إن نعمة التأله تتجاوز إذاً الطبيعة والفضيلة والمعرفة، "فهذه كلها أدنى منها" (كما يقول القديس مكسيموس). فإن كل فضيلة وتشبّه بالله من جانبنا يجعلان من يمارسها مهيّأ للإتحاد الإلهي، لكن الإتحاد السري ذاته تتممه النعمة. أنه بواسطة النعمة، "يأتي الله ليسكن بملئه في أولئك الذين حسبوا مستحقين" (مكسيموس)، والقديسون يسكنون بكل كيانهم في الله، مستقبلين الله في ملئه، وغير حاصلين على مكافأة أخرى لصعودهم إليه سوى الله ذاته.
"أن الله يلتصق بهم كما تلتصق النفس بالجسد، كما بأعضاءه الخاصة" (مكسيموس). وهو يستسيغ السكنى في المؤمنين بالتبني الحقيقي، وفقاً لعطية ونعمة الروح القدس. لذلك، عندما تسمع أن الله يسكن فينا بواسطة ممارستنا للفضائل، أو أنه يأتي ليقيم فينا من خلال الذاكرة، لا تظن أن التأله مجرد إقتناء الفضائل، لكنه يكمُن بالأحرى في سطوع نعمة الله، والتي حقاً تأتي إلينا من خلال الفضائل. كما يقول باسيليوس الكبير: "أن النفس التي كبحت دوافعها الطبيعية عن طريق النسك الشخصي وبمساهمة الروح القدس تتأهل - بحسب حكم الله العادل - للبهاء الموهوب للقديسين".
والبهاء الذي تمنحه نعمة الله هو نور، كما نتعلم من هذا القول: "أن البهاء المعطى للذين قد تنقوا هو نور، لأن الأبرار سوف يضيئون كالشمس، ويكون الله في وسطهم معيّنا وموزعاً لهم كرامات الغبطة والبركة، لأنهم آلهة وملوك".
إن هذه حقائق تفوق السماوات وتفوق الكون، لأنه من الممكن إقتبال النور الفائق للسماوات ضمن مواعيد الخيرات". وسليمان من جهته يقول: "النور يضيء للصديقين دائماً" (أم 13: 9)، وبولس الرسول يقول: "شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور" (كو 1: 12)
ولكننا نقول أن الإنسان يتحصل على الحكمة بالجهد والدرس، ألا أننا لا نقول أن الحكة ليست سوى جهد ودرس، بل هي نتيجتهما.
أن الرب يسكن في الناس بطرق مختلفة ومتنوعة، بحسب إستحقاق طالبيه وطريقة حياتهم. فهو يظهر بطريقة ما للإنسان العامل، وبطريقة أخرى للمتأمل، وبطريقة أخرى أيضاً للرائي، وبطرق أخرى مختلفة أيضاً للإنسان الغيور أو المتأله بالنعمة. هناك فروقات كثيرة في الرؤيا الإلهية عينها. بعض الأنبياء عاينوا الله في الحلم، وآخرون في اليقظة بواسطة ألغاز ومرايا، ولكنه ظهر لموسى وجهاً لوجه لا في ألغاز.
ولكنك عندما تسمع عن رؤية الله وجهاً لوجه، تذكر قول مكسيموس: "إن التأله هو الإستنارة المؤقنمة والمباشرة التي لا بداية لها، غير أنها تظهر في أولئك المستحقين بشكل يفوق الإدراك. أنه حقاً إتحاد سري بالله، يتجاوز كل عقل وكل إستدلال، في الدهر الذي لا تعود الكائنات تعرف فيه الفساد. هذا الإتحاد الذي بفضله يصير القديسون بمعاينتهم نور المجد الخفي الذي لا ينطق به قادرين على إقتبال النقاوة المباركة، مع القوات السماوية. أنه أيضاً الإبتهال للإله العظيم والآب، رمز التبني الحقيقي والأصيل، وفق عطية ونعمة الروح القدس، التي يصبح القديسون بفضلها أبناء الله بهبة النعمة ويدومون فيها".
إن ديونيسيوس العظيم الذي يسمي ذلك النور "شعاع إلهي فائق الضياء"، يسميه أيضاً "عطية مؤلهة ومبدأ الألوهة" أي مصدر التأله. وقد سأله أحد كيف يفوق الله الرئاسة الإلهية (أي مبدأ الألوهة عينه)، فأجاب: أنت قد سمعت أن الله يدع ذاته يُرى وجهاً لوجه لا في ألغاز، وأنه يلتصق بأولئك المستحقين كالتصاق النفس بالجسد، بأعضائها الخاصة، وأنه يتحد بهم حتى أنه يأتي ويسكن فيهم بالتمام، لكي يسكنون هم أيضاً فيه بالكلية، لأنه بواسطة الابن ينسكب الروح علينا بغنى (تي 3: 6) - لا كشيء مخلوق - وأننا نشترك فيه، وأنه يتكلم من خلالنا. أنت تعرف كل هذا. لكن يجب أن لا تعتبر أن الله يدع ذاته يُعاين في جوهره الفائق الجوهر، بل بمقتضى العطية المؤلهة وقوتها، بحسب نعمة التبني والتأله الغير مخلوق والإستنارة المؤقنمة. يجب أن تعتبر أن هذا هو مبدأ الألوهة، العطية المؤلهة، التي بموجبها يمكن للإنسان أن يتصل بالله بصورة فائقة الطبيعة وأن يراه وأن يتحد به. لكن جوهر الله الفائق المبدأ يتجاوز هذا المبدأ أيضاً.
هذه النعمة هي في الحقيقة علاقة، وإن لم تكن علاقة طبيعية، إلا أنها في نفس الوقت تفوق العلاقة، ليس فقط بكونها فائقة الطبيعة بل أيضاً لكونها علاقة: إذ كيف لعلاقة أن تكون لها علاقة؟ أما جوهر الله فليس له علاقه، هو ليس كعلاقة بل يسمو ويفوق سائر العلاقات الفائقة الطبيعة عينها. إن النعمة تُعطى لجميع المستحقين لها، بطريقة خاصة وملائمة لكل منهم، في حين أن جوهر الله يسمو على كل ما هو قابل للمشاركة.
عندما تسمع الكلام عن قوة الله المؤلهة ونعمة الروح الإلهية، لا تنشغل بالبحث أو تسعى لمعرفة لماذا هي كذا أو كذا وليست شيء آخر. لأنك بدونها لا تقدر أن تتحد بالله، كما يقول الآباء الذين تحدثوا عنها. عليك بالأحرى أن تلازم الأعمال التي ستسمح لك ببلوغها، وعندئذ سوف تعرف على قدر إمكانك، إذ لا يعرف أحد قوى (طاقات) الروح القدس إلا من تعلّم عنها عن طريق الخبرة، حسب باسيليوس الكبير. أما بالنسبة للشخص الذي يبحث عن المعرفة قبل الأعمال، فإن كان يثق بمن لهم الخبرة فإنه يحصل على صورة ما عن الحقيقة. ولكنه إذا حاول أن يتصورها بذاته، يجد نفسه إنه قد حُرِم حتى من صورة الحقيقة. ومن ثم ينتفخ بالكبرياء كما ولو أنه قد أكتشفها، وينفث غضبه على رجال الخبرة كما لو كانوا في الضلال. فلا تكن إذاً فضولياً بزيادة بل اتبع رجال الخبرة بأعمالك، أو على الأقل بأقوالك، مكتفياً ببوادر النعمة الخارجية.
التأله في الحقيقة هو فوق كل اسم. ولهذا نحن الذين كتبنا كثيراً عن الحياة الهدوئية، لم نتجاسر أن نكتب عن التأله. ولكننا اليوم نتكلم لوجود ضرورة بأقوال التقوى - بنعمة الله - غير إنها أقوال غير كافية لوصفها. إذ أن التأله يبقى فائق الوصف، وإن عُبر عنه بالكلام، ويمكن أن يُعطى له اسماً فقط بواسطة أولئك الذين اقتبلوه، كما يعلم الآباء.
لا يجب إذاً مساواة عطية الروح المؤلهة بجوهر الله الفائق الجوهر. فهي القوة المؤلهة للجوهر الإلهي، إلا أنها ليست تمام هذه القوة، وإن كانت لا تتجزأ في ذاتها. حقاً أي مخلوق يمكنه إقتبال تمام قوة الروح غير المحدودة، سوى ذاك الذي حُمل في بطن العذراء، بحلول الروح القدس وقوة العلي التي ظللته. فهو قد اقتبل "كل ملء اللاهوت جسدياً" (كو 2)
أمّا بالنسبة لنا، فمن ملئه نحن جميعاً أخذنا (يو 1). فجوهر الله هو في كل مكان، لأن "روح الرب يملأ المسكونة" (حك 1: 7) بحسب الجوهر. التأله أيضاً هو في كل مكان حاضراً في الجوهر بصورة لا توصف، وغير منفصل عنه، كقوته الطبيعة.
ولكن كما أنه لا يمكن رؤية النار، في غياب مادة تقبلها، أو أي عضو قابل لمعاينة قوتها المنيرة، كذلك أيضاً لا يمكن معاينة التأله في غياب مادة مهيأة لاقتبال الكشف الإلهي. ولكن عندما يُرفع كل برقع تُهيئ مادة مناسبة - أي طبيعة عاقلة مطهرة لا تحجبها الرجاسات المختلفة - تصير هي نفسها منظورة (من الناس) كنور روحي، أو بالأحرى تحوّل الناس إلى نور روحي.
لقد قيل: "أن جزاء الفضيلة هو أن نصير آلهة، أن نستنير بالنور الأكثر النقاوة، أن نصير أبناء ذلك النهار الذي لا تعتمه أية ظلمة. لأن الشمس التي تنتج هذا النهار هي شمس أخرى، شمس تشرق النور الحقيقي. ومتى أنارتنا لا تعود تختبئ جهة الغرب بل تُغلّف كل شيء بقوتها المنيرة. وتهب من هم أهل لها نوراً أبدياً لا نهائياً، وتحول أولئك الذين يشتركون في هذا النور إلى شموس أخرى". عندئذ بالحقيقة "يضيئ الأبرار كالشمس" (مت 13). أية شمس؟ بالتأكيد هي تلك التي تظهر الآن لمن هم أهل لها، كما فعلت آنذاك.
ألا ترى أنهم سوف يكتسبون نفس الطاقة التي لشمس البر؟ لذا فإن آيات إلهية مختلفة وحلول الروح القدس يتم بوساطتهم. فإنه قيل "كما أن الهواء الذي يحيط بالأرض إذا ما دفعته الريح إلى فوق يصير مضيئاً لأنه يتحول بصفاء الأثير، كذلك الروح البشرية التي تعتزل هذا العالم الموحل والقذر، تصير مضيئة بقوة الروح وتمتزج بالصفاء الحقيقي الأسمى، وتلمع في هذا الصفاء، وتصير مشعة كلياً، وتتحول إلى نور، حسب وعد السيد، الذي سبق قال أن الأبرار سوف يضيئون كالشمس.
إننا نرى الظاهرة نفسها على الأرض من خلال مرآة أو سطح ماء، فإنهم باقتبالهم شعاع الشمس ينتجون من أنفسهم شعاعاً أخر. ونحن أيضاً إذا ما أرتفعنا، تاركين الظلال الأرضية، نصير مضيئين، بالاقتراب من نور المسيح الحقيقي. وإذا نزل إلينا النور الحقيقي الذي يضيء في الظلمة، نصير نحن أيضاً نوراً، كما قال السيد لتلاميذه.
هكذا فإن عطية الروح المؤلهة هي نور سري، وهي تحوّل الذي يقتبلون غناها إلى نور. أنها لا تملأهم فقط نوراً أبدياً، بل تمنحهم معرفة وحياة تليق بالله. هكذا فإن بولس لم يكن بعد يحيا حياة مخلوقة، بل "حياة أبدية ذاك الذي سكن فيه" (بحسب مكسيموس).