل عش، وأحملها كبيضٍ مهملٍ ولا يفلت أحد مني أو يقاوم قولي". لكن الرب الإله رب الأجناد يرسل إلى كرامتك هوانًا وإلى شرفك نار متوقدة تحرق. وأيضًا أنت قلت في ذهنك لأصعد إلى السماء وأضع كرسيَّ فوق نجوم السماء، وأجلس في الجبل الشامخ على الجبال الشاهقة نحو الشرق، واَرتقي فوق الغيوم، أكون نظير العليّ. فالآن إلى الهاوية تنزل، وإلى أساس الأرض. لنهرب منذ الآن من الكبرياء التي يبغضها الرب، ولنحب تواضع العقل، الذي به أرضى جميع الصديقين الرب، لأن تواضع العقل قربان جسيم قدره، وشرف عظيم، ونجاح نفيس، وكرامة جزيلة للذين قد اقتنوه، لأن فيه سعي لا يُمسك وحكمة كاملة، لأنه باستعلاء الرأي ذل قدر ذلك الفريسي، وبتواضع العقل اِرتفع شأن العشار الذي معه

القديس مار أفرآم السرياني

شَهْوَةُ الكَسْلاَنِ تَقْتُلُهُ،

لأَنَّ يَدَيْهِ تَأْبَيَانِ الشُّغْلَ [25].

اَليَوْمَ كُلَّهُ يَشْتَهِي شَهْوَةً،

أَمَّا الصدِّيقُ فَيُعْطِي وَلاَ يُمْسِكُ [26].

ينشغل الإنسان الكسلان بالأفكار والأوهام، وشهوته أن يجمع ويكنز، وإن كان يأنف من العمل، حاسبًا في الخمول صحة لجسده، وقدرة على ابتزاز الغير. أما الصديق فيتشبه بالله الدائم العمل، كقول السيد المسيح نفسه: أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17). يتشبه الصديق بمخلصه الذي يعطي بسخاء. يقول الرسول: لا تنظروا كل واحدٍ إلى ما هو لنفسه، بل كل واحدٍ إلى ما هو للآخرين أيضًا. فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا" (في 2: 4-5).

* عدم وجود شر نهائيًا أمر يخص الملائكة، وأن توجد شهوات شريرة أحيانًا، وأحيانًا أخرى لا توجد فهذا يخص البشر. وأن توجد شهوات شريرة على الدوام فهذا يخص الشياطين. تعبير "اليوم كله" يعني يوم الحياة. لهذا أيضًا: "كن في مخافة الرب اليوم كله" تعني الحياة كلها
القديس مار أوغريس

ذَبِيحَةُ الشرِّيرِ مَكْرَهَةٌ،

فَكَمْ بِالحَرِيِّ حِينَ يُقَدِّمُهَا بِغِشٍّ! [27].

لا يمارس الإنسان الشرير الشركة مع الله، ولا يطيع وصاياه، ويخضع له، فلا يقبل الله ذبيحته وعبادته، لأنها تصدر عن الرياءً، فماذا لو أضاف إلى شره الغش حتى في الذبيحة نفسها أو العبادة. إنها مكرهة في عينيّ الله.

شَاهِدُ الزُّورِ يَهْلِكُ،

وَالرجُلُ السامِعُ لِلْحَقِّ يَتَكَلَّمُ [28].

الإنسان الشرير في وقاحة وجه لا يعتد بالوصية الإلهية ولا يبالي بالقوانين الوضعية للمجتمع، إنما يسلك في طريق الشر المعوج ولا يبالي. أما الإنسان المستقيم فيجد في الوصية الإلهية لذته، ويخضع للقوانين الوضعية برضاه، لأنها تسنده في طريق استقامته.

قد يبلغ شاهد الزور إلى هدفه لكن إلى حين، غير أن هلاكه قادم لا محالة. أما من ينطق بالحق، فكلمته وإن قاومها البعض إلى حين لكن سيُسمع له.

لقد شهد الأشرار كذبًا على السيد المسيح (مت 26: 59-64؛ 27: 11-14)، وصُلب السيد حسب خطة رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين، لكن هلك الشهود وظهر بطلان شهادتهم. واعترف السيد المسيح الاعتراف الحسن في محاكماته، ولم يبالِ أحد به، لكن تمجد السيد المسيح، وبلغت الكرازة به إلى أقصى الأرض.

* يوجد شهداء حقيقيون وشهداء كاذبون، حيث يوجد شهود حقيقيون وشهود كاذبون. لكن الكتاب يقول: "شاهد الزور لا يتبرأ (من العقاب)" (أم 19: 5). إن كان شاهد الزور لن يهرب من العقوبة، فإنه الشاهد الحقيقي لا يحرم من الإكليل. حقًا أنه من السهل أن تحمل شهادة للرب يسوع المسيح، وللحق، لأنه هو الله، أما أن تفعل هذا (أي تشهد له) حتى الموت، فهذا عمل عظيم
القديس أغسطينوس

اَلشرِّيرُ يُوقِحُ وَجْهَه،

أَمَّا المُسْتَقِيمُ فَيُثَبِّتُ طُرُقَهُ

لَيْسَ حِكْمَةٌ وَلاَ فِطْنَةٌ وَلاَ مَشُورَةٌ تُجَاهَ الربِّ

لا تقف حكمة بشرية ولا فهم ولا مشورة ضد الله، وكما يقول الرسول بولس: "لأننا لا نستطيع شيئًا ضد الحق، بل لأجل الحق" (2 كو 13: Cool.

كان شاول الطرسوسي يظن أنه قادر على تحطيم الحق الإنجيلي، لكنه في الوقت المناسب سمع الصوت الإلهي يقول له: "أنا يسوع الذي أنت تضطهده، صعب عليك أن ترفس مناخس" (أع 9: 5).

يقول البابا غريغوريوس (الكبير) إن هيرودس ظن أن يخطط ضد المسيح، لكنه فشل في أن يجده، إذ صدر تحذير للمجوس في الحلم ألا يرجعوا إلى هيرودس (مت 2: 7). [هكذا عجز هيرودس عن أن يجد يسوع الذي كان يطلبه. يرمز هيرودس إلى كل الذين يطلبون الرب باطلاً، فإنهم لن يبلغوه.]

*وأكثر من هذا يسأل داود الله طالبًا الفهم حتى يدرك وصايا الله، بالرغم من معرفته معرفة تامة أنها مكتوبة في كتاب الشريعة، فيقول: "عبدك أنا، فهِّمني فأعرف شهاداتك" (مز 119: 125).

بالتأكيد كان لدى داود الفهم الموهوب له بالطبيعة، كما كان لديه إلمام تام بمعرفة وصايا الله المحفوظة في كتاب الشريعة، ومع هذا نجده يظل مصليًا إلى الله لكي يعلمه الشريعة بإتقان، فما حصل عليه من فهم حسب الطبيعة لا يكفيه، ما لم يُنر الله علي فهمه يوميًا، لكي يفهم الشريعة روحيًا، ويعرف وصاياه بوضوح.

كذلك أعلن الإناء المختار هذا الأمر "لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرَّة" (في 2: 13). أي وضوح أكثر من هذا أن مسرتنا وكمال عملنا يتم فينا بالكمال عن طريق الله؟! وأيضًا "لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألموا لأجله"، وهنا يعلن بأن توبتنا وإيماننا واحتمالنا للآلام هذا كله عطية من الله.

يعلم داود أيضًا بذلك، فيصلي مثله لكي يوهب له هذا من قبل رحمة الله، قائلاً: "أيّد يَا الله هذا الذي فعلتهُ لنا" (مز 68: 28)، مظهرًا أنه لا يكفي فقط أن يوهب لنا بداية الخلاص كهبة ونعمة من قبل الله، بل ويلزم أن يكمل ويتمم بنفس تحننه وعونه المستمر.

لأن ليس بإرادتنا الحرة، إنما "الرب يطلق الأسرى"،

ليس بقوتنا، لكن "الرب يُقوّم المُنحنين"،

ليس بالنشاط في القراءة، بل "الرب يفتح أعين العُمْي"،

ليس نحن الذين نعتني بل "الرب يحفظ الغرباءَ"،

ليس نحن الذين نُعضد، إنما الله "يُعضد اليتيم والأرملة" )مز 146: 7-9(.

ما أقوله هذا لا يعني أننا نستهين بغيرتنا وجهودنا ونشاطنا كأنها غير ضرورية، أو نستخدم الحماقة، بل ينبغي علينا أن نعرف أننا لا نستطيع أن نجاهد بدون معونة الله، ولا يصير لجهادنا أي نفع للحصول علي عطية النقاوة العظمى، ما لم توهب لنا بواسطة المعونة والرحمة الإلهية، لأن "الفرس مُعدّ ليوم الحرب. أما النُصرة فمن الرب" (أم 21: 31)، "لأنهُ ليس بالقوَّة يغلبُ إنسان" (1 صم 2: 9).

يلزمنا أن نسبح مع الطوباوي داود قائلين: "قوتي وترنُّمي" ليس بإرادتي الحرة ذاتها. ولكن "هو الرب وقد صار لي خلاصًا"
الأنبا بفنوتيوس

7. نصرته في الرب

اَلفَرَسُ مُعَدٌّ لِيَوْمِ الحَرْبِ،

أَمَّا النُّصْرَةُ فَمِنَ الربِّ

الاتكال على الله، والثقة في أنه يهبنا النصرة، لا يدفعنا للخمول والتواكل، بل للعمل بإعداد الفرس ليوم الحرب، مع تأكدنا أن النصرة هي من الرب. لقد أدرك داود النبي ذلك، فترنم قائلاً: "الرب نوري وخلاصي، ممن أخاف؟ الرب حصن حياتي، ممن أرتعب؟ وإن نزل عليّ جيش لا يخاف قلبي. إن قامت عليّ حرب، ففي ذلك أنا مطمئن" (مز 27: 1-3).

عندما وقف آسا الرجل الصالح أمام زارح الكوشي بجيشه الضخم، دعا آسا الرب إلهه، وقال: أيها الرب، ليس فرقًا عندك تُساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة، فساعدنا أيها الرب إلهنا. لأننا عليك اتكلنا، وباسمك قدمنا على هذا الجيش (2 أي 14: 11).

نصرتنا في حربنا ضد إبليس وكل قواته، وضد الخطية كما ضد العالم الشرير هي من الرب.

* لقد فقدتم الفردوس، لكن الله وهبكم السماء، حتى يؤكد حنوه، وأنه يهزم إبليس، مظهرًا أنه حتى إن أتقن عشرات الألوف من الخطط ضد الجنس البشري، فإنها لن تفيده، حيث يقودنا الله دائمًا إلى كرامة أعظم.

أنتم فقدتم الفردوس (جنة عدن)، والله فتح لكم السماء.

لقد سقطتم تحت الدينونة بالتعب إلى حين، وقد كُرمتم بالحياة أبديًا.

يأمر الله الأرض أن تنبت شوكًا وحسكًا، أما تربة الروح، فتنبت لكم ثمرًا. ألا ترون أن الربح أعظم من الخسارة؟
القديس يوحنا الذهبي الفم

* في اللحظة التي فيها لا نزال وسط المعركة نُحارب ونُجرح، نسأل أنفسنا: من الذي يغلب؟

الغالب أيها الاخوة هو ذاك الذي يعتمد علي الله الذ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 01, 2012 12:46 am

الاصحاح الثانى والعشرون

الغِنى والفقر


في هذا الأصحاح يقدم لنا سليمان الحكيم، الذي لم يكن في أيامه من بلغ حكمته ومجده وغناه، المفهوم الحقيقي للغنى، والثروة الحقيقية التي يلزمنا أن نطلبها ونسعى لأجلها. كما قدم لنا دستورًا للتعامل يليق بالمؤمن غنيًا أم فقيرًا أن يلتزم به.

1. الغنى والفقر 1.

2. المساواة بين الغني والفقير 2.

3. التزام الكل بالاستقامة 3-5.

4. اهتمام الكل بتربية الأبناء 6.

5. الظلم الاجتماعي 7-9.

6. نصائح إيجابية وسلبية 10-16.

7. الالتجاء إلى مشورة الحكماء 17-21.

8. الاهتمام بالفقراء 22-23.

9. مصاحبة الغضوب 24-25.

10. الحكمة في ضمان الغير 26-27.

11. وديعة التقليد 28.

12. الاجتهاد 29.


1. الغنى الحقيقي

الصيتُ افْضَلُ مِنَ الغِنَى العَظِيمِ،

والنعْمَةُ الصالِحَةُ افْضَلُ مِنَ الفِضَّةِ والذَّهَبِ [1].

يُقصد بالصيت هنا "الاسم"، ليس اسم الإنسان الذي دعاه به والداه يوم ولادته، ولا الذي قام هو بتغييره لسبب أو آخر، إنما ما حمله اسم الإنسان من سمات شخصيته التي صار إليها.

حينما نتحدث عن داود نتطلع إليه كشخص له سمات معينة، قلبه صار أيقونة لقلب الله. لقد استخف به أخوه الأكبر، قائلاً: "لماذا نزلت؟ وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية؟ أنا علمت كبرياءك وشر قلبك، لأنك إنما نزلت لكي ترى الحرب" (1 صم 17: 28). لكن إذ كرس داود قلبه وحياته للرب، لم يصر أول ملك بار على شعب الله فحسب، وإنما إليه نُسِبَ السيد المسيح، فدُعيَ "ابن داود". هذا هو غناه الأفضل من كل غنى وكل مملكة زمنية.

لقد ترك الرسل والتلاميذ كل شيء، وتبعوا السيد المسيح، فنالوا النعمة الصالحة: واسم المسيح الصالح أفضل من الذهب والفضة. اعتز الرسول بطرس بهذه النعمة، قائلاً للأعرج: "ليس لي فضة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإياه أعطيك، باسم يسوع الناصري، قم واِمشِ" (أع 3: 6).

* الصيت أفضل من المال، والنعمة الصالحة أفضل من أكوام من الفضة. الإيمان نفسه يعزز ذاته، إنه غنى فيه الكفاية، بل وأكثر من اقتناء الغنى.

ليس من شيء لا يقتنيه الشخص الحكيم إلا ما هو ضد الفضيلة، وأينما ذهب يجد كل الأشياء ملكًا له. العالم كله في ملكيته، حيث يخدمه كملك له
القديس أمبروسيوس

* إن قيل إن غالبيتنا فقراء فهذا هو مجدنا، وليس عارًا علينا.

فكما أن الذهن يصير واهنًا بالترف، ويتقوى بالتدبير باقتصادٍ، مع هذا من يقدر أن يكون فقيرًا ولا يشعر بعوزٍ، ولا يشتهي ما لدى الغير، فهو غني في حكم الله.

إنه أكثر فقرًا الإنسان الذي وإن كان لديه الكثير لكنه يشتهي ما هو أكثر...

سعيد هو هذا الذي يعرف كيف يرفع نفسه فوق فقره أكثر من أن يتأوه تحت ثقل الغنى. ومع هذا إن كنا نظن أن الثروة نافعة لنا نطلبها من الله، فبالتأكيد ذاك الذي هو مالك كل الأشياء يستطيع أن يهبنا نصيبًا. لكننا نحن نفضل أن نزدري بالثروة عن أن نلمسها.

أفضل من الثروة نحن نطلب البراءة، ونفضل أن نسأل الصبر، ونستحسن أن نكون صالحين عن أن نكون ضالين
مينيكوس فيلكس


2. المساواة بين الغني والفقير

الغَنِيُّ والفَقِيرُ يَتَلاقَيَانِ.

صَانِعُهُمَا كِلَيْهِمَا الربُّ [2].

اهتم الكتاب المقدس بإبراز أن الله "صنع من دم واحدِ كل أمة من الناس يسكنون على وجه الأرض" (أع 17: 26). فالبشرية تمثل أسرة واحدة، تنتسب إلى أبٍ واحدٍ وأمٍ واحدةٍ. يؤكد الكتاب المقدس أن الله هو خالق كل البشرية، وعنايته تمتد إلى الجميع، قدم الخلاص من أجل العالم كله، غير أنه ترك للإنسان حرية الإرادة ليُنتسب لله كأبٍ له أو لإبليس (1 يو 10: 3).

الله خالق الجميع، لكن لن يُلزم أحدًا أن يقبل البنوة له، فيقول للجاحدين: "أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو 8: 44).

* "الفقير والغني يتلاقيان". أين يتلاقيان؟ في هذه الحياة. هذا الشخص يُولد، وذاك يُولد، وحياتهما تعبران، إنهما يلتقيان. ومن الذي خلقهما؟ الرب. ليساعد الغني الفقير، وليمتحن الفقير الغني

إنكما تلتقيان معًا، إذ تسيران معًا كل الطريق. يليق بالفقير ألا يحتال على الغني، والغني ألا يضغط على الفقير. الواحد محتاج، والثاني لديه فيض، لكن الرب خالق الاثنين. يعين الرب المحتاج بواسطة الذي لديه. ويُختبر من له بواسطة ذاك الذي ليس له

*كلكم ترحلون في ذات الطريق، إنكم معًا في صحبة في الرحلة. يخفف الفقراء الحمل عن أكتاف الناس، ولكنكم أنتم مثقلون بحملٍ ثقيلٍ. انزعوا عنكم نصيبًا من الحمل الذي يثقل عليكم.

أعطوا شيئًا من أحمالكم للفقير. بهذا تستريح أنت ورفيقك. يقول الكتاب: "الفقير والغني يتلاقيان، صانعهما كلاهما الرب" أين يلتقيان؟ إلا في هذه الحياة؟ الواحد يلتحف بثيابٍ ثمينة، بينما الآخر بخرقٍ. متى يلتقيان؟ كلاهما وُلدا عريانان، حتى الغني وُلد فقيرًا. ليتجاهل أنه وجد (ثيابًا) عندما جاء، وليتأمل أي شيء جلبه معه عند ميلاده.
القديس أغسطينوس

*جميعنا متساوون بالطبيعة

* (خلقت البشرية في الأصل متكاملة)، لكل واحدٍ سلطان أن يدير نفسه بلا سيدٍ، يقود حياته بلا حزن ولا تعب؛ فماذا يعني أن تُقاد (بأوامر السيد عليك) إلا أن تُستعبد؟!

* ليست الطبيعة بل (حب) السلطة هو الذي قسم البشرية إلى عبيد وسادة

* الله وهب البشرية حق تقرير مصيرها (ليس للسيد أن يتحكم في حياة العبد)

* هذا الذي يخضع لك بالعادة والقانون، هو مساوٍ لك في كرامة الطبيعة

* أن تُقسم الخليقة التي يليق بها بحق الطبيعة أن تمارس المساواة، إلى عبيد وقوة حاكمة، قسم يأمر والآخر يخضع، هو طغيان واغتصاب للنظام الذي وضعه الله

* (العبودية هي) فقدان لتكامل الكائن الحي

* حالة الاستقلال والحرية هي ميل (طبيعي) للحكمة وتحرك لإرادة الإنسان

* أعظم مشكلة للحرية هي أن يكون الإنسان سيد نفسه
القديس غريغوريوس النيسي


3. التزام الكل بالاستقامة

الذكِيُّ يُبْصِرُ الشرَّ فَيَتَوارَى،

والحَمْقَى يَعْبُرُونَ فَيُعَاقَبُونَ [3].

بحسب الطبيعة ليس لدى البار إمكانيات أعظم من الشرير، ولا الحكيم من الأحمق، لكن البار يرى الشر من بعيد فيحتمي في الله ملجأه، ويطلب غنى نعمته لتعمل فيه. وكما قيل: "ويكون إنسان كمخبأ من الريح، وستارة من السيل، كسواقي ماء في مكانٍ يابسٍ، كظل صخرةٍ عظيمةٍ في أرضٍ معيبةٍ" (إش 32: 2). أما الأحمق فيعبر دون الالتجاء إلى الله." فالغني كما الفقير يمكن لكليهما أن يسلكا في البرّ إن كانا حريصين على خلاصهما كما يمكن لهما أن يختارا الشر بإرادتهما.

ثَوابُ التواضُعِ ومَخَافَةِ الربَّ،

هُو غِنًى وكَرَامَةٌ وحَيَاةٌ [4].

إذ يتواضع الإنسان ويتقي الله يغرف بفيض من الغنى والكرامة والحياة. فغنى الإنسان لا يعتمد على ما ورثه من أمور مادية، ولا يكتسب منها، وإنما بالتصاقه بالله مصدر الغنى وانفتاح قلبه عليه بالتواضع والمخافة الربانية.

* كما أن مصباحًا يضيء حجرة مظلمة هكذا مخافة الرب إذ تخترق قلب إنسان تنيره، معلِّمة إياه كل الفضائل ووصايا الله.
أحد آباء البرية

* أين يهرب قلبي من قلبي؟ أين أهرب من نفسي؟
القديس أغسطينوس

* إن كان طبيبنا السماوي العظيم قد أعطانا العقاقير والمسكِّنات، فمن أين وُجِدَ سبب هلاكنا إلاّ من غرضنا العليل؟ لقد أعطانا قبل كل شيء تواضعًا، طاردًا كل كبرياء وكل عُلو يرتفع ضدّ معرفة مجد ابن الله (2 كو 10: 5)، ويهبنا الطاعةً التي "تطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة" (أف 6: 16)، وقطع مشيئتنا في كل الأمور لأجل قريبنا؛ ورباطة جأش في القلب وتمتع الوجه بالإشعاع والبهجةً، والثبات في المظهر...

لقد أعطانا الحب الذي هو مثل حبه! لأنه قد صار نموذجًا لنا. لأنه "وضع نفسه وأطاع"، ليس مجرد طاعة فحسب، بل "حتى الموت" (في 2: Cool. وإذ ضحّى بحياته لأجلنا علّمنا قائلاً: "أحبّوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا"، "وبهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إن كان لكم حبٌّ بعضًا لبعض" (يو 13: 34-35).

*التواضع يجعل الإنسان مسكنًا لله! والأرواح الشريرة مع الشيطان قائدها تُطرَد بعيدًا عن هذا المسكن مع أوجاعها المخجلة، وبذلك يصير الإنسان هيكلاً لله، مقدّسًا، مستنيرًا، مطهَّرًا، غنيًا بالنعمة، مملوءًا بكل رائحةٍ زكية وحنوّ وابتهاج، ويصير الإنسان حاملاً لله (ثيئوفوروس)، بل بالحري يصير إلهًا حسب القول: "أنا قلتُ إنكم آلهة وبنو العليّ كلّكم" (مز 82: 6).
القديس برصنوفيوس

* سُئِل أنبا لنجينوس: "ما هي أعظم الفضائل كلها أيها الأب؟" فقال الشيخ: [اعتقد أنه كما أنّ الكبرياء هي أسوأ الشرور كلها حتى إنها طرحت البعض من السماء ذاتها؛ هكذا فإنّ التواضع هو بالتأكيد أعظم الفضائل، لأنه يستطيع أن يرفع الإنسان من الهاوية ذاتها، بالرغم من أنّ الخاطئ نفسه قد صار مثل الشيطان. وأيضًا طوّب الرب المساكين بالروح قبل جميع المطوبين الآخرين.]
فردوس الآباء

شَوْكٌ وفُخُوخٌ فِي طَرِيقِ المُلْتَوِي.

مَنْ يَحْفَظُ نَفْسَهُ يَبْتَعِدُ عَنْهَا [5].

طريق الإنسان المتمرد العنيد ملتوي، ومملوء بالأشواك والفخاخ الخفية.

* كيف تصير حلاوة نير المسيح العجيبة مُرة إلا بسبب مرارة شرنا؟

كيف يصير الحِمْل الإلهي الخفيف للغاية ثقيلاً، إلا لأننا في وقاحتنا العنيدة نستهين بالرب الذي به نحمل حمله، خاصة وأن الكتاب المقدس بنفسه يشهد بذلك بوضوح قائلاً: "الشرير تأخذهُ آثامهُ، وبحبال خطيتهِ يُمسَك" (أم 5: 22، حك 11: 16).

أقول إنه من الواضح أننا نحن الذين نجعل من طرق الرب السهلة السليمة طرقًا متعبة، وذلك بسبب حجارة شهواتنا الرديئة الثقيلة. إذ في غباوةٍ نجعل الطريق الملوكي محجرًا، ونترك الطريق الذي وطأته أقدام كل القديسين، بل وسار فيه الرب نفسه، باحثين عن طريق ليس فيه آثار لمن سبقونا، طالبين أماكن مملوءة أشواكًا، فتعمينا إغراءات المباهج الحاضرة، ويتمزق ثوب العرس بالأشواك في الظلام... وقد تغطى الطريق بقضبان الخطايا، حتى أننا ليس فقط نتمزق بأشواك العوسج الحادة، وإنما ننطرح بلدغات الحيات المميتة والأفاعي المتوارية هناك. لأنه: "شوك وفخاخ في طريق الملتوي" (أم 22: 5).

يقول الرب في موضع آخر بالنبي: "لأن شعبي قد نسيني... وقد أعثروهم في طرقهم في السبل القديمة، ليسلكوا في شُعَبٍ في طريق غير مسهل" (إر 18: 15). ويقول سليمان: "طريق الكسلان كسياجٍ من شوك" (أم 15: 19). هكذا إذ يضلون الطريق السماوي الملكي، يعجزون عن الوصول إلى المدينة التي وجهت إليها أنظارنا. وقد عبر عنها سفر الجامعة بصورة رمزية قائلاً عنها إنها أورشليم... (جا 10: 15). بمعنى أنها "أورشليم العليا التي هي أمُّنا (جميعًا) فهي حرَّة" (غل 4: 26).

أما من يترك هذا العالم بحق ويحمل نير المسيح ويتعلم منه، ويتدرب يوميًا على احتمال التعب، لأن الرب "وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29)، يبقى على الدوام بغير اضطراب من كل التجارب، وبالنسبة له "كل الأشياءِ تعمل معًا للخير" (رو 8: 28). فكما يقول النبي إن كلمات الله صالحةً نَحْو مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَة (مي 2: 7)
الأب إبراهيم

* لنتأمل أيضًا كيف يعلمنا سليمان أن نسجل الكلمات الإلهية على ألواح قلوبنا (أم 3: 4؛ 7: 3؛ 22: 20)، معلنًا بأن "الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تعطي صوتها" (أم 1: 20). بقوله "الخارج" لا يقصد الحديث عن الشوارع بل عن القلوب، لكي يوسعها الله.
العلامة أوريجينوس

*يا بُنيَّ لا تكن مُصرًّا بعناد. أترك الضحك وشهوات بطنك وابتعد عن الطياشة.
القديس إسطفانوس الطيبي


4. اهتمام الكل بتربية الأبناء

رَبِّ الولَدَ فِي طَرِيقِه،ِ

فَمَتَى شَاخَ أيْضًا لا يَحِيدُ عَنْهُ [6].

بقوله: "في طريقه" يعني الطريق اللائق به الذي رسمه الله له، فينشأ في حياته سالكًا حسب مشيئة الله.

بقوله: "في طريقه"، وليس "في الطريق الذي تختاره له" يكشف عن ضرورة الاهتمام أن يتربى الطفل حسب ميوله ومواهبه، وليس حسبما يريده له الوالدان. فالأب الحكيم والأم الحكيمة يدرسان في جدية ما يناسب ميول طفلهما من كل الجوانب.

يقصد بالولد هنا المؤمن الذي ينال الميلاد الجديد في مياه المعمودية، إذ لا يقف الأمر عند عماده، بل هذا بداية الطريق الروحي.

* هكذا هنا أيضًا يدعونه طفلاً جديدًا من وُلد ثانية بغسل التجديد وتعلم، وصار بريئًا، هذا الذي صار مؤهلاً لملكوت السماوات خلال هذا التقدم في نفس الطريق. لذلك يمدنا سفر الأمثال بالتداريب التي تنقل إلينا المفهوم، والفهم للمولود حديثًا، الذي هو جائع للَّبن العقلي الأصيل: مفهوم الحقائق الحاضرة وفهم الحقائق العتيدة. فإن الطفل يتعلم الأمور البشرية، ويُقدم له مفهوم الحقيقة، حتى لا يُستعبد للشهوات المعيبة، ولا يشتاق إلى مجد هذا العالم الفارغ. بجانب هذا يمنحنا سفر الأمثال فهمًا للحياة العتيدة، ويشجعنا على الإيمان بالوعود المكتوبة
القديس باسيليوس الكبير

*على وجه العموم، تحثنا وصايا كل القديسين على ذلك بالقدوة، وذلك كما استعمل سليمان الأمثال قائلاً: "اسمعوا أيها البنون تأديب الرب، اِصغوا لأجل المعرفة بفهم، لأني أعطيتكم تعليمًا صالحًا، فلا تتركوا شريعتي. فإني كنت ابنًا لأبي غضًا ووحيدًا عند أمي" (أم 4: 1). لأن الأب البار يربي أولاده تربية حسنة، إذ يجتهد في تعليم الآخرين بسيرته المستقيمة الفاضلة. حتى إذا ما حدثت مقاومة، لا يخجل من سماعه هذا القول: "فأنت الذي تُعلم غيرك ألست تُعلم نفسك" (رو 2: 21). إنما يكون بالحري مثل خادم أمين، يقدر أن يخلص نفسه ويربح الآخرين. وإذ تتضاعف النعمة المعهودة إليه، يستطيع أن يسمع ذلك القول: "نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل، فأقيمك على الكثير. أدخل إلى فرح سيدك" (مت 25: 21)
القديس أثناسيوس الرسولي

5. الظلم الاجتماعي

الغَنِيُّ يَتَسَلَّطُ عَلَى الفَقِيرِ،

والمُقْتَرِضُ عَبْدٌ لِلْمُقْرِضِ [7].

يدعو الكتاب المقدس الغني ألا يتسلط على الفقير، ولا الدائن يذل المدين. وفي نفس الوقت يدعونا أن نهرب ما استطعنا من الاستدانة مادام في وسعنا هذا. "لا تكونوا مديونين لأحدٍ بشيءٍ إلا بأن يحب بعضكم بعضًا" (رو 13: Cool.

التجاء الإنسان في ضيقته إلى الله يهبه نوعًا من الحرية الداخلية، ويسنده في حلّ مشاكله دون تذللٍ. هذا وكثيرًا ما نلاحظ في الحياة اليومية من يستسهل الاستجداء أو الاستدانة، لا من أجل الضرورة، وإنما لأجل الحياة المترفة المدللة، فيبيعون حريتهم من أجل ملذات الجسد.

الزَّارِعُ إِثْمًا يَحْصُدُ بَلِيَّةً،

وعَصَا سَخَطِهِ تَفْنَى [8].

يقارن الحكيم بين من يزرع إثمًا ومن يزرع صلاحًا، فيحصد الإنسان من ذات نوعية زرعه. لقد زرع فرعون مصر إثمًا وعنفًا، وظن أنه صاحب سلطان، ليس من ينقذ شعب إسرائيل من يده، فحصد مرارة وحرمانًا، بل ودمارًا لنفسه كما لجيشه.

"الشرير يكسب أجرة غش، والزارع البرّ أجرة أمانة" (أم 11: 18)، "لا تضلوا، الله ولا يُشمخ عليه. فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد فسادًا، ومن يزرع للروح، فمن الروح يحصد أيضًا. لأن من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فسادًا، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية، فلا نفشل في عمل الخير، لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل. فإذًا حسبما لنا فرصة، فلنعمل الخير للجميع، ولاسيما لأهل الإيمان." (غل 6: 7-10).

الصَّالِحُ العَيْنِ هُو يُبَارَكُ،

لأنَّهُ يُعْطِي مِنْ خُبْزِهِ لِلْفَقِيرِ [9].

العين الصالحة أو محبة العطاء بسخاء لا تحتمل أن ترى إنسانًا في ضيقٍ أو عوزٍ، فيعطي الإنسان من خبزه، أي من أعوازه، بقلبٍ مملوء رحمة حنوًا، فيهبه الله البركة في حياته، ويفتح له مخازن السماء.

* لا يكفي أن نعمل صلاحًا، فإن صلاحنا لا يُعرف لدى الله إن كنا مجرد نصنع صلاحًا، وإنما إن كنا في غيرة نتقدم دومًا في صنعه.

كثيرون يبدأون، وكثيرون يثابرون بطريقةٍ ما، لكنهم فيما بعد يتوقفون، إما لسبب التعب أو لانحرافهم عن الطريق. إنه يحذرهم بالحق ألا يرتبكوا بأية وسيلة، لئلا بسبب قلقهم يتركون ما بدأوا فيه عندما بدأوا عملاً صالحًا...

الوقت مقصر. الحياة تجري سريعًا. نهاية العالم صارت على الأبواب. بقوله "حسبما لنا فرصة" يعني مادمنا في هذه الحياة، أو لا تزال توجد حياة في هذا العالم... لهذا يلزمنا أن نعمل، وأن نعمل الخير، ونعمل الخير للجميع بدون محاباة للأشخاص. يليق بنا ألا نفعل شيئًا إلا ما هو خير، وخير للجميع. فإن المحبة تبني (1 كو 8: 2)، ويلزم محبة كل شخصٍ. إذن كل عمل خير نمارسه يلزم أن يُمارس للجميع
الأب ماريوس فيكتورينوس


6. نصائح إيجابية وسلبية

أُطْرُدِ المُسْتَهْزِئَ فَيَخْرُجَ الخِصَامُ،

ويَبْطُلَ النزَاعُ والخِزْيُ [10].

ماذا يعني بالمستهزئ، إلا ذاك الذي يسخر بوصية الرب، ويستخف بالحياة المستقيمة في الرب؟ مثل هذا المستهزئ يعمل كالخميرة الفاسدة، فيفسد العجين كله. لهذا يقول الرسول: "اعزلوا الخبيث من بينكم" (1 كو 5: 11-13).

عزل الخبيث لأجل تأديبه أمر إلهي، فقد طرد الله آدم وحواء من الفردوس لتأديبهما حتى يدخلا السماء.

كان الناموس متشددًا في تنقية الشعب من أمثال هذا المستهزئ. "إذا وُجد في وسطك في أحد أبوابك التي يعطيك الرب إلهك، رجل وامرأة، يفعل شرًا في عينيّ الرب إلهك يتجاوز عهده، ويذهب ويعبد آلهة أخرى ويسجد لها... أرجمه بالحجارة حتى الموت" (تث 17: 2-5). أما في العهد الجديد فمع الحزم في تنقية الكنيسة يُطرد مثل هذا إلى حين للتأديب لأجل توبته ورجوعه إليها.

جاء في مثل ربَّاني قديم: "عندما يترك الأحمق الحجرة يبدو كأن الحكيم يدخلها"

إننا نحزن لطرد إنسان خبيث مُصر على خبثه، لكن حزننا يكون مرًا فيه شركة مع حزن الملائكة حين يُطرد إنسان من الملكوت.

* إن قاوم البعض في عصيانٍ، فيجدون خطأ في شكواهم الخفية دون الإفصاح عنها، يصيرون بهذا علة خصومات في المجتمع، ويتلفون سلطان الأوامر المعطاة. هؤلاء يلزم طردهم من المجتمع كمعلمين للعصيان، فيخرج الخصام معهم... "اعزلوا الخبيث من بينكم، فإن خميرة صغيرة تخمر العجين كله" (1 كو 5: 13، 6)
القديس باسيليوس الكبير

* إنني اَعتقد، يا أحبائي، أن آدم عندما كان في الفردوس لو كان قد حفظ تلك الوصية الصغيرة، لكانت حلّت عليه كرامة أعظم مما كانت له سابقًا، ولكنه عندما تعدّى وصية الرب حُرم من البهجة والمسرة وطُرد من حيث كان يعيش، لعل الله يجعلنا مستحقين أن نحفظ وصاياه.
الأب يوسف

* يا لحزن الملائكة حينما يرون راهبًا يُطرد خارج الملكوت بسبب إهماله! ويا لأسى القديسين حينما يشاهدون ناسكًا لم يتحد بالعريس المسيح في خدره بسبب كبريائه!
القديس هيبريشيوس الكاهن

مَنْ أحَبَّ طَهَارَةَ القَلْبِ،

فَلِنِعْمَةِ شَفَتَيْهِ يَكُونُ المَلِكُ صَدِيقَهُ [11].

إن كانت طهارة القلب أو نقاوته تفتح أعيننا لنرى الله (مت 5: Cool، ونجالسه كأصدقاء نحمل أيقونة قداسته. فإنه أيضًا يهب أنقياء القلب نعمة لدى الأباطرة بالرغم من مقاومة الحاسدين له.

هذا ويكشف هذا المثل عما في قلب سليمان، حيث يشتاق لا إلى مصادقة الملوك والعظماء، بل طاهري القلب. يجد المؤمن الحقيقي سعادته في الصداقة مع أنقياء القلب ليشاركهم رؤيتهم لله "طوبي للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله".

*سكون الراهب بنقاوة قلب يجتذب إليه الروح القدس.
القديس هيبريشيوس الكاهن

* اثبت في النقاوة، فيصير الروح صديقك.

* احرص - سواء من جهة عينيك أو من جهة قلبك - أن تثبت في الراحة، فتحيط بك نقاوة كاملة، لأن الله يحب القداسة، ولهذا يقول: "لأني قدوس ومع القديسين أستريح" (إش 57: 15 وأيضًا: "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله"، وأيضًا: "اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عب 12: 14). لأننا نعلم أنه إن أتينا بأثمار فالله ينقينا. فجاهد، إذن يا ابني، أن تثبت دائمًا في القداسة، سواء كان بالنسبة للعينين أو القلب، لكي ترجع إلى مبدأك كحال الأطفال الصغار الذين قال عنهم الله: "إن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات".
القديس إسطفانوس الطيبي

عَيْنَا الربَّ تَحْفَظَانِ المَعْرِفَة،َ

وهُو يَقْلِبُ كَلامَ الغَادِرِينَ [12].

الله هو الحق، وعيناه على حقه الذي يكشفه لمحبوبيه، فيحملون معرفة صادقة للحقٍ. إنه ساهر أيضًا عن الحق والعدل، ولن يترك الغادرين والغاشين للحق أن ينجحوا إلى التمام. إنه يطيل أناته عليهم، لكنه حتمًا يفضح خداعهم وغشهم، ويرد الحق إلى نصابه. يقول حناني الرائي لآسا: "لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض، ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه" (2 أي 16: 9).

* زائفٌ هو الإنسان العتيق، أما الإنسان الجديد فهو حق، والحق هو أصل الأعمال الصالحة، والزيف هو الموت. لو علم الكذّاب واللص والمفتري أنهم سيُفضحون أخيرًا وتُفضح أعمالهم، لما ارتكبوا الخطية إطلاقًا. وهكذا يكون الأمر بخصوص الزناة مثل ابنيّ عالي الكاهن، حفني وفينحاس، لأنهما كانا كاهني للرب، ولكنهما لم يخافا الله، فهلكا مع كل بيتهما. والإنسان الذي يحتفظ بذكر الشرور ويرتبط بها ويحبسها في داخله، يشبه الذي يخبِّئ نارًا في قشّ.
القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس

*لا توجد طريق مستقيمة سوى طريق ربنا يسوع المسيح، لأنه هو الطريق والحق والحياة.
أنبا تيموثاوس

*ينبغي على الراهب أن يقول كلمة الحق، ويبعد عن فمه الكذب.
القديس هيبريشيوس الكاهن

* التواضع بإفراز هو معرفة الحق. ومعرفة الحق هي ينبوع التواضع. المتواضع بقلبه متواضع بجسده، والمتوقح بجسده متوقح بقلبه، والمضطرب بجسده مضطرب بقلبه، والمضطرب بقلبه جاهل بعقله، والجاهل بعقله رديئة هي طرقه، والذي طرقه رديئة هو مائتٌ بالحياة.
القديس مار إسحق السرياني

قَالَ الكَسْلانُ:

الأسَدُ فِي الخَارِج،ِ

فَأُقْتَلُ فِي الشوارِعِ! [13].

بسبب الكسل يُحاصر الإنسان بتخيلات تقتل حيويته، فيرى المشاكل المحيطة به جبلاً لا يتزحزح، ويرى الناس حوله أسودًا مفترسة، لهذا يجد من الحكمة أن يستكين في مخدعه بلا عمل حفظًا على حياته.

* البطالة هي بداية الأعمال الرديئة، ولاسيما لعديمي الأدب، لأن اليهود لما لم يكن لهم في البرية عمل ينشغلون به خرجوا من البطالة إلى عبادة الأوثان. فلا تفارق عمل اليدين لأنه نافعٌ جدًا ومهذِّبْ.

* بلغني أن إنسانًا كسلانًا أخذ في حضنه الكتاب المقدس من الساعة السابعة (أي الواحدة بعد الظهر) حتى غروب الشمس ولم يقدر أن يفتحه البتّة، وكأنه مربوط برصاص. لكن أنبا أنطونيوس فعل كما أظهر له الملاك: فتارةً كان يجلس ولعمله ممارسًا، وتارةً أخرى يقوم وللصلاة ملازمًا، وتارةً يجلس ولكلام الله قارئًا. وقد حظيَ باستنارة لدرجة أنه قال لأحد فلاسفة زمانه: "يكفيني أن أتأمل في طبيعة المخلوقات دائمًا، وأتلو في أقوال الرب حتى ظلمة الليل." إلى هذا الحدّ كان يتصل بالله، وكان ليله يضيء كالنهار كما قيل: "الظلمة أيضًا لا تظلم لديك، والليل مثل النهار يضيء" (مز 139: 12).
القديس نيلوس السينائي

* إذا سقطتَ فلا تتوانى ولا تكسل، بل قم بسرعة. وإذا ضللتَ أسرع بالرجوع حتى تجد الطريق المستقيم، لأن الطريق المستقيم جيدٌ وليس فيه دوران ولا يحتاج إلى طول زمان، بل بسرعة يوصل إلى مدينة السلام.
أنبا تيموثاوس

* أخبرَ أحد الآباء أنه كان يسكن بالقرب منه أخٌ عمّالٌ مع الله، ثم اعتراه تواني وكسل. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). وبعد مدّة انتبه من توانيه ولامَ نفسه قائلاً: "يا نفسي، إلى متى تتوانين عن خلاصك؟ أما تخافين من دينونة الله يا شقية وأنتِ في هذا التواني فتُسلَّمين للعذاب الدائم؟" ولما تفكّر في مثل ذلك أنهض نفسه في عمل الله.
فردوس الآباء

فَمُ الاجْنَبِيَّاتِ هُوةٌ عَمِيقَةٌ.

مَمْقُوتُ الربَّ يَسْقُطُ فِيهَا [14].

يقصد بالأجنبية المرأة الوثنية، فكثير من اليهود سقطوا في عبادة الأوثان بسبب نسائهم الوثنيات، من بينهم سليمان الحكيم، إذ قيل: "وكان في زمن شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتاروت آلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين" (1 مل 11: 4-5).

*فم الناطق بالشر هوة عميقة، شفاه جارفة منحدرة للبريء، لكنها أكثر انحدارًا بالنسبة لمن إرادته شريرة. الشخص البريء يصدق بسرعة وبسهولة، فيسقط سريعًا (أم 14: 15)، لكنه إذ يسقط يقوم. أما المفتري فيسقط بتهور بأفعاله، التي لن يهرب منها ولا يخرج
القديس أمبروسيوس

* يجب أن تكون سيرة الراهب نقية، ولا يكون هزأة للنساء الأردياء. لأن المرأة التي تسلك بمداهنة وسط البيوت، هي سهم للمجرِّب.
القديس هيبريشيوس الكاهن

*التقى أنبا جراسيموس بامرأة في البرية عريانة. فلما أبصرته توارت عنه. وأراد أن يكلّمها فتوارت خلف صخرة وكلّمته. فقال لها: "كم لك في هذه البرية؟" فقالت: "خمسون سنة". فقال لها: "وماذا كان غذاؤك؟" فقالت: "إن الخالق لا يضيّع ما خلق". فقال: "وماذا أبصرت في هذه البرية؟" فقالت: "ما أبصرتُ غير المسيح وأعماله وصنائعه". فقال لها: "فيمَ يوجد الخلاص؟" فقالت: "في تركك ما أنت فيه". فقال لها: "وما هو؟" فقالت: "انشغالك بالبكاء عن خطاياك أولى من سؤالك لامرأة عما لا ينفعك". فقال لها: "صدقتِ"، وصنع ميطانية وانصرف.
فردوس الآباء

الجَهَالَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِقَلْبِ الولَدِ.

عَصَا التأْدِيبِ تُبْعِدُهَا عَنْهُ [15].

يطالب الحكيم الوالدين بتأديب أبنائهما بحكمةٍ وفهمٍ، حتى لا يرتبطوا بالجهالة. لا تعني "العصا" بالضرورة التأديب البدني، إنما تعني أخذ موقف حازم مقترن بالحب الوالدي ووضوح الهدف، ألا وهو عدم الانحراف عن الطريق المستقيم اللائق بأبناء الله. التأديب بحكمة لا يثير الابن الذي تحت التأديب نحو السخط والغضب أو الشعور بالظلم، إنما يقوده على اكتشاف جهالاته وطلب الحكمة. يقول الحكيم في موضع آخر: الانتهار يؤثر في الحكيم أكثر من مئة جلدة في الجاهل" (أم 17: 10).

يلاحظ أن سليمان لا يهتم بالسلوك الخارجي فحسب، إنما يركز أنصاره على القلب، فيقول: "الجهالة مرتبطة بقلب الولد". فهو يطلب شفاء القلب ولو بعصا التأديب.

* قال أحد الآباء: "لا يوجد أفضل من هذه الوصية: ألاّ تزدري بأحدٍ من الإخوة، لأنه مكتوبٌ: "إنذارًا تُنذر صاحبك، ولا تحمل لأجله خطية" (لا 19: 17). فإن علمتَ أنّ أخاك مخطئ ولا تُخبره لكي يعلم خطأه فدمه يُطلَب من يديك، فإن كان بعد التوبيخ يصرّ على الخطية ويثبت فيها يموت بخطيته. ما أفضل التوبيخ إذا كان بمحبةٍ وتواضعٍ لا بمعيرةٍ وازدراءٍ".
فردوس الآباء

*الذي يماحك قبالة التأديب يُبعد عنه المراحم الأبوية. الذي يتذمر مقابل التجارب تتضاعف عليه. الذي لا يتأدب ههنا وينسحق بالتجارب يتعذب هناك بلا رحمة.
القديس مار إسحق السرياني

*اِفرح لأنّ الله يفتقدك، واحتفظ بهذا القول المبارك على شفتيك: "تأديبًا أدّبني الرب، وإلى الموت لم يسلِّمني" (مز 118: 18). فإن كنتَ من حديد، إلاّ أنّ النار أحرقت الصدأ منك، وإن كنتَ بارًّا ومرضتَ، فستذهب من قوةٍ إلى قوة. وأذكر المكتوب: "إن كنا نتألم معه لكي نتمجّد أيضًا معه" (رو 8: 17).
القديسة أمّا سنكليتيكي

* سُئل: "كيف ينبغي أن ينتهر الإنسان؟" فقال: "كما ينتهر الأب ابنه، وكما يكون قصد الطبيب أن يشفي المريض.

*وسُئل أيضًا: "كيف يجب أن يُقبَل الانتهار؟" فقال: "كما يقبل الولد تأديب والده والمريض مداواة طبيبه".
القديس باسيليوس الكبير

* لنقبل الامتحانات كقبول الأدوية من الطبيب لكي نخلص، وكقبول التأديب من الأب لكي نتهذّب. ولهذا قال الحكيم: "يا بُنيّ إن أقبلتَ على خدمة الرب الإله فأثبت على البرّ والتقوى وأعدد نفسك للتجربة" (سي 2: 1).
القديس يوحنا الذهبي الفم

* مرةً أخرى، بعد مدةٍ طويلةٍ، تدفعني المحبة أن أضربك بعصا المسيح التي للتأديب والتوبيخ، حتى يتحقّق فينا كلام الكتاب القائل: "أمينةٌ هي جروح المحب" (أم 27: 6) وما يلي ذلك. وأيضًا، إن كنا نؤدِّبك فلا تخُرْ، بل تذكر القول: "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخُر إذا وبَّخك، لأنّ الذي يحبه الرب يؤدِّبه ويجلد كل ابنٍ يقبله" (عب 12: 5-6). ولكن حتى لو انتهرتُك، فأنت لا تجهل قول الرسول: "وبِّخ، انتهر، عظْ" (2 تي 4: 2).
القديس برصنوفيوس وتلميذه يوحنا

ظَالِمُ الفَقِيرِ تَكْثِيرًا لِمَا لَهُ،

ومُعْطِي الغَنِيِّ إِنَّمَا هُمَا لِلْعَوزِ [16].

يشجب الحكيم تصرفين يُمارسان بغرض اقتناء مكاسب أو زيادة الموارد، وهما ظلم الفقير وتقديم هدايا أو رشوة للغني لأجل المصلحة المادية أو لنوال كرامة وسلطة. هذان الأمران مكروهان، حتى وإن حققا نجاحًا مؤقتًا، إذ ينزعا بركة الرب عن الإنسان، فيصير في عوزٍٍ روحي ومادي.

كثيرون افتقروا لظلمهم للفقراء أو سخائهم في العطاء للأغنياء، لا عن حب بل عن نوال مجدٍ باطلٍ!


7. الالتجاء إلى مشورة الحكماء

أمِلْ أُذْنَكَ واسْمَعْ كَلامَ الحُكَمَاءِ،

ووجِّهْ قَلْبَكَ إِلى مَعْرِفَتِي [17].

إذ شعر سليمان بقيمة الحكمة، واسترسل في مديحها، خاصة في سفر الحكمة (إصحاحات 7-9)، حاسبا إياها أفضل من العرش والصولجان (حك 7: Cool، ومن الغنى (حك 7: Cool، كما من الصحة والجمال، بل ومن النور المنظور، فهي مصدر العلوم والمعرفة، انعكاس للنور الإلهي (حك 7: 17 الخ)، طلبها أن تكون قرينة حياته (حك 9). فهي العروس واهبة المجد، الخالدة، الجالسة على العرش السماوي. إنه يود أن يتمتع العالم كله بالاتحاد مع حكمة الله.

* ينبغي على الراهب أن يأخذ المشورة من إنسان حكيم، وأن لا يجعل مشورة الجاهل تسكن في قلبه.
القديس هيبريشيوس الكاهن

* أيها الأخ، يقول الكتاب المقدس: "افعل كل الأمور بمشورة" (أم 24: 72)، و"بدون مشورة لا تفعل شيئًا" (سي 32: 24). عندما كنتَ تفعل بدون مشورة، بل بمشيئتك الخاصة، لم تكن تجاهد مع ذهنك. لأنه لا يوجد مَنْ لا يحتاج إلى مشورة إلاّ الله وحده الذي خلق الحكمة، ولكنك عندما طلبت أن تقطع هواك بحسب الله وتبلغ إلى التواضع، وأن تتخذني أنا أخاك الصغير جدًا كموجِّهٍ؛ فقد أثرتَ حسد الشيطان عدو الخير الذي يحسد جميع الناس على الدوام.

* اَخضِع نفسك لمعلِّمٍ لكي ما يؤدِّبك بالرحمة. "لا تعمل شيئًا بدون مشورة" (سي 32: 19) حتى لو بدت لك الأمور أنها جيدة، لأنّ نور الشياطين يصير أخيرًا ظلمات. فإن كنتَ تسمع أو تفكِّر أو ترى أي شيءٍ يترك ولو القليل من الاضطراب في قلبك؛ فاعلم أنه من الشياطين.
القديس برصنوفيوس

* كانت في أورشليم عذراء حبيسة لمدة ست سنوات مرتديةً مسوحًا، وكان نسكها زائدًا عن الحدّ، ولم تأكل شيئًا لذيذًا قط. فمنعها الآباء من ذلك، ولكنها لم تُصغِ لمشورة أحد، فتعرّت من معونة الله بسبب عجرفتها وإعجابها بذاتها، فتباعد عنها حافظ عفتها، وسقطت سقطةً بشعة. فقد أدخلت عندها إنسانًا كان يخدمها، وسقطت معه في الخطية. وقد حلّت عليها هذه المصيبة، لأنها جعلت القصد من نسكها التظاهر وليس لأجل حب الله، وظنت أنها أفضل من كثيرين. ولما تملّكت عليها الأُبَّهة سقطت في يد إبليس.
فردوس الآباء

يحتاج الكل إلى مشورة أب اعتراف حكيم أو مرشد حكيم، حتى الراهب المتوحد، مهما طالت مدة خبرته في الحياة المقدسة والشركة مع الله، ففي حديث القديس غريغوريوس رئيس متوحدي قبرص المتنيح في أواخر القرن الرابع يوجِّه أنظار المتوحدين إلى خطورة اتكال الإنسان على حكمته الذاتية، وعدم طلب مشورة أبيه بروح التواضع، فإن في هذا إعاقة لممارسة جميع الفضائل واستئصاله لها، إذ تهب الشياطين سلطانًا عليه.

* اسمعوا مني يا إخوتي الرهبان، واحترسوا بهذه السيرة التي بها خلاص أنفسكم وحياتها مخفي ومحفوظ: لا تتكلوا على حكمتكم، ولا على معرفتكم، بل اتبعوا بتواضعٍ مشورة آبائكم، لأن الشك هو معوق لجميع الفضائل، مستأصل لها، وكمثل سجن يقيد كل تلاميذه في عدم المعرفة، إذ يظنون بدون ضيقات كثيرة يدخلون ملكوت السماوات

* من أجل عدم طاعاتهم لمشورة آبائهم الروحيين ووعظهم، جردتهم الشياطين من عمل الفضائل المقدسة، وملأتهم بجميع ما قاله بولس بأنهم ظنوا أنه من غير حب الله وحفظ وصاياه يستطيعوا أن يدركوا ويأخذوا لذواتهم الراحة الإلهية والفرح الذي يُعطى للمتوحدين من أجل عملهم النشيط
القديس غريغوريوس رئيس متوحدين قبرص

لانَّهُ حَسَنٌ إِنْ حَفِظْتَهَا فِي جَوْفِكَ،

إِنْ تَتَثَبَّتْ جَمِيعًا عَلَى شَفَتَيْكَ [18].

يطلب من المستمع أن يكنز الحكمة في قلبه، وكما سبق فقلنا أن "القلب" عند اليهود يعادل "العقل" عند اليونانيين، والاثنان يُقصد بهما الإنسان الداخلي.

تُحفظ الحكمة في القلب، وتثبت على الشفتين، فليس للشخص من حديث آخر غير ما يصدر عن الحكمة الداخلية.

لِيَكُونَ اتِّكَالُكَ عَلى الربَّ عَرَّفْتُكَ أنْتَ اليَوْمَ [19].

ليس من تمتع بالحكمة الحقيقية دون الاتكال على واهب الحكمة.

ألَمْ اكْتُبْ لَكَ أُمُورًا شَرِيفَةً مِنْ جِهَةِ مُؤَامَرَةٍ ومَعْرِفَةٍ [20].

يؤكد الحكيم أن ما يكتبه ليس حكمة بشرية مجردة، ولا هي ثمرة للخبرة البشرية وحدها، إنما يكتب أمورًا شريفة من جهة شركتنا مع الله.

جاءت الترجمة الحرفية للنص العبري: "ألم أضعها أمامك في ثلاث طرق" أو "مرة ثالثة". وجاء النص في الترجمة السبعينية: "أنت تصف الأمور لنفسك بثلاث طرق حسب اتساع قلبك".

* من يفتح قلبه بالطهارة، يتأمل كلمات الله في المعاني العملية والمادية واللاهوتية. لهذا فإن كل جسم الكتاب يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء: أخلاقي، ومادي، ولاهوتي. فسِفر الأمثال يطابق القسم الأول، والجامعة القسم الثاني، ونشيد الأناشيد الثالث
القديس مار أوغريس

*كما تتكون الكائنات البشرية من جسم ونفس وروح، هكذا يتكون الكتاب المقدس من جسم الحروف الذي ينتفع به الإنسان الجاهل، ويدعى "التعليم اليدوي". والثاني من النفس وهو معنى أسمى، يفهمه من هو أكثر علمًا. وأيضًا يحوي روحًا، وهو الأكثر سموًا وتأملاً روحيًا، هذا الذي ينطق به الكاملون ويفهمونه
القديس يوحنا الذهبي الفم

لأُعَلِّمَكَ قِسْطَ كَلامِ الحَقِّ،

لِتَرُدَّ جَوابَ الحَقِّ لِلَّذِينَ ارْسَلُوكَ؟ [21].

إن كان الحكيم بحبه يقدم نور الحق الإلهي والحكمة للذي سأله، فهو يطالب السائل أن يقدمه بدوره للذي أرسله. فالحكمة مقدمة لكل إنسانٍ، لسليمان نفسه، ولمن جاء رسولاً يسأله، وللذي أرسل هذا الرسول.

الحكمة هي وديعة حب، حِفْظها ليس في تخبئتها، وإنما في شوق الإنسان أن يتمتع كل إخوته بها، مقدمًا إياها بأمانة.


8. الاهتمام بالفقراء

لا تَسْلِبِ الفَقِيرَ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا،

ولا تَسْحَقِ المِسْكِينَ فِي البَاب [22].

كانت القضايا تنظر عند باب المدينة، ولعل اختيار مجالس القضاء عند أبواب المدينة يحمل رمزًا أنه لا يدخل المدينة إنسان ظالم أو مغتصب أو صانع شر. هنا يقدم تحذيرًا للحاكم والقاضي ومن يشاركهما في مجالس القضاء، من الذين يسلبون حق الفقير ويظلمونه من أجل الأغنياء أو أصحاب السلطة.

لانَّ الربَّ يُقِيمُ دَعْواهُمْ،

ويَسْلِبُ سَالِبِي أنْفُسِهِمْ [23].

يوجد قاضي القضاة وملك الملوك المتخصص في الدفاع عن المظلومين، خاصة الفقراء والمساكين، والذي ليس لهم من يسأل عنهم. فهو يقيم دعواهم ضد القضاة الظالمين، ويحكم على الظالمين بما حكموا به ظلمًا على غيرهم، فيسلب السالبين. وكأن من يسلب المسكين ويضغط عليه إنما يسلب نفسه ويضغط على أعماقه، وكما قيل في عبوديا: "كما فعلت كما يُفعل بك. عملك يرتد على رأسك" (عو 15).

*"كما فعلت يُفعل بك" (عو 15). هكذا هو نظام الطبيعة، أن كل أحدٍٍ يتقبل نفس المعاملة التي يعامل بها الغير، وتُرد له الجزاءات متساوية تمامًا بالأفعال التي يمارسها
القديس كيرلس الكبير


9. مصاحبة الغضوب

لا تَسْتَصْحِبْ غَضُوبًا،

ومَعَ رَجُلٍ سَاخِطٍ لا تَجيء [24].

يتطلع الحكيم إلى الغضب والسخط بكونهما وباءً خطيرًا يمكن أن تنتقل العدوى بسرعة، لذا يحذرنا من أن نكون في صحبة إنسان غضوب، أو حتى نسير مع إنسان ساخط في الطريق. "المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة" (1 كو 15: 33).

* العيشة بين من هم عديمي الضمير والمزورين في نظرتهم نحو حفظ الوصايا أمر خطير، كما هو واضح من كلمات سليمان التالية: "لا تستصحب غضوبًا، ومع رجل ساخط لا تسير، لئلا تألف طرفة وتأخذ شركًا لنفسك
القديس باسيليوس الكبير

لِئَلا تَأْلَفَ طُرُقَهُ،

وتَأْخُذَ شَرَكًا إِلَى نَفْسِكَ [25].

لا يعتد الإنسان بنفسه ظنًا أنه لا يمكن للصداقة مع الغضوب، والسير مع إنسانٍ ساخط، أن يُؤثِّرا على سلوكه، فالتهاون مع النفس وقبول الشركة مع الساخطين إنما هو شرك يضعه الإنسان لنفسه.


10. الحكمة في ضمان الغير

لا تَكُنْ مِنْ صَافِقِي الكَفِّ،

ولا مِنْ ضَامِنِي الدُيُونِ [26].

إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ مَا تَفِي،

فَلِمَاذَا يَأْخُذُ فِرَاشَكَ مِنْ تَحْتِكَ؟ [27].

هنا يعود فيكرر في السفر تحذيره من التهاون في ضمان ديون إنسانٍ أو أشخاصٍ مستهترين، فبسبب هذا الضمان قد يفقد الإنسان حتى فراشة الذي ينام عليه. سبق أن حذرنا في أمثال 6: 1؛ 17: 18، وقد سبق لي التعليق على هذا التحذير.

استخدم البابا غريغوريوس (الكبير) هذا التخدير أثناء كتابته عن الرعاية، فيليق بالرؤساء والقادة أن يهتموا بخلاص من هم تحت قيادتهم، حتى لا يُطلب دمهم منهم، بكونهم ضامنين لهم أو مسئولين عنهم.

* ينبغي إذًا أن نقدم الموعظة للمرءوسين لئلا يأخذوا عقابًا أشد إذا لم يتبرروا ولو بصفة شخصية، أما بالنسبة للرؤساء فليحذروا أن يُحكم عليهم بسبب أخطاء المرؤوسين حتى ولو لم يكترثوا بأفعالهم الخاصة.

ينبغي أن نعظ الرعية بأن تهتم بنفسها، لأنه كلما عظم هذا الاهتمام، قلَّ تورطها في الاهتمام بالآخرين. كذلك ينبغي أن نعظ الآخرين (الرعاة) بأن يوفوا بالمسئولية عن الرعية بحكمة، دون أن يهملوا مسئوليتهم عن أنفسهم.

يقول الكتاب للذين يتكاسلون في رعاية أمورهم: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها، وكن حكيمًا" (أم 6: 6). أما الآخر فيأتيه التحذير المخيف في قول الكتاب: "يا ابني إن ضَمِنْتَ صاحبك، إن صفقت كفك لغريبٍ، إن عَلِقْتَ في كلام فمك، إن أُخِذْتَ بكلام فيك" (أم 6: 1-2) ومن الواضح أن من يضمن صاحبه يأخذ على عاتقه مسئولية نفس إنسان آخر بضمان سلوكه، وإذا صفق كف للغريب فإن العقل ينشغل بمسئولية جديدة، وكذلك عندما تعلق بكلمات فمك، وإن أخذت الكلمات فيك، لأنه إذا نَطَقَ بكلمات طيبة عن المسئولين منه، فإنه لا بد أن يراقب موضوع الحديث. إن الكلام يعلق بفمه لأن هناك ضرورة ملحة أن يلجم نفسه بتعقلٍ،ٍ حتى لا يتسرب الإهمال والتراخي إلى حياته مما لا يتفق مع تعليمه. وبالتالي يضيف الكتاب على الكلمات السابقة العظة الحسنة القائلة: "إذًا فافعل هذا يا بني، ونجِ نفسك إذا صرت في يد صاحبك، اذهب، تَرَامَ وألِحَّ علي صاحبك. لا تعط عينيك نومًا، ولا أجفانك نعاسًا" (أم 6: 3-4). لأن الراعي الذي أخذ مسئولية الآخرين على عاتقه كقدوة بحياته، عليه أن يحترز ليس فقط لأجل نفسه بل أن يجتهد ليُقيم الإخوة رعيته.
البابا غريغوريوس (الكبير)


11. وديعة التقليد

لا تَنْقُلِ التُخُمَ القَدِيمَ الذِي وضَعَهُ آبَاؤُكَ [28].

يمكن فهم ذلك أنه تأكيد للوصية التي قدمها موسى النبي (تث 19: 14)، حيث طالب كل سبطٍ – عند نواله نصيبه في أرض الموعد – ألا ينقل علامات تخومه، فيغتصب من حقول الأسباط المحيطة به أو أراضيها. وهي وصية لكل مؤمن أن يكون أمينًا في تصرفاته، فلا يغش في الموازين، ولا يغتصب حق جاره أو قريبه. هذا ويمكن تفسيرها روحيًا، كما سبق فرأينا، وهو أن نحفظ وديعة الإيمان، أي التقليد الخاص بالعقائد الإيمانية بلا تغيير.

يرى العلامة أوريجينوس وغيره من الآباء في هذه الوصية أن ما تسلمناه من الكنيسة الأولى بخصوص الأسفار القانونية للكتاب المقدس وقانون الإيمان هو التخم القديمة التي وضعها آباؤنا بإرشاد الروح القدس، يلزمنا الحفاظ عليها

* لا نسمح للإيمان أو قانون الإيمان الذي حدده آباؤنا القديسون المجتمعون في أيام مجمع نيقية أن يهزه أحد ما، ولا يعهد لأنفسنا أو غيرنا أن يستبدلوا كلمة مما وضعوه، أو يخدموا حرفًا منه. فإننا نتذكر القائل: "لا تغيروا تخمًا وضعه آباؤك"
القديس كيرلس الكبير

ويرى البعض أن تحريك التخم هو التعدي على حدود الفضائل، فتتحول إلى رذائل.

* من يحرك تخم التقوى يحولها إلى معتقدات خرافية أو إلى الشر. ومن يحرك تخم الشجاعة يغيرها إلى التهور أو الجبن. بنفس الطريقة ينطبق هذا على الفضائل الأخرى كما على العقائد والأمور الإيمانية الأخرى.

هذا أيضًا يخص التعليم بالثالوث القدوس. فمن ينكر لاهوت الروح القدس ينكر المعمودية، ومن يسمى آخرون آلهة يُدخل هيكل كامل للآلهة الوثنية
القديس أوغريس


12. الاجتهاد

أرَأيْتَ رَجُلاً مُجْتَهِدًا فِي عَمَلِهِ؟

أمَامَ المُلُوكِ يَقِفُ.

لا يَقِفُ أمَامَ الرَعَاعِ! [29]

دعوة متجددة ومتكررة لحياة الجهاد والأمانة في الحياة الأسرية والعمل والعبادة، حتى نسمع الصوت الإلهي: "كنت أمينًا في القليل، فأقيمك على الكثير، اُدخل إلى فرح سيدك". فالإنسان المجتهد يقف بدالة لدى ملك الملوك، لينال التمتع بالحضن الإلهي، أما الكسلان فنصيبه مع الرعاع، أي الشياطين غير الأمينة.

*ملعون من يخفي القمح في وقت البذار (راجع أم 11: 26)، إذ يطالبنا المثل الإلهي (الخاص بالوزنات مت 25: 14-30) ألاَّ نهمل العطية أو نخبئها من غير إكثارها ومضاعفاتها، وإلا بحق نطرد خارجًا كأشرار متذمرين. على هذا الأساس مدح الرب أولئك الذين ضاعفوا وزناتهم، قائلاً: "نعمًا أيها العبد الصالح الأمين. كنت أمينًا في القليل، فأقيمك على الكثير، أدخل إلى فرح سيدك (مت 25: 23)

*توجد وصية من الرسول إلى تلميذه يُلزمه ألا تكون النعمة المعطاة لنا عاطلة بلا نفع. ويؤكد قائلاً له ألا يهمل الموهبة المعطاة له. لأن الذي يفلح أرضًا يُسر بالخبز، وأما طريق الكسلان فمملوءة أشواكًا. ويحذرنا الروح ألا نسقط في هذا (الكسل) قائلاً: "احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك" (إر 4: 3). ويوضح النبي نهاية مثل هذا الكسل قائلاً: "ملعون من يعمل عمل الرب برخاء" (إر 10:48). لأنه يلزم على خادم الله أن يكون مجتهدًا حريصًا. نعم، وبالحري يكون ملتهبًا كالنار، حتى عندما يحطم الشهوات الجسدية بروح ملتهبة يكون قادرًا على الاقتراب من الله الذي يلقبه القديسون ب "النار الآكلة"
القديس أثناسيوس الرسولي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 01, 2012 1:03 am

الاصحاح الثالث والعشرون


التدقيق في الحياة


الإنسان المسيحي وقد تمتع بالحرية الداخلية، وصار قلبه ملتصقًا بالله، كل ما يشغله أن يكون سفيرًا للسيد المسيح، يلزمه أن يكون مدققًا في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ ليصير على صورة خالقه.

1. آداب الجلوس على مائدة حاكم 1-3.

2. تحرير القلب من شهوة الغنى 4-5.

3. عدم الشركة مع الأشرار 6-9.

4. عدم سلب الأيتام 10-11.

5. طلب الأدب والمعرفة 12-14.

6. الصديق يُفرح قلب أبيه 15-16.

7. التمسك بمخافة الرب 17-18.

8. عدم شرب الخمر 19-21.

9. تكريم الوالدين 22.

10. اقتناء الحق 23.

11. فرح الوالدين بالابن البار 24-25.

12. تسليم القلب 26.

13. خطورة الزنا 27-28.

14. إدمان الخمر 29-35.


1. آداب الجلوس على مائدة حاكم

إِذَا جَلَسْتَ تَأْكُلُ مَعَ مُتَسَلِّط،ٍ

فَتَأَمَّلْ مَا هُوَ أَمَامَكَ تَأَمُّلاً [1].

يفرح كثيرون أنهم ينالون نعمة لدى الحاكم، ويدخلون معه في علاقة شبه أسرية، ويشتركون معه على مائدته. لكن جدير بالإنسان مهما توطدت علاقته بالحاكم أن يدرك حدوده، فإن جلس معه على المائدة، يتأمل أنه في حضرة حاكم، فلا يستغل محبته، بل يعطي الكرامة لمن له الكرامة (رو 13: 7).

يرى القديس أوغريس أنه إن كان يلزم أن يكون الإنسان مدققًا عندما يجلس مع إنسان حاكم، فبالأولى به أن يدقق عندما يقرأ الكتاب المقدس يكونه المائدة الملوكية، فيتأمله بطريقه روحية عقلية، لأن فهمه بطريقة حرفية لا يُقدم لنا الحق[734]. ويرى كثير من الآباء أن هذه المائدة هي مائدة الإفخارستيا.

* "إذا جلست تأكل مع الرئيس، فأفهم بتعقل ما هو أمامك". سبق أن أُعلن عن المسيح بكونه الرئيس، مائدته وطعامه هما كلمات تعليمه عن الخيرات الأبدية. من يفهم بتعقل ما يعلمه يسوع بأعماله وكلماته يمد يده التي تعني أعماله ويبدأ أن يظهر أنه يتمثل بالمسيح، فيصير متواضعًا، مسالمًا، محبًا للجميع، صبورًا في التجارب. من لا يفعل هذا، بل عوض هذا يتطلع بشغفٍ نحو ملذات العالم يلزمه أن يكف عن الرغبة في الخيرات الزمنية سمة الحياة الباطلة، ومن يحبها لن ينعم بالمقتنيات الأبدية
القديس يوحنا الذهبي الفم

* ما هي "مائدة صاحب السلطان (المتسلط)" سوى فكر ذاك القائل: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 4: 13)، "حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى" (2كو 12: 10)؟ على مائدة صاحب السلطان الطاهر هذا، أي في قلبه وفي فكره يُقدم خبز للرب.

إن جلست على مائدة هذا الرسول صاحب السلطان لتفهم بتعقل ما هو الموضوع أمامك، أي تفهم روحيًا ما يقوله
العلامة أوريجينوس

* تنبهنا الكتب المقدسة إلى الاشتراك بتعقل في المائدة عندما نُدعى للأكل على مائدة غني. يمكنني القول بأن مائدة الكتاب المقدس التي للغني مُعدة أمامنا. إننا ندخل روضة مملوءة بالورود، هنا وردة، وهناك سوسن يتلألأ بالبياض، في كل موضع توجد أنواع كثيرة من الزهور
القديس جيروم

*ما هي"مائدة المتسلط"، إلا المائدة التي نتناول منها جسد ودم ذاك الذي سلم حياته لأجلنا؟ وما هو الجلوس، سوى الاقتراب بتواضع؟ وما هو تأمل الأشياء الموضوعة أمامك وفهمها، سوى أن نتأهل لنوال نعمة عظيمة كهذه؟

*أنتم تقتربون من مائدة الحاكم. أنتم المؤمنون تعرفون أية مائدة تقتربون إليها. أية مائدة ملوكية تقتربون إليها.

الموضوع أمامكم ليس مائدة من صنع مهارة الطباخين. المسيح نفسه يضع مائدته، ويشبعكم. كونوا فقراء فتنالوا شبعكم

*بالتأكيد هي مائدة عظيمة، حيث يكون رب المائدة نفسه هو الوليمة. لا يُطعم أحد ضيوفه بنفسه طعامًا. لكن المسيح الرب فعل هذا، بكونه هو نفسه المُضيف، وهو نفسه الطعام والشراب
القديس أغسطينوس

وَضَعْ سِكِّينًا لِحَنْجَرَتِكَ إِنْ كُنْتَ شَرِها [2].

يليق بالإنسان ألا يكون شرهًا، إنما يأكل لكي يعيش، ولا يعيش لكي يأكل ويتلذذ بالطعام. فكم بالأكثر حين يجلس على مائدة حاكم، فإن جلوسه مع الحاكم أسمى وأكثر لذة من شهوة الطعام.

إن كان هذا بالنسبة للجلوس مع الحاكم، فكم حين تكون في حضرة ملك الملوك ورب الأرباب، فإنه ليس من لذة لطعامٍ أو شرابٍ أو انشغالٍ بملبسٍ فاخرٍ أو ترفٍ أو ضحكٍ طائشٍ يسحبنا من عذوبة الجلوس معه.

* لتسمعوا إذن يا أحبائي الذين أكتب إليكم، أعني ما يخص المتوحدين والرهبان والبتوليين والقديسين. قبل كل شيء يليق بالإنسان الذي وُضع عليه النير أن يكون ثابتًا في إيمانه. وكما كتبت إليكم في الرسالة الأولى أنه يجب أن يكون غيورًا في الصوم والصلاة، حارًا في محبة المسيح، متواضعًا وديعًا وحكيمًا. ليكن حديثه هادئًا مبهجًا، وفكره مخلصًا مع الجميع. ليزنْ الكلمات التي ينطق بها، ويصنع سياجًا لفمه يصرفه عن الكلمات المضرة، ويبتعد تمامًا عن الضحك الطائش.

ليته لا يحب بهرجة الثياب، ولا يليق به أن يطيل شعره ويزينه ويدهنه بعطور.

ليته لا يجرى وراء الولائم، ولا يرتدي ثيابًا فاخرة.

لا يتجاسر ويشرب المزيد من الخمر
القديس أفراهاط

لاَ تَشْتَهِ أَطَايِبَهُ، لأَنَّهَا خُبْزُ أَكَاذِيبَ [3].

يعطينا دانيال ورفقاؤه الشبان الثلاثة أمثلة حية لعدم اشتهاء أطايب الملك. فإذ لم ينغمسوا في الأطايب "أعطاهم الله معرفة وعقلاً في كل كتابة وحكمة، وكان دانيال فهيمًا بكل الرؤى والأحلام" (دا 1: 27).

* لا توجد حدود للنهم الذي يمارسه هؤلاء الناس. بالحق في الاختراع المستمر لكثرة من الحلويات الجديدة والبحث عن وصفات للأطعمة، يتحطمون وسط الفطائر والكعك بالعسل والحلويات...

إن إنسانًا من هذا النوع (نهم) ما هو إلا فم ضخم... أما بالنسبة لنا نحن الذين نطلب الطعام السماوي، فيلزمنا أن نضبط بطوننا، ونحفظها تحت مراقبة السماء
القديس إكليمنضس السكندري

* إياك والشره! لا ترتبط بشهوتك، فإنها تطرد مخافة الله من القلب، والحياء من الوجه، وتجعل الإنسان مأسورًا من الشهوات الفانية الدنيئة، وتُضل العقل عن الله. اجعل أكلك لقيام الجسد لا للشهوة، واجعله عاجزًا (ضعيفًا) قليلاً، وأَتعبه كثيرًا في المطانيات.
أنبا أنطونيوس الكبير

*لا تذهبوا إلى أعياد القديسين فتأكلوا وتشربوا وتلهوا، لأنّ الشره هو الذي أخرج آدم من الفردوس.
القديس الأنبا إشعياء

*بدء كل صلاح هو الحب الروحي، يتبعه التواضع وحب المسكنة وقطع الدالة. أمّا خراب النفس فهو حب البطن.
القديس الأنبا بيشوي

* الأكل بشهوة هو اشتهاء تناول الطعام ليس لأجل حاجة الجسد، بل بسبب النهم. فإذا رأى المرء أنه لأجل باعث صحيح (مثل صحة الجسد) يفضّل البقول الخضراء مثلاً عن البقول الجافة فهذا ليس لأجل الشهوة، بل لأنها أكثر خفّةً (أي أسهل هضمًا)، يكون الحال مختلفًا.
يوحنا تلميذ القديس برصنوفيوس


2. تحرير القلب من شهوة الغنى

لاَ تَتْعَبْ لِكَيْ تَصِيرَ غَنِيًّا.

كُفَّ عَنْ فِطْنَتِكَ [4].

يحسب البعض أنه من الفطنة أو الحكمة أن يبذل الناس كل جهدهم أو طاقاتهم لكي يكونوا أغنياء، فيجمعون مالاً بشرهٍ، وليس من شبع داخلي. هؤلاء يجعلون من الثروة إلهًا يتعبدون له، كما أن الشرِّهين يجعلون من بطونهم آلهة. هؤلاء وأولئك يتعبون بلا راحة، ويستخدمهم العالم بدلاً من أن يستخدموه.

هَلْ تُطَيِّرُ عَيْنَيْكَ نَحْوَهُ وَلَيْسَ هُوَ؟

لأَنَّهُ إِنَّمَا يَصْنَعُ لِنَفْسِهِ أَجْنِحَةً.

كَالنَّسْرِ يَطِيرُ نَحْوَ السَّمَاءِ [5].

يشَّبه الحكيم الجشعين بمن يقيمون أجنحة للثروة، لا لكي تطير بهم إلى الراحة، بل لكي تطير عنهم وتختفي، فلا يجدون ما قد جمعوه. بينما الإنسان القانع والمستخدم العالم حسنًا يحمل جناحي الروح ليطير كما إلى السماء، إذا بالجشع يطير منه كل تعب يديه، ويبقى ملقيًا في العالم في عوزٍ شديدٍ!

إذ أُستعبد جيحزي تلميذ إليشع النبي لمحبة المال جرى وراء نعمان السرياني يأخذ منه شيئًا (2 مل 5: 2)، فنال ضعف ما طلبه، لكن التصق به برص نعمان وبنسله أيضًا (2 مل 5: 27). وإذ طمع عخان بن كرمي في رداء شنعاري نفيس ومائتي شاقل فضة ولسان ذهب (يش 7: 21) حلّ غضب الله على الشعب كله بسببه.

لا يمكنك أن تعيش حسب الله، إن كنتَ تحب المال والمسرات الأرضية.
القديس أنبا إيسيذورس

* اسمع مني يا أخي واحتمل مني رأيًا قد ينفعك: إنك مُجرَّبٌ بشيطان الطمع وحب المال، لأني رأيته فيك، ولكن إن قبلتَ نصيحتي وأخرجته من قلبك، فإنك تكمِّل عمل الله بالكمال في هذا المكان، وتصير في النهاية ممجَّدًا، فلا تقترب إليك تأديبات الله. أما إذا كنتَ لا تسمع لي، فإنك ستسقط فيما سقط فيه جيحزي، لأن مرضه فيك!

* إنني أقول لك، يا ابني، إنّ كل عملٍ رديء هو في هذين الأمرين: الزنى ومحبة المال، مع أنّ الزنى رديءٌ جدًّا، وبعد وقتٍ قليل يُشيح الإنسان بوجهه عنه ويشمئز منه بسبب رائحته الكريهة. أما محبة المال فتأتي من التكديس، وعندما تأتي تكون حلوةٌ لك، لأنها شرهة لا تشبع، لأجل هذا يجب أن يختم الإنسان أبواب كنيسة البرية وأبواب الأموات بالخوف من قوات هذا الزمان، لأنه في الحقيقة سيقوم أناسٌ معينون يبحثون ويستقصون عن ميراث الذين يرقدون ناسين هذا المكتوب: "إذا أتى الغِنى فلا تضعوا عليه قلوبكم" (مز 62: 10 LXX)، وهذا ما يقول عنه الرسول: "محبة المال أصلٌ لكل الشرور" (1 تي 6: 10).
القديس مقاريوس الكبير


3. عدم الشركة مع الأشرار

لاَ تَأْكُلْ خُبْزَ ذِي عَيْنٍ شِرِّيرَةٍ،

وَلاَ تَشْتَهِ أَطَايِبَهُ [6].

مع محبتنا لكل البشرية من كل القلب، يلزم أن تكون هذه المحبة في الرب، نمارسها بروح الحكمة، فتكون لبنياننا وبنيان الآخرين. أما من يصادق الأشرار ليشاركهم ملذاتهم وشهواتهم، فإنه يدفع بحياته نحو الهلاك.

*حكيم هو هذا الذي يمنعنا من أن نأكل في صحبة إنسانٍ حاسدٍ، وفي إشارته إلى هذه الصحبة على المائدة، ينطبق هذا على كل علاقة اجتماعية أخرى أيضًا. فكما يجب أن نكون حذرين في الأمور المادية التي يمكن بسهولة أن تلتهب، فنبتعد قدر المستطاع عن النار، هكذا يليق بنا أن نكف ما استطعنا عن إقامة صداقة في كل الدوائر التي يكون فيها الحاسدون أعضاء. بفعلنا هذا نُبعد أنفسنا عن مجال رماحهم. فإننا نُصطاد في متاعب الحسد فقط عندما نقترب منه
القديس كيرلس الكبير

لأَنَّهُ كَمَا شَعَرَ فِي نَفْسِهِ هَكَذَا هُو.

يَقُولُ لَكَ: "كُلْ وَاشْرَبْ" وَقَلْبُهُ لَيْسَ مَعَكَ [7].

يدعونا الحكيم إلى الهروب من مائدة الشرير، لأنه وهو يقدم لك الأكل والشرب لا يحمل في داخله حبًا حقيقيًا، إنما ما يشغله هو تكلفة المائدة التي قدمها لك، أو كيف يستغل تقديم الوليمة لدفعك للشر,

اللُّقْمَةُ الَّتِي أَكَلْتَهَا تَتَقَيَّأُهَا،

وَتَخْسَرُ كَلِمَاتِكَ الْحُلْوَةَ [8].

إذ يكتشف الإنسان أن الصديق الشرير يقدم مائدته لا قليه، وأن كلماته المعسولة تخفي مشاعر سيئة لا يطيق الطعام المُقدم له بل يتقيأه.

* لا تُفسد وصية الله من أجل صداقة أحدٍ.
القديس أنطونيوس الكبير

* إن كانت لك صداقة مع أحد الإخوة ويلومك فكرك على أن مخالطتك له تضرك، فاقطع نفسك منه. وأنا أقول ذلك، أيها الحبيب، لا لكي تبغض الناس، بل لكي تقطع أسباب الرذيلة.
القدِّيس مار أفرام السرياني

* لنتبع الصداقات التي حسب الروح، لأنها قويَّة ويصعب حلها، وليس الصداقات التي تقوم حول المائدة
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

* لا ترتبط بصداقةٍ مع أي إنسانٍ إلاّ مع إخوتك الفقراء، لا تُسرع نحو أي إنسان لكي يعمل لك خيرًا، بل أسرع إلى الله وحده واهتم بخدمته، إنه هو الذي يضمّك في أحشاء أبوّته. أما أنت فاحترس من الدالّة مع الناس، ولا تكن دالّتك كلها إلاّ بينك وبين الله. لا تُسرع نحو أي إنسانٍ لكي تستمتع بالراحة في دالّتك معه، لا تكن لك دالّة على مسكنه، ولا تمكث عنده دون أن تتلقّى أمرًا بذلك حتى لا تكون ثقيلاً عليه. يا أخي، إذا أردتَ أن تكون في راحةٍ كل حياتك، وأن تكون أفكارك متحدةً بالله كل ساعةٍ، اِحترس من الدالّة مع الناس.
القديس مقاريوس الكبير

فِي أُذُنَيْ جَاهِلٍ لاَ تَتَكَلَّمْ،

لأَنَّهُ يَحْتَقِرُ حِكْمَةَ كَلاَمِكَ [9].

الإنسان الأحمق المُصر على حماقته في عنادٍ، يسد أذنيه عن الاستماع لأية مشورة، لهذا يليق بالحكيم ألا يفسد وقته بتقديم نصائح له. وكما يقول السيد المسيح: "لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير، لئلا تدوسها بأرجلها، وتلتفت فتمزقكم" (مت 7: 6).

* يمكننا أن نفهم القُدْس والدُرَر على أنها شيء واحد، دُعي قُدسًا بسبب الالتزام بعدم إفساده، ودُررًا بسبب الالتزام بعدم الازدراء به. فالإنسان يفسد ما لا يرغب في إبقائه سليمًا، ويزدري بما يحسبه تافهًا ومنحطًا. لذا يُقال عن الشيء المحتقر أنه مدوس بالأقدام. يقول الرب: "لا تعطوا القدس للكلاب"، لأن الكلاب تهجم على الشيء لتمزّقه، حتى وإن كان هذا الشيء لا يمكن تمزيقه أو إفساده أو تدنيسه. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إذن لنفكِّر فيما يرغبه هؤلاء المقاومين للروح بعنف وعداء شديد. إنهم يرغبون في تدمير الحق الذي لا يُمكن تدميره. أمّا الخنازير فتختلف عن الكلاب، فهي لا تهاجم لتمزّق بأسنانها، لكنها تدنّس الشيء إذ تدوسه بأقدامها في طياشة... إذن لنفهم أن "الكلاب" تُشير إلى مقاومي الحق، "والخنازير" إلى محتقريه
القدّيس أغسطينوس

*احذر لئلا تنقاد إلى التعليم وأنت في شبابك، فتضل بالمجد الفارغ، ولا تعلم ما قد تعلمته بالاختبار أكثر مما بالقراءة أولئك الذين قد تدنسوا إلى النهاية (أي المستهترين)، فيتم ما قد أعلنه الرجل الحكيم سليمان القائل: "في أذنَي جاهلٍ لا تتكلم، لأنهُ يحتقر حكمة كلامك" (أم 9:23). و"لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا دُرَركم قدام الخنازير، لئَلاَّ تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزّقكم" (مت 6:7). يليق بنا أن نخفي أسرار المعاني الروحية عن البشر الذين هم من هذا النوع، حتى نتغنى بحق: "خبأْتُ كلامك في قلبي لكيلا أخطئَ إليك" (مز 11:119)
الأب نسطور


4. عدم سلب الأيتام

لاَ تَنْقُلِ التُّخْمَ الْقَدِيم،َ

وَلاَ تَدْخُلْ حُقُولَ الأَيْتَامِ [10].

لأَنَّ وَلِيَّهُمْ قَوِيٌّ.

هُوَ يُقِيمُ دَعْوَاهُمْ عَلَيْكَ [11].

من يظلم الأرامل والأيتام والضعفاء والعاجزين عن الدفاع عن أنفسهم، يتحدى الله نفسه خالقهم ووليهم الحي. فهو يقيم دعواهم، ويدافع عنهم، ويرد لهم حقوقهم.

قتلت الملكة إيزابل المسكين نابوت اليزرعيلي، وورثت كرمه (1 مل 21)، وظنت أنه ليس من يقدر أن يدافع عنه، لكن الكلاب أكلتها في ذات حقل يزرعيل الذي اغتصبته (2 مل 9).


5. طلب الأدب والمعرفة

وَجِّهْ قَلْبَكَ إِلَى الأَدَب،ِ

وَأُذُنَيْكَ إِلَى كَلِمَاتِ الْمَعْرِفَةِ [12].

يرى Kail وDeiltesch أن هذا المثل هو مختصر أو صدى لما ورد في أمثال 22: 17-21، أما "كلمة "أدب" هنا ففي رأيهما أنها تشير إلى التأديب، سواء من قبل الله أو البشر باعتدال.

هذه النصيحة عامة، موجهه إلى الكبار كما إلى الصغار، إلى الذين يحتاجون إلى التعلم أو المتعلمين بالفعل. كلنا في حاجة إلى خطة الله ومعاملاته معنا حتى عندما تبدو حازمة، كما في حاجة إلى آباء مرشدين لنميل بآذاننا إلى كلمات المعرفة بروح التواضع.

في حديث القديس غريغوريوس رئيس متوحدي قبرص يشبه هذه المعرفة المقدسة بالناف (الجزء من المحراث الذي يوضع على عنق الثور)، بدونه لن تُحرث أرض القلب لتحمل ثمار الروح.

* الناف الذي يكد به هؤلاء الفلاحون القديسون هو المعرفة المقدسة المركبة من ثلاث فضائل إلهية، وهي المحبة والصوم والصلاة، أو الإيمان والرجاء والمحبة، والطريق الذي يسير فيه هذا المحراث لشق الأرض هو التواضع المحبوب عند الله، الذي ترتعب منه جميع صفوف الشياطين، تلك الفضيلة التي لم تستطع الشياطين أن تدخل إليها
القديس غريغوريوس القبرصي

* الله سوف يعطيك المعرفة لكي تعرفه.
القديس إسطفانوس الطيبي

* أساس حياة الراهب هو المعرفة الحقيقية، وجهل الراهب يُظلم نفسه.
للقديس هيبريشيوس الكاهن

* التقى سائح بسائح في برية سيناء فسأله: "بماذا يكون الخلاص؟" فقال: "بالمعرفة بحقائق الأمور، والعمل بحسب الحق". فقال له: "هل مَنْ لا يعرف لا يخلص؟" قال: "لا يخلص". فقال: "وما هي المعرفة؟" فأجاب: "أن يعرف العبد حقيقة خالقه، وممّ خلقه، وماذا يكون مصيره. فإذا عرف ذلك لا يعصاه، بل يعمل على إرضائه طوال حياته". فقال: "صدقت"، ثم انصرف.
فردوس الآباء

* إذا علم إنسانٌ أنه يتعدّى الوصية، فهو يُظهِر دليلاً واحدًا على المعرفة، والذي يعرف يُصحِّح نفسه.
القديس برصنوفيوس

لاَ تَمْنَعِ التَّأْدِيبَ عَنِ الْوَلَدِ،

لأَنَّكَ إِنْ ضَرَبْتَهُ بِعَصًا لاَ يَمُوتُ [13].

تَضْرِبُهُ أَنْتَ بِعَصا،

فَتُنْقِذُ نَفْسَهُ مِنَ الْهَاوِيَةِ [14].

التأديب بحكمة وحب نافع للأبناء، فإنهم وإن تألموا يسيرًا إلى حين، لكن يحفظهم من السقوط في الهاوية.

الله في أبوته لنا يؤدبنا، ليس انتقامًا، بل عطفًا علينا، وترفقًا بنا لأجل بنياننا، إذ يقول الحكيم: "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، وكأب بابنٍ يسر به" (أم 12:3). فالحزم في الأبوة يختلف عن القسوة التي بلا أبوة، إذ تنبع عن حب صادق.

يلزم أن نضع في اعتبارنا أنه قبل أن نؤدب يتسع قلبنا بالحب، كقول القديس أغسطينوس: [التوبيخ يجب أن تسبقه الرحمة لا الغضب.]

* الإصلاح بالتأديب، كما يدعى اسميهما (أي الإصلاح والتأديب)، هو ضربات لها تأثيرها على النفس، فتحد من الخطية، وتحرس من الموت، وتقود المُستعبدين بواسطة الرذيلة إلى ضبط النفس
القديس إكليمنضس السكندري

* كما أن الأطفال الصغار المهملين في التعلم يصيرون في أكثر يقظة وطاعة بعد معاقبتهم بواسطة معلمهم أو مدربهم، وكما أنهم لا يصغون قبل ضربهم، وإنما بعد الشعور بالألم من الضرب يسمعون ويستجيبون كأن آذانهم قد انفتحت حديثًا، ويحدث تقدم في الذاكرة، هكذا أيضًا بالنسبة للذين يهملون التعليم الإلهي ويقاومون باستخفاف الوصايا. فإنهم بعد اختبارهم لإصلاح الله لهم بالتأديب تصير وصايا الله التي كانت دائمًا معروفة لديهم ومع ذلك يهملونها، مقبولة باستعداد شديد كما بآذان اغتسلت حديثًا
القديس باسيليوس الكبير

أيها الآباء علّموا أبناءكم بالرب، وربوهم بأدبٍ ومعرفةٍ بالمسيح، وعلّموهم صناعات تليق، لئلا يُتهموا بالبطالة...

لا تخافوا من انتهارهم وتعليمهم بهيبة، لأنكم لا تقتلونهم إذا علمتموهم بل تحبونهم.
قوانين ابن العسال


6. الصديق يفرح قلب أبيه

يَا ابْنِي إِنْ كَانَ قَلْبُكَ حَكِيمًا،

يَفْرَحُ قَلْبِي أَنَا أَيْضًا [15].

وَتَبْتَهِجُ كِلْيَتَايَ،

إِذَا تَكَلَّمَتْ شَفَتَاكَ بِالْمُسْتَقِيمَاتِ [16].

بعد أن تحدث عن ضرورة تأديب الأبناء، فلئلا يظن الأبناء أن في هذا نوعًا من استخفاف الآباء بهم أو احتقار لتفكيرهم، أو كتم لأنفاسهم، يقدم لنا خبرته الشخصية من جهة أبنائه. إنه يفرح بحكمتهم، ويتهلل قلبه بنجاحهم باستقامة حياتهم.

هذه هي مشاعر سليمان من جهة أبنائه، فكم بالأكثر تكون مشاعر الله وفرحه بحكمة أولاده. إنه يهب أولاده الحكمة، ويعود فيفتخر بحكمتهم واستقامة قلوبهم.

هنا يحث الأبناء على عدم الغضب حينما يسقطون تحت التأديب الإلهي أو تأديب والديهم.

ولماذا نتكلم عن فرح الله والوالدين بالأبناء المستقيمي القلب، فإنه حتى الملائكة تفرح بهم، كما تظهر من رؤيا القديس أنبا أنطونيوس عند انتقال القديس أنبا بولا.

* الراهب المصلوب الذي يموت كل يوم يقتني نعمة عظيمة، لأن الملائكة تفرح به عند استقباله في ملكوت السماوات.

* يا لفرح الملائكة حين يرون خاطئًا يدخل ملكوت السماوات بتوبته! ويا لبهجة القديسين حين يجدون خاطئًا يرتد عن ضلاله! فبعد أن تقتدي بإيمانهم، اطلب باجتهاد البهجة التي تتبع ذلك.
القديس هيبريشيوس الكاهن

* (عن لقاء أنبا أنطونيوس بأنبا بولا) عاد أنبا أنطونيوس من نفس الطريق التي جاء منها مشتاقًا إلى رؤية أنبا بولا قبل أن يسلِّم روحه للمسيح، ولكن في طريقه رأى جماعة ملائكة وفي وسطهم القديس بولا وهم يصعدون به، ويسبِّحون قائلين:

"السلام للقائك بالقديسين يا بولا رجل الله.

تتهلل الملائكة معك. إنك ستفرح في السماوات.

تركتَ عنك الظلمة، وانطلقتَ إلى فردوس النعيم.

تركتَ عنك الحزن إلى الفرح الذي ليس له انقضاء.

تركتَ عنك البكاء، وستمضي إلى الفرح الأبدي.

لأنك صرتَ مطوَّبًا في جيلك، وذكرك على ممر الأجيال.

أنت رجل الله، طوباك ثم طوباك".
فردوس الآباء

*قالوا له (لأنبا أنطونيوس): "ما معنى قول الرسول: "افرحوا بالرب"؟" فقال: "إذا فرحنا بعمل الوصايا، فهذا هو الفرح بالرب. فلنفرح بتكميل وصايا الرب وبنجاح إخوتنا، ولنحفظ أنفسنا من فرح العالم والضحك إن أردنا أن نكون من خاصة ربنا. لأنه قال إنّ العالم يفرح، وأنتم تبكون (يو 16: 20)، وقال إنّ الويل للضاحكين والطوبى للباكين (لو 6: 21،25). ولم يُكتب أنه ضحك قط، وكُتب أنه حزِنَ ودمعت عيناه (يو 11: 35).
فردوس الآباء

7. التمسك بمخافة الرب

لاَ يَحْسِدَنَّ قَلْبُكَ الْخَاطِئِينَ،

بَلْ كُنْ فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ الْيَوْمَ كُلَّهُ [17].

يحسد البعض الأشرار الذين ينجحون، لكن من يتمتع بمخافة الرب يدرك أنه نجاح الأشرار مؤقت لا يدوم، وأنهم إن لم يرجعوا إلى الرب يهلكون. أما من يضع رجاءه في الرب بروح التقوى ومخافة الرب فحتمًا يكافأ في حينه.

* ثلاثة أشياء يفرح بها القلب: تمييز الخير من الشر، والتفكير في الأمر قبل أن يتم، والبعد عن المكر. وثلاثة أشياء تنير العقل: الإحسان إلى مَنْ أساء إليك، والصبر على ما يحلّ بك من أعدائك، وترك النظر والحسد لمن يتقدّمك في الدنيا.
القديس أنبا أرسانيوس

* كما أن النار تنشِّف رطوبة الخشب وتحرقه، هكذا مخافة الرب إذا سكنت في الإنسان تنشِّف لحمه وتجفِّف عظامه.

* ليس شيء يعلو على مخافة الرب، لأنها تسود على كل شيء، وبخوف الرب يحيد كل واحدٍ عن كل الشرور، فلنقتن لنا هذا الخوف ولنحِدْ عن كل ما لا يريده الله، ونجرِّب كل ما يرضيه ونحفظه ولا نفعل شيئًا يحُزنه، ونعلم أن كلَّ ما نفعله ينظر هو إليه ولا تخفى عليه خافيةً.
القديس مقاريوس الكبير

* لا نجد في زمننا مَن يسأل: من هو الذي يخاف الرب؟ بل: من هو الأقدم بوضع الأيدي؟ فإن قالوا: فلان أقدم، قالوا له: يليق بك أن تجلس على رأس المائدة. وليس من يتذكر كلام المخلص حين أعطى الويل للكتبة والفريسيين
القديس أفراهاط

لأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ ثَوَاب،ٍ

وَرَجَاؤُكَ لاَ يَخِيبُ [18].

في الوقت الذي فيه يحذرنا الحكيم من حسد الأشرار على ما نالوه من تقدمٍ أو نجاحٍ أو وفرة خيراتٍ، لأنها أمور مؤقتة، يطلب منا أن نركز أنظارنا على الرجاء في نوال الميراث الأبدي والنجاح الحقيقي والنصرة الدائمة. فالمؤمن الحقيقي يفتح له الرجاء أبواب السماء أمام عينيه، فيعيش متهللاً تحت كل ظروف الحياة، مهما بدت قاسية. إنه واثق في غنى نعمة الله، وإمكانية التمتع بحياة النصرة.

* لا تجبن أيها الراهب العمّال بالفضائل، وتقول في قلبك: إن أعدائي قد اصطادوني صيدًا مثل العصفور مجانًا. لتعلم أن غلبة يسوع معك كل حين، واصرخ بالفرح، وقل: الرب عوني ممن أخاف؟ اقرع باب تحننه، فيجيبك سريعًا. أطلب منه سؤالك بإيمان، وهو يعطيك مراحمه أضعافًا كثيرة، ولا تقل إني لا أستطيع العمل.

*الذي يجفف كل زروع الشيطان هو الصلاة مع الرجاء بالله.

*إن حلّ بهم (بالمؤمنين) شيطان الكآبة فليتعزوا بمواعيد ربنا، وينظروا في رجاء غنى الروح، ويسلموا أنفسهم لمواعيد الفرح. بهذا تعبر عنهم أحزان الكآبة بمعونة الله، ويحل فرحه في نفوسهم.

* اهربوا من مشورات شيطان الكآبة ومن قطع الرجاء، واسمعوا بحبٍ لهذه الإفرازات التي وضعناها لكم: المسيح رحوم، فاطلبوه من كل قلوبكم، وتقووا، وهو يشفي أوجاع أجسادكم وأمراض نفوسكم. لا تخف أيها العَمَّال، ولا ترتعب من تهديد الشياطين. فإنهم يتشتتون أمام قوة الفضيلة. يا من غُلب من الشياطين، اعمل وعش، ولا تقطع رجاءك.

إن كنت قد أخطأت كاللص، فأصرخ إلى سيدنا: "أذكرني"، فتحيا؛ أو سقطت كالزانية، فاخرج في طلب رحمة ربنا فتدركها. لا تخف ولا تهدأ عن طلب الرحمة أهرب من أفكار قطع الرجاء
القديس غريغوريوس القبرصي

8. شرب الخمر

اِسْمَعْ أَنْتَ يَا ابْنِي وَكُنْ حَكِيمًا،

وَأَرْشِدْ قَلْبَكَ فِي الطَّرِيقِ [19].

بروح الأبوة الحانية يعلن الحكيم أنه لا يطلب حرمان ابنه من شيءٍ، لكنه حين يمنعه من إدمان الخمر أو الإسراف في الملذات الجسدية، إنما بغية أن يسلك ابنه بالحكمة في الطريق المستقيم، لصالح جسده ونفسه وروحه.

إنه يحذره من صحبة السكيرين والمنغمسين في الإسراف والملذات، فإن صحبة الأشرار تدفع إلى مشاركتهم شرورهم.

لاَ تَكُنْ بَيْنَ شِرِّيبِي الْخَمْر،ِ

بَيْنَ الْمُتْلِفِينَ أَجْسَادَهُم [20].

لأَنَّ السِّكِّيرَ وَالْمُسْرِفَ يَفْتَقِرَانِ،

وَالنَّوْمُ يَكْسُو الْخِرَقَ [21].

يري القديس غريغوريوس أسقف نيصص أنه يليق بالمؤمن أن يطيع وصية السيد المسيح بأن يخلع الثوب العتيق (مر21:2)، الثوب المهلهل الذي يرتديه من يسكر بالخمر والزانية (أم 21:23) لكي يرتدي الثوب الجديد، ثوب النقاوة والخلود، علي شبه ثوب السيد المسيح الذي ظهر به في تجليه

*قال الآباء: "حيث يكون شرب الخمر... لا توجد حاجة إلى شيطان".

*قال شيخ: "جيدٌ أن يوجد اسمك مكتوبًا في بيوت المساكين والأرامل والضعفاء أفضل من أن يوجد مكتوبًا في بيوت باعة الخمر. وجيد أن يكون فمك نتن الرائحة بسبب شدّة الصوم أفضل من أن تكون رائحته خمر".

* كان الرهبان يحتفلون بأحد الأعياد في الإسقيط، وأعطوا أحد الشيوخ كأسًا من الخمر، فرفضها قائلاً: "ابعدوا هذا الموت عني". فلما رأى الآخرون الذين كانوا يأكلون معه ما فعله رفضوا هم أيضًا أن يأخذوا من الخمر.
فردوس الآباء

*قبل كل شيء يلزم على الراهب أن يمنع الاجتماع بالنساء وشرب الخمر، لأن الخمر والنساء يدفعون حتى بالحكماء إلى السقوط (جا 19: 2)
القديس باسيليوس الكبير

9. تكريم الوالدين

اِسْمَعْ لأَبِيكَ الَّذِي وَلَدَك،َ

وَلاَ تَحْتَقِرْ أُمَّكَ إِذَا شَاخَتْ [22].

قيل عن السيد المسيح: "مع كونه ابنًا تعلم الطاعة مما تألم به" (عب 8:5). ونحن كأعضاء جسده، إذ نتحد به، نُحسب بالحق مطيعين، إذ نحمل شركة سماته. من جانب آخر نفهم الطاعة لا كخنوعٍ ومذلةٍ أو تقليلٍ من شأننا بل هي اتحاد مع المسيح الذي أطاع الآب وهو واحد معه في الجوهر، وأطاع القديسة مريم والقديس يوسف وهما من صنع يديه. هكذا نفهم الطاعة الحقيقية اتحادًا مع السيد المسيح ونضوجًا.

يقول الكتاب "كان خاضعًا لهما". فلِمَنْ كان يسوع خاضعًا؟! ألم يكن خاضعًا لأبويه؟! فبكونه ابن الإنسان خضع لكل من أبويه (القديس يوسف أبيه حسب الشريعة، والقديسة مريم والدته)...

ليعلم الأبناء وصاياهم: وهي الطاعة والخضوع لآبائهم. فقد كان العالم خاضعًا للمسيح، وكان المسيح خاضعًا لأبويه
القديس أغسطينوس


10. اقتناء الحق

اِقْتَنِ الْحَقَّ وَلاَ تَبِعْهُ، وَالْحِكْمَةَ وَالأَدَبَ وَالْفَهْمَ [23].

* ليتنا نجوع للبرّ فنشبع (مت 5: 6) من مائدة ملكوته. لنكن ملح الحق، فلا نصير طعامًا للحية. لننقِ زرعنا من الأشواك، فنأتي بثمرٍ مئة ضعف (لو 8: 7-Cool.

لنُقم بنياننا على الصخرة (مت 7: 24)، فلا يتزعزع بسبب الرياح والأمواج.

لنكن آنية للكرامة (2 تي 2: 21)، فيطلبنا الرب لاستخدامنا له.

لنبع كل مالنا ونشترِ لأنفسنا اللؤلؤة (مت 13: 46)، فنغتني.

* لنمنطق أحقاءنا بالحق، فلا نوجد ضعفاء في القتال
القديس أفراهاط

11. فرح الوالدين بالابن البار

أَبُو الصِّدِّيقِ يَبْتَهِجُ ابْتِهَاجًا،

وَمَنْ وَلَدَ حَكِيمًا يُسَرُّ بِهِ [24].

يَفْرَحُ أَبُوكَ وَأُمُّكَ،

وَتَبْتَهِجُ الَّتِي وَلَدَتْكَ [25].

عندما تغيرت حياة شاول الطرسوسي وتمتع بالحياة الجديدة المقدسة، يقول: "فكانوا يمجدون الله فيَّ" (غل 1: 24). هذا هو موقف الكنيسة التي تهللت بحياة شاول (بولس الرسول) الذي صار ابنًا لها. بنفس الروح تمتلئ قلوب الوالدين بفرحٍ لا يُعبر عنه عندما يرون في أولادهم برّ المسيح وحكمة الله عاملين في حياتهم، وتنتعش نفوسهم، إذ يرون الله قد استمع إلى صلواتهم عن أبنائهم، وقدس حياتهم، ونزع عنهم عادات خاطئة كانوا يمارسونها.

12. تسليم القلب

يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَك،َ

وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي [26].

أقصى ما يريده الله منا هو القلب، ففي العهد القديم قُدم لنا الناموس منقوشًا على حجارة، لعل قلوبنا الحجرية تلتقط شيئًا من الناموس الإلهي، أو يترك الناموس بصماته على قلوبنا. وإذ لم يحدث هذا قدم لنا إنجيل العهد الجديد ناموسًا منحوتًا بالروح القدس على قلوبنا. "اجعل نواميسي في أذهانهم، واكتبها على قلوبهم" (عب 10:Cool. لهذا إذ يصرخ الكاهن: "ارفعوا قلوبكم"، يترنم الشعب متهللاً: "هي عند الرب".

*في داخلكم إما معرفة الحق أو جهل، الابتهاج بالفضيلة أو الرذيلة، بهذا نعد قلوبنا إما لملكوت المسيح أو ملكوت إبليس
الأب موسى

* إن لم تعطٍ نفسك your soul، فإنك تفقدها. المحبة نفسها تتكلم خلال الحكمة، وتخبرك كي تخلصك من حالة الذعر، إذ يقال: "أعطني نفسك". إن أراد أحد أن يبيع لك حقلاً يقول لك: "أعطني ذهبك"، وإن كان شيء آخر يقوله لك: "أعطني نحاسك"، "أعطني فضتك". (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). الآن لتصغِ إلى ما تقوله المحبة لك، إذ تنطق خلال فم الحكمة: "يا ابني أعطني قلبك". ماذا تعطيها؟ "قلبك يا ابني". كان قلبك شريرًا حين كان معك، عندما احتفظت به لنفسك. كُنت تُسحب في هذا الطريق وذاك كما بالدمى والتفاهات وشهوات الحب المدمر. استبعد قلبك عن هذا كله. إلى أين تسحبه؟ أين تضعه؟ تقول الحكمة: "أعطني قلبك". اجعله لي، فلا تفقده
القديس أغسطينوس


13. خطورة الزنا

لأَنَّ الزَّانِيَةَ هُوَّةٌ عَمِيقَةٌ،

وَالأَجْنَبِيَّةَ حُفْرَةٌ ضَيِّقَةٌ [27].

هِيَ أَيْضًا كَلِصٍّ تَكْمُنُ،

وَتَزِيدُ الْغَادِرِينَ بَيْن النَّاسِ [28].

ليس من فضيلة أعظم من الطهارة والنقاوة، فيرى الإنسان في الجنس الآخر إخوة أو أخوات، يحترمهم كأشخاصٍ، وليسوا موضوع إشباع لشهواته الشريرة. لذا يليق بالإنسان أن يهرب من العثرة، حتى لا يسقط في الزنا، ولو بالفكر أو حتى في الأحلام، أو فيما بعد في لحظات ضعفه. عدو الخير يود إن أمكن أن يفسدٍ طهارة كل إنسانٍٍ، حتى وإن كان ناسكًا متوحدًا.

* يقارن سليمان محبة مثل هذه المرأة بهوة عميقة. إنها تدعو من يحبها أعرج عندما تراه قد فقد كل ممتلكاته (أي تسخر به وبالفقر الذي حلّ به بسببها). ولا تقف عند هذا، وإنما تقاومه بكل جهدها دون توقف وتتسبب في انهياره، وتسخر به، وتسبب له متاعب كثيرة، الأمور التي لا يمكن لكلمات أن تصفها
القديس يوحنا الذهبي الفم

*ويلٌ للظالم لأن غناه يفرّ منه وتلقاه نار لا تُطفَأ. ويلٌ للمتوانين لأنهم يتمنون الزمان الذي تغافلوا فيه فلا يجدونه. ويلٌ لمحب الزنى، فإنه يخرج من عرس الملك وهو مخزي. ويلٌ للمحتال والسكران فإنهما يُدانان مع القتلة والزناة. ويلٌ للذي يأخذ بالوجوه فإن الراعي يجحده والذئاب تفترسه.
القديس نيلوس السينائي

*إن حفظنا الإيمان الصحيح وحفظنا الجسد من الزنى، واللسان من النميمة، فنحن بنعمة الله مفلحون حسب هذا الزمان.
الأنبا بلاّ

* سأل أخٌ شيخًا بخصوص أفكار الزنى قائلاً: "ماذا أفعل بخصوص فكر الزنى الذي يضايقني؟" فأجاب الأب كوبرس السكندري، قائلاً: "اطرح نفسك في الصلاة أمام الله، لأنه لو لم تكن عندنا أفكار نكون مجرد حيوانات. فكما أن العدو يعمل لأجل ما يخصه، هكذا لنعمل نحن فيما يخصنا. فلنقف في الصلاة وليكن لنا اهتمام بإيماننا، ولنتحمّل لأن الاحتمال بصبرٍ إنما هو انتصار. وإن لم يجاهد الإنسان فلن يُكلَّل قط. لأنه يوجد في العالم أبطال يغلبون بالرغم من جراحاتهم، ومع أن شخصين قد يجرحان شخصًا واحدًا عدة مرات، فإذا أمكنه أن يحتمل الضربات يمكنه أن ينتصر على اللذين ضرباه. لاحظ أية درجة من الاحتمال يمتلكها الذين يعملون من أجل التجارة في هذا العالم! إذن، فاحتمل أنت، وسيصارع الله ضد أعدائك نيابةً عنك بينما تظل أنت هادئًا".
فردوس الآباء

*يثير شيطان الزنا الشهوة الجسدية، ويشن هجومه على النساك، ويجاهد لكي يتخلوا عن نسكهم، زارعًا في نفوسهم بأن نسكهم هذا بلا نفع.

فإذا ما استطاع أن يدنس النفس، يبتدئ يهيئها لقول بعض الأحاديث (الشريرة) والاستماع إليها حتى يبدو كما لو أن العمل (الشرير) ذاته ماثل أمام أعينهم

* شيطان المجد الباطل يضاد شيطان الزنا. ولا يسوغ للاثنين أن يقاتلا النفس سويًا. لأن أحدهما يعد بالكرامة والشرف، والثاني يجلب العار. لذلك إذا اقترب إليك أحدهما وبدأ يقلقك، استدعِ إلى عقلك ما تعرضت له من أفكار الشيطان المضاد، فإذا نجحت فيما يقوله المثل عن إخراج مسمارٍ بمسارٍ، فأعلم أنك في الطريق لكي تكون بلا هوى (غير شهواني) إذا أثبت عقلك أنه قادر على إبعاد مشورات الشيطان الخاصة بالأفكار البشرية.

لكن بطبيعة الحال، لو أنك استطعت أن تطرد فكر المجد الباطل بواسطة التواضع، وفكر الزنا بواسطة العفة، فهذه علامة أنك "غير شهواني".

حاول أيضًا أن تفعل هذا مع كل الشياطين وأضدادها، واطلب من الله أن يعينك ويساعدك، لكي تطرد عنك الأعداء بالمنهج الثاني (الالتجاء إلى التواضع والعفة الخ.)
القديس مار أوغريس البنطي


14. إدمان الخمر

لِمَنِ الْوَيْلُ؟

لِمَنِ الشَّقَاوَةُ؟

لِمَنِ الْمُخَاصَمَاتُ؟

لِمَنِ الْكَرْبُ لِمَنِ الْجُرُوحُ بِلاَ سَبَبٍ؟

لِمَنِ ازْمِهْرَارُ الْعَيْنَيْنِ؟ [29]

يقدم لنا الحكيم ستة أسئلة مقتضبة، وتأتي الإجابة عليها في الآيات التالية حيث تقدم وصفًا مرعبًا لحياة الإنسان السكير.

لِلَّذِينَ يُدْمِنُونَ الْخَمْر،َ

الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي طَلَبِ الشَّرَابِ الْمَمْزُوجِ [30].

لاَ تَنْظُرْ إِلَى الْخَمْرِ إِذَا احْمَرَّتْ،

حِينَ تُظْهِرُ حِبَابَهَا فِي الْكَأْسِ،

وَسَاغَتْ مُرَقْرِقَةً [31].

* بالإشارة إلى حمرة العينين - علامة الموت - واضح أن فقاعة الخمر هي بالفعل موت عن الكلمة والعقل. إنها تعلن عن موته عن الرب. إذ ينسي الإنسان الدوافع التي تدفعه لطلب الحياة الحقيقية، يُسحب منحدرًا إلى الفساد. لهذا فإنه بسبب صالح يمنعنا المعلم المهتم بخلاصنا بصرامة: "لا تشربوا الخمر للسُكر"
القديس إكليمنضس السكندري

*افهموا هذا يا إخوة، كل سكير يجعل من عادة الشرب إصابة ببرص داخلي في النفس، لأن نفس السكير تُعرف أنها مثل جسم الأبرص. لهذا من يرغب في التحرر من خطية السُكر التي تقتل النفس وتضعف الجسم، يلزمه أن يشرب القليل. من لا يلتزم بهذه القاعدة يكون مكروهًا لدي الله وموضع سخرية الناس

* الذين يريدون أن يكونوا هكذا (سكيرين)، يحاولون بطريقة بائسة إن يجدوا لأنفسهم عذرًا. يقولون: الشخص صديقي سيكون متضايقًا إن لم أقدم له ما يريده ليشرب عندما أدعوه في وليمة. [لكنني أقول لك] لا يكن لك صديق يريد أن يجعلك غير مُسر لله، فإنه هو عدو لنفسه كما لك. إن جعلت نفسك كما آخر سكيرين، فإنه يكون لك إنسان كصديقٍ، والله كعدوٍ لك
الآب قيصريوس أسقف آرل

فِي الآخِرِ تَلْسَعُ كَالْحَيَّةِ،

وَتَلْدَغُ كَالأُفْعُوانِ [32].

السكر هو أحد الضربات الكبرى التي تصيب البشرية، ويسبب لها شقاءً. ومع إدراك الكل لخطورته إلا أنه يجتذب الكثيرين، ويضللهم. يشبهه الحكيم بحية سامة يحتضنها الإنسان فتهلكه.

*قيل عن أنبا بفنوتيوس إنه لم يشرب الخمر حتى ولو كان مريضًا.

* سأل إخوة شيخًا: "ما معنى قول أنبا شيشوي إن الكأس الثالثة من الشيطان؟" فقال الشيخ: "ذلك لعلمه أنّ الكثرة هي سبب جميع الخطايا: الشتيمة والضرب والزنى وبقية الأوجاع. ولذلك فعلينا أن نتجنّب شرب الخمر ليس بسبب الأوجاع فحسب، بل وأيضًا لأجل ما يجلبه من الانبساط في قلوبنا، فيجد الشياطين الفرصة ليجذبوننا إلى الخطية، ويحرموننا من الطوبى التي وعد بها ربنا للحزانى. لقد انعزل المتوحدون لينوحوا في كل حين ويتعبوا في كل عمل، لأنهم بحزنٍ كثير يقدرون أن يحفظوا نفوسهم من خداع الشياطين وكثرة القتال، فكيف يشربون خمرًا كثيرًا يفرِّح قلوبهم ويفكّ ختومهم ويسقطون في خطايا العلمانيين السُكارى؟!
فردوس الآباء

عَيْنَاكَ تَنْظُرَانِ الأَجْنَبِيَّاتِ،

وَقَلْبُكَ يَنْطِقُ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ [33].

السُكر يلهب في الإنسان شهوات جسدية تفقده طهارته واستقامة حياته. كما تبعث في أعماقه حالة اضطراب وعدم توازن، كثيرًا ما تنعكس حتى على سلوكه، فتفقده توازنه.

*مَنْ يسمح لنفسه أن يشرب خمرًا لا يمكنه أن يتخلّص من هجوم الأفكار وقباحة الأعمال، لأنّ لوط لما أكرهته ابنتاه وسكر من الخمر صار من السهل على الشيطان أن يُسقِطه في فعل الزنى القبيح.
أنبا إيسيذورس

* قال شيخ: "الخمر تحرّك شهوة التناسل وتُفرِّح القلب (بشريًا)، وتصرف الحزن (بطريقةٍ نفسانيةٍ جسدانية)، كما قال سليمان الحكيم: "أعطوا مسكرًا لهالكٍ، وخمرًا لمُرِّي النفس، يشرب وينسى فقره ولا يذكر تعبه بعد" (أم 31: 6-7)".
فردوس الآباء

وَتَكُونُ كَمُضْطَجِعٍ فِي قَلْبِ الْبَحْرِ،

أَوْ كَمُضْطَجِعٍ عَلَى رَأْسِ سَارِيَةٍ [34].

السكير يشبه إنسانًا يضطجع في وسط أمواج البحر، أو يسند رأسه على رأس سارية، فلن يجد راحة ولا يشعر بأمان، مع أنه غالبًا ما يبرر التجاءه للسكر بأنه هروب من المشاكل والمتاعب التي تلاحقه.

يَقُولُ: "ضَرَبُونِي وَلَمْ أَتَوَجَّعْ.

لَقَدْ لَكَأُونِي وَلَمْ أَعْرِفْ.

مَتَى أَسْتَيْقِظُ أَعُودُ أَطْلُبُهَا بَعْدُ!" [35]

* كان الآباء الأولون يستصعبون شرب الخمر جدًا، لأنه يجعل الشيوخ كالأطفال عديمي المعرفة، ويحرِّك في الشبان الميل إلى الشهوة الرديئة، والنسّاك يكرهون ذلك بسبب حرب الزنى الصعب.

* سُئل أنبا إشعياء: "إذا ألزمني أخٌ أن أشرب معه قدحًا من النبيذ في قلايته، فهل جيد لي أن أذهب معه؟" فأجاب: "اِهرب من شرب الخمر، فتسلم كسلامة الغزال من الوحش. إنّ كثيرين بسبب هذا الأمر اندفعوا إلى السقوط بالأفكار".
فردوس الآباء

* لا تحب الخمر لئلاّ يحرمك من مسرة الله. حِبّ المساكين لكي تنجو في أوان الشدّة.
القديس أنبا موسى الأسود


* إذ نُضرب بالعمى لا نقدر أن نرى في ذواتنا شيئًا سوى الذنوب الكبيرة، ظانين أنه يلزمنا فقط أن نكون أنقياء من تلك الذنوب وحدها التي تستنكرها القوانين الدنيوية. فإذا ما رأينا أنفسنا قد تحررنا منها إلى حين، نظن أننا قد صرنا بلا خطية تمامًا... فلا نبصر البقع الكثيرة التي تتجمع معًا في داخلنا، وبالتالي لا ننزعها بالانسحاق المُنقذ، ولا نحزن عندما تصيبنا أفكار الغرور، ولا نبكي من أجل صلواتنا التي نرفعها في تراخٍ شديدٍ وفتورٍ. ولا نحسب شرود فكرنا أثناء الترنم بالمزامير والصلوات أنه خطأ. ولا نستحي من تصوراتنا لأمورٍ كثيرةٍ نخجل أن ننطق بها أو نمارسها أمام الناس والتي هي مكشوفة أمام البصر الإلهي. ولا نطهر فساد الأحلام الدنسة بالدموع الغزيرة... ولا نعتقد أن هناك أية خسارة تصيبنا عندما ننسى الله، مفكرين في أمور أرضية فاسدة، بهذا تنطبق علينا كلمات سليمان: "ضربوني ولم أتوجع، لقد لكأُوني ولم أعرف"
الأب ثيوناس

*إنني لا أقدم لك رأيي الخاص، إنما أذكر رأي الطوباوي أنطونيوس الذي أخزى به كسل راهب معين غلبته اللامبالاة... فإذ جاءه إنسان وقال إن نظام النسك هذا غير كامل، معلنًا أنه يطلب للإنسان فضيلة أعظم، ممارسًا ما يخص الحياة الكاملة وحدها بطريقة أكثر مما يليق بالنسبة لسكان البرية، عندئذ سأله أنطونيوس المبارك عن مكان سكناه، وعندما قال له أنه ساكن مع أقربائه، مفتخرًا بمساعدتهم له متحررًا من كل اهتمام وعمل يومي، مكرسًا حياته للقراءة والصلاة بغير انقطاع من غير تشتيت روح، للحال قال له الطوباوي أنطونيوس: أخبرني يا صديقي العزيز، هل تحزن لأحزانهم ومصائبهم، وتفرح لأفراحهم؟

اعترف الرجل بأنه يشترك معهم في ذلك، عندئذ قال له الشيخ: "يلزمك أن تعرف أنك ستُدان في العالم الآتي عن الجماعة التي تعيش معها هكذا مشتركًا معهم في ربحهم وخسارتهم، فرحهم وحزنهم"...

وإذ لم يقتنع بهذا أردف الطوباوي أنطونيوس قائلاً: هذا النوع من الحياة وهذه اللامبالاة ليس فقط تدفع بك إلى الخسارة السابق ذكرها، ولو أنك لا تشعر بها الآن، كما جاء في سفر الأمثال: "ضربوني ولم أتوجع. لقد لكأُوني ولم أعرف" (أم 35:23)، وجاء في النبي: "أكل الغرباءُ ثروتهُ وهو لا يعرف، وقد رُشَّ عليهِ الشيب وهو لا يعرف" (هو 9:7)، وإنما أيضا يسحبون ذهنك بغير انقطاع نحو الأمور الزمنية، ويغيرونه حسب الظروف. كذلك إذ يقدمون ثمار أيديهم لك ويمدونك بالمئونة، بهذا يحرمونك من تنفيذ وصية الرسول المبارك لأنه عندما قدم آخر وصية لرؤساء كنيسة أفسس أكد لهم أنه بالرغم من مشغوليته بواجباته المقدسة الخاصة بالكرازة بالإنجيل إلا أنه كان يعمل من أجل احتياجاته واحتياجات الذين يعملون معه في الخدمة، قائلاً: "أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خَدَمَتهْا هاتان اليدَان" (أع 34:20). ولكي ترى كيف أنه فعل هذا كمثالٍ لنا يقول في موضع آخر: "إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يُقتدى بنا، لأننا لم نسلك بلا ترتيبٍ بينكم... ليس أن لا سلطان لنا، بل لكي نعطيكم أنفسنا قدوةً، حتى تتمثَّلوا بنا" (2 تس 7:3،9)
الأب إبراهيم

*على الذين تداهمهم الشهوة الجنسية وتغلبهم أن يكسروا القيود الأرضية لأنهم عندما ينشغلون بها في غير اعتدال، لا يدرون بسهام الخطية التي قد تخترقهم، لذلك يقول الإنسان المخمور فاقد الوعي بلسان النبي سليمان: "ضربوني ولم أتوجع! لقد لكأوني ولم أعرف! متى أستيقظ؟ أعود أطلبها بعد!" (أم 23: 35)

يستريح العقل وينام دون أية هموم تقلقه، ولا يحس بأي ألم، حتى إذا ضُرِبَ. يحدث ذلك عندما لا يستطيع أن يرى أمامه الشرور المحدقة به، ولا يدري بتلك التي قد ارتكبها. إن هذه النفس تتدافع عليها الشرور، ولا تشعر بمغريات الرذائل، ولا تريد حتى أن تنهض للدفاع. في نفس الوقت تود أن تكون يقظة فقط، لكن لتَجِدَ الخمر ثانية. بمعنى أنها وهي مثقلة في نومٍ واهن ومتذبذب لا يسمح لها بأن تراقب ذاتها وتحرسها، تحاول أن تستيقظ فقط لكي تنغمس في هموم هذا العالم وتسكر بملذاته.

إنها تنام في الوقت الذي ينبغي فيه أن تصحو في يقظة، وعندما تصحو لا تسعى وراء ما ينبغي، بل وراء أمورٍ أخرى دنيوية. لأجل ذلك جاء بالمكتوب من قبل: "وتكون كمُضْطَجِعٍ في قلب البحر، أو كمُضْطَجِعٍ على رأس سارية" (أم 23: 34)

الإنسان الذي يهمل حروب الآثام التي تقوم عليه وكأنها أمواج تلاطم قمم الجبال، يغض نومًا وسط بحرٍ من التجارب العالمية
البابا غريغوريوس (الكبير)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 01, 2012 1:18 am

الاصحاح الرابع والعشرون


النصرة للحق لا للقوة الغاشمة



هذا الأصحاح هو خاتمة الأمثال التي رتبها سليمان الحكيم مباشرة، فيه يؤكد سليمان الحكيم دور الحكمة الإيجابي في حياة المؤمن.

أولاً: الحكيم دائمًا يبني، والأحمق يهدم نفسه ومن هم حوله [1-4].

ثانيًا: الحكيم يحمل قوته في داخله، فيواجه معارك الحياة بشجاعةٍ وينتصر [5-9].

ثالثًا: الحكيم لا يحمل روح الفشل واليأس [10].

رابعًا: يجد الحكيم مسرته في مساندة الغير، خاصة المتضايقين والمظلومين [11-12].

خامسًا: الحكيم يقتات بعسل معرفة الحكمة [13-14].

سادسًا: الحكيم لا يستسلم للسقوط، بل يقوم للحال [15-22].

سابعًا: الحكيم لا يأخذ بالوجوه، ولا يسند الباطل بشهادةٍ كاذبة [23-29].

ثامنًا: الحكيم يحمل روح الاجتهاد، بلا تهاون أو تراخٍ أو عدم مبالاة، مقتديًا بسيده (يو 9: 4) [30-34].

هكذا يدفعنا سليمان الحكيم نحو السلوك بالحق الإلهي البنَّاء، الأعظم من قوة الشر الغاشمة، والذي يهب الإنسان اتساع القلب والحنو، أي انفتاحه على الله السماوي والإخوة على الأرض. الحق الإلهي يسند المؤمن الحقيقي، ويهبه روح البرّ مع الشجاعة دون محاباة لإنسان. إنه يعمل دومًا بلا انقطاع لحساب ملكوت الله.

1. تحذير من حسدنا للأشرار 1-2.

2. الحكمة والمعرفة 3-10.

3. مساندة المتضايقين 11-12.

4. عذوبة الحكمة 13-14.

5. الصديق يسقط ويقوم 15-22.

6. عدم المحاباة 23-26.

7. حساب النفقة 27.

8. الشهادة الباطلة 28-29.

9. الكسل والاجتهاد 30-34.


1. تحذير من حسدنا للأشرار

لاَ تَحْسِدْ أَهْلَ الشَرَّ،

وَلاَ تَشْتَهِ أَنْ تَكُونَ مَعَهُمْ [1].

كثيرًا ما أثار نجاح الأشرار وزهوهم تساؤل البعض بخصوص العدالة الإلهية، بل وأحيانًا أثار حسد الناس لهم، وغيرتهم منهم، كأن القوة الغاشمة دومًا فوق الحق، والظلم فوق العدالة، والظلمة أقوى من النور. فلا نعجب إن قيل: "أما أنا فكادت تزل قدماي، لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار. لأنه ليست في موتهم شدائد، وجسمهم سمين. ليسوا في تعب الناس، ومع البشر لا يُصابون. لذلك تقلدوا الكبرياء، لبسوا كثوب ظلمهم. جحظت عيونهم من الشحم، جاوزوا تصورات القلب. يستهزئون ويتكلمون بالشر ظلمًا، من العلاء يتكلمون. جعلوا أفواههم في السماء، وألسنتهم تتمشى في الأرض" (مز 73: 1-9). لكن اكتشف المرتل أن الأشرار "مثل العشب الأخضر سرعان ما يذبلون" (مز 37: 1). هذا ما يؤكده الكتاب المقدس ويكرره مرة ومرات، نكتفي هنا بالعبارات التالية:

"الشرير هو يتلوى كل أيامه، وكل عدد السنين المعدودة للعاتي" (أي 15: 20).

"في كبرياء الشرير يحترق المسكين، يؤخذون بالمؤامرة التي فكروا بها" (مز 10: 2).

"أحطم ذراع الفاجر والشرير تطلب شره ولا تجده" (مز 10: 15).

"كثيرة هي نكبات الشرير أما المتوكل على الرب فالرحمة تحيط به" (مز 32: 10).

"الشر يميت الشرير، ومبغضو الصديق يعاقبون" (مز 34: 21).

"بعد قليل لا يكون الشرير، تطلع في مكانه فلا يكون" (مز 37: 10).

"لعنة الرب في بيت الشرير، لكنه يبارك مسكن الصديقين" (أم 3: 33).

"الشرير تأخذه آثامه، وبحبال خطيته يمسك" (أم 5: 22).

"كعبور الزوبعة فلا يكون الشرير، أما الصديق فأساس مؤبد" (أم 10: 25).

"برّ الكامل يقوم طريقه، أما الشرير فيسقط بشره" (أم 11: 5).

"الصديق ينجو من الضيق، ويأتي الشرير مكانه" (أم 11: Cool.

"الشرير يكسب أجرة غش والزارع البرّ أجرة أمانة" (أم 11: 18).

"النفس الشريرة تهلك صاحبها، وتجعله شماتة لأعدائه" (سيراخ 6: 4).

"عين البخيل لا تشبع من حظه، وظلم الشرير يضني نفسه" (سيراخ 14: 9).

"أفي بيت الشرير بعد كنوز شر، وإيفة ناقصة ملعونة" (مي 6: 10).

* ["أما أنا فكادت تزل قدماي، لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار" (مز 73: 2-3).]

إن الذي قرَّبه من الزلل هو غيرته من الأثمة، إذ رأي صانعي الخير والملتزمين بالعدل في ضيق العيش ومشقة وانزعاج، وأما الأشرار الخبثاء، ففي رفاهية العيش وفي راحة ومسرة، حتى موتهم ليس فيه شيء يزعجهم ويكرههم. وإن حلّ بهم مرض يكون ألمهم خفيفًا وليس شديدًا كما يحل بأهل الخير وذوي الفضيلة
الأب أنثيموس الأورشليمي

*لاحظت الخطاة، فوجدتهم في سلامٍ (مز 73: 3).

أي سلام؟ سلام مؤقت زمني ومنحل وأرضي.

رأيت الذين لا يخدمون الله ينالون ما أشتهيه لكي أخدم الله، فزلت قدماي، وكادت خطواتي أن تزل...

لاحظوا أن هؤلاء الناس متكبرون وغير منضبطين، لاحظوا أن الثور يُعد للذبح فيُسمح له أن يأثم في حرية، ويحطم ما يريد حتى يحل يوم ذبحه
القديس أغسطينوس

لأَنَّ قَلْبَهُمْ يَلْهَجُ بِالاِغْتِصَابِ،

وَشِفَاهَهُمْ تَتَكَلَّمُ بِالمَشَقَّةِ [2].

أول ثمر الشر إفساد القلب، إذ يتحول إلى العنف وحب الاغتصاب، فلا يسكنه الحب الحقيقي، وبالتالي يعجز عن رؤية الله، الحب الإلهي! يفسد الشر القلب وتفسد معه الشفاه، فإن نطقت بكلمات عذبة تمتزج بسم المشقة، أي السوء. كثيرًا ما تكشف ألسنتهم الشريرة عن ما تخفيه قلوبهم من شرور نحو الآخرين.


2. الحكمة والمعرفة

بِالحِكْمَةِ يُبْنَى البَيْتُ،

وَبِالفَهْمِ يُثَبَّت [3].

إن كان السيد المسيح هو حكمة الله، فإن بيتنا الروحي يقوم على السيد المسيح، الحكمة الحقيقي.

يبقى بناء بيت الحكمة مستمر في هذه الحياة، حتى نبلغ أورشليمنا العليا، فلا يكف الحكماء والمتعلمون والفهماء عن طلب المزيد.

يطالبنا القديس هبيوليتس أن نقيم أسوارًا حول الحكمة حتى تثبت ولا تتحطم.

* افتح باب كنزك لنا يا رب، عند تقديم صلوات توسلاتنا. لتخدم صلواتنا كسفير عنا، تصالحنا مع اللاهوت.

يا كل الحكماء انتبهوا، يا أيها المتعلمون اطلبوا الفهم والمعرفة، فأنتم متعلمون وحكماء
القديس مار إفرام السرياني

*حوط حولها بالأفكار المقدسة فإنك محتاج إلى دفاع أعظم، حيث توجد أمور كثيرة تهدد مثل هذه القنية بالمخاطر. لكن إن كان في وسعنا أن نحصِّنها، إن وجدت فضائل في قدرتنا تزيد معرفة الله فستكون هذه حصون لها، مثل الممارسة لها، والدراسة، كل سلسلة الفضائل
القديس هبيوليتس

* إن كان أحد يريد أن يفهم البيوت بكونها الأعمال الصالحة، فإن كل عملٍ صالحٍ هو بيت مالكه. أولئك الذين يسمعون كلمات يسوع ويمارسونها... يبنون أساسهم على الصخرة (مت 7: 24). حيث أن الفضيلة ككل هي واحدة، فإن من يجاهد فيها يبني بيته، يقيمه على الصخرة، على كلمة الله الذي لا يُهزم، أي على المسيح
القديس ديديموس الضرير

* يدعو (سليمان) المسيح الحكمة والعقل. والبيت هو كنيسة (المسيح) التي يبنيها، ويملأ مخازنها بكل أنواع الغنى الثمين والفاخر، مخازنها هي قلوب الذين يؤمنون بالمسيح ويعيشون مقتدين به. هذه القلوب، تزخر بالصلاح في الأفكار والكلمات والأعمال. لهذا تتأهل للتطويب الأبدي
القديس يوحنا الذهبي الفم

وَبِالمَعْرِفَةِ تَمْتَلِئُ المَخَادِعُ،

مِنْ كُلِّ ثَرْوَةٍ كَرِيمَةٍ وَنَفِيسَةٍ [4].

خلق الله الكلي الحكمة الإنسان على صورته ومثاله لكي يبني كيانه الداخلي، خاصة عقله وعواطفه وأحاسيسه، على الحكمة الإلهية والمعرفة الصادقة، والحق الإنجيلي، فيقوم في داخله هيكل الرب المقدس. وتتحول أعماقه إلى مخزن يحمل كنوز المعرفة التي لا تُقدر بثمنٍ! وكما يقول معلمنا يعقوب الرسول: "وأما الحكمة التي من فوق، فهي أولاً طاهرة، ثم مسالمة مترفقة مذعنة مملوءة رحمة وأثمارًا صالحة، عديمة الريب والرياء. وثمر البرّ يزرع في السلام من الذين يفعلون السلام" (يع 3: 17-18).

يرى القديس جيروم أن كل شيء ينقص مع الزمن حتى الممارسات الروحية، مثل النسك والأصوام والانتقال من مكان إلى آخر لطلب النفع الروحي، واستضافة الغرباء والعطاء، والمثابرة في الصلاة، فإذ يضعف الجسم مع تقدم السن تقل هذه التداريب، أما الحكمة فتزداد على الدوام ولا يحطمها تقدم السن

الإنسان الملتصق بالحكمة الإلهية لا يخشى الزمن ولا المرض ولا المستقبل المجهول، فهو في نموٍ دائم في الحكمة والتمييز والعلم والمعرفة، يزداد بهاءً ونورًا بل وقوة وسلطانًا داخليًا.

* هذا هو التمييز الذي لا يُدعى فقط "نور الجسد"، بل و"الشمس"، إذ يقول الرسول: "لا تغرب الشمس على غيظكم" (أف 4: 26). وُيدعى أيضًا "سلطانًا"، إذ لا يسمح لنا الكتاب المقدس أن نصنع شيئًا بدونه "مدينة منهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه" (أم 25: 28).

وفيه تسكن الحكمة، ويقطن الفهم والمعرفة، وبدونه لا يُبنى بيتنا الداخلي، ولا نستطيع أن نجمع الغنى الروحي الذي لنا، فقد قيل: "بالحكمة يُبنى البيت، وبالفهم يثبت. بالمعرفة تمتلئ المخادع من كل ثروة كريمة ونفيسة" (أم 24: 3-4).

وهو "الغذاء الكامل" الذي يقتات به الكاملون في النمو والصحة، إذ قيل: "وأما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر" (عب 5: 14).

وتظهر أهميته وضرورته بالنسبة لنا بمقدار ما لكلمة الله وقوتها من أهمية، إذ قيل: "لأن كلمة الله حيّة وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته" (عب 4: 12)
الأب موسى

الرجُلُ الحَكِيمُ فِي عِزٍّ،

وَذُو المَعْرِفَةِ مُتَشَدِّدُ القُوَّةِ [5].

لأَنَّكَ بِالتدَابِيرِ تَعْمَلُ حَرْبَكَ،

وَالخَلاَصُ بِكَثْرَةِ المُشِيرِينَ [6].

إن كانت الحكمة هي الأساس لبناء البيت الداخلي، وهي الكنز النفيس للنفس، فإنها هي أيضًا سرّ كرامة النفس الحقيقية وقوتها، كما هي وراء النصرة والخلاص. فالمؤمن الحكيم في حرب دائمة ضد إبليس وجنوده، يقاومهم بالحكمة السماوية، وبتواضعه في تدابير ومشورة آبائه الروحيين.

*ربما يحذرنا (سليمان) أن نندفع نحو الحرب دون تروٍ. يقول: اُنظروا، حينما تأخذون قرارًا أليس من النافع أن تكون الحكمة في وسط الأمور؟
القديس يوحنا الذهبي الفم

الحِكَمُ عَالِيَةٌ عَنِ الأَحْمَقِ.

لاَ يَفْتَحْ فَمَهُ فِي البَابِ [7].

الإنسان الأحمق، المُصر على شره، لا يقبل المشورة، ويعجز عن بلوغ الحكمة. لهذا متى حان وقت محاكمته أمام القضاء الإلهي (كان القضاء يتم عند أبواب المدن)، فإنه يصمت، لاَ يَفْتَحْ فَمَهُ فِي البَاب،ِ إذ ليس له ما يبرر به حماقته. إنه كمن يدخل العرس بدون ثوب العرس، وإذ سُئل على ذلك "سكت" (مت 12: 22). "حينئذ قال الملك للخدام: اُربطوا رجليه ويديه، وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (مت 22: 13).

يا للعجب! بسبب حماقتنا نقف عند الباب صامتين لعجزنا عن تبرير أنفسنا، فجاء كلمة الله نفسه متجسدًا، وهو القدوس البار، دخل عوضًا عنا ليُحاكم وهو حامل خطايانا. "ظُلم، أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاهٍ تُساق إلى الذبح، وكنعجة صامته أمام جازيها، فلم يفتح فاه" (إش 53: 7). صمت ليهبنا ذاته، فنتكلم به، ونُحسب أمام الآب أبرارًا، لنا حق الدخول إلى عرشه!

إذ نُستدعى لا عند باب المدينة للمحاكمة أمام رجال القضاء، وإنما عند باب الدينونة العظيمة، لا نقدر أن نفتح أفواهنا للدفاع عن أنفسنا. لكن شكرًا لحمل الله الذي لم يفتح فاه عند محاكمته، لكي تنفتح أمامنا أبواب السماء في يوم الرب العظيم.

*بالصليب أوفى ديوننا.

بالصليب أبهج الفردوس حيث انفتحت أبوابه المغلقة.

بالصليب أغلق أبواب الجحيم ومتاريسه كي لا يدخله المؤمنون به.

بالصليب سحق الحية القديمة، وأبطل خداعها.

بالصليب رد للمرأة كرامتها.

بالصليب انتهت الأزمنة الشريرة، وانفتح عصر النعمة المفرح.

بالصليب نزع عن أدم وحواء ونسلهما ثياب العار، وقدم لهم ثوب المجد الفائق.
القديس مار يعقوب السروجي

المُتَفَكِرُ فِي عَمَلِ الشَرَّ يُدْعَى مُفْسِدًا [8].

فِكْرُ الحَمَاقَةِ خَطِيَّةٌ،

وَمَكْرَهَةُ النَّاسِ المُسْتَهْزِئُ [9].

إذ تقوم الحكمة بدور البناء للبيت الروحي [2]، وتهب غنى وعزة وقوة ونصرة وخلاصًا (5-6)، فعلى العكس فإن الحماقة أو الشر يهدم ويفسد ويسبب سخرية. يفقد الإنسان كيانه الروحي والأدبي والاجتماعي والأبدي. يصير خميرة فاسدة، تفسد من تلتصق به أو تختلط معه. وتبعث رائحة موت كريهة وحماقة.

يستخف الأحمق بالقدوس ومقدساته، مثل فرعون المتسائل في استخفافٍ: "من هو الرب حتى أسمع لقوله؟" (خر 5: 2). وكما فعل بيلشاصر ملك بابل، إذ كان "يذوق الخمر، أمرَ بإحضار آنية الذهب والفضة التي أخرجها نبوخذنصر أبوه من الهيكل الذي في أورشليم، ليشرب بها الملوك وعظماؤه وزوجاته وسراريه... وكانوا يشربون الخمر، ويسبحون آلهة الذهب والفضة والنحاس والحديد والخشب والحجارة" (دا 5: 2-4). وإذ يستخف الأحمق بالقدوس والمقدسات، يصير هو نفسه موضع سخرية، حتى أمام نفسه، كما حدث مع بيلشاصر، إذ "تغيرت هيئة الملك وأفزعته أفكاره، وانحلت غرز حقويه، واصطكت ركبتاه" (دا 5: 6).

يرى القديس غريغوريوس النيسي أن الاختلاف بين الحكمة والحماقة يشبه تمامًا الاختلاف بين النور والظلمة. فالظلمة في حقيقتها لا كيان لها، إنما هي غياب للنور، هكذا الحماقة لا كيان لها، إنما هي حرمان من الحكمة. الشر لا كيان له، إنما هو غياب للصلاح

* لا يوجد شيء مشترك بين الشخص الحكيم والأحمق، سواء في التعبيرات البشرية أو المكافآت الإلهية. فبالنسبة للأعمال البشرية تفاجئ النهاية الكل، بينما يظنون أنهم لا زالوا في البداية. لكن مصير الشخص الحكيم لن يشترك مع نصيب الأحمق
القديس غريغوريوس صانع العجائب

* الظلمة هي الحماقة، من خلالها نسقط في الخطية، غير مبصرين للحقيقة. والمعرفة هي النور الذي نحصل عليه، والذي يجعل الجهل يختفي، ويمنحنا الرؤية النقية أيضًا
القديس إكليمنضس السكندري

إِنِ ارْتَخَيْتَ فِي يَوْمِ الضيق،ِ

ضَاقَتْ قُوَّتُكَ [10].

يوم الضيق هو الترمومتر الذي يكشف للإنسان حقيقة قوته. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). فبالنسبة للحكيم، رجل الله، قد يخور مع إيليا النبي حيث "طلب الموت لنفسه، وقال: قد كفى الآن يا رب خُذ نفسي، لأنني لست خيرًا من آبائي" (1 مل 19: 4). لكن يد الله أقامته، ودخل الله معه في حوار، وانتهت حياته في ذلك الحين بصعوده إلى السماء بمركبة نارية. أما الأحمق فالضيق يفضح حقيقة ضعفه، ويدفع الإنسان نفسه بنفسه إلى الدمار.

من يفكر في الشر أو الحماقة يكون قد شارك في الخطية، إن لم يكن بالفعل أو بالكلام فبالفكر. هذه الشركة تفسد فكر الإنسان وقلبه، بل وحياته.

* معرفة الشر ليست ملومة، إنما الشركة في الشر ملوم
القديس أمبروسيوس


3. مساندة المتضايقين

أنْقِذِ المُنْقَادِينَ إِلَى المَوْتِ،

وَالمَمْدُودِينَ لِلْقَتْل.

لاَ تَمْتَنِعْ [11].

لم يطالبنا الحكيم بفحص المنقادين إلى الموت، فإن هذا من عمل رجال القضاء والحكام. إنما إن وجدت فرصة لإنقاذ إنسانٍ ما من الموت، أو من الضيقة، يلزمنا ألا نمتنع عن عمل المحبة.

لم يحدد جنسية الذين ننقذهم وهم في ضيقة ولا ديانتهم ولا سلوكياتهم، إذ يلزمنا أن نسند بحكمة وحب ما استطعنا من كل البشرية.

*لم يقل (سليمان): "استفسر في حب للاستطلاع، وأعرف من هم هؤلاء؟" ومع هذا فإن أغلب المنقادين إلى الموت أشرار. هذه على وجه العموم هي المحبة. لأن من يصنع خيرًا لصديقٍ يفعله ليس من أجل الله، أما من يفعل الخير لمن لا يعرفه فهو يفعله من أجل الله وحده
القديس يوحنا الذهبي الفم

* يلزمك إذن أن تتعلم العطف على الذين هم في ضيقة، ولا تُرعب المعرضين لخطر اليأس المهلك، ولا تثقل عليهم بالكلام القاسي، إنما أصلحهم بكلمات التعزية الهادئة العميقة. فإن سليمان الحكيم يقول: "أنقذ المنقادين إلى الموت والممدودين للقتل. لا تمتنع" (أم 24: 11). ولتكن على مثال مخلصنا: "قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ..." (مت 21: 20)
الأب موسى

إِنْ قُلْتَ: "هُوَذَا لَمْ نَعْرِفْ هَذَا"،

أَفَلاَ يَفْهَمُ وَازِنُ القُلُوبِ،

وَحَافِظُ نَفْسِكَ أَلاَ يَعْلَمُ؟

فَيَرُدُّ عَلَى الإنسَانِ مِثْلَ عَمَلِهِ [12].

يشير هذان العددان إلى التزام الشخص بإنقاذ الإنسان البريء مادام كان ذلك في استطاعته. فقد كان من العادات الشائعة في سوريا وفلسطين في ذلك الحين أنه إذا أُخذ أحد المجرمين للمحاكمة، كان يتقدمه في الطريق منادٍ يعلن عن جريمته، حتى إذا كان لدى شخص معلومات لصالح هذا المتهم يتقدم. فإذا تقدم أحد تُعاد محاكمة الشخص في دار القضاء، ويُفتح ملف قضيته من جديد. فإن احتجز أحد معلومة صادقة يمكن أن تبرئ الشخص يُحسب كمن قام بقتله، لأنه أخفى عن القضاء حقيقة، وتسبب في تعرض الشخص للقتل ظلمًا

في مثل السامري الصالح، اهتم السامري باليهودي الجريح وأنقذه من الموت، بينما حُسب الكاهن واللاوي مرتكبًا جريمة في حق هذا الجريح، لأنهما لم يباليا بإنقاذه.

هذا بالنسبة للمنقادين للموت الجسدي، فكم بالأكثر مسئولية المؤمن عند رؤيته للملايين من النفوس تتعرض للهلاك الأبدي في نار جهنم، ولا يتقدم للصلاة أو الصوم أو النصح من أجل إنقاذهم؛ بل يشترك مع قايين قاتل أخيه، قائلاً: "أحارس أنا لأخي؟"

* يعلمنا (الرب) أن الإنسان الذي نزل (من أورشليم إلى أريحا) لم يكن قريبًا إلا للذي أراد أن يحفظ الوصايا ويُعد نفسه ليكون قريبًا لكل من يحتاج إلى عونٍ
العلامة أوريجينوس

* يظن البعض أن قريبهم هو أخوهم، من عائلتهم، من أقربائهم.

يعلمنا ربنا من هو القريب، في الإنجيل في مثل الإنسان النازل من أورشليم إلى أريحا... كل واحد هو قريبنا، فيلزمنا ألا نؤذي أحدًا... نحن أقرباء، كل الناس أقرباء لكل الناس، لأن لنا أب واحد
القديس جيروم

4. عذوبة الحكمة

يَا ابْنِي، كُلْ عَسَلاً لأَنَّهُ طَيِّبٌ،

وَقَطْرَ العَسَلِ حُلْوٌ فِي حَنَكِكَ [13].

كان عسل النحل من أعذب الأطعمة عند اليهود، وقد استخدمه سليمان ليحذرنا من كلمات الزانية المعسولة (أم 5: 3). مرة أخرى يحسب مديح الآخرين للإنسان عسلاً إن أكلنا منه الكثير يسبب ثقلاً على المعدة (أم 25: 27). كما يدعونا سليمان إلى الاعتدال في كل شيء، فإن من يكثر من أكل العسل تُتخم معدته فيتقيأه (أم 25 16). من تشبع نفسه لا يحتاج، ولا يطيق عسل مديح الناس له (أم 27: 7)

المرأة غير المؤمنة شفتاها تقطران عسلاً، لكن من يتحد بها تسير به إلى طرق الموت المرّ. أما السيد المسيح، فيحملنا معه في طريق الصليب، ويسير بنا إلى بهجة قيامته وأمجادها.

ليس من عذوبة للنفس أفضل من الحكمة الإلهية، فقد قيل عن السيد المسيح، حكمة الله: "حلقه حلاوة، وكله مشتهيات" (نش 5: 16)، كما قيل عنه "ويأتي مشتهى الأمم" (حج 2: 7).

*يعرف الرب يسوع كيف أن نفس الإنسان، أي الذهن العاقل الذي خُلق على صورته، لا تقدر أن تشبع إلاَّ به وحده...

يعرف أنه قد أُظهر وأنه مخفي. يعرف أن فيه قد أُعلن ما هو مخفي. يعرف هذا كله. يقول المزمور: "يا لعظم فيض عذوبتك يا رب، التي أخفيتها للذين يخافونك، التي تصنعها للذين يترجونك" (مز ٣٠ : ٢٠ ).

عذوبتك عظيمة ومتعددة أخفيتها للذين يخافونك...

فلمن تفتحها؟ للذين يترجونك.

سؤال بجانبين قد أُثير، لكن كل جانب يحل الآخر...

هل الذين يخافون والذين يترجون مختلفون؟

أليس الذين يخافون الله هم يترجونه؟...

للناموس الخوف، وللنعمة الرجاء... الناموس ينذر من يتكل على ذاته، والنعمة تعين من يثق في الله... نحن نسمع الناموس. فإن لم توجد نعمة، تسمع العقوبة التي تحل بك... لتصرخ: "ويحي أنا الإنسان الشقي!" (رو ٧: ٢٤). لتعرف نفسك أنك منهزم، لتكن قوتك في خزي ولتقل: "ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من هذا الجسد المائت؟"... هكذا ينذر الناموس من يعتمد على ذاته.

أنظر هوذا إنسان يعتمد على ذاته، يحاول أن يجاهد، إنه منبطح ومُستعبد وأُخذ أسيرًا. من تعلم أن يعتمد على الله، وقد بقي الناموس ينذره ألا يعتمد على ذاته، الآن تسنده النعمة. إذ يعتمد على الله. في هذه الثقة يقول: "من ينقذني من جسد هذا الموت؟ نعمة الله بيسوع المسيح ربنا" (رو ٧ : ٢٤ – ٢٥ ).

الآن أنظر إلى العذوبة، تذوقها، تلذذ بها. اسمع المزمور: "ذوقوا وانظروا ما أعذب الرب" (مز ٣٤ : ٨ . يصير عذبًا لك، إذ ينقذك.

كنت في مرارة ذاتك، عندما اعتمدت عليها. لتشرب العذوبة، ولتتقبل غيرة الفيض العظيم هكذا[792].
القديس أغسطينوس

كَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الحِكْمَةِ لِنَفْسِك.

إِذَا وَجَدْتَهَا فَلاَ بُدَّ مِنْ ثَوَاب،ٍ

وَرَجَاؤُكَ لاَ يَخِيبُ [14].

من يقتنِ السيد المسيح – حكمة الله – يتمتع بالميراث الأبدي وشركة المجد؛ فلا يخيب رجاؤه.

* إذ ينتهي الأمر بأن يكون على المرء أن يأخذ كل شيء من داخل النهر أو الوادي، وأن يتهلل بذلك، نقول إن ربنا يسوع المسيح يُقارن بنهرٍ، فيه نجد كل مسرة وتمتع في الرجاء، وفيه نفرح فرحًا روحيًا إلهيًا.
القديس كيرلس الكبير

* كم أنا بائس؟!

إلهي... متى تفارقني هذه الطبيعة الفاسدة، وتعمل قوّتك الكاملة في؟!

إلهي... لذيذة هي الوحدة والسكون والحق والنقاوة، هذه كلّها التي هي لك! أمّا أنا فألهو بالضوضاء والصخب والباطل والرذيلة!

أعود فماذا أقول بعد؟! أنت هو الخير الحقيقي، رحوم، قدُّوس، عادل... أمّا أنا فشرّير، محب لذاتي، خاطئ، ظالم!...

أنت النور، أمّا أنا فظلمة!

أنت الحياة، أمّا أنا فموت!

أنت الطبيب، أمّا أنا فمريض!

أنت الفرح، أمّا أنا فحزن!

أنت الحق الصادق، أمّا أنا فبطلان حقيقي، مثلي مثل أي إنسان على الأرض!

بأية لغة تريدني أن أحدّثك يا خالقي؟! أتوسّل إليك أن تتفضّل فتُصغي إليّ. إنَّني من صنع يديك، وهلاكي أمر مخيف!

إنّي جُبلتك، وها أنا أموت! إنّي من صُنْع يديك، وها أنا اَنحدر نحو العدم!

إن كان لي وجود، فأنت مُوجدي، "يداك صنعتاني وأنشأتاني" (مز 119: 73). يداك اللتان سُمِّرتا على الصليب، فَلْيُعطياني السلام؛ لأنَّه هل تحتقر عمل يديك؟!

أه! أتطلّع إلى جراحاتك العميقة، فقد نقشتَ اسمي في يديك! ِاقرأْ اسمي وخلّصني!

إن نفسي التي تتأوه قدّامك، هي من عمل يديك. اخلق منّي خليقة جديدة؛ فهذا هو عملك. لذا فهي لا تكف عن الصراخ إليك قائلة: "يا أيّها الحياة، أَحْيني من جديد!"

أنَّها من جبلة يديك، تلتف حولك متوسّلة إليك أن ترد إليها جمالها الأول!

اغفر لي يا إلهي، مادمتَ قد سمحتَ لي بالحديث معك. لأنَّه من هو الإنسان حتى يتكلّم مع الرب خالقه؟!

نعم. سامحني! سامح تجاسري! سامح عبدك الذي تجاسر ليرفع صوته أمام سيده!

إن الضرورة لا تعرف قانونًا! فالألم يدفعني إلى الحديث معك! والكارثة التي َحَلَّت بي تجعلني اَستدعي الطبيب لأنّي مريض! إنَّني أطلب النور لأنّي أعمى! أبحث عن الحياة لأنّي ميّت! ومن هو هذا الطبيب والنور والحياة إلاَّ أنت؟!

يا يسوع الناصري ارحمني!
القدِّيس أغسطينوس


5. الصديق يسقط ويقوم

لاَ تَكْمُنْ أَيُّهَا الشرِّيرُ لِمَسْكَنِ الصدِّيقِ.

لاَ تُخْرِبْ رَبْعَهُ [15].

ما هو مسكن الصديق إلا الأحضان الإلهية؟ وما هو ربعه أو موضع راحته الحقيقي سوى الشركة مع الله؟ فالشرير يكمن للشرير، وينصب له الفخاخ المتعددة حتى يسقط الصديق في إحداها، ولا يعود إلى الحضن الإلهي، ويفقد شركته مع الله. يجد الشرير لذته في تضليل الصديق، وتخريب نفسه بالسقوط معه في الإثم.

تبدو هذه العبارة موجهة للشرير كي لا يكمن لاصطياد الصديق، فإنه يتعب باطلاً، لأن الله هو المدافع عن الصديق والمخَّلص له. لكن إذ لا يسمع الشرير لصوت الله، فالحديث موجه في حقيقته للصديق كي لا يخشى الشرير، ولا يضطرب منه، مهما كانت خططه وإمكانياته، لأن الله نفسه يحصن أولاده من الأشرار وأعمالهم الرديئة.

لأَنَّ الصدِّيقَ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ.

أَمَّا الأَشْرَارُ فَيَعْثُرُونَ بِالشَرَّ [16].

إن كان الأشرار يبذلون كل الجهد لاصطياد الصديقين في فخ الشر، فإن الله من جانبه يفتح أبواب الرجاء أمام البشرية لكي كل من يسقط، مهما بلغت مرات السقوط، يطلب الخلاص، فيجده بين يديه. أما الشرير الذي يبذل كل جهده لوضع عثرات للصديقين، فيتعثر هو، بينما يخلص الصديقون ويتكللون.

* الكلمتان "سبع مرات" تُستخدم للتعبير عن كل نوعٍ من الضيقة، التي بها ينهار الإنسان في نظر الناس. والكلمات "يقوم ثانية" تعني أن الإنسان ينتفع من كل هذه الضيقات.

*عندما تحل الشرور على الأشرار يسقطون بواسطتها. وعندما تحل الشرور على الأبرار فإنهم الله يقويهم، ويرفع كل الذين سقطوا (مز 145: 14)، كل الذين ينتمون إليه، لأن "الله يقاوم المستكبرين" (يع 4: 6)
القديس أغسطينوس

* بمعونة الله يمكننا ويلزمنا ألا نرتكب معاصٍ خطيرة، لكن لا يوجد شخص بار دون أن يخطئ، ولن نستطيع أن نعيش دون الخطايا الصغيرة. نحن دومًا نضطرب، ونتعذب بهذه الخطايا كما بواسطة حشرات طائرة تطن حولنا. غالبًا ما تزحف الخطايا خلال الأفكار أو الشهوات أو الأحاديث أو الأفعال، كأمرٍ ضروري، خلال الضعف وبسبب النسيان، إن فكَّر الإنسان في الخطايا الخطيرة. لهذا يلزمنا ألا نستهين بخطايانا لأنها هينة، إنما ليتنا نخشاها لأنها كثيرة. قطرات المطر صغيرة، لكن لأنها كثيرة تملأ الأنهار وتغمر البيوت، وأحيانًا بقوتها تحرك جبالاً
الأب قيصريوس أسقف آرل

* يقال عن المسيحي إنه "يقوم" بمعنيين: الأول عندما يتحرر في هذا العالم بالنعمة من موت الرذائل، ويستمر متبررًا بالله، وكما جاء في كلمات العظيم في الحكمة سليمان: "الصِديق يسقط سبع مرات ويقوم". والثاني في القيامة العامة، حيث يتمتع الصديق بالمكافآت الأبدية
كاسيدورس

*هذا الحديث عن نسيان الخطايا السابقة، أقصد به الخطايا الرئيسية التي دانها الناموس الموسوي، التي انتهى الميل إليها، ونُزعت عنا بالحياة الصالحة، والتي قد انتهت الندامة من أجلها. أما المعاصي الأخرى (الصغرى) التي قيل عنها: "لأن الصدّيق يسقط سبع مرات ويقوم" (أم 24: 16)، فإن التوبة عنها لا تنتهي، لأنه سواء عن جهل أو نسيان أو بالتفكير أو الكلام أو بمجرد الاشتياق أو عن ضرورة أو عن ضعف الجسد أو نجاسة في حلم... هذه الأمور غالبًا ما نسقط فيها كل يوم بغير إرادتنا أو بإرادتنا. مثل هذه الخطايا يُصلي من أجلها داود النبي للرب، ويطلب التنقية منها والغفران عنها: "السهوات من يشعر بها؟! من الخطايا المستترة أبرئْني؟!" (مز 19: 12). وأيضًا يقول الرسول: "لأني لست أفعل الصالح الذي أريده،ُ بل الشرُّ الذي لست أريده فإيَّاهُ أفعل" (رو 7: 19). لذلك تنهد قائلاً: "وَيحي أنا الإنسان الشقي، مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت؟!" (رو 7: 24).

إننا نسقط في هذه الخطايا بسهولة كما لو كانت بحكم الطبيعة نفسها، فبالرغم من يقظتنا وسهرنا نحوها، لا يمكننا تجنبها كلية. هذا الأمر الذي جعل أحد التلاميذ الذي كان يسوع يحبه يصرخ، ويقول: "إن قلنا إنهُ ليس لنا خطية نُضِلُّ أنفسنا وليس الحقُّ فينا" (1 يو 1: Cool
للأب بينوفيوس

لاَ تَفْرَحْ بِسُقُوطِ عَدُوِّك،َ

وَلاَ يَبْتَهِجْ قَلْبُكَ إِذَا عَثَرَ [17].

يليق بالمؤمن أن يكون على مثال الله الذي يشرق شمسه على الأبرار والأشرار، ويمطر على الصالحين والطالحين. ليتسع قلب المؤمن بالحب حتى نحو مقاوميه.

يقول الرسول بولس: "إذ ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه" (رو 5: 10). فإن كان الله قد صالحنا بعد أن حملنا روح العداوة ضده، فلنرد هذا الحب له فيمن يحبهم، أي في كل البشرية.

من يفرح بسقوط عدوه ويبتهج قلبه بعثرته، يُحسب مقاومًا لله نفسه، الذي يطلب خلاص الجميع.

* من يفرح بنكبات الغير يُحزن الله، كقول سليمان. على أي الأحوال لم يُرفض اليهود من أجل الأمم، بل بالحري لأنهم رفضوا إعطاء الفرصة للإنجيل أن يُكرز به الأمم. إن كنت تفتخر ضد أولئك الذين طُعمت في أصلهم، فأنت تهين الشعب الذي قبلك لتتحول من الشر إلى الصلاح. إنك لا تستمر في هذا إن طُعمت وأنت ثابت فيه
الأب أمبروسياستر

لِئَلاَّ يَرَى الربُّ،

وَيَسُوءَ ذَلِكَ فِي عَيْنَيْه،ِ

فَيَرُدَّ عَنْهُ غَضَبَهُ [18].

تلاحظ عينا الرب ما في قلوبنا، فإن رأى في قلبٍ ما فرحًا بالبلايا والكوارث التي تحل بغيره، يتحول غضب الله من ذاك الذي تحت التأديب إلى الشامت فيه، كما حدث مع بني أدوم الذين شمتوا في إسرائيل بعد سبيهم، وسجل عوبديا النبي سفره خصيصًا من أجل هذا الموقف ليبرز خطورة الشماتة فيمن يحل بهم التأديب. "يجب أن لا تنظر إلى يوم أخيك يوم مصيبته، ولا تشمت ببني يهوذا يوم هلاكهم، ولا تفغر فمك يوم الضيق. ولا تدخل باب شعبي يوم بليتهم، ولا تنظر أنت أيضًا إلى مصيبته يوم بليته، ولا تمد يدا إلى قدرته يوم بليته. ولا تقف على المفرق لتقطع منفلتيه، ولا تسلم بقاياه يوم الضيق. فإنه قريب يوم الرب على كل الأمم، كما فعلت يفعل بك، عملك يرتد على رأسك" (عو 12-15).

*يلزمنا ألاّ ننتفخ بانتصارنا، لهذا يحذرنا قائلاً "لئَلاَّ إذا أكلت وشبعت وبنيت بيوتًا جيّدة وسكنت وكثرت بقرك وغنمك وكثرت لك الفضة والذهب وكثر كل مالك، يرتفع قلبك، وتنسى الربَّ إلهك الذي أخرجك... من بيت العبودية (الخطية)" (تث 8: 12-14). كذلك يقول سليمان في الأمثال: "لا تفرح بسقوط عدوك (أي بغلبتك على الخطية والشيطان) ولا يبتهج قلبك إذا عثر، لئَلاَّ يرى الرب ويسوءَ ذلك في عينهِ فيردَّ عنهُ غضبه" (أم 24: 17، 18)، أي خشية أن يرى الله كبرياء قلبك فلا يعود يهاجمه (يدافع عنك ضد الخطية)، بذلك يتخلى عنك فتغلبك الشهوة التي كنت بنعمة الله منتصرًا عليها من قبل
الأب سرابيون

لاَ تَغَرْ مِنَ الأَشْرَار،ِ

وَلاَ تَحْسِدِ الأَثَمَةَ [19].

لأَنَّهُ لاَ يَكُونُ ثَوَابٌ لِلأَشْرَارِ.

سِرَاجُ الأَثَمَةِ يَنْطَفِئُ [20].

لقد كرر ذات الوصية في عدد 1 كما في أمثال 23: 17، لأنه الله يعلم صعوبة قبول الإنسان لها، بالرغم من إدراكه مدى بركاتها عليه، ومدى مسرة الله بتنفيذها.

لا يليق بنا أن نحسد الأشرار على أحوالهم، فسرعان ما يعبر الزمن ويقف الأشرار في الدينونة، وقد انطفأت سرجهم، وصار مصيرهم الظلمة الخارجية. ليس لهم نصيب في الميراث الأبدي، ولا موضع لهم في حضن الله...

يقصد بانطفاء سرج الأشرار هلاك أبنائهم، فما يجمعونه من أموال الظلم ويدخرونه لنسلهم سرعان ما يتبدد، ويفقد نسلهم البركة الإلهية، إن سلكوا في طريق آبائهم الشرير. أما الصديق فإنه يترك البركة ميراثًا لأبنائه حسب الجسد كما حسب الروح، إن سلكوا في طريق أبيهم المقدس.

هنا نلاحظ نظرة الله العجيبة للإنسان، يقدم الله للإنسان – مهما بلغت شروره – الفرص والإمكانيات لعله ينير ككوكبٍ وسط السماء، لكن الأثيم يرفض النور الإلهي بإرادته الشريرة، فينطفئ كل أثر للنور فيه.

يَا ابْنِي اخْشَ الربَّ وَالمَلِكَ.

لاَ تُخَالِطِ المُتَقَلِّبِينَ [21].

حقًا إن خشية الرب والخضوع له يستتبعهما الخضوع في الرب لأصحاب السلطة.

إنسان الله لا يخالط المتقلبين، أي لا يشترك مع من يقوم بحركات عصيان، ولا يتعاون مع أصحاب الدسائس، والذين يجدون مسرتهم في الثورات والدسائس ضد القادة المدنيين أو الكنسيين.

*"يا ابني، اخشَ الرب والملك"، أي اِخشَ المسيح الله الحقيقي، والملك، أو يعني سليمان بالملك من يحكم نفسه قبل أن يحكم الآخرين. "لا تكن عاصيًا لأحداهما". حقًا إن من لا يوقر الملك المختار من الله يهين الله
القديس يوحنا الذهبي الفم

لأَنَّ بَلِيَّتَهُمْ تَقُومُ بَغْتَةً

وَمَنْ يَعْلَمُ بَلاَءَهُمَا كِلَيْهِمَا [22].

من يقتني مخافة الرب فيه، فمع ما يناله من دالة لدى الله، وعدم الخوف من البشر مهما بلغت مراكزهم، وعدم الخوف حتى من الموت، فإنه بروح التواضع العميق يخشى الله ويطلب مسرته ورضاه، ويخشى أصحاب المراكز الاجتماعية، لا في خنوعٍ ومذلةٍ، وإنما بروح الرضا ولكي يعيش في حياة مملوءة سلامًا. إنه لا يخالط المتقلبين، أي الذين بلا مبادئ ثابتة، بل ينزعون نحو الدسائس والثورات.

مما يؤسف أنه يوجد حتى داخل الكنيسة من يهوى النقد اللاذع، ومقاومة كل ترتيب كنسي ونظام، فيجمعون لأنفسهم غضب الله، وتنتظرهم البلايا.

الإنسان المتمرد على الله والقادة إنما يجني لنفسه تمردًا داخليًا، يثور جسده ضد روحه، وتثور عواطفه ضد عقله، فيحمل في داخله بلايا مُرة. وبينما يظن أنه يطلب أن يصلح المجتمع والكنيسة، يجد نفسه منحلة، ويفقد انسجامه حتى مع نفسه.


6. عدم المحاباة

هَذِهِ أَيْضًا لِلْحُكَمَاءِ،

مُحَابَاةُ الوُجُوهِ فِي الحُكْمِ لَيْسَتْ صَالِحَةً [23].

بقوله "هذه أيضًا للحكماء" يكشف أنه سجل ما سبق في وحدة واحدة، بدأها بطلب مخافة الرب، وختمها بالالتزام بمخافة الرب والطاعة للقادة. وأن ما ورد في بقية هذا الأصحاح يُعتبر أشبه بمُلحق يعالج أربعة أمور هامة في حياة المؤمن، وهي عدم المحاباة، وحساب النفقة، والامتناع عن الشهادة الباطلة، وعدم الكسل. ولعل هذه تعتبر مقدمة للتجميع التالي من الأمثال.

يحذرنا من محاباة الوجوه، فمن يخشى الله لا يخاف الناس، ولا يحابي أحدًا بسبب قرابة جسدية أو غنى أو كرامة أو صاحب سلطان. فإنه في تواضعٍ حقيقيٍ يطلب الحق ويعلنه.

يليق بالحكام والقادة المدنيين كما الروحيين أن يلتزموا بهذا المبدأ، كما يليق بكل مؤمنٍ أن يلتزم بهذا، حتى وإن لم يكن ذا مركز قيادي في نظر المجتمع.

في قصة سوسنة الواردة في تكملة دانيال صورة رائعة للشاب دانيال الذي في جرأة لم يخشَ الشيخين اللذين ضلَّلا كل من هم حولهما؛ وفي شجاعة أنقذ سوسنة المتهمة ظلمًا، وفضح الشيخين على فسادهما.

مَنْ يَقُولُ لِلشرِّيرِ: "أَنْتَ صِديقٌ" تَسُبُّهُ العَامَّةُ.

تَلْعَنُهُ الشُعُوبُ [24].

بسبب الخوف من الشرير يجامله البعض ويبررون تصرفاته، بل ويحسبونه صدِّيقًا. لكن إذ تنكشف الحقيقة يتجنب الناس هذا المخادع على حساب الحق، بل ويجلب الشخص اللعنة على رأسه.

أصيبت كثير من المجتمعات المعاصرة بهذه الضربة، حيث تبرر أخطاء بعض الأشرار، بل وأحيانًا تُمتدحها، كأنها أعمال صالحة وبطولية.

ربما يوجه الحديث هنا إلى القادة ورجال القضاء، الذين لعلة أو أخري يبررون أخطاء بعض المجرمين على حساب الطبقات الفقيرة المظلومة.

أَمَّا الذِينَ يُؤَدِّبُونَ فَيَنْعَمُون،َ

وَبَرَكَةُ خَيْرٍ تَأْتِي عَلَيْهِمْ [25].

مقابل الذين يحابون الأشرار وينعتوهم بالصلاح، نجد آخرين يؤدبون الأشرار، سواء بالتوبيخ أو التأديبات البدنية، هؤلاء حتمًا سيحترمهم الشعب عندما يتحقق الكل من فساد الأشرار، وكيف صدهم القضاة أو الحكام عن ممارسة شرورهم، فتحل بهم البركات.

* "أما الذين يؤدبون فينعمون، وبركة خير تأتي عليهم" (أم 24: 25).

إني أختار أن يفتقد الرب خطاياي ويُصلح معاصيَّ هنا في هذا العالم، حتى يقول لي إبراهيم هناك ما قاله عن لعازر المسكين في حديثه مع الغني: "يا ابني أذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك، وكذلك لعازر البلايا، والآن هو يتعزى وأنت تتعذب" (لو 16: 25). لهذا السبب عندما يوبخنا الرب ويؤدبنا، يلزمنا ألاَّ نكون جاحدين. إذًا لندرك أن توبيخنا في الوقت الحاضر إنما لكي ننال تعزية في المستقبل. وكما يقول الرسول: "إذ قد حُكم علينا نؤدب من الرب، لكي لا نُدان مع هذا العالم" (1 كو 11: 32). لهذا السبب قبِل أيوب أيضًا بإرادته كل آلامه قائلاً: "أألخير نقبل من عند الله، والشر لا نقبل؟" (أي 2: 10)
العلامة أوريجينوس

تُقَبَّلُ شَفَتَا مَنْ يُجَاوِبُ بِكَلاَمٍ مُسْتَقِيمٍ [26].

من يصدر أحكامًا مستقيمة دون محاباة يكون موضع إكرام الكثيرين وثقتهم وإعجابهم وحبهم. يشير تقبيل الشفتين هنا إلى الاحترام خلال الحب لا الخوف، ولا تزال تُعرف القبلة في الشرق بهذا المفهوم. وكما جاء في المزمور: "قبلوا الابن لئلا يغضب" (مز 2: 12).

تستخدم أيضًا القُبلة كاعتراف بعدالة الشخص وحكمته والثقة فيه والخضوع له. قال فرعون ليوسف "أنت تكون على بيتي، وعلى فمك يقبّل جميع شعبي" (تك 41: 40).


7. حساب النفقة

هَيِّئ عَمَلَكَ فِي الخَارِجِ،

وَأَعِدَّهُ فِي حَقْلِكَ.

بَعْدُ تَبْنِي بَيْتَكَ [27].

يدعونا الحكيم إلى عمل حساب النفقة، فلا نبني البيت إلا بعد أن نُعد العمل، فنختار الموقع المناسب للبيت، كما نختار نوع المباني وحجمها ونحسب تكلفتها، ونرى هل نحن قادرون على إتمام العمل. وكما يقول السيد المسيح نفسه: "ومن منكم وهو يريد أن يبني برجًا لا يجلس أولاً ويحسب النفقة، هل عنده ما يلزم لكماله، لئلا تضع الأساس ولا يقدر أن يكمل، فيبتدئ جميع الناظرين يهزأون به، قائلين: هذا الإنسان ابتدأ يبني ولم يقدر أن يكمل" (لو 14: 28-30).

يقدم لنا العهد القديم مثالاً للذين بدأوا يبنون برج بابل ليكون رأسه في السماء، يحمل عنادًا ومقاومة لله، فإذ لم يحسبوا النفقة لم يكملوا العمل (تك 11: 9).

*يقول الكتاب المقدس: "هيئ عملك لرحيلك، وأعده في حقلك". الآن أظن أن "رحيلك" تعني خروجنا من هذا العالم وتركه. يحيا ولا يرى الموت، أي ينجي نفسه من يد الهاوية (مز 89: 48). فإن طبيعة الإنسان قد دينت في آدم وسقطت في الفساد، لأنه بغباوة عصى الوصية المعطاة له
القديس كيرلس الكبير

* من يُقدِّر أمان نفسه يهتم ألا يكون في خطرٍ، بالاحتفاظ بالتحرر من الخطية، حتى يصون فائدة أعماله الصالحة السابقة لنفسه
قوانين الرسل

*لنحسب حساب نفقة البرج الروحي الشاهق العلو، ونتعمق في ذلك مقدَّما بحرص... لنأخذ في اعتبارنا أولاً الأخطاء بصورة واضحة، فنحفر ونزيل الفساد ونفايات الشهوات حتى يمكننا أن نضع أساسات البساطة والتواضع القويَّة فوق التربة الصلبة التي لصدرنا الحيّ، أو بالحري توضع الأساسات علي صخر الإنجيل (6: 48)، بهذا يرتفع برج الفضائل الروحيَّة، ويقدر أن يصمد ويعلو إلى أعالي السماوات في أمان كامل ولا يتزعزع
الأب اسحق

* إنه يوم هتافٍ وبوق (صف 1: 16). إنه يوم حزن وتنهد لمن لم يهيئوا أعمالهم حسنًا للطريق، أي لرحيلهم من الجسد ليلتقوا مع الله بطريقة مربحة
القديس ويصا

8. الشهادة الباطلة

لاَ تَكُنْ شَاهِدًا عَلَى قَرِيبِكَ بِلاَ سَبَب،ٍ

فَهَلْ تُخَادِعُ بِشَفَتَيْكَ؟ [28].

لاَ تَقُلْ: "كَمَا فَعَلَ بِي هَكَذَا أَفْعَلُ بِهِ.

أَرُدُّ عَلَى الإِنْسَانِ مِثْلَ عَمَلِهِ" [29].

رد الشر بالشر، أو الانتقام، ينزع عن الإنسان حياة النقاوة ويُفسد القداسة، خاصة وإن قدم شهادة خاطئة ضد أخيه بقصد الانتقام منه، حتى وإن كان أخوه هذا سبق فشهد عليه زورًا. فالشر لا يُقاوم بالشر. صدق الإنسان وقداسة حياته أمور لا تُمس مهما كان الدافع. يقول الرسول: "لا تجازوا أحدًا عن شرٍ بشرٍ" (رو 12: 17).

إذ يدرك المؤمن أن الله يحتضنه ويسنده ويحل مشاكله ويدافع عنه، لا ينتقم لنفسه، بل يتكئ على صدره الله. يوصينا الرسول: "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب، لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب" (رو 12: 19).

إنسان الله يشتهي أن يرى مضايقيه قد رجعوا عن الشر الذي يمارسونه، ويتقدسون. هذا لن يقدر أن يبلغه بانتقامه لنفسه، بل يترك الأمر في يدي الله القادر على تجديد القلب وتقديس النفس.

* أقصى شهوات الإنسان المُصاب بالضرر أن يرى النقمة، هذه يحققها الله له في أكمل معاييرها بشرط ألا يحاول الانتقام لنفسه. اترك لله أن يتتبع ما حلّ بك من أضرارٍ
القديس يوحنا الذهبي الفم


9. الكسل والاجتهاد

عَبَرْتُ بِحَقْلِ الكَسْلاَن،ِ

وَبِكَرْمِ الرجُلِ الناقِصِ الفَهْم ِ[30].

دعانا الحكيم إلى حياة الجهاد المستمر بقوله: "اِرم خبز على وجه المياه، فإنك تجده بعد أيام كثيرة" (جا 11: 1). فإن إيماننا بالرب يهبنا ينابيع مياه روحه القدوس تفيض من بطوننا (يو 7: 38)، إننا ننعم بعونه الإلهي، ونقتات به خبز الحياة إن ألقينا بأعمال الحب نحو الله ونحو القريب، فيرده لنا حبًا سماويًا فائقًا

يرى العلامة أوريجينوس أن الإنسان لا يتمتع بنور المعرفة وهو في تراخٍ وكسلٍ، إنما يتمتع بالحكمة والمعرفة خلال الممارسة والاجتهاد.

* لا تظن أن الحكمة تأتي قبل تشريعها في أعمال، بل يلزم أن تأتي الأعمال أولاً، وتُطلب الحكمة بعد ذلك... يقول: "ازرعوا لأنفسكم بالبرّ" (هو 10: 12)... وبعد ذلك يمكنكم ما يتبع هذا: "استنيروا بنور المعرفة"
العلامة أوريجينوس


فَإِذَا هُوَ قَدْ عَلاَهُ كُلَّهُ القَرِيص،

وَقَدْ غَطَّى العَوْسَجُ وَجْهَهُ،

وَجِدَارُ حِجَارَتِهِ انْهَدَمَ [31].

ثُمَّ نَظَرْتُ وَوَجَّهْتُ قَلْبِي.

رَأَيْتُ وَقَبِلْتُ تَعْلِيمًا [32].

سبق أن حذرنا الحكيم من الكسل (أم 6: 10، 11؛ 20: 4). هنا يقدم تصويرًا دقيقًا لحقل الكسلان وكرمه، فتحزن نفسه على صاحب الحقل والكرم، فإن ما يحل بهما من خراب وجفاف وأشواك وحسك، إنما يكشف عما حلّ بقلب صاحبها من دمار وخراب.

القريص هو نوع من الشوك الذي يكثر في المناطق المهجورة (إش 34: 13، هو 9: 6). والعوسج هو شجر الشوك.

وإن لم يكن الإنسان في حاجة إلى مالٍ، فإن الكسل يفسد حياته الداخلية، ويحطم شخصيته، وينزع عنه تذوق الحياة، فتصير بلا طعمٍ ولا هدف.

نَوْمٌ قَلِيلٌ بَعْدُ نُعَاسٌ قَلِيلٌ وَطَيُّ اليَدَيْنِ قَلِيلاً لِلرُقُود ِ[33].

فَيَأْتِي فَقْرُكَ كَعَدَّاءٍ

وَعَوَزُكَ كَغَازٍ! [34].

إذ يحل وقت العمل ينام الكسلان، ويظن في هذا راحة وسعادة، لكنه يُفاجأ بالفقر يجري بسرعة (يعدو) لكي يحل بممتلكاته كما بعقله وقلبه، فتتحطم طاقاته الداخلية، ويغزوه العوز كغازٍ يأسره.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر الامثال  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر الامثال    تفسير سفر الامثال  Icon_minitimeالخميس مارس 01, 2012 1:36 am

الاصحاح الخامس والعشرون


الأمثال التي جمعها رجال حزقيا
دور الحكمة في حياة المؤمنين



يضم القسم الثاني من سفر الأمثال الذي يحوي خمسة إصحاحات (أم 25-29) ما جمعه رجال حزقيا الملك من أمثال لسليمان الحكيم. يرى القديس هيبولتيس الروماني أن أصدقاء حزقيا الملك نسخوا هذه الأمثال من تلك التي ورد عنها في سفر الملوك الأول أنه "تكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفًا وخمسًا" (1 مل 4: 32)، وهي تحمل بنيانًا للكنيسة

عالج هذا الأصحاح دور الحكمة في حياة المؤمنين:

أولاً: بالنسبة للقادة [1-7]: يلزمهم فحص الأمور بدقة، ولا يسيرون وراء الأشرار المنافقين المحيطين بهم.

ثانيًا: بالنسبة للأقرباء [8-9]: يليق بالمؤمن أن يحل مشاكله مع إخوته خارج دار القضاء ما استطاع (مت 5: 21-28). لتكن كلماته لائقة [11-12]، ومُعِينة [13]، ووعوده صادقة [14]. يعرف حدود انفتاحه على أقربائه [17]، ولا يكون محبًا للخصام [16]، كما يلزمه أن تكون له شخصيته المستقلة [19].

ثالثًا: بالنسبة للأعداء [21-22]: مارس إليشع محبة الأعداء (2 مل 6: 8-26)، وقدم لنا السيد المسيح نفسه مثلاً لمحبة الأعداء (لو 22: 49-51). وهكذا عاشت الكنيسة الأولى تمارس وصية محبة الأعداء (أع 7 59-60؛ رو 12: 20).

1. جمع الأمثال 1.

2. الملك والحكمة 2-7.

3. عدم التسرع في الخصام 8.

4. حفظ سرّ القريب 9-10.

5. الكلمة الحكيمة 11-14.

6. البطء في الغضب 15.

7. الاعتدال في الطعام 16.

8. الاعتدال في العلاقات الاجتماعية 17.

9. شهادة الزور 18.

10. عدم الثقة في الخائن 19.

11. حزنًا مع الحزانى 20.

12. محبة الأعداء 21-22.

13. البشاشة 23.

14. السلام العائلي 24.

15. الخبر الطيب 25.

16. محاباة الأشرار 26.

17. المجد الباطل 27.

18. ضبط النفس 28.


1. جمع الأمثال

هَذِهِ أَيْضاً أَمْثَالُ سُلَيْمَانَ،

الَّتِي نَقَلَهَا رِجَالُ حَزَقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا: [1]

جُمعت هذه الأمثال بإرشاد روح الله القدوس بعد موت سليمان بثلاث قرون، قام بعض الكتبة "بنقلها"، أي بنسخها ونقلها كتابة. وقد دُعوا برجال حزقيا، وتدعوهم الترجمة السبعينية "أصدقاء حزقيا".

كان حزقيا ملكًا صالحًا، رجل سلام وإصلاح، حدث في عهده تقدم في مجالات الفن والأدب، كما اهتم القادة والشعب بالحياة الدينية. فحيث يوجد القائد الصالح، تتمتع الرعية بسمة مقدسة وتهتم بخلاصها.

نعلم مما ورد في 2 أي 29: 25-30؛ 31: 21 أن حزقيا اهتم أن يعيد الترتيب الذي وضعه داود النبي لخدمة الهيكل، وقد كافأه الله على اهتمامه بحركة الإصلاح الدينية بأن اكتشف هذه المجموعة من الأمثال بعد أن ظلت مخفية لمدة ثلاثة قرون. وذلك كما أكتشف رجال يوشيا الصالح نسخة من التوراة (2 أي 34: 14-16).

يرى البعض أن هذه الإضافة تمت بإرشاد مثل إشعياء وهوشع وميخا.


2. الملك والحكمة

مَجْدُ اللَّهِ إِخْفَاءُ الأَمْرِ

وَمَجْدُ الْمُلُوكِ فَحْصُ الأَمْرِ [2].

يليق بالملك أن يدرك أن أمور الله وحكمته وخطته لا يمكن الدخول إلى أعماقها كما هي. وكما يقول الرسول بولس: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء، لأنه من عرف فكر الرب، أو من صار له مشيرًا" (رو 11: 33-34؛ تث 29:29). لا تُفحص أمور الله، لأنه هو عالم بأسرار نفسه، أما الملك فيلتزم بفحص كل أمرٍ يمد يده إليه أو يفكر فيه بجدية ليكون قراره سليمًا. فمجد الملك ليس في سلطانه وأوامره، وإنما في فحص الأمور بروح الحكمة.

إذ يدرك الملك أن أمور الله لا تُفحص يمتلئ بمخافة الرب، ويضع في حسبانه أن فوق العالي من هو أعلى من الجميع، فيلتزم في كل تصرفاته بأن يتقي الله ويخشاه.

إذ أقام الله الإنسان المؤمن ملكًا صاحب سلطان يلزمه فحص الأمر، أي يمارس كل شيءٍ بعد دراسة عميقة لكلمة الله والتعرف على إرادة الله، حتى يصير موضع سروره. يقول السيد المسيح: "فتشوا الكتب، لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي" (يو 5: 39). كما يقول الرسول: "اجتهد أن تُقيم نفسك لله مُزكي، عاملاً لا يخزى، مفصلاً كلمة الحق بالاستقامة" (2 تي 2:15).

* تأملوا ما جاء في المزامير: "عجيبة جدًا هي معرفتك عني، ارتفعت، لا أستطيعها" (مز 139: 6). ويقول سليمان: "مجد الله إخفاء الأمر" (أم 25: 2). لذلك كثيرًا ما قررت أن أتوقف ولا أكتب. صدقوني، هذا ما فعلته. ولكن لكي لا أسبب لكم إحباطًا، ولئلا يقود صمتي الذين سألوني إلى عدم التقوى، ويستسلموا للجدل، ضغطت على نفسي لأكتب في اختصار ما أرسله الآن إلى قداستكم
البابا أثناسيوس الرسولي

* حتى وإن كانت كل العقول تجتمع معًا لتبحث معًا، والألسنة تتعاون معًا لتنطق معًا، فكما قلت، لن يستطيع أحد أن يبلغ إلى نتيجة مرضية في هذا الأمر
القديس باسيليوس الكبير

اَلسَّمَاءُ لِلْعُلُوِّ،

وَالأَرْضُ لِلْعُمْقِ،

وَقُلُوبُ الْمُلُوكِ لاَ تُفْحَصُ [3].

مع علو السماء وُهب للإنسان أن يفحص الكواكب خلال علم الفلك، ومع ما للأرض من عمق وُهب له أن يفحص ما في باطنها من كنوز كالمعادن والبترول الخ، أما قلب المؤمن الحقيقي المتحد بالله فلا يُمكن فحصه؛ إذ يقول السيد المسيح نفسه: "ها ملكوت الله داخلكم" (لو 17: 21). ويقول الرسول: "أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا" (2 كو 6: 16). فمن يقدر أن يفحص ملكوت الله، ويعرف دقائق هيكله الذي يقيم فيه الروح القدس؟

أَزِلِ الزَّغَلَ مِنَ الْفِضَّةِ،

فَيَخْرُجَ إِنَاءٌ لِلصَّائِغِ [4].

أَزِلِ الشِّرِّيرَ مِنْ قُدَّامِ الْمَلِكِ،

فَيُثَبَّتَ كُرْسِيُّهُ بِالْعَدْلِ [5].

تنقية الفضة من الزغل تعطي للصائغ أن يشكل إناءً فضيًا ثمينًا، وإزالة الشر من القلب، تجعل منه هيكلاً لروح الله واهب التقديس. وإزالة المشيرين الأشرار من قدام الملك تثبت عرشه بالبرّ. هذا ما فعله سليمان حيث أدان فعلة الشر من حوله قبل أن يبدأ عمله الملوكي (1 مل 2).

هذا أيضًا ما سيحدث في يوم الرب العظيم، حين يأتي ملك الملوك ويحطم إبليس ومملكته، ويلقى به وبجنوده وأتباعه في البحيرة المتقدة نارًا، ليعلن ملكوته السماوي الأبدي، ويتمجد في مختاريه إلى الأبد.

بنفس الروح يليق بالكنيسة أن تعزل الخبيث، وتنزع الخميرة الفاسدة لكي لا يفسد العجين كله.

هذا أيضًا ما يختبره المؤمن في حياته اليومية، حيث يلزم اقتلاع جذور الشر مع غرس الخير بعمل النعمة الإلهية. وكما يقول المرتل: "حد عن الشر، وافعل الخير وأسكن إلى الأبد" (مز 37: 27).

* لماذا قيل: "طوبى للكاملين طريقًا السالكين في شريعة الرب" (مز118: 1)؟ يحدد الكتاب هنا "السالكين" وليس "الذين سلكوا"، السالكين في عمل الخير، ويجدون متعتهم في القيام به... أما الذين يهربون من الشر... فلا يمكن مدحهم إذا استطاعوا أن يتجنبوا الخطية مرة أو مرتين إلا إذا تمكنوا من بترها نهائيًا من حياتهم... فإن كنا نريد الصلاح فلنبدأ بتجنب الشرور... "حد عن الشر واصنع الخير" (مز37: 27) يرسم لنا المزمور طريق الفضيلة... بعلم وفن... فالبعد عن الشر هو بداية الخير... إن طُلبت من البداية كمال الفضيلة لتراجعت قبل أن تبدأ
القديس باسيليوس الكبير

لاَ تَتَفَاخَرْ أَمَامَ الْمَلِكِ،

وَلاَ تَقِفْ فِي مَكَانِ الْعُظَمَاءِ [6].

لأَنَّهُ خَيْرٌ أَنْ يُقَالَ لَكَ ارْتَفِعْ إِلَى هُنَا،

مِنْ أَنْ تُحَطَّ فِي حَضْرَةِ الرَّئِيسِ الَّذِي رَأَتْهُ عَيْنَاكَ [7].

يليق بالمؤمن ألا يدفع نفسه بنفسه للمثول أمام الرؤساء، ولا يشتهي مجالستهم من أجل نوال كرامة الناس.

عندما انفتحت قصور الأباطرة والعظماء أمام رجال الكنيسة باهتداء قسطنطين إلى الإيمان المسيحي، وُجد سباق آخر للهروب إلى البرية للتمتع بالجلوس مع الله في سكون البرية، كما فعل القديس أنبا أنطونيوس الكبير.

يقول السيد المسيح: "متى دُعيت من أحدٍ إلى عرسٍ فلا تتكئ في المتكأ الأول، لعل أكرم منك يكون قد دُعي منه، فيأتي الذي دعاك وإياه ويقول لك: أعطِ مكانًا لهذا، فحينئذٍ تبتدئ بخجلٍ تأخذ الموضع الأخير، بل متى دُعيت، فاذهب واتكئ في الموضع الأخير حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك: "يا صديق ارتفع إلى فوق. حينئذٍ يكون لك المجد أمام المتكئين معك. لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (لو 14: 7-11).

الكبرياء الذي يدفع الإنسان إلى تقديم نفسه في حضرة العظماء يحطم حياة الإنسان أمام نفسه كما أمام الغير، بل يستحق لوم الله له. أما من يتواضع في أعماقه بصدقٍ وإخلاص فيرفعه الله. وكما قالت القديسة مريم: "أنزل الأعزاء عن الكراسي، ورفع المتضعين" (لو 1: 52).

إن كان الذي يدفع نفسه لينال كرامات وأمجاد باطلة من العالم يستحق اللوم، فماذا إن كان المؤمن يدفع بنفسه في المجالات الروحية والدينية طالبًا المجد الزمني؟

*ليبحث المتكبر عن الممالك الأرضية ويحبها، ولكن "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات"

* لقد جلس الرب في منزل فريسي متكبر (لو 7: 36)، كما قلت إنه كان في منزله ولم يكن في قلبه، لكنه لم يدخل في منزل قائد المئة ومع ذلك فقد امتلك قلبه (مت 8: Cool.

زكا أيضا قبل الرب في منزله وفي قلبه (لو 19: 6). وأما إيمان قائد المئة فقد مُدح بسبب تواضعه، لأنه قال: "لست مستحقا أن تدخل تحت سقفي". فقال الرب: "الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا" (مت 8: 10)، هذا بحسب الجسد، لأنه بالروح "إسرائيلي". لقد جاء المسيح للإسرائيليين حسب الجسد أي لليهود باحثًا أولا عن الخراف الضالة بين هذا الشعب، آخذا جسده أيضا من هذا الشعب. لقد قال: "لم أجد إيمانا بمقدار هذا". إننا نستطيع أن نقيس إيمان البشر كما يحكم البشر عليه، وأما الرب الذي يرى ما بالداخل، والذي لا يخدعه أحد، شهد لقلب هذا الرجل مستمعا لكلمات التواضع ومعلنا عبارة الشفاء

* ما أن تتكبر حتى تفقد في الحال ما نلته
القديس أغسطينوس

* يُوهب التواضع لكل شخص حسب درجة عظمته. الكبرياء مضر لكل أحدٍ. إنه يطلب أن يفسد بالذات من هم عظماء!
القديس چيروم

*يا للجنون؟ ألا يدرى هذا الإنسان المتكبر أن مجده يزول ويتبخر كالحلم، وأن العظمة والسلطان ليست هي إلا سرابًا خداعًا
القديس باسيليوس الكبير


3. عدم التسرع في الخصام

لاَ تَبْرُزْ عَاجِلاً إِلَى الْخِصَامِ،

لِئَلاَّ تَفْعَلَ شَيْئاً فِي الآخِرِ حِينَ يُخْزِيكَ قَرِيبُكَ [8].

يقدم لنا السيد المسيح مثلاً عمليًا في الحياة بخصوص عدم التسرع في الدخول في خصامٍ أو معارك مع الغير. يقول: "وأي ملكٍ إن ذهب لمقاتلة ملكٍ آخر في حرب،ٍ لا يجلس أولاً ويتشاور: هل يستطيع أن يلاقي بعشرة آلاف الذي يأتي عليه بعشرين ألفًا، وإلا فمادام ذلك بعيدًا يُرسل سفارة ويسأل ما هو للصلحِ" (لو 14: 31-32).

ارتكب يوشيا الملك هذا الخطأ، مع أنه عمل المستقيم في عيني الرب (2 مل 22: 2)، إلا أنه إذ صعد فرعون نخو ملك مصر لمحاربة أشور، صعد يوشيا الملك لمحاربته، مع أنه لم يصعد فرعون لمحاربة يوشيا. دخل في معركة في مجدو انتهت بقتله (2 مل 23: 29-30).

يليق بالمؤمن ألا يلقي نفسه بنفسه في معارك كان يمكنه أن يتجنبها. لهذا طلب ربنا منا أنه متى حل اضطهاد في مدينة نهرب إلى أخرى، ليس خوفًا من الموت، ولا في جبنٍ وخنوعٍ، ولكن لكي لا ندفع أنفسنا بأنفسنا في تجربةٍ.

* إنه يترك لنا سلامًا وهو راحل، وسيقدم لنا سلامه عندما يأتي في النهاية. سلامًا يتركه لنا في هذا العالم، وسلامه سيهبنا في العالم الآتي. يترك لنا سلامه، وإذ نسكن فيه نهزم العدو.

سيهبنا سلامه عندما لا يوجد بعد أعداء نحاربهم فنملك كملوك.

سلامًا يترك لنا حتى نحب أيضًا بعضنا البعض هنا، وسيعطينا سلامه حين نكون فوق إمكانية حدوث نزاع.

سلامًا يتركه لنا حتى لا يدين الواحد الآخر فيما هو سرّ لكل منهما ونحن على الأرض؛ سيهبنا سلامه عندما "يُظهر آراء القلوب وحينئذ يكون المدح لكل واحدٍ من الله" (١ كو ٤: ٥). ومع هذا ففيه ومنه ننال السلام سواء الذي يتركه لنا وهو ذاهب عند الآب أو ما سيمنحنا إياه عندما يحضرنا إلى الآب.

وماذا يترك لنا عندما يصعد من عندنا سوى حضوره الذي لن يسحبه منا؟ فإنه هو سلامنا الذي يجعل كلاهما واحدًا (أف ٢: ١٤). لذلك يصير هو سلامنا، سواء عندما نؤمن بأنه هو، أو عندما نراه كما هو (١ يو ٣: ٢).

لأنه إن كان ونحن بعد في هذا الجسد الفاسد الذي يثقل على النفس ونسير بالإيمان لا بالعيان لا يترك الذين يرحلون وهم بعيدون عنه (٢ كو ٥: ٦–٧)، كم بالأكثر عندما نبلغ تلك الرؤية، سيملأنا بنفسه

* السلام الذي يتركه لنا في هذا العالم يمكن بالأكثر لياقة أن يدعى سلامنا لا سلامه. لأنه إذ بلا خطية تمامًا ليس فيه أي عنصر من الخلاف نفسه. أما السلام الذي لنا هو الذي في وسطه لا نزال نقول: "أغفر لنا ما علينا" (مت ٦: ١٢)... إنه ليس بالسلام الكامل، إذ نرى ناموسًا آخر في أعضائنا ضد ناموس ذهننا (رو ٧:٢٢–٢٣)
القديس أغسطينوس


4. حفظ سرّ القريب

أَقِمْ دَعْوَاكَ مَعَ قَرِيبِكَ

وَلاَ تُبِحْ بِسِرِّ غَيْرِك [9].

لِئَلاَّ يُعَيِّرَكَ السَّامِعُ،

فَلاَ تَنْصَرِف فَضِيحَتُكَ [10].

ليس فقط لا يليق بنا أن نتسرع في الدخول في خصومة مع قريبنا، إنما يلزمنا أيضًا قبل أن نلجأ إلى القضاء أو إلى دخول طرف ثالث للمصالحة أن نلتقي معه سرًا، ونتكلم معه بروح الأخوة، فيشعر أننا نطلب المصالحة بروح الحب، وليس بتبرير أنفسنا والتشهير به.

دخول طرف ثالث أو الالتجاء إلى القضاء ربما يُلزمه أن يكشف أمورًا لم نكن نعرفها، فنصير في فضيحة. يوصينا السيد المسيح: "إن أخطأ إليك أخوك، فاذهب وعاتبه بينك وبينه. وحدكما. إن سمع منك، فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع، فخذ معك أيضًا واحدًا أو أثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة..." (مت 18: 15 الخ).

* كثيرًا ما يشير سليمان إلى "صديق" و"صداقة". لهذا يليق بنا الآن أن نتطلع إلى ما يعنيه بالصداقة. يقول أن النعمة والصداقة يحرران. أيضًا يقول المخلص في الأناجيل لليهود الذين أمنوا به: "إن ثبتم في كلامي، فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يحرركم" (يو 8: 31-32). مرة أخرى يقول بولس: "المسيح حررنا (افتدانا) من لعنة الناموس" (غل 3: 13)، فإن كانت الصداقة تحرر، فالمسيح هو الحق والصداقة. لهذا فإن كل الذين يقتنون معرفة المسيح هو أصدقاء لبعضهم البعض. ولهذا يدعو المخلص تلاميذه أصدقاء (يو 15: 15)، يوحنا المعمدان هو صديق العريس (3: 29)، وهكذا موسى (خر 33: 11)، وكل القديسين. وبفضل تلك الصداقة وحدها فإن الأصدقاءه هم أصدقاء بعضهم البعض
القديس مار أوغريس


5. الكلمة الحكيمة

تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ فِي مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ،

كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ فِي مَحَلِّهَا [11].

يرى البعض أن الحديث هنا عن تفاحٍ جميل الشكل لونه ذهبي موضوع في طبق من الفضة. إنه منظر رائع! هكذا الكلمة الحكيمة المنطوق بها في وقتها المناسب.

لقد تحدثت راعوث مع بوعز بكلمات مملوءة نعمة وفي الوقت المناسب، فتحقق لها ما لم تكن تحلم به، أن يأتي السيد المسيح من نسلها.

ونطقت أبيجايل بكلمات حكيمة مع داود وقت ثورته، فمدحها وسمع لها (1 صم 25: 32).

لا يكفي أن ننطق بالحق، وإنما يلزم أن ندرك كيف نقدمه، ومتى ننطق به ولمن.

ما أحوجنا أن تكون الحكمة طبيعتنا في كياننا الداخلي مقترنة بتصرفاتنا وكلماتنا في الخارج، أي نحمل قدسية الإنسان الداخلي وقدسية الجسد أيضًا بأحاسيسه ومشاعره ومواهبه وكل طاقاته وسلوكه. هذه الحكمة (أو المعرفة أو الفهم) هي هبة إلهية.

* الروح القدس الذي فيه كل أنواع المواهب، يهب البعض كلمة حكمة.

* خلال قيادة الروح يأتي الإنسان إلى معرفة طبيعة كل الأشياء.

* أرسل نورك (مز3:43)؛ هذا النور المرسل من الآب إلى ذهن المدعوين للخلاص هو الفهم خلال الروح، الذي يقود استناروا بالله.
العلامة أوريجينوس

* ليست معرفة بدون إيمان ولا إيمان بدون معرفة .الابن هو المعلم الحقيقي.
القديس إكليمنضس السكندري

قُرْطٌ مِنْ ذَهَبٍ وَحُلِيٌّ مِنْ إِبْرِيزٍ،

الْمُوَبِّخُ الْحَكِيمُ لأُذُنٍ سَامِعَةٍ [12].

إن صدر التوبيخ من إنسان حكيم يحمل روح الحب والحنو، فإن هذا التوبيخ يُحسب كحلي وقرط ذهبي في الأذن، أي يُحسب توبيخه هدية ثمينة وجميلة.

يقدم لنا سفر أخبار أيام الثاني مثلاً رائعًا، وهو توبيخ النبي عوديد للجيش القادم من السامرة، حيث أخبرهم أن الغضب قد بلغ السماء بسبب سبيهم إخوتهم من يهوذا. وبالفعل ردوا المسبيين بعد أن أكرموهم، وقدموا لهم احتياجاتهم (2 أي 28: 9-15).

كَبَرْدِ الثَّلْجِ فِي يَوْمِ الْحَصَادِ،

الرَّسُولُ الأَمِينُ لِمُرْسِلِيهِ،

لأَنَّهُ يَرُدُّ نَفْسَ سَادَتِهِ [13].

كان من عادة الحصادين في منطقة الشرق الأوسط أن يضعوا ثلجًا في المشروبات أثناء الحصاد في الصيف لينعشهم، ويستطيعون ممارسة عملهم وسط الحر الشديد. هكذا ينعش الرسول الموثوق فيه نفوس الذين أرسلوه، إذ لا يشكون في أمانته.

الأمانة عنصر أساسي في المعاملات وسط أي مجتمع، فالزوج الأمين وأيضًا الزوجة والرئيس والمرؤسين هؤلاء وغيرهم متى كانوا أمناء في تقديم المعلومة المطلوبة منهم ينعشون المجتمع، كالثلج الذي ينعش من يعاني من شدة الحر.

وفي يوم الرب العظيم نسمع الصوت الإلهي: "نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل، فأقيمك على الكثير، أدخل إلى فرح سيدك" (مت 25: 21).

* الوكيل الذي يسيء تدبير أمور سيِّده ويفقد ممتلكاته يخاف من مواجهته، وعلى العكس الوكيل الذي يدبر أمور سيِّده حسنًا دائما يلتقي به ببهجة
القدِّيس جيروم

*عندما يحل دورك في الخدمة أضف إلى عملك الجسماني كلمة نصيحة وتعزية محبَّة للذين تخدمهم، فتكون خدمتك المُملَّحة بملحٍ (كو 4: 6) مقبولة.

لا تسمح لآخر أن يمارس ما هو موكل إليك بحقٍ، لئلاَّ تُسحب منك المكافأة وتُعطى لآخر، فيغتني هو بثروتك، بينما تصير أنت في خزي.

مارس التزامات خدمتك برقَّةٍ وعناية، كمن يخدم المسيح. إذ يقول النبي: "ملعون من يعمل عمل الرب باسترخاء" (إر 48: 10).

خف، كما لو كانت عينا الرب عليك، فإن الانحراف يصدر عن التهاون والاستخفاف، حتى وإن بدا لك العمل المُمارس وضيعًا. عمل الخدمة هو عمل عظيم، يقود إلى ملكوت
القدِّيس باسيليوس الكبير

سَحَابٌ وَرِيحٌ بِلاَ مَطَرٍ،

الرَّجُلُ الْمُفْتَخِرُ بِهَدِيَّةِ كَذِبٍ [14].

متى عانى موقع ما من الجفاف ثم ظهرت سحابة، يترقب الكل باشتياق أن تهطل مطرًا عوض المعاناة من الجفاف، فإذا تبددت السحابة دون أن تسقط مطرًا يحل بالناس حالة من الإحباط وخيبة الأمل. هذا هو حال من يفتخر مؤكدًا أنه يقدم هدية، ولا يفي بما وعد به.

عندما كتب يهوذا الرسول عن المعلمين الذين يعدون سامعيهم بتقديم الحق الإنجيلي، لكنهم يعجزون عن تنفيذ ما يعدون بهم، اقتبس ما ورد في هذا العدد، وكتب عنهم أنهم "غيوم بلا ماء، تحملها الرياح؛ أشجار خريفية بلا ثمر، ميتة مضاعفًا مقتلعة" (يه 12).

6. البطء في الغضب

بِبُطْءِ الْغَضَبِ يُقْنَعُ الرَّئِيسُ،

وَاللِّسَانُ اللَّيِّنُ يَكْسِرُ الْعَظْمَ [15].

أمران مهمان مطلوبان في التعامل مع الغير، وهما طول الأناة أو بطء الغضب، والكلمة اللينة اللطيفة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). فبطول الأناة نطفئ ثورة غضب الآخرين دون أن نشتعل نحن بالغضب، وبهذا يمكننا في الوقت المناسب أن نحاور بهدوء، ونعطي الآخرين الفرصة لمراجعة أنفسهم.

وبالكلمة اللطيفة نكسر غضب الغير. ولعل من أجمل ما في العهد القديم موقف داود من شاول الملك. فقد نزل شاول إلى برية زيف ومعه ثلاثة آلاف رجل منتخبي إسرائيل ليفتش على داود ويقتله (1 صم 26:2). وعندما وجد داود شاول ومعه رئيس جيشه والشعب مضطجعون حوله، طلب أبيشاي أن يضرب شاول فيقتله دفعة واحدة، لكن داود رفض؛ وإنما أخذ الرمح الذي عند رأسه وكوز الماء وعبر إلى رأس الجبل عن بُعد، ووبخ أبنير لأنه لم يحرس الملك. عرف شاول صوت داود فقال: "أهذا هو صوتك يا ابني داود؟" (1 صم 26: 17) قال له داود: "لأن ملك إسرائيل قد خرج ليفتش على برغوثٍ واحدٍ". فقال شاول بعدما راجع إلى نفسه: "قد أخطأت. ارجع يا ابني داود، لأني لا أسيء إليك... هوذا قد حمقت وضللت كثيرًا جدًا..."

* لا يوجد شيء يفوق الحب، وبالتالي لا يوجد شيء أدنى من الغضب. يلزمنا ألا نهتم بشيء مهما بدا نافعًا وضروريًا حتى نتجنب الغضب الذي يسبب اضطرابًا، ولا نرتبك بالأمور حتى التي نحسبها ليست كمالية حتى نحفظ هدوء الحب والسلام بغير نقص، لأنه يلزمنا أن ندرك أن لا شيء مهلك مثل الغضب والتكدر، وليس شيء مفيدًا مثل الحب
الأب يوسف

* سأل أخ شيخًا: إني أريد أن أستشهد من أجل الله. فأجابه "من احتمل أخاه في وقت الشدة، فذاك أصبح داخل أتون الثلاثة فتية".

بستان الرهبان

* إن كان الشخص يغضب بكونه إنسانًا، فإنه يضع حدًا للغضب بكونه مسيحيًا.

* إن الكلمة الخارجة من الفم تخرج كحجر مرشوق باليد، هيهات عودتها أو ضبطها... فلهذا يلزم التأمل فيما سيقال قبل أن يخرج الكلام. لأنه بعد خروجه يكون التأمل فيه باطلاً.
القديس إيرونيموس


7. الاعتدال في الطعام

أَوَجَدْتَ عَسَلاً؟

فَكُلْ كِفَايَتَكَ لِئَلاَّ تَتَّخِمَ فَتَتَقَيَّأَهُ [16].

تناول الطعام باعتدال نافع صحيًا وروحيًا، أما الإفراط في الأكل فضار. هكذا بالنسبة لكل احتياجات الجسم، فإن الإفراط فيها مهلك للجسد كما للنفس. ليس في الطعام خطية مادام يتم بالشكر والاعتدال.

عدم ضبط البطن يحول حلاوة العسل إلى غثيان للمعدة. وعدم ضبط اللسان يحول كلماتك الحكيمة عن تحقيق غايتها.

*ومع ذلك فأنا لست أعني أننا لا يجب أن نفكر في الله في جميع الأوقات، ولا داعي لأن يهاجمني خصومي بهذه الحجة، حيث أنهم دائمًا مستعدون للهجوم، فإننا يجب أن نتذكر الله أكثر مما نتنفس، بل يمكنني القول أنه لا يجب ألا نفعل شيئًا آخر غير ذلك، وأنا من أنصار المبدأ الذي يأمرنا بأن "نلهج نهارًا وليلاً" (مز 1: 2)، لنُخبر عن الرب "مساءًا وصباحًا وظهرًا" (مز 54: 17)، "لنُبارك الرب في كل حين" (مز 34: 1)، أو كما قال موسى "حين تمشي في الطريق، وحين تقوم، وحين تنام" (تث 6: 7)، أو عندما نعمل أي شيء آخر، وبهذا التَذكُّر لله نصبح أنقياء، وهكذا فإنني لست ضد التَذكُّر المستمر لله، بل ضد المناقشة المستمرة للاهوت، وأنا لا أُعارض اللاهوت – كأنه شيء ضد التقوى - ولكنني أُعارض مناقشته في وقت غير مناسب، ولست ضد تعليم اللاهوت، إلا عندما يتجاوز الحد، فإن الامتلاء والتخمة – حتى من العسل مع كل لذته - يسبب القيء (أم 25: 16)، ولكل شيء وقته كما أرى ويرى سليمان الحكيم، وما هو حسن ليس حسنًا إذا كان الوقت غير مناسب، فالزهور ليس وقتها بالمرة في الشتاء، وملابس الرجال لا تصلح للنساء، ولا ملابس النساء للرجال. ولا يليق الضحك المفرط أثناء الحِداد، ولا البكاء في حفل شراب. إذا كانت كل هذه لا تصلح لأنها في وقت غير مناسب، فهل نُهمل اختيار الوقت المناسب في مناقشة اللاهوت فقط، مع أن مراعاة الوقت المناسب لهذه المناقشة في غاية الأهمية؟
القديس غريغوريوس النزينزي

* كما أن الاعتدال والبُعد عن الإسراف هما ابنا القناعة عادة، فإذا اعتاده إنسان استغنى عن كل ما هو كمالي وغير ضروري، وحتى لا يوجد انحراف أو سقوط في الاغراءات، مكتفيًا بما هو ضروري ولازم للصحة وللحياة المباركة حسب تعليم الكلمة السماوي له المجد. وليكن لبس النساء بسيطًا مهندمًا حسن الشكل، ولا جناح على استخدام الأقمشة الرقيقة، تلك التي لا تليق بالرجال، ولكن بما لا يجرح حياءهن، ويحملهن إلى الإسراف. كما يجب أن تتناسب الملابس مع السن والشخص والقوام والطبيعة والسلوكيات، لأن الرسول الإلهي ينصحنا بقوله: "بل البسوا الرب يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات" (رو 13: 14)
القديس إكليمنضس السكندري


8. الاعتدال في العلاقات الاجتماعية

اِجْعَلْ رِجْلَكَ عَزِيزَةً فِي بَيْتِ قَرِيبِكَ،

لِئَلاَّ يَمَلَّ مِنْكَ فَيُبْغِضَكَ [17].

مرة أخرى يتحدث عن الاعتدال في كل شيء، حتى في علاقاتنا مع أقربائنا. فمع محبتنا الشديدة لهم، يلزم أن نضع حدودًا في تصرفاتنا، فلا نضع أنفنا في حياتهم، ولا نسألهم في أمور شخصية، ولا نكون محبين للاستطلاع بالنسبة لحياتهم وتصرفاتهم؛ كما نضع حدودًا لزيارتنا، ومدة تصرفاتهم، ومدة الزيارة، مهما كان ترحيبهم بنا.

لنطل وقتنا في اللقاء سرًا مع الله والحديث معه، ولنقلل ما استطعنا اللقاء مع الناس والحديث معهم.

* أما عن الرسل والأنبياء،

فتصرفوا بحسب تعليم الإنجيل، هكذا:

اقبلوا كل رسول يأتيكم كالرب (مت ١٠: ٤٠).

غير أنه يجب إلاَّ يمكث أكثر من يوم،

وعند الضرورة يبقى يومًا آخرًا،

إذا بقي ثلاثة أيام فهو نبي كاذب.

الديداكية


9. شهادة الزور

مِقْمَعةٌ وَسَيْفٌ وَسَهْمٌ حَادٌ،

الرَّجُلُ الْمُجِيبُ قَرِيبَهُ بِشَهَادَةِ زُورٍ [18].

شهادة الزور أو الافتراء على شخص يشبه مطرقة، يضرب بها الإنسان عقول الآخرين، أو مِدْرسًا يسحق ما هو تحته، أو سيفًا أو سهمًا يدمر. أما المؤمن فإنه وإن هوجم بالافتراء، فيحسب هذا بسماح من الله لتأديبه وتزكيته وكسب المفتري عليه.

عندما شتم شمعي بن جيرا داود، وكان يرشقه بالحجارة هو وعبيد الملك والجبابرة المحيطين به، قال أبيشاي للملك: "لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك. دعني أعبر فأقطع رأسه" (2 صم 16:9). أما الملك الهارب من وجه أبشالوم ابنه فقال: "دعوه يسب، لأن الرب قال له سبَّ داود، ومن يقول لماذا تفعل هذا؟" وقال داود لأبيشاي ولجميع عبيده: "هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي، فكم بالحري الآن بنياميني. دعوه يسبّ، لأن الرب قال له" (2 صم 16: 11).

*من يُضرب بحجرٍ يذهب إلى طبيب، لكن ما هو أحدَّ من الحجر: ضربات الافتراء (تشويه السمعة). وكما يقول سليمان: شهادة الزور هي حرب بالهراوة وسيف وسهم حاد" (راجع أم 25: 18)، وجراحاتها قادر أن يشفيها الحق وحده. فإذا تدمر الحق، تصير الجراحات إلى أردأ فأردأ
القديس أثناسيوس الرسولي


10. عدم الثقة في الخائن

سِنٌّ مَهْتُومَةٌ وَرِجْلٌ مُخَلَّعَةٌ،

الثِّقَةُ بِالْخَائِنِ فِي يَوْمِ الضِّيقِ [19].

ينكشف الإنسان الذي ينال مركزًا هامًا للعمل ويُوثق فيه وهو خائن، فيُحسب كأنه أسنان مهتومة وأرجل مخلعة. فعوض أن يعين الغير يصير علة متاعب وقلاقل. أخطر مثل لذلك هو يهوذا الذي اُختير تلميذًا، وسُلم أمانة الصندوق، إذا به يخون سيده.

*سمع التلاميذ أن معلمهم يقتله اليهود فتألموا، وسمعوا أن واحدًا منهم يسلمه فتكدروا.

تُرى من يخرج من جوقة نور ربنا، ويمضي ويختلط مع الظلام بالرعب العظيم.

تُرى من يترك صحبة الشمس الحسنة الشعاع، ويسير في الطريق الممتلئة غيومًا وظلامًا.

من هو هذا الحمل الذي قلب نفسه فصار ذئبًا، وبدأ يعض الراعي الصالح.

السياسة غصبت بطرس أن يجحد الابن، وأما يهوذا فلم يغصبه أحد أن يسلم... ولما سأل يهوذا: لعلي أنا هو؟ أجابه الرب: أنت قلت. كمن يقول له: لم يغصبك أحد.

إن تقل: لماذا اختاره العارف بالكل وهو يعلم أنه غاش؟... اختاره وهو حسن وطاهر ولم يكن فيه عيب، إذ كان وديعًا ومستقيمًا. وبعد أن اختاره وهو لائق ومملوء صلاحًا تغَّير وأهلك صلاحه وصار مرذولاً...

ابن الله وعد يهوذا بالكرسي، ولما جحده أنزله وتركه للمشنقة...

إلى أين تترك كرسيك ومجدك يا أيها المختار؟ من يعطيك كرسيًا عاليًا كمثل الذي لك؟...

المرضى الذين شفيتهم يبكون عليك بمرارة؛ والبرص الذين طهرت ينحنون بسبب سقوطك.

ارتعبوا أيها المفرزون من القبلات الغاشة، لأن بقبلةٍ غاشةٍ واحدةٍ تعلق ابن الله على خشبةٍ.

الشيطان الذي علَّم يهوذا أن يسلم معلمه، عاد فعلَّمه أن يشنق نفسه، ليرث بالاثنين الهاوية التي تأهل لها.
القديس يعقوب السروجي


11. حزنًا مع الحزانى

كَنَزْعِ الثَّوْبِ فِي يَوْمِ الْبَرْدِ،

كَخَلٍّ عَلَى نَطْرُونٍ،

مَنْ يُغَنِّي أَغَانِيَّ لِقَلْبٍ كَئِيبٍ [20].

لا تتحقق تعزية الحزين بأن نقدم له أغنية من الأغاني حتى وإن كان يحبها، ولا أن نطلب منه أن يغني كما فعل البابليون. فقد طلبوا من الإسرائيليين في أرض السبي أن يسبحوا لهم تسبحة من تسابيح الرب. وكما يقول المرتل: "على أنهار بابل هناك جلسنا. بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون. على الصفصاف علقنا قيثاراتنا، لأنه هناك سألنا الذين سبونا أقوال التسبيح، والذين استاقونا إلى هناك قالوا: سبحوا لنا تسبحة من تسابيح صهيون. كيف نسبح الرب في أرض غريبة؟" (مز 137: 1-4).

يقول الرسول: "فرحًا مع الفرحين، وبكاءً مع الباكين" (رو 12: 15). ويقول الحكيم "للبكاء وقت، وللضحك وقت، للنوح وقت، وللرقص وقت" (جا 3: 4).

من لا يراعي مشاعر الحزين ومكتئب القلب، فعوض مشاركته حزنه يغني، يكون كمن نزع ثياب إنسانٍ يعاني من البرد القارس، فيضاعف من تعبه، أو من وضع خلاً على نطرون فيتفاعل معه وتتولّد رغوة.

* إني أتألم وأحزن مع زملائنا المؤمنين الذين سقطوا وجحدوا الإيمان أثناء مرارة الاضطهاد، يسحبون جزءً من قلوبنا معهم، فسببوا لنا حزنًا مشابهًا بجراحاتهم
القديس كبريانوس

* آلامنا هي هكذا قد بلغت إلى أقصى العالم المسكون، متى تألم عضو تتألم معه كل الأعضاء
القديس باسيليوس

* المشاركة العامة في كل شيء، الأمور الصالحة والمحزنة، هي الطريق الوحيد لبلوغ كمال الشركة
القديس يوحنا الذهبي الفم

12. محبة الأعداء

إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ خُبْزًا،

وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ مَاءً [21].

اقتبس الرسول بولس هذين العددين فيما عدا الشق الأخير، وذلك من الترجمة السبعينية (رو 12: 20).

يقدم إنسان الله حبًا مع العطية، فيلهب نار حب في رأس من يضايقه، محولاً غضبه وثورته إلى صداقةٍ وحب. وقد أوصانا السيد المسيح: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم" (مت 5: 44).

فَإِنَّكَ تَجْمَعُ جَمْراً عَلَى رَأْسِهِ،

وَالرَّبُّ يُجَازِيكَ [22].

حينما نقدم للعدو الجائع طعامًا والعطشان شرابًا يلزم أن نهدف إلى توبته، مشتاقين أن يشاركنا حياتنا المملوءة حبًا لله والناس. هذه التوبة تشتعل في قلبه بنيران داخلية حسب مسرة الله. لكن البعض يقدمون الطعام والشراب بهدف الكبرياء واستصغار العدو أو تسفيهه، هذا ما لا يليق بالمؤمن.

* يعلمنا بولس الرسول في وضوح كامل أن الصدقة تُقدم لكل احد، إذ يقول: "فإذا حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع، ولاسيما لأهل الإيمان" (غل 6: 10). هذا واضح جدًا بما فيه الكفاية أن في أعمالٍ من هذا النوع تعطي الأولوية للأبرار (في العطاء).. هذا لا يعني أننا نغلق قلوبنا من نحو الآخرين حتى بالنسبة للخطاة، بل حتى الذين يحملون اتجاهًا عدائيًا نحونا. يقول المسيح نفسه، فوق الكل: "أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم" (لو 6: 27). هذا الأمر لم يعبر في صمت في العهد القديم، ها أنتم ترون أننا نقرأ فيه: "إن جاع عدوك فأطعمه خبزًا، وإن عطش فاسقه ماء" هذا النص استخدمه الرسول في العهد الجديد (رو 12: 20)

*هذه العبارة (الكتابية) تبدو أنها تأمر بارتكاب جريمة أو ممارسة رذيلة. لكنها هي حديث رمزي يوجهنا للمشاركة في آلام الرب... يقول الكتاب: "إن جاع عدوك فأطعمه خبزًا، وإن عطش فاسقه ماءٍ". هذا بلا شك يأمر بالحنو ولكن التكملة هي: "فإنك تجمع جمرًا على رأسه" يمكنك أن تظن أنها تأمر بجريمة حقدٍ. فلا تشك في أنها تعبير رمزي. فمع إمكانية تفسيرها بطريقتين، بالواحدة تميل إلى الأذية، والتفسير الآخر يميل إلى المحبة الصالحة التي تستدعيه لتترك الأذية، وتلتصق بالحنو، فتفهم الجمر أنه مراثي التوبة النارية التي بها يُشفي كبرياء الشخص ويحزن أنه عدو لمن يهدئ من كربته
القديس أغسطينوس


13. البشاشة

رِيحُ الشِّمَالِ تَطْرُدُ الْمَطَر،َ

وَالْوَجْهُ الْمُعْبِسُ يَطْرُدُ لِسَاناً ثَالِبًا [23].

يليق بنا ألا نرحب ولا نشجع صاحب اللسان الثالب الذي ينهش أعراض الناس، وينقد الآخرين في غيابهم، بل نقابله كما بوجهٍ عابسٍ. بهذا لا يسترسل في أحاديته الهدامة.

يكرر سفر الأمثال ضرورة السلام والحب في الأسرة (أم 21: 9) وبين الأصدقاء، لأنه أمر خطير، بدونه تتحول الأسرة كما المجتمع إلى جحيمٍ لا يُطاق.


14. السلام العائلي

السُّكْنَى فِي زَاوِيَةِ السَّطْح،ِ

خَيْرٌ مِنِ امْرَأَةٍ مُخَاصِمَةٍ فِي بَيْتٍ مُشْتَرِكٍ [24].

* لقد أمرنا أن نحب قريبنا كأنفسنا، لهذا فإن أول التزام للإنسان تحت تدبير الله هو محبة زوجته وأولاده. بهذا القول أود أن أؤكد أنكم تعرفون أن مسئولية الرجل – كما المرأة أيضًا – هي أهل بيتهما.

مادام الله قد وضع هذا النظام في البشرية ذاتها – أزواج وزوجات وأبناء – فمن المعقول أنه يجب علينا أن نتمم ناموس الحب في البيت أولاً. قبل كل شيء، من لهم فرصة أكثر ليختبروا حبنا وسلامنا وطول أناتنا عمن يعيشون معنا؟ من يلزمنا نطلب أن نحبهم أولاً بجانب أولئك الذين يمكننا أن نخدمهم ونهتم بهم بالأكثر؟

نعم قد نهتم بكل شيء لعائلاتنا من أجل راحتهم المادية والمقتنيات، لكننا أن فشلنا في تقديم حب الله لهم، فإن الرسول يظهر حقيقة قلوبنا، أنها أشر من غير المؤمنين (١ تي ٥: ٨). يقول هذا لكي يوقظ فهمنا، أن الله يرغب في أن يسيطر السلام السماوي على بيوتنا، نابعًا من المسئولين في حب للذين دُعوا للطاعة بمحبة.

لكي ندبر بيوتنا يلزم لمن يعطون أوامر أن يفعلوا هذا بتقوى، وليس بقسوة قلب، أو بنوعٍ من السلطة بغير فهمٍ ولا حنوٍ...

الإنسان البار، أي الذي يحيا بالإيمان، أشبه بمسافرٍ متجه نحو المدينة السماوية، والذين يقدمون توجيهات وأوامر بالحقيقة يخدمون الذين يبدو إنهم يُؤمرون...

إذ تمارسون السلطة لا تسقطوا في الكبرياء بسبب مركزكم بل بالحري مارسوا السلطة الروحية في بيوتكم. إنكم محكومون بحب الله الذي يشجع ويترجى ويصدق ولن يسقط (١ كو ١٣)
القدِّيس أغسطينوس

* "لكن ينصحن الحدثات أن يكن محباتٍ لرجالهن" (تي 2: 4).

يقول الرسول بأن العجائز ينصحن الحدثات أن يحببن رجالهن، لأن رأس خيرات المنزل هو أن تكون الزوجة موافقة لرجلها. إن حدث هذا لا يوجد مكروه قط. لأنه كيف لا يوجد السلام عندما يتفق الجسد مع الرأس؟!... فإن وُجدت الرأس في سلام، من يستطيع أن ينزع السلام أو يمنعه؟... إن هذا أنفع للمنزل من الأموال وشرف الجنس والاقتدار...

بالمحبّة تزول كل مقاومة، فإن كان الرجل وثنيًا يقبل الإيمان سريعًا، وإن كان مسيحيًا يصير إلى حالٍ أفضل.

هل رأيت كيف يتنازل بولس الذي يعمل بكل جهده أن يبعدنا عن الدنياويات، معطيًا اهتمامًا عظيمًا فيما يخص حال المنزل؟ لأنه إن دُبّرت المنازل جيدّا وجدت الروحيّات مكانًا، وبدون المنزل السليم تعطب الروحانيّات...

فالمرأة إذ تكون متزوّجة رجلاً غير مؤمن ولا تكون فاضلة يستحيل ألا يُفترى علي الله بسببها، أما إذا كانت متزيّنة بالكرازة فإنها تربح الشرف من كرازتها وأعمالها الحسنة.

لتسمع النساء اللواتي رجالهن قساة أو غير مؤمنين وليتأدبّن، حتى يقدن إيّاهم إلى حسن العبادة. فإنك إن لم تربحيه أو تستميليه إلى مشاركتك في التعاليم المستقيمة تغلقين فمه ولا تتركينه يجدّف علي الديانة المسيحيّة. وهذا ليس بالأمر البسيط، لأن الديانة تُمدح بسبب تصرفاتنا.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم

* من يتزوج يعرف كيف يندر أن نجد زوجة بدون هذه الأخطاء، لذلك فإن الخطيب العظيم Varius Geminus قال حسنًا: "الإنسان الذي لا يخاصم هو أعزب". في الحقيقة: "السكنى في زاوية السطح خير من امرأة مخاصمة في بيت مشترك". إن كان بيت مشترك بين زوج وزوجة يجعل الزوجة متكبرة، وتقدم استخفافًا بالزوج، فماذا لو كانت الزوجة هي الأكثر غني، والزوج لاجئًا في بيتها!
القديس جيروم


15. الخبر الطيب

مِيَاهٌ بَارِدَةٌ لِنَفْسٍ عَطْشَانَةٍ،

الْخَبَرُ الطَّيِّبُ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ [25].

ما هو الخبر الطيب إلا مجيء السيد المسيح نفسه، كلمة الله، القادر أن يشبع النفس ويرويها بمياه حبه. إنه يفجر في داخلها ينبوع مياه حية، فتروي بدورها كثيرين بعمل روحه القدوس فيها وفيهم.

* يقول الكتاب المقدس: "كما أن المياه المُسرة لنفسٍٍ عطشانة" هكذا معرفة ربنا يسوع الواهبة الحياة للعقل الذي يحب المعرفة. لذلك ليتنا نسحب من الينابيع المقدسة، المياه الحية واهبة الحياة، المياه العقلية الروحية. لنأخذ ما يروينا ولا نتوقف عن الشرب. فإن في هذه الأمور الحاجة الدائمة للتثقيف فوق التصور والطمع ممدوح للغاية
القديس كيرلس الكبير

16. محاباة الأشرار

عَيْنٌ مُكَدَّرَةٌ وَيَنْبُوعٌ فَاسِدٌ،

الصِّدِّيقُ الْمُنْحَنِي أَمَامَ الشِّرِّيرِ [26].

تمتلئ نفس الإنسان البار والمستقيم حين يجد نفسه مُلزمًا أن يخضع لإنسانٍ شريرٍ فاسدٍ، فيكون كالمسافر الذي يرى عين ماء، فيجري إليها ليشرب، وإذا بها مملوءة بالقاذورات، أو يجد ينبوعًا فيجده مملوءً بالطحالب.

17. المجد الباطل

أَكْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْعَسَلِ لَيْسَ بِحَسَن،ٍ

وَطَلَبُ النَّاسِ مَجْدَ أَنْفُسِهِمْ ثَقِيلٌ [27].

الإفراط في تناول العسل يضر المعدة، ويسبب غيثًا للإنسان، هكذا حال الإنسان الذي يعيش لا ليخدم الآخرين بالحب، وفي تواضعٍ داخليٍ حقيقيٍ، إنما يسعى وراء مجده الذاتي.

اهتزّ القدّيس يوحنا الذهبي الفم أمام طول أناة السيّد المسيح حتى في تعامله مع إبليس أثناء التجربة، إذ يقول: [لم يسخط ولا ثار، إنّما برقّة زائدة تناقش معه للمرة الثانية من الكتاب المقدّس... معلّما إيّانا أننا نغلب الشيطان لا بعمل المعجزات، وإنما بالاحتمال وطول الأناة، فلا نفعل شيئًا بقصد المباهاة والمجد الباطل.]

* كما أن المسيح "أخذ صورة عبدٍ" (في 2: 7) وغلب الشيطان بالتواضع، هكذا فإنه في البداية سقط الإنسان عن طريق الكبرياء والمجد الباطل بخداع الحيّة؟
القديس مقاريوس الكبير

* ليس شيء مقبولاً لدى الله مثل أن يحسب الإنسان نفسه آخر الكل، هذا هو المبدأ الأول للحكمة العمليّة، فإن المتواضع والمجروح في قلبه لا يحب المجد الباطل، ولا هو بغضوب، ولا يحسد قريبه، ولا يلجأ إلى أية شهوة
القدّيس يوحنا الذهبي الفم

*لنوقف هذا التعالي الفاقد للشعور والباطل، هذا الذي ينبع عن حب المجد الباطل أصل الكبرياء. فإن رغبة السيطرة على الآخرين، والنزاع لبلوغ هذا الأمر، يجعل الإنسان بالحق ملومًا، مع أنه لا يخلو تمامًا مما يستحق المديح. فإن السمو في الفضيلة يستحق التقدير (التكريم)، لكن الذين يريدون بلوغ هذا يلزمهم أن يكونوا متواضعي الفكر، لهم مشاعر متواضعة، لا يطلبون أن يكونوا الأولين وذلك خلال حبهم للإخوة. هذا ما يريده فينا الطوباوي بولس، إذ كتب: "مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة" (رو 12: 10). هذه المشاعر يتأهل لها القديسون وبها يتمجدون، إذ تجعل تقوانا نحو الله مكرمة، وتمزق شبكة خبث إبليس وتحطم فخاخه المتعددة، وتخلصنا من حفرة الفساد، وتجعلنا كاملين في التشبه بالمسيح مخلص جميعنا. أنصت، كيف يضع نفسه أمامنا مثالاً للفكر المتواضع وللإرادة التي لا تطلب المجد الباطل، إذ يقول: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29)
القديس كيرلس الكبير


18. ضبط النفس

مَدِينَةٌ مُنْهَدِمَةٌ بِلاَ سُور،ٍ

الرَّجُلُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى رُوحِهِ [28].

من لا يضبط نفسه، كيف يمكنه أن يضبط أسرته أو مرؤوسيه. الإنسان الحكيم الفاضل يهتم أولاً أن يضبط أعماقه، فيكون كمدينةٍ محصنةٍ، لا يقدر عدو الخير أن يتسلل إليه ويفترسه.

* أما الذين يدمنون كثرة الكلام فعليهم أن يلاحظوا بدقة كم هم بعيدون عن الطريق المستقيم عندما يسرفون في خضم من الكلمات. إن العقل يسلك كالماء. فعندما نحيط الماء بسياج، يرتفع إلى مستويات عليا وهو يتصاعد إلى نقطة الارتفاع التي منها انحدر. أما عندما نطلقه ويتهدم السياج، فإنه يتبعثر في كل اتجاه، ويخترق كل المستويات السفلية. وهكذا بالحقيقة يضيع كل الكلام الزائد كالماء عندما يتحرر من رقابة الصمت، ويُحمل العقل عبر قنوات عديدة ويتوه، وبالتالي يفقد القوة التي بها يمكن أن يعود داخليًا للمعرفة الذاتية، لأنه يتشتت بسبب كثرة الكلام والثرثرة، ويحيد عن مواقع التأمل السري في القلب. وهنا يُعَرِض العقل نفسه للجراحات المصوبة من العدو الذي يترصد به، لأنه لم يحط نفسه بسياج من اليقظة. وهكذا كُتِبَ بالأمثال: "مدينة منهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه." (أم 25: 28).

إن قلعة العقل التي بلا سور من الصمت تتعرض لسهام العدو، وعندما ينبعث الكلام من أسوار القلعة ويضربها تتعرض للعدو علانية فيهزمها دون ما تعب، إذ ينهزم العقل الثرثار حيث يحارب نفسه بنفسه بكثرة الكلام
البابا غريغوريوس (الكبير)

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير سفر الامثال
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير سفر الامثال لابونا انطونيوس فكرى
»  تفسير سفر صموئيل أول
» تفسير سفر يونان
»  تفسير سفر يوئيل
» تفسير سفر الجـامعــة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: منتدى الكتاب المقدس :: دراسة اسفار الكتاب المقدس-
انتقل الى: