كل الناس كاذبون بقلم العلامة أوريجانوس

"ليكن الله صادقا وكل انسان كاذبا" (رو 3)

"كل إنسان كاذباً" مقتبسة من مزمور 115 الذي يقول: "أنا قلت في حيرتي كل إنسان كاذب" (مز 116). نأمل أن لا يبدو الأمر مملاً للقراء إذا شرحنا بإيجاز محتويات المزمور الذي أخذ منه هذه الشهادة حتى يمكننا إعطاء المزيد من الضوء على المعنى الذي يقصده الرسول.

يبدو لي أن داود النبي في المزمور يقصد مثل هذا المعنى: "بالرغم أن وجود الكثير من أنظمة المعتقدات لدى البشر وكثيرون يتفلسفون في بحثهم عن الحق، وبالرغم من أن الأيمان بالله من المفترض أن يكون له الأسبقية مقارنة بكل هذه الأبحاث والإجتهادات
فإن بعض الذين يطلبون بدون أن يؤمنوا أولاً لم يجدوا شيئاً. ولكن بما أنني آمنت قبل بدء عملية البحث لهذا السبب وجدت ما كنت أبحث عنه. ولم أجده فقط بل تكلمت أيضاً وأعلنت للشعوب الحق الذي وجدته. إلا أنني عندما وجدت الحق لم أجعل حكمتي الخاصة تجرفني بعيداً، ولا صرت منتفخاً بسبب معرفتي. لكنني بدلاً من ذلك أتضعت بالأكثر، لأنني عرفت وفهمت أن الذي يعلم الإنسان المعرفة هو الله ذاته (مز 94).

ثم نظرت إلى كل أنواع الأقوال التي قالها البشر عن الحق، سواء بين الفلاسفة أو الوثنيين. وتأملت حقيقة أنهم لم يجدوا شيئاً بالرغم من أقوالهم الكثيرة ومجهوداتهم الكبيرة، وذلك بسبب أنهم لم يؤمنوا أولاً قبل أن يبدأوا عملية البحث.
عندما تأملت كل هذه الأمور سواء تصريحاتهم أو كتاباتهم، تعجبت وأندهشت في قلبي أن كل كتب الفلاسفة التي تظهر مرتبة وموضوعة بإسلوب رائع وبلاغة متألقة جنحت بعيداً جداً من الحق. وفي دهشتي وذهول عقلي قلت: "كل إنسان كاذباً".

لكن أنا الشخص الذي أظهر لي الرب كل هذه الأمور لم أكن ناكراً للمعروف، بل تأملت وتفكرت في نفسي: بماذا أكافئ الرب مقابل معرفة الحق هذه التي أعلنها لي الرب (مز 116).
وفهمت بطبيعة الحال أن الطبيعة السرمدية وضابط الكل ليست له حاجة إلى أي شيء (أع 17: 25)
وبالتالي وجدت شيئاً واحداً فقط يليق بي أن أقدمه لله، وهو أن أؤمن بأنه من المستحيل لله أن يأخذ شيئاً من إنسان إذ أنه يعطي فقط. ولذلك قلت: "كأس الخلاص آخذ"، تماماً وكأن الشخص يجيب على ذاك الذي قال: "أتستطيعا أن تشربا من الكأس الذي أشربه أنا" (يو 20)،
فيجاوبه: "أستطيع يارب".

هكذا يقول الشخص: "لابد لي أن أتناول كأس آلامك بحرية وبكامل إرادتي" وأنا أقول أيضاً: "ليتني أحتفظ بنعمة كأسك أي آلامك إلى النهاية. ليتني أفعل ذلك ليس بقوتي الذاتية لكن من خلال دعوتي لإسم الرب. لأن الموت المعزز بالتقوى والحق كريم وعزيز في عيني الرب".

هكذا وبهذه الطريقة نفهم كلمات الرسول "كل إنسان كاذباً" فهي كلمات تخص إما ذلك الشخص الذي بدون إيمان ويثق في حرفية الناموس أو ذلك الشخص الذي يفتخر بأي كتابات أو عقائد قديمة.

لكن قد يعترض أحد علينا قائلاً: إذا كان كل الناس كاذبون إذاً بولس نفسه يكون أيضاً كاذب، فهو إنسان. وداود أيضاً الذي صرح بهذه الامور يكون هو ذاته كاذب لأنه إنسان بما أن كل الناس كاذبون. وما يقوله بأن "كل انسان كاذب" يصبح كذباً لأنه أعلن نفسه بالضرورة كاذباً جنبا الى جنب مع بقية الناس.
واذا كان هو كاذب فلا شك أن ما قاله الكاذب لن يكون صحيحاً. يبدو لي أن هذه المعالجة قد مضت نحو أحجية وهمية.

لكن إذا كنا نعود أدراجنا إلى قلب معنى الكتاب المقدس سوف نجد أن كل الأنبياء والرسل كانوا بين الذين جاءت إليهم كلمة الله. كما هو مكتوب: كلمة الرب جاءت إلى هذا او ذاك من الأنبياء. والرب يصرح في الانجيل أن أولئك الذين تأتي إليهم كلمة الله ليسوا بشراً بل آلهة. فهو يقول الآتي: "إن قال آلهة لاولئك الذين صارت اليهم كلمة الله .ولا يمكن ان ينقض المكتوب" (يو 10، مز 82).
لذلك بما أن كلمة الله قد صارت لكل من داود كنبي وبولس كرسول، فلاشك أنهما ليسا بشراً بل آلهة، لأن كلمة الله صارت إليهم. وبناء على ذلك بما أنهما ليسا بشراً بل آلهة إذاً ما يصرح به بشأن بقية الناس الذين لم تصر إليهم كلمة الله أي بأن "كل الناس كاذبون" يكون قولاً صحيحاً.