+++السلام والنعمة "الراعى يحبك الراعى ينتظرك"+++
+++السلام والنعمة "الراعى يحبك الراعى ينتظرك"+++
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
البوابةالبوابة  الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  الكتاب المقدسالكتاب المقدس  الكتاب مسموع و مقروءالكتاب مسموع و مقروء  تفسير الكتابتفسير الكتاب  مركز تحميل الصورمركز تحميل الصور  youtubeyoutube  جروب المنتدىجروب المنتدى  twittertwitter  rssrss  دخولدخول  

 

 تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي   تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Icon_minitimeالأحد نوفمبر 07, 2010 10:19 pm

مقدمة في رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي مدينة فيلبي
اسم "فيلبي" معناه "محب للخيل أو للحرب". وقد اُعتبرت المدينة الأولى من حيث الأهمية، لأنها أول مدينة يصلها المسافر بحرًا على مكدونية.

1. جغرافيًا: عُرفت مدينة فيلبي في الأصل بكرينيدس Krenides، ومعناها "آبار" أو "ينابيع". دُعيت فيلبي على اسم الملك فيليب الثاني المقدوني، والد الإسكندر الأكبر. بعد استيلاء الرومان عليها صارت جزءً من مقاطعة مكدونية.

تقع مدينة فيلبي في الشمال الشرقي لمقاطعة مكدونية شمال اليونان على بعد تسعة أميال من بحر إيجة. وتقع المدينة على تله صغيرة بارزة، بينما يحيط بها سهل خصيب، لذلك فهي مدينة زراعية. علاوة على خصوبتها توجد مناجم للذهب والفضة بجوارها.

2. تاريخيًا: في عام 357 ق.م ضم الملك المقدوني فيليب الثاني أبو الإسكندر الأكبر منطقة كرنيدس حتى نهر نستوس إلى مملكته، ثم قام بتوسيع المدينة بإضافة مساحات أخرى لها وحصّنها. سقطت تحت سيطرة الجيوش الرومانية، فأصبحت مستعمرة رومانية، وعندما انتصر أوكتافيوس وأنطونيوس على بروتس وكاسيوس قتله يوليوس قيصر في معركة شرسة بالقرب من فيلبي، وأصبح أوكتافيوس إمبراطورًا على الإمبراطورية الرومانية باسم "أوغسطس قيصر". اهتم بمدينة فيلبي فجددها ووسعها ونالت المدينة صفة "كولونية" أي مستعمرة رومانية حرة، ينال أهلها نفس الحقوق والامتيازات التي تتمتع بها روما، وغلب عليها الطابع الروماني أكثر من الطابع اليوناني، وأصبحت اللغة الرسمية اللاتينية لغة الجنود الرومان, وكانت الديانة السائدة في المدينة هي الديانة الوثنية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي   تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Icon_minitimeالأحد نوفمبر 07, 2010 11:01 pm

الأصحاح الأول

فرح وسط الآلام

علامات الحياة المفرحة في المسيح


من داخل السجن كتب القديس بولس إلى الكنيسة المحبوبة لديه، والتي يبدو أن كان لها مكانة خاصة لديه. أما موضوع الرسالة فهو "المسيح فرحنا". إنه مصدر الفرح، في كل الظروف، يتجلى بالأكثر وسط الآلام حيث نشاركه آلامه.

يقدم لنا القديس بولس في هذا الأصحاح علامات معينة لهذه الحياة الجديدة المتهللة في المسيح يسوع:

أ. نظرة مقدسة للآخرين: لذا يدعو القديس بولس المؤمنين "جميع القديسين في المسيح يسوع" [1]، شعبًا وكهنة.

ب. عواطف مقدسة [7-8]: عندما تاب القديس أغسطينوس لم تتحطم عواطفه، بل بالحري تغير مسارها. عوض الشهوات الجسدية التي كانت تحطم طاقاته، تمتع بشهوات إلهية، والتهبت كل عواطفه بحب الله والناس.

ج. النمو في الحب [9] كما في المعرفة [10] والأعمال الصالحة [10] والبرّ [10]. فالفرح هو وراء النمو الدائم والتقدم المستمر في المسيح يسوع. إنه تجديد يومي، يبغي التشبه بالرب الذي هو الحب والحكمة والبرّ.

د. توجيه كل الطاقات إلى خلاص الإنسان بفرحٍ [12-26]: لم يكن القديس بولس يفكر في سجنه أو آلامه، بل بالحري وجد في سجنه فرصة رائعة للشهادة للمسيح في مجال جديد، بين الحراس ورجال الدولة. كان أيضًا متهللاً بسجنه، لأنه بعث بحركة جدية وجريئة للكرازة يقوم بها تلاميذه وأصدقاؤه، بل وحتى أعداؤه الذين كانوا يحسدونه ويقاومونه.

ه. الفرح بعطية الألم [27-30]: كان الألم من أجل المسيح هو منهج الرسول الذي يعلن عنه مرارًا في رسائله. يحمل الألم شهادة للآخرين عن تجلي السيد المسيح المصلوب فينا، كما فعلت قيود القديس بولس [7، 13]. يمكن للألم أيضًا أن يبعث فينا النمو في الإيمان. الألم هو عطية المسيح، كالإيمان تمامًا. كان الفرح بالألم شهادة بأن نفس القديس بولس حرة؛ فقد وجد جوًا من الفرح حتى داخل السجن. يخبرنا القديس بولس عن نصرته المتهللة على الألم بسبب ثقته في المسيح. لذلك يشير إلى اسم المخلص 40 مرة في هذه الرسالة القصيرة.

لكي يتمتع المؤمن بالفرح الدائم يليق به أن يعيد تقييم حياته، لئلا يكون قد انطبق عليه القول: "أنا عارف أعمالك أن لك اسمًا أنك حيّ وأنت ميت" (رؤ 3: 1).

1. تحيّة رسولية 1-2.

2. شكر ودعاء وحب 3-7.

3. شوق وصلاة 8-11.

4. قيود ونصرة 12-14.

5. فرح بالكرازة 15-19.

6. الحياة بالمسيح 20-26.

7. تحدي وقوة 27-30.

1. تحيّة رسولية

"بولس وتيموثاوس عبدا يسوع المسيح،

إلى جميع القدّيسين في المسيح يسوع،

الذين في فيلبّي مع أساقفة وشمامسة" [1].

يسجل القديس بولس اسم تلميذه تيموثاوس معه في الافتتاحية كمن هو شريك معه في الرسالة. فقد كان مزمعًا أن يرسله إليهم ليخبره عن أحوالهم، فيتعزى ويفرح (في 19:2). هذا وقد كان تيموثاوس معروفًا لديهم (أع 3:16، 10-12)، شارك الرسول في رحلتيه إلى فيلبي، وكانت له مكانة خاصة لدى الكنيسة هناك. على هذا الأساس سجل اسمه في الرسالة، وإن كان لم يساهم في كتابتها.

"بولس وتيموثاوس عبدا..." يمثل بولس الرسول حياة التواضع, إذ وهو المعلم وكاتب الرسالة يقرن اسم تلميذه باسمه دون تفرقة أو تمييز، مساويًا تلميذه بنفسه. ويمثل تيموثاوس التلمذة المستمرة والجهاد الدائب والمثابرة إلى النفس الأخير.

لم يسجل القديس بولس لقبه أنه "رسول" في هذه الرسالة ولا في رسالته إلى أهل تسالونيكي ورسالته إلى فليمون، لأن رسوليته لم تكن موضوع شك لدى المُرسل إليهم. ولأن أهل فيلبي لم يحتاجوا أن يتذكروا سلطانه الرسولي.

يدعو الرسول نفسه وتلميذه عبدي يسوع المسيح، فإنهما لا يطلبان مركزًا خاصًا في الكنيسة، ولا تشغلهما السلطة، إنما كانا يفتخران بعمل الرب الذي قبلهما عبدين له يتممان مشيئته.

لماذا يلقب الرسول بولس نفسه في هذه الرسالة بـ "عبد" فقط؟

1- لأنه يفتتح الرسالة بما يناسب المؤمنين الذين وجهها إليهم.

2- لأنه كان مزمعًا أن يتحدث عن ابن الله الذي أخلى نفسه آخذًا صورة عبد.

3- يشعر بولس بملكية الله له، لقد اشتراه بدمه الثمين فصار عبدًا له.

4- كانت كنيسة فيلبي ثمرة طاعة بولس لسيده.

v يدعو نفسه عبدًا لا رسولاً. بالحقيقة يا لعظم هذه الرتبة أيضًا، وذروة كل الصالحات، أن يكون الشخص عبدًا للمسيح، وليس مجرد مدعوًا هكذا. بالحقيقة عبد المسيح هو إنسان حرٌ من جهة الخطية، وبكونه عبدًا حقيقيًا لا يكون عبدًا لآخر، إذ لا يود أن يكون عبدًا نصف نصف (أي يشارك عبوديته للمسيح عبوديته لآخر).

القديس يوحنا الذهبي الفم

v كم من سادة يخضع لهم ذاك الذي يهجر السيد الواحد؟! ليتنا لا نترك السيد الواحد الحقيقي. من يريد أن يترك ذاك الذي قُيد بسلاسل حقيقية، لكنها سلاسل الحب التي تهب حرية ولا تقيد؟ هذه السلاسل التي يفتخر بها من يُقيدون بها، قائلين: "بولس عبد يسوع المسيح وتيموثاوس". حين نُقيد بواسطته، نصير في مجدٍ أعظم عن أن نكون أحرارًا من آخرين.

القديس أمبروسيوس

"إلى جميع القديسين في المسيح يسوع" [1] يكثر الرسول من ذكر كلمة "جميع" و"جميعكم" (25,8,7,4:1؛ 2: 26) لأنه يريد أن يوجه نظرنا إلى الابتعاد عن الانقسامات والتحزبات.

v أراد اليهود أيضًا أن يدعوا أنفسهم قديسين حسب الوحي الأول (العهد القديم) حيث دُعوا شعبًا مقدسًا, شعبًا خاصًا لله (خر 6:19؛ تث 6:7 الخ). لهذا أضاف: "إلي القديسين في المسيح يسوع"، فإن هؤلاء وحدهم هم قديسون، وأما الآخرون فدنسون.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لا عجب إن أشار إلى الشعب نفسه ودعاهم "جميع القديسين في المسيح يسوع" قبل إشارته إلى الأساقفة والشمامسة.

وقد جاءت كلمة "أساقفة" تقابل Presbyters وهي تضم الأساقفة والكهنة معًا. ويرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن لقب أساقفة يضم الأساقفة والكهنة، لأن فيلبي ليست بالمدينة الكبرى التي يمكن أن يُسام عليها أكثر من أسقف. هذا ويرى أن الأساقفة يحسبون الكهنة والشمامسة شركاء معهم في الخدمة.

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم أن الرسول اعتاد في رسائله أن يكتب إلي الكنيسة، ولا يشير إلي رجال الكهنوت، فيما عدا هذه الرسالة، وذلك لأنهم بعثوا إليه أبفرودتس من قبلهم، كما قدموا له عطايا.

"نعمة لكم، وسلام من الله أبينا،

والرب يسوع المسيح" [2].

النعمة هي الهبة أو البركة أو العطية المجانية التي يهبها الله للإنسان، والسلام الإلهي الذي يفوق كل عقل وكل تصور. غالبًا ما يقدم في البركة الرسولية نعمة الله وسلامه الإلهي الفائق العقل، ليس من عنده، وإنما من الله الآب بالابن الرب يسوع المسيح.

2. شكر ودعاء وحب

"أشكر إلهي عند كل ذكري إيّاكم" [3].

طبيعة الرسول بولس الرسول الداخلية المتهللة تفيض دومًا بتقديم ذبيحة شكر لله من أجل عمل الله، ليس فقط معه، بل ومع أولاده المخدومين. فهو كأب يحسب كل عطية وكل نجاح خاص بالشعب، كأن له شخصيًا، فيشكر الله دومًا باسم الشعب.

v وضع (بولس) نفسه في مركز الأب، الشاكر كل حين من أجل أولاده، من أجل ما يمارسونه.

العلامة أوريجينوس

"دائمًا في كل أدعيتي،

مقدمًا الطلبة لأجل جميعكم بفرح" [4].

لم يغب ذكر أهل فيلبي عن فكر الرسول، ولاعن قلبه، حتى وسط قيوده ومشاغله باهتمامات الكنائس الأخرى. ذكرهم الدائم في الرب، وذكرهم جميعًا، يبعث فيه الرغبة المستمرة للدعاء والصلاة عنهم بروح الفرح والتهليل.

ربط الرسول بين الشكر والطلبة فهو يشكر الله من أجلهم, من أجل إيمانهم ومحبتهم ونشاطهم في الكرازة "في كل أدعيتي". كان بولس يهتم جدًا بالصلاة ويعرف قيمتها، لذلك كان يرفع قلبه بالصلوات من أجل مخدوميه ومتاعبهم ومشاكلهم "بفرح": يصلي بفرح بالرغم من إنه سجين سياسي، يواجه احتمال الحكم بإعدامه. فالمسيحية هي ديانة القلب الفرح المسرور، والوجه المشرق البشوش. الإنسان المسيحي إنسان فرح بإيمانه، مسرور بمسيحه، سعيد بملكوته.

لم يشر الرسول هنا إلى ما عاناه في فيلبي مع رفيقه سيلا، حيث مزق الولاة ثيابهما وأمروا بضربهما بالعصي ضربات كثيرة، وألقيا في السجن الداخلي (أع 16:22-24). لكن ما يذكره دومًا عمل الله معه لقبول الإيمان منذ دخوله في اليوم الأول، وعلى ما وهبه الله من فرح في وسط الآلام.

v ليس لأنكم متقدمون في الفضيلة أكف عن الصلاة من أجلكم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لسبب مشاركتكم في الإنجيل من أول يوم إلى الآن" [5].

لم يقل الرسول أن سرّ فرحه قبولهم الإيمان وإنصاتهم لكلمة الوعظ، إنما "الشركة"، حيث ترجموا الإيمان إلى شركة حب روحي جماعي. فمنذ اليوم الأول لحضوره إليهم آمنوا والتصقوا معًا في شركة جماعية في الرب، استمرت حتى يوم كتابته الرسالة. فهي ليست شركة انفعال عاطفي مؤقت، لكنها شركة حب فائق تدفع للعمل والمثابرة معًا ليختبروا دومًا الحياة الإنجيلية الكنسية المفرحة.

"مشاركتكم في الإنجيل": هي ممارسة الحب المشترك الإنجيلي، بين الجميع، شعبًا وكهنة. شركة في العبادة (الليتورجيات والإفخارستيا)، وشركة في الأمور المادية حيث شهوة العطاء الدائم (2 كو 13:9، غل 6:6، عب 16:13)، وشركة الشهادة لإنجيل المسيح. هذا كله يتحقق بشركة الروح القدس (2 كو 14:13).

عندما نعيش في المحبة المسيحية يعتبر هذا كرازة عملية بالإنجيل, وعندما نصلي بعضنا عن البعض يعتبر هذا كرازة بالإنجيل، وعندما نطلب المعونة الإلهية من أجل الكارزين يعتبر هذا كرازة بالإنجيل، وهذا ما فعله أهل فيلبي. والمبدأ هنا واضح وهو إن كل من يتعب في الإنجيل لابد أن يشترك في النعمة.

v إن كانت "الشركة" تُعطي لنا "مع الآب والابن" والروح القدس، يليق بنا أن نلاحظ لئلا نُبطل هذه الشركة المقدسة الإلهية بارتكاب الخطية. لأننا إن كنا نفعل أعمال الظلمة (رو 12:13) فمن الواضح أننا نجحد شركة النور.

العلامة أوريجينوس

v عندما يكرز شخص ما وأنتم تخدمونه، تشاركونه أكاليله. فإنه حتى في المصارعة لا يأخذ الإكليل من يغلب فقط، وإنما يشاركه فيه مدربه والحاضرون وكل الذين أعدوا حلقة المصارعة. فالذين يقودونه ويدربونه بحق يشاركونه نصرته... إن كنا نخدم القديسين بطيب قلب نشاركهم مكافأتهم. هذا ما يخبرنا به المسيح أيضًا: "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية" (لو 16: 9).

القديس يوحنا الذهبي الفم

"واثقًا بهذا عينه،

أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحًا،

يكمَّل إلى يوم يسوع المسيح" [6].

سرّ فرح الرسول في خدمته وسلامه الداخلي إدراكه أن الذي يبدأ العمل في الخدمة هو الله، العامل في خدامه، هو يبدأ وهو يكمل الطريق حتى النهاية، يوم مجيء الرب الأخير. وكما قيل عن عمل الله في صموئيل النبي: "وكان الرب معه، ولم يدع شيئًا من جميع كلامه يسقط إلى الأرض" (1 صم 19:3).

يقين الرسول بولس أن الله من جانبه لن يتوقف عن العمل في خدامه لحساب ملكوته، فهو الذي يهب بروحه روح الحكمة والقداسة حتى يحضر المختارين في يوم الرب كاملين. نعمة الله لن تتوقف مطلقًا مادام الزمن حاضرًا حتى تكمل النفوس وتدخل بهم مع الجسد إلى شركة المجد الأبدي.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله لا يحركنا كقطعٍ خشبية (كالشطرنج) أو الحجارة، بل يعمل فينا حين نكون جادين في طلب عونه ومجتهدين. لهذا إذ يؤكد الرسول أنه الله الذي بدأ حتمًا سيكمل عمله معهم حتى النهاية، ففي هذا مديح لهم كعلامة على أنهم جادون، وفي نفس الوقت ما يمارسونه هو هبة من الله وليس من ذاتهم.

v ليس بالمدح الهين أن الله يلتزم بالعمل في شخصٍ ما، فإنه لا يحابي الوجوه. متى تطلع إلي صدق غايتنا يساعدنا في الأمور الصالحة. هذه شهادة أننا وكالته نجتذبه ليعمل فينا. بهذا لا يسلبهم الرسول مديحهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v العمل الذي بين أيدينا سيبلغ نهايته بقوة الله، القادر ما يقوله يحوله من كلمة إلى عمل.

القديس غريغوريوس النيسي

يعلق القديس أغسطينوس على صلاة السيد المسيح الوداعية موضحًا أن الله الذي قدس تلاميذه يبقى يعمل فيهم ليتمتعوا بتقديسٍ مستمرٍ. وكأن تقدبسنا لا يتحقق دفعة واحدة ليتوقف.

v يقول: "قدسهم في حقك" (يو 17: 17). هل هم محفوظون من الشرير، إذ سبق فصلى طالبًا لهم ذلك (يو 17: 15)؟ لكن يتساءل البعض: كيف لم يعودوا بعد يُحسبون من العالم (يو 17: 17) إن كانوا لم يتقدسوا بعد في الحق؟ أو إن كانوا هم بالفعل قد تقدسوا في الحق، فلماذا يطلب لهم أن يكونوا هكذا. أليس هذا لأن حتى هؤلاء المقدسين لا يزالوا يستمرون في التقدم في ذات التقديس وينموا في القداسة، وهم لا يتمتعون بهذا بدون معونة نعمة الله، بل بتقديس تقدمهم حتى وإن كان قد قدس بدايتهم؟ لهذا يقول الرسول ما يشبه ذلك: "أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحًا يكمل إلى يوم المسيح".

القديس أغسطينوس

"كما يحق لي أن افتكر هذا من جهة جميعكم،

لأني حافظكم في قلبي، في وُثقي،

وفي المحاماة عن الإنجيل وتثبيته،

أنتم الذين جميعكم شركائي في النعمة" [7].

لم يكن ممكنًا للوُثق أو القيود أن تحجب الحب، بل على العكس أعطته فرصة أعظم للتفكير فيهم، وحرصه على حفظهم في قلبه، والصلاة الدائمة عنهم، والشكر لأجل عمل الله معهم. فالسجن والقيود والآلام لم تسحب قلب الرسول عن مخدوميه، بل قدمت له فرصة أعظم لخبرة الحب الرعوي حتى دون اللقاء معهم جسديًا.

v يا للعجب وهو في السجن، حتى في اللحظات التي يتقدم فيها للدفاع عن نفسه أمام المحكمة لن يسحبهم من ذاكرته.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يقف القديس يوحنا الذهبي الفم في دهشة أمام موقف شعب فيلبي، فإنهم جميعًا مشغولون بالشهادة للإنجيل وتثبيته، شركاء الرسول بولس في هذه النعمة.

المقصود بالمحاماة توضيح قضايا الإنجيل وشرحها للمقاومين مثل المتهودين, وتثبيته في قلوب التائبين الراجعين.

v "في وثقي وفي المحاماة عن الإنجيل وتثبيته". حقًا أن تثبيت الإنجيل كانت وُثُقة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يا لها من مشاعر حب فائقة للطبيعة:

أولاً: إنه حافظهم جميعًا في فكره، كمن يحفظ لآلئ عظيمة، لا يقدر أن يتجاهل واحدة منها أو ينساها.

ثانيًا: وإن كان مقيدًا كسجين، فهو يحفظهم في قلبه، كمن يغلق عليهم في داخله، ويربطهم بقيود الحب. لذا يقول: "في وثُقي".

ثالثا: إنهم جميعًا - كشعب وكهنة - شركاء معه في المحاماة عن الإنجيل وتثبيته.

رابعا: كان جميعهم شركاء معه في النعمة. يراهم بعيني الروح في قلبه، يستدفئون بنار حبه في الرب.

3. شوق وصلاة

"فإن الله شاهد لي كيف اشتاق إلى جميعكم،

في أحشاء يسوع المسيح" [8].

يدعو الرسول بولس الله نفسه ليكون شاهدًا لما في أحشائه من حب نحو أهل فيلبي، هذا الحب ليس لأنهم يعملون معه كشركائه في نعمة تثبيت الإنجيل، وإنما يحبهم في أحشاء المسيح لأجل أنفسهم حسب المسيح.

"فإن الله شاهد لي": لسنا نظن أن بولس الرسول ظن أنهم يشكون في محبته لهم حتى يستشهد بالله نفسه، القادر وحده أن يرى ما في قلبه. لكنه يُشهد هنا الله الذي يُسر بأن يجد الشعب كله مع الكهنة لهم موضع خاص في قلب خادمه. مسرة الله أن تتمتع الكنيسة كلها بالحب العملي والشركة في النعمة الإلهية.

إذ يفتح كلمة الله المتجسد قلبه للعالم كله، فيبذل حياته ذبيحة حب عن البشرية، يجد مسرته أن يرى خدامه يتشبهون به، فتتسع قلوبهم لإخوتهم، مقدمين حياتهم مبذولة عنهم، فيرددون "أنسكب أيضا على ذبيحة إيمانكم وخدمته" (17:2).

"في أحشاء يسوع المسيح": الخادم الحقيقي يحمل الشعب في أحشائه، يفرح بخلاصهم، ويتوجع لضعفاتهم. لذا كان إرميا النبي يصرخ: "أحشائي، أحشائي، توجعني جدران قلبي، يئن فيّ قلبي، لا أستطيع السكوت". (إر 19:4). توجعت جدران قلب إرميا، إذ يدرك شوق الله أن يحمل شعبه في أحشائه: "حنت أحشائي إليه، رحمة أرحمه، يقول الرب" (إر 2.:31). ويقول الرسول بولس: "في أحشاء يسوع المسيح". فالحب الملتهب في أحشاء الرسول، هو حب السيد المسيح الساكن فيه والملتهب نحو البشرية. فالحب الرعوي ليس إلا حب المسيح نفسه العامل في قلب الراعي أو الخادم.

يُشهد القديس بولس الله نفسه على مدى تأجج عواطفه نحوهم، فقد التهب بالشوق إليهم جميعًا، بغير استثناء. أحب الكل، غير متطلعٍ إلى أية عوامل خاصة بكل واحد منهم، إنما يتطلع إلى عاملٍ واحدٍ، وهو أن عواطفه المتأججة تنطلق خلال السيد المسيح الساكن فيه، فهو يحملهم في أحشائه، وبالتالي في أحشاء المسيح الذي فيه. وذلك كما أحب أبونا إبراهيم ابنه اسحق، لكن أحبه في الرب.

"كيف اشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح"... ما أجمل وما أحلى هذه العواطف الرقيقة التي يقدمها بولس إلى أولاده؟! لقد تطابقت مشاعر بولس مع مشاعر سيده المسيح, ومن فيض هذه المشاعر الغزيرة اشتاق بولس أن يرى كل واحد من أولاده، ولخص كل هذه المشاعر في كلمة واحدة "أحشائه"، أي كل ما يحويه قلب يسوع المسيح تجاه أبنائه.

v لم يقل "في الحب"، بل قال بتعبير أكثر دفئًا: "في أحشاء (حنو لطف) المسيح"، وكأنه يقول لهم: "إذ صرت لكم أبًا خلال العلاقة التي بيننا في المسيح، فإن هذا يهبنا أحشاء دافئة متقدة. يهب السيد مثل هذه الأحشاء لخدامه الحقيقيين. "في هذه الأحشاء"، كأنه يقول أحبكم ليس في أحشاء طبيعية، بل خلال أحشاء أكثر دفئًا، أعني أحشاء المسيح.

v إنني عاجز عن أعبر لكم عن شوقي إليكم في كلمات. إنه يستحيل عليٌ أن أخبركم بها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v قدمْ ابنك (اسحق) ليس في أعماق الأرض، ولا في وادي الدموع (مز 84: 6)، وإنما على الجبال المرتفعة العالية (تك 22: 2)، لتظهر أن إيمانك بالله أقوى من عواطف الجسد. يقول النص أن إبراهيم أحب اسحق ابنه، لكنه وضع حب الله قبل حب الجسد، وقد وُجد ليس في أحشاء الجسد بل في أحشاء المسيح، أي في أحشاء كلمة الله والحق والحكمة.

العلامة أوريجينوس

"وهذا أُصلّيه أن تزداد محبتكم أيضًا،

أكثر فأكثر في المعرفة،

وفي كل فهم" [9].

جوهر موضوع صلاة الرسول أن يتمتع مخدوميه بالحب لله، ولبعضهم البعض، كما لكل البشرية، وأن ينمو في هذا الحب المثلث الجوانب بلا توقف. فيكونوا أشبه بنهرٍ لا تتوقف أمطار النعمة عن أن تنسكب عليه بفيض، لكي يفيض النهر دومًا بالمياه المتجددة على مجاريه وشواطئه وعلى السهول. إذ تمتعوا بفيض النعمة اشتاق أن تلتهب قلوبهم أكثر فأكثر لينالوا بلا توقف. فالنعمة الإلهية تولد عطشًا أعظم نحوها؛ كلما ذاقها المؤمن أراد المزيد. "من أكلني عاد إليّ جائعًا، ومن شربني عاد ظامئا" (سيراخ 24: 29).

لا يعرف الرسول السكون، بل يود النمو الدائم بلا توقف، فإن كان شعب فيلبي مملوء حبًا، فإنه يشتهي لهم أن يزدادوا في الحب كما في المعرفة والتمييز. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنه لا يود أن يقفوا عند قياسٍ معين.

"تزداد محبتكم... في المعرفة وفي كل فهم": المحبة مرتبطة بالمعرفة, فعندما يحب الإنسان موضوعًا يبحث فيه وعنه حتى يلم بكل جوانبه، وعندما يحب شخصًا معينًا يجب أن يعرف كل شيءٍ عنه, وهكذا عندما يحب الإنسان الله تزداد معرفته عنه.

"في المعرفة وفي كل فهم": لا يطلب لهم الحب العاطفي المجرد، أو ما يدعوه البعض بالحب الأعمى، بل الحب المستنير بالمعرفة والفهم، حب المسيح حكمة الله. فتكون لهم معرفة أسرار الله وفهم لكلمته، حتى يذوقوا بحق عذوبة الحياة والشركة معه.

v قياس الحب لا يقف عن حد معين، إذ يقول: "أن تزداد محبتكم أيضًا أكثر فأكثر". لتراعوا سمو التعبير، إذ يقول: "تزداد محبتكم أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم". فإنهم لا يقفوا عند الصداقة وحدها، ولا عند المحبة وحدها، بل أن يأتوا إلى المعرفة. فلا يُقدم ذات الحب للكل، فإنه مثل هذا لا ينبع عن الحب، بل عن عدم الفهم. إنه يعني أن يكون الحب بتعقلٍ وتمييزٍ. إذ يوجد خطر لمن يحب بدون تعقل يحب أيا كان الأمر.... يوجد خطر من أن يُفسد البعض بحبه للهراطقة.... إذ يجب أن تكونوا مخلصين، فلا تقبلوا تعليمًا خاطئًا تحت ستار الحب... كيف يقول: "إن كان ممكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس" (رو 18:12)؟ إنه لم يقل: "حبوا حتى يصيبكم أذى من الصداقة، إذ قيل: "فإن كانت عينك اليمنى تعثرك، فأقلعها وألقها عنك" (مت 29:5).

القديس يوحنا الذهبي الفم

"حتى تميّزوا الأمور المتخالفة،

لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح" [10].

الترجمة الحرفية تعني "الأمور المتباينة" أو المختلفة فيما بينها، مما قد يسبب نوعًا من الارتباك، لذا يطلب لهم "روح التمييز". ويترجمها البعض "الأمور السامية" excellent. يرى البعض أن الرسول يقصد أن أمور السيد المسيح سامية وفائقة تحتاج إلى التمييز لكي يختبرها المؤمنون بإخلاص، فينعموا بإنجيل الخلاص، ليحيوا في الكمال. بهذا يُحضروا يوم الرب حاملين برّ المسيح. ففي اليوم الأخير إذ يأتي شمس البرّ، يُفحصون ببهائه، ويوجدوا طاهرين بلا عثرة.

"لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة": مخلصين، أي لنا القلب الواحد، فلا نعرج بين الفرقتين.

كلمة "مخلصين" في اليونانية مشتقة من كلمتين: eille وتعني بهاء (سمو) الشمس، krino وتعني "أحكم". وكأن معناها أن أحكم على الشيء أو أفحصه على ضوء الشمس الساطعة، فلا مجال للخطأ، بل يظهر كل شيء بوضوح، أنه طاهر ونقي لا يخفي أي نقص. وكأنه يقول لهم أنهم إذ ينموا في النعمة، يصيروا بلا لوم حتى في نظر الرب شمس البرّ.

وجاءت الكلمة ذاتها باللاتينية تعني "بدون شمع"، حيث يتنقى عسل النحل من الشمع، ولا يكون فيه أي أثر له.

"بلا عثرة"، فالحياة المسيحية كما يراها القديس بولس أشبه بسباق جري للبلوغ إلى النهاية والتمتع بالمكافأة. ففي المسيح يسوع لن توجد عثرات تعطل المؤمن عن جريه.

المحبة الحقيقية تمنح الإنسان الذهن المستنير بالروح القدس ليميز الأمور المتخالفة, والمحبة تضيء القلب، فيستطيع أن يميز صوت الراعي عن صوت الغريب, ويميز مشيئة الله عن مشيئته الخاصة, ويميز الأمور المتخالفة، فيختار الصالح ويترك الطالح.

v "لكي تكونوا مخلصين أمام الله، وبلا عثرة أمام الناس، إلى يوم المسيح، فإن صداقات كثيرة للبشر يمكن أن تضرهم، حتى وإن كانت لا تضركم أنتم، فقد يتعثر بها الغير. "إلي يوم المسيح"، أي حتى توجدوا أتقياء، غير معثرين لأحد.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"مملوءين من ثمر البرّ،

الذي بيسوع المسيح لمجد الله وحمده" [11].

البرّ هو السيد المسيح. فالإنسان المسيحي لابد أن يثمر، ويُثمر في هدوء وسلام، أما ثمر البرّ فهو الأعمال الصالحة. إذ نُغرس في المسيح يسوع، ونُطعم فيه لا نعود نكون بعد أغصان برية، بل أغصان الكرمة الإلهية الحاملة ثمر الروح. هذه الثمار الفائقة والمشبعة موضع اعتزازنا، لكن ليست علة كبرياء وتشامخ، إذ هي هبة إلهية لمجد الله والتسبيح له. كما يُقصد بكلمة "البرّ" هنا كل أعمال الروح القدس الذي يهبنا برّ المسيح، والشركة في الطبيعة الإلهية.

يقول "ثمرة البرّ"، وليس "ثمار البرّ". جاءت الكلمة اليونانية في المخطوطات القديمة بصيغة الفرد لا الجمع. وجاءت نفس الكلمة في المفرد في غل 22:5 ؛ أف 9:5 ؛ يع 18:3 ؛ عب 11:12 ؛ رو 22:6، لأن ثمر الروح مع تنوعه من حب وفرح وسلام وصلاح الخ. في تناغم معًا، كأنه ثمرة واحدة.

v يقول: "مملوءين من ثمر البرٌ"، إذ بالحق يوجد برٌ ليس حسب المسيح، على مستوى الحياة الأخلاقية. "الذي بيسوع المسيح لمجد الله وحمده". أنظروا فإنني لست أتكلم عن مجدي، بل عن برّ الله... يقول: "لا تجعلوا محبتكم تضركم بطريقة غير مباشرة، بأن تعوقكم عن ادراك الأمور النافعة. احذروا لئلا تسقطوا خلال محبتكم لأي أحد. فبالحق أود أن تزداد محبتكم لكن دون أن يصيبكم ضرر منها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

4. قيود ونصرة

"ثم أريد أن تعلموا أيها الاخوة أن أموري

قد آلت أكثر إلى تقدّم الإنجيل" [12].

كان القديس بولس مقيدًا ومسجونًا في روما. ربما ظن البعض أن هذا الأمر يقف حجر عثرة أمام حديثي الإيمان، إذ كانوا يخجلون مما حدث معه، ولعلهم خشوا أن يكون هذا هو مصيرهم. ولعل البعض حسب أن سجن الرسول بولس يُعثر الذين هم خارج الإيمان.

هنا يحدث بولس أهل فيلبي الذي يحبونه ويحبهم عن أموره وأخباره خوفًا من وصول أخبار خاطئة عنه. ويوضح لهم إن متاعبه وسجنه وآلامه كانت بخطة إلهية مقصودة لانتشار الكرازة بالإنجيل عن طريق السجانين، ونجاة الرجال الذين كانوا معه في السفينة (276 رجلاً)، وكرازته في روما عاصمة العالم في هذا الوقت. حيث تحول السجن في روما إلى كنيسة صغيرة جمعت اليهود مع الأمم في شخص المسيح الواحد.

"حتى أن وُثقي صارت ظاهرة في المسيح،

في كل دار الولاية،

وفي باقي الأماكن أجمع" [13].

صارت قيود الرسول ظاهرة في المسيح، فقد عرف الكل أنه لم يُسجن من أجل جريمةٍ ارتكبها، وإنما من أجل "اسم يسوع".

كما دُعي في دار الولاية Praetorian الملحقة بقصر نيرون، لكي يدافع عن نفسه، فكانت فرصة رائعة للشهادة للسيد المسيح أمام رجال الدولة. وإذ كثيرون كانوا يأتون من دول كثيرة إلى دار الولاية، صار الرسول شاهدًا للسيد المسيح "في باقي الأماكن أجمع"، كما في قصر الإمبراطور نفسه.

v يبدو أنهم كانوا في حزن عندما سمعوا عنه أنه في القيود، وتخيلوا أنه بهذا توقفت الكرازة. ماذا إذن؟ لقد بدد هذه الظنون فورًا. وأظهر أيضًا عاطفته نحوهم إذ أعلن لهم عما يخصه إذ كانوا في قلق من جهته.... لقد أجاب: "هذا الأمر (الكرازة) ليس فقط لم يتعطل، إذ لم يرتعب (العاملون)، بل بالحري تشجعوا... فإذ تكلم بجرأة وهو في القيود بث فيهم الثقة أكثر مما كانوا عليه وهو ليس في القيود.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"وأكثر الإخوة وهم واثقون في الرب بوُثقي،

يجترئون أكثر على التكلّم بالكلمة بلا خوف" [14].

قدمت قيود الرسول بولس للإخوة شجاعة للكرازة، فإن كان الرسول قد نال كرامة الألم من أجل الكلمة، لم يخشَ المخلصون في الحق من الشهادة، مقتدين بالرسول مثالهم العملي.

v هذا يُظهر أنهم كانوا في شجاعة صادقة حتى من قبل، وتكلموا بجرأة، لكن هذه الشجاعة تزايدت بالأكثر. وكأنه يقول: "إن كان الآخرون قد صاروا أكثر جرأة بقيودي، كم بالأولى أكون أنا؟ إن كنت أنا سببًا في جرأتهم، فكم بالأكثر أصير أنا أكثر جرأة؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

5. فرح بالكرازة

"أمّا قوم فعن حسد وخصام يكرزون بالمسيح،

وأمّا قوم فعن مسرّة" [15].

وجد الحاسدون للرسول بولس فرصتهم للكرازة ليس عن حبٍ وإخلاصٍ، وإنما لكي تتشدد الدولة وتضيق الخناق على الرسول، فلا يخرج من السجن. أو لعلهم وجدوا فرصتهم في سجن الرسول أن يكرزوا ليحتلوا مكانه في الخدمة، فيُنسب نجاح الخدمة إليهم.

ولعل بعضهم في روما كانوا من المنادين بالتهود الذين سعوا بكل قواهم إلى تهديد المسيحية، فرأوا في سجنه فرصة للتحرك، فلا يجدوا مقاومة لأفكارهم. حسبوا في سجن الرسول الذي في نظرهم مقاوم للناموس الموسوي والعوائد اليهودية فرصة أن يعملوا بكل قوة. مثل هؤلاء قادهم بولس الرسول في إنطاكية وفي أفسس وشبههم في هذه الرسالة بالكلاب وفعلة الشر. لقد كان بولس يقلع زرعهم الفاسد الذي زرعوه في أذهان الناس.

مقابل هذا أيضًا تحرك المخلصون للعمل بكل قوة عن حب للسيد المسيح ورسوله بولس الأسير. الأولون كانوا يعملون بدافع التحزب ضد الرسول، والآخرون يعملون من أجل خلاص البشرية، وفي كلا الحالتين التهبت الكرازة في روما بسبب سجنه.

v صدر عن قيودي خطين للعمل، فريق ازداد شجاعة للعمل، والآخر ترجى أن يعمل ليحطمني فصاروا يكرزون بالمسيح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"فهؤلاء عن تحزّب ينادون بالمسيح،

لا عن إخلاص،

ظانّين أنهم يضيفون إلى وُثقي ضيقًا" [16].

إنهم غير مخلصين في كرازتهم بالمسيح، إذ يكرزون عن تحزب. وكلمة "تحزب" تشير إلى المنفعة الشخصية والطموح الأناني والتنافس.

v ظنوا إنني سأسقط تحت مخاطر أعظم، فيضيفون إلى ضيقي ضيقًا.

يا للقسوة! يا لها من إثارة شيطانية!

لقد رأوه في القيود، مُلقى في السجن، ومع هذا كانوا يحسدونه.

لقد أرادوا أن يزيدوا من الكوارث التي تحل عليه، ويجعلوه موضع غضب أشد.

حسنًا يقول: "ظانين"، لأن ما حدث علي خلاف هذا. لقد ظنوا بالحقيقة أن يحزنونني بهذا العمل، لكنني فرحت إذ امتد الإنجيل.

v يُمكن أن يُمارس عمل صالح بدافع غير صالح. مثل هذا ليس فقط لا تكون له مكافأة، بل تكون له عقوبة. فإنهم إذ كرزوا بالمسيح بغية أن يسقط الكارز بالمسيح في مخاطر عظيمة، ليس فقط لا ينالوا مكافأة، إنما يسقطون تحت النقمة والعقاب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"وأولئك عن محبّة،

عالمين إني موضوع لحماية الإنجيل" [17].

"إني موضوع": تعني إني معين من قبل العناية الإلهية لنشر نور الإنجيل بين الشعوب.

v ماذا يقصد بالحماية؟ لقد عُينت لأكرز، ويلزمني أن أقدم حسابًا وأجيب عن العمل المُوكل إليٌ. لقد ساعدوني، لكي تكون حمايتي للإنجيل سهلة، فإنه إذ وُجد كثيرون تعلموا وآمنوا، فتصير حمايتي له سهلة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"فماذا، غير أنه على كل وجه،

سواء كان بعلّة أم بحق يُنادى بالمسيح،

وبهذا أنا أفرح،

بل سأفرح أيضًا" [18].

لم يكن ممكنًا للحسد أو مقاومة الحاسدين أن تسيء إلى قلب رسول الأمم، لكنه يفرح من أجل الكرازة، حتى وإن عمل المتهودون بكل قوة، فإن الله حتمًا يستخدم كل هذه الجهود، مهما كانت النية، لبنيان ملكوته وخلاص الكثيرين. إنه يفرح، وسيبقى في فرحه من أجل مجد الله المنتشر، حتى وإن مارس البعض كرازتهم بنية الحسد والمقاومة له.

جاء في رسائل القديس كبريانوس أن البعض استغل هذه العبارة لكي يتركوا الهراطقة يكرزون دون أن تقف أمامهم الكنيسة. يقول القديس كبريانوس: [لم يكن القديس بولس يتحدث في رسالته عن هراطقة، ولا عن معموديتهم... إنما كان يتحدث عن إخوة، إما سالكين بلا ترتيب أو ضد نظام الكنيسة، أو عن حفظ حق الإنجيل بخوف الرب. لقد قال أن البعض تكلم بكلمة الله بمثابرة وشجاعة، والبعض عن حسد وتحزب. البعض حملوا نحوه حبًا سخيًا، والبعض حملوا روحًا حقودًا للخصام. وقد احتمل هذا بكل صبرٍ مادام اسم المسيح الذي يكرز به بولس يبلغ إلى معرفة الكثيرين سواء بحقٍ أو بعلةٍ.]

v أنظروا حكمة الرجل! أنه لم يتهمهم بعنفٍ، لكنه أشار إلى النتيجة.

يقول: ما هو الفرق بالنسبة لي سواء تمت الكرازة بهذه الطريقة أو تلك؟... لقد أرادوا إثارة غضب الإمبراطور، ليكن وليكرزوا أيضًا... "بهذا أنا افرح، بل سأفرح أيضًا"، وحتى إن فعلوا أكثر فأكثر. فإنهم يتعاونون معي بغير إرادتهم. سينالون العقوبة علي شقاوتهم أما أنا فأنال مكافأة فيما لا أفعله...

ألا ترون أن من يثير حربًا ضد الحق ليس له قوة، بل بالحري يجرح نفسه كمن يرفس المناخس؟

v إنني ليس فقط لا أحزن ولا أنهار تحت هذه الأمور، إنما بالحري أفرح بل وسأفرح ليس إلى حين بل افرح دومًا بسبب هذه الأمور. "لأني أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاصٍ"، هذا الذي سيتحقق حينما تؤول عداوتهم وحسدهم لي إلى تقدم الإنجيل.

يضيف: "بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح". أنظروا تواضع فكر هذا الطوباوي، فإنه كان قبلاً يجاهد في صراع، أما الآن فها هو يقترب من إكليله، لقد قدم ربوات الأعمال البطولية، إذ هو بولس، فماذا يمكن لهذا الأمر أن يضيف اليه؟ ومع هذا يكتب إلى أهل فيلبي: "لعلي أخلص بطلبتكم" أنا الذي اقتنيت خلاصًا خلال أعمال لا حصر لها.

إنه يطلب أيضًا مؤازرة روح يسوع المسيح. وكأنه يقول: إن حُسبت أهلاً لصلواتكم فأنال نعمة أعظم. فإن كلمة "مؤازرة" تعني أنه إن كان الروح يسندني أنال ما هو أكثر.

v قولوا لي: إذا كان طبيب له ابن مهدد بالعمى، وهو عاجز عن شفائه، ووجد طبيبًا قادرًا على شفائه، فهل يرفض علاج هذا الطبيب لابنه؟ بالتأكيد لا، بل يسرع بالقول: سواء يتم ذلك بواسطتك أو بواسطتي، فإن ما يهمني هو شفاء ابني". لماذا؟ لأنه لا يطلب مصلحته الذاتية، وإنما شفاء ابنه.

هكذا بالمثل إذا تأملنا دعوة مجد المسيح، فلنعمل ما يلزمنا عمله سواء عن طريقنا أو عن طريق آخرين. وكما يقول الرسول: "سواء كان بعلةٍ أم بحق ننادي بالمسيح" (في 1: 18).

اسمعوا ما قاله موسى ليشوع عندما أثاره حين تنبأ ألداد وميداد: "هل تغار أنت لي؟ يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء؟" (عد 11: 29).

القديس يوحنا الذهبي الفم

v الكرازة حق، أما هم فليسوا حقًا. ما يكرزون به هو حق، أما الذين يكرزون هم أنفسهم ليسوا حقًا. لماذا هم ليسوا بحقٍ؟ لأنهم يطلبون في الكنيسة أمرًا آخر، ولا يطلبون الله. فإن كانوا يطلبون الله يلزمهم أن يكونوا طاهرين. لأن النفس تجد في الله زوجها الشرعي.. أما من يطلب من الله ما هو بجانب الله فهو لا يطلب الله بعفةٍ.

تأمّلوا يا إخوة، فإن الزوجة التي تحب زوجها، لأنه غني ليست عفيفة. فإنها لا تحبّ زوجها بل تحب الذهب الذي لزوجها.

v يوجد في الكنيسة أناس يتحدّث عنهم الرسول، يكرزون بالإنجيل لعلّة، يطلبون من الناس ما هو لنفعهم الخاص، سواء كان مالاً أو كرامة أو مديحًا بشريًا. إنهم يكرزون بالإنجيل بشهوة نوال مكافآت بأية وسيلة ممكنة، ولا يطلبون بالأكثر خلاص من يكرزون لهم، بل ما هو لنفعهم الشخصي.

v الراعي يكرز بالمسيح بالحق، وأما الأجير فبعّلة يكرز بالمسيح، طالبًا شيء آخر. ومع هذا فإن هذا وذاك يكرزان بالمسيح.

v حقًا لقد كرزوا بالمسيح عن حسدٍ، لكنهم كرزوا بالمسيح. انظروا لا إلى الوسيلة، بل إلى موضوع الكرازة. لقد كُرز لكم بالمسيح عن حسدٍ. تأملوا في المسيح وتجنبوا الحسد.

لا تتمثلوا بشرً الكارز، وإنما تمثلوا بالصالح الذي كُرز لكم به.

v المسيح هو الحق. ليُعلن الحق عن علة بواسطة أجراء. ليُكرز بالحق بواسطة الأبناء. الأبناء ينتظرون بصبرٍ من أجل الميراث الأبدي للأب. الأجراء يتوقون إلى ذلك من أجل نوال أجرة وقتية ينالونها من الذي يستأجرهم.

v الذين يحبونني يكرزون، والذين يبغضونني يكرزون. في الرائحة الذكية يعيشون الأولون، وفي تلك الرائحة يموت الآخرون. ومع هذا فبكرازة الفريقين ليتمجد اسم المسيح ولتملأ رائحته العالم.

القديس أغسطينوس

"لأني أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاصٍ،

بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح" [19].

الله المحب - في صلاحه - يحول حتى أعمال الحاسدين لخلاص الرسول وخلاص الكثيرين، وذلك بصلوات وطلبات محبوبيه - شعب فيلبي - ومساندة الروح القدس، روح يسوع المسيح، له. إن كل ألم واضطهاد يؤول إلى رصيد لصالح القديس بولس، لذا يقبله بفرح وهو يطلب منهم صلواتهم.

يرى البعض أن الرسول يتحدث هنا حتى عن خلاصه من السجن، فبانتشار الإنجيل سواء بنية الحسد أو الحب للرسول بولس، أدرك الرومانيون أن إنجيل السيد المسيح لم يمس سلامة الإمبراطور والدولة، بل يحث المؤمنين على تقديم الكرامة لمن لهم الكرامة والطاعة للسلطات في الرب. بهذا تحقق كثير من رجال القصر أن بولس الرسول ليس مقاومًا للإمبراطور كما ظن البعض.

لقد اقتبس الرسول عن أيوب 16:13 (الترجمة السبعينية) العبارة. "هذا يؤول لي إلى خلاصي"، وهي خاصة بشعب الله في كل العصور الذي يحول الآلام لخلاص شعبه وأولاده.

العجيب أنه يضع طلبات الشعب من أجل الرسول أولاً، ومساندة روح يسوع المسيح بعدها. لأن الروح القدس يتحرك بالأكثر لخلاص المؤمنين ومساندتهم حين يسود الحب المشترك، حتى بين الشعب والرعاة.

v أسألكم أن نقدم تشكرات الله علي كل الأمور، فإنه يخفف من أتعابي ويزيد من مكافأتي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

6. الحياة بالمسيح

"حسب انتظاري ورجائي إني لا أخزى في شيء،

بل بكل مجاهرة،

كما في كل حين كذلك الآن يتعظّم المسيح في جسدي،

سواء كان بحياةٍ أم بموتٍ" [20].

شجاعة المؤمنين وقبولهم الألم بفرح وبهجة قلب يمجد السيد المسيح المصلوب. هؤلاء يمجدونه حتى في أجسادهم إن عاشوا أو حتى ماتوا، أي إن أُعطيت لهم فرصة للعمل والكرازة، أو استشهدوا من أجل اسمه. حياة الرسول حتى في السجن كما استشهاده لن يفقده رجاءه ولا ينزع عنه جرأته في الشهادة للمخلص.

v إنه يحثنا ألا نترك الأمر كله للصلوات المقدمة عنا دون أن نساهم نحن في شيء من جانبنا.

انظروا كيف يبرز دوره هو، ألا وهو الرجاء مصدر كل صلاح. وكما يقول النبي: "لتكن رحمتك يا رب علينا، إذ نترجاك" (مز 22:33). وكتب في موضع آخر: "اعتبروا الأجيال القديمة وانظروا هل ترجى أحد الرب فخزي؟ (ابن سيراخ 10:2). مرة أخري يقول الطوباوي نفسه: "الرجاء لا يخزى" (رو 5:5). هذا هو رجاء بولس، الرجاء الذي لن يخزى قط!...

ألا تنظروا عظمة الرجاء في الله؟ يقول: مهما حدث لن أخزى، فإنهم لن يسودوا عليٌ، بل بكل جرأة كما في كل حين كذلك يتعظم المسيح في جسدي".

حقًا لقد توقعوا أن يُسقطوا بولس في هذا الفخ، وأن يطفئوا كرازة الإنجيل كما لو كان لمكرهم أية قوة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"الآن يتعظم المسيح في جسدي سواء كان بحياةٍ أم بموتٍ"... المقصود هو إظهار عظمة المسيح من خلال جسد بولس.

v "سواء كان بحياة أم بموت" لم أقل أن حياتي وحدها ستعظمه، بل موتي أيضًا. يقصد بقوله: "بحياة" الوقت الحاضر، فإنهم لن يقدروا أن يحطمونني، وإن أهلكوني فالمسيح أيضًا سيتعظم بموتي. كيف هذا؟ بحياة، لأنه يخلصني؛ وبموتي لأنه لن يقدر الموت أن يدفعني علي جحده، فقد وهبي الاستعداد للموت، وجعلني أقوى من الموت.

فمن جانب حررني من المخاطر، ومن جانب أخر وهبني ألا أخشى طغيان الموت. بهذا يتعظم بحياةٍ أو بموتٍ... إنني بنبلٍ أحتمل الحياة والموت، هذا هو دور النفس المسيحية!

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لأن لي الحياة هي المسيح،

والموت هو ربح" [21].

الحياة هنا بالنسبة للرسول فرصة للكرازة بفرحٍ وسط الآلام. والموت فرصة للانطلاق للقاء مع السيد المسيح وجهًا لوجه. ففي حياته أو موته كل ما يشتهيه الرسول هو اقتناء السيد المسيح بكونه حياته.

الموت بالنسبة للجسدانيين خسارة وتحطيم، أما بالنسبة للإنسان الروحي فهو مكسب. ففيه انطلاق من العالم بكل شروره إلى الحياة الأخرى بأمجادها الفائقة.

إذ صرنا أمواتًا بالخطية لم نعد في حاجة إلى وصايا لكي ننفذها بل بالحري نحتاج أولاً إلى من يقيمنا من الأموات. فالسيد المسيح هو الحياة والقيامة، من يقتنيه يتمتع بالحياة؛ جاء لكي يقدم نفسه لنا، لذا نسمعه كثيرًا ما يردد: "أنا هو..."

يسألنا أن نقتنيه، فهو خبز الحياة المشبع للنفس، وهو العريس السماوي نتحد به فلا نعاني من الشعور بالعزلة، بل تصير حياتنا عرسًا دائمًا، وهو المخلص واهب المجد الأبدي. إنه المدرب والكنز والنور والشبع، هو كل شيء بالنسبة لنا.

رجل الأعمال يقول: "لي الحياة هي الغنى"، والدارس يقول: "ليّ الحياة هي النصرة". والإنسان الشهواني يقول: "لي الحياة هي الملذات"، والمتعجرف يقول: "لي الحياة هي الشهرة"، وأما المؤمن: "لي الحياة هي المسيح"، فبالنسبة لي الحياة ليست غنى ولا معرفة ولا شهرة ولا كرامة زمنية، بل المسيح. هو الأول والطريق والنهاية بالنسبة لي.

"لأن لي الحياة هي المسيح والموت ربح": النظرة المسيحية للحياة أنها بركة، وتستحق أن تُعاش مادامت مع المسيح، كما أن الموت ربح عظيم مادام في الرب. وأيضًا قول الرسول: "لأن لي" تحمل لنا فكر الرسول واعتقاده بأن حياته هي في مسيحه.

v ما يقصد هو: بالموت لا أموت، فإن حياتي هي في داخلي، لهذا إن أرادوا بحق أن يقتلوني، فلتكن لهم قوة أن يرعبوني بنزع الإيمان من نفسي. لكن مادام المسيح معي، فالموت نفسه لن يهزمني، إذ أبقى حيًا.

حياتي ليست هي الحياة الحاضرة بل المسيح نفسه. هكذا يليق بالمسيحي أن يكون! يقول: "لا أحيا الحياة العامة" (غل 20:2) بل المسيح يحيا فيٌ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v إننا نري أن هذا الموت هو ربح، والحياة عقوبة...

ما هو المسيح إلا موت الجسد ونسمة الحياة؟

فلنمت معه لنحيا معه.

ليكن هذا فينا كتدريبٍ يوميٍ وميلٍ نحو الموت، بهذا ننفصل عن الملذات الجسدية التي نتحدث عنها، وتتعلم نفوسنا أن تنسحب منها، كما لو كانت قد صارت في العلى، حيث لا تقدر الشهوات الأرضية أن تقترب منها وتلتصق بها. تحمل شبه الموت فلا تسقط تحت عقوبة الموت.

القديس أمبروسيوس

v تقول النفس، المرآة الحيّة، التي تملك الإرادة الحرة: "عندما أنظر إلى وجه حبيبى، ينعكس جمال وجهه عليّ". ويقلد بولس هذه الكلمات بوضوح بقوله: "وفيما بعد لا أحيا أنا، بل المسيح يحيا في. أما الحياة التي أحياها الآن في الجسد، فإنما أحياها بالإيمان في ابن الله، الذي أحبني وبذل نفسه عني" (غل 20:2).

وعندما يقول: "فالحياة عندي هي المسيح" (في 21:1)، يصرخ بولس أنه نقى نفسه من أي هوى بشري مثل السرور، والحزن، والغضب، والخوف، والجبن، والأهواء القوية، والكبرياء، والحمق، والرغبة الشريرة، والحسد، والانتقام، وحب التملك، والمكسب أو أية عادة قد تؤدي إلى تخريب النفس. هو وحده الذي يملأ نفسي، وهو ليس أيّ مما سبق ذكره.

لقد نزعت عني كل طبيعتي الخارجية الظاهرة، ولم يبقَ بداخلي أي شيء غير المسيح.

حقيقة "الحياة عندي هي المسيح"، أو كما تقول العروس: "أنا لحبيبي وحبيبي لي". هذا هو الطهر والنقاء وعدم التلوث والنور والحق الذى يغذي نفسي.

إنها لا تتغذى بالعشب الجاف أو بالشجيرات ولكن بروعة قديسيه. يوحي السوّسن ببهاء وإشعاع ألوانه الجميلة. من أجل هذا فالذي يتغذى بين السوّسن يقود قطيعه إلى مروج السوّسن حتى تكون: "نعمة ربنا علينا" (مز 17:90).

القديس غريغوريوس النيسي

v إذ نذكر الحقيقة التي يقدمها الرسول بولس في رسالته، قائلاً: "لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح"، نحسبه ربحًا عظيمًا ألا تمسك بنا بعد فخاخ هذا العالم، ولا نخضع بعد لرذائل الجسد، بل نتخلص من الشعور بآلام المتاعب، ونتحرر من مخالب إبليس القاتلة، ونقبل دعوة المسيح بفرحٍ الخلاص الأبدي.

القديس كبريانوس

"ولكن إن كانت الحياة في الجسد هي لي ثمر عملي،

فماذا اختار؟ لست أدري" [22].

في جهاده على الأرض ثمرته هو اقتناء المسيح. هكذا يحسب الرسول تعبه منحة إلهية صالحة، قُدمت له لنمو ملكوت الله في العالم، لمجد الله وبنيان كنيسة المسيح.

في (ع 22 و23) يحتار الرسول أيهما أفضل له: الحياة حيث تمتلئ حياته بالعمل الصالح والثمر المتكاثر لصالح المسيح، وهل يفضل الحياة لبشارة البعيدين ورد الضالين ومشاركة المتألمين، أم الموت الذي يريحه من أتعابه وينقله إلى الأمجاد؟

الحياة بالنسبة له هي التمتع بالسيد المسيح وخدمته, والموت هو الوصول إليه وإلى أمجاده. لذا يقول "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذلك أفضل جدًا" [23] لأنه سيلتقي مع المسيح إلى الأبد بلا عائق. ولكن من أجل خير أولاده وتقدمهم وفرحهم فضل بولس أتعاب الأرض وشقائها عن نعيم الأبدية وأمجادها [24].

كان الرسول عاجزًا عن الاختيار، لو وُضع الأمر بين يديه، هل يحيا وسط الاضطهادات والضيقات يشهد للسيد المسيح، أم ينطلق وينعم باللقاء مع السيد وجهًا لوجهٍ. بهذا كان الرسول في صراعٍ نحو الاختيار، ليس بين أمرين شريرين، ولا أحدهما صالح والآخر شرير، وإنما بين أمرين غاية في الصلاح، أي بين التمتع ببركة الجهاد لحساب ملكوت الله، والشوق الداخلي لرؤية الله في السماء. في كلا الحالتين يحيا في المسيح ومعه. اختيار بين جهاد مؤقت وآخر فيه راحة دائمة، وكلاهما لمجد الله.

v هنا يظهر أن الحياة الحاضرة أيضًا لازمة، إن استخدمناها كما ينبغي، إن حملنا ثمرًا، فإن لم تحمل ثمرًا لا تعود حياة. لأننا نستخف بالأشجار التي لا تحمل ثمرًا، كما لو كانت جافة، ونلقيها في النيران. إذن نحن لا نكره الحياة، إذ نحيا حسنًا أيضًا! حتى إن أسأنا استخدامها، فإننا لا نلقي اللوم علي الحياة... بل علي حرية اختيار من يستخدمها بطريقة سيئة. وهبك الله أن تحيا، لكي ما تحيا له. ولكن بسلوكك الفاسد في الخطية تجعل نفسك معرضًا لكل لومٍ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"فإني محصور من الاثنين:

لي اشتهاء أن انطلق، وأكون مع المسيح،

ذاك أفضل جدًا" [23].

جاء تعبيره هنا مقتبسًا من حالة إنسان يقف على الشاطئ في الميناء، وقد التهب حنينه أن يبحر ليلتقي بأسرته وأحبائه وأصدقائه في أرض وطنه، ويشعر أن كل دقيقة تعبر به في الميناء وكأنها عام كامل!

تمتع القديس بولس برؤى كثيرة، وظهر له الرب في طريقه إلى دمشق، كما ترآى له في الهيكل حيث أكد له دعوته لخدمة الأمم ( أع 22 :17-21). لكن ما كان يملأ حياته عذوبة فهو رؤيته لسيده بعيني القلب خلال حياته اليومية. كان بهاء مجد سيده يعكس على أعماقه مجدا، فيرتفع من مجدٍ إلى مجدٍ (2 كو 3: 18).

واضح أنه كان يميل بشوقٍ ملتهبٍ نحو اختيار الموت استشهادًا لأجل المسيح، فالأفضل له هو الرحيل ليبقى مع المسيح في الفردوس، لا ليودع العالم بكل شروره وتجاربه وضيقاته، وإنما لينعم بالحياة مع المسيح في أروع صوره.

في أحاديث واقعية كثيرًا ما عالج القديس أغسطينوس المقابلة بين شوق المؤمن للانطلاق ليكون مع المسيح وبين الخوف الطبيعي من الموت. فيرى أن الإنسان يأتي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي   تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Icon_minitimeالأحد نوفمبر 07, 2010 11:06 pm

الأصحاح الثاني

فرح في الخدمة الباذلة

تكلفة الخدمة المفرحة: "أخلى نفسه"


لم يشغل السجن ولا القيود فكر القديس بولس، إنما إذ حمل في أعماقه السيد المسيح، واهب الحياة، أشع بروح الفرح على مخدوميه وسط آلامه وآلامهم. لذا تحدث عما اقتناه في داخله من حياة شكرٍ وحبٍ وفرحٍ وشعورٍ بالنصرة وتمتعٍ بالحياة الجديدة مع إدراكه لسرّ القوة، وتحديه لقوات الظلمة. وقد جاء هذا الأصحاح يكشف عن الفرح الذي تمتع به الرسول بالخدمة والبذل بروح الحب والوحدة لحساب ملكوت المسيح، بالرغم من وجود مقاومات ومتاعب كثيرة.

يا له من تخطيط إلهي فائق! من أجل البشرية أخلى الابن الوحيد الجنس ذاته وأخذ شكل الإنسان. احتل رب الكل مركز العبد وتواضع بالأكثر إذ وهو واهب الحياة أطاع حتى الموت. واجه موتًا مشينًا هو موت الصليب، كثمنٍ إلهيٍ لحياتنا الجديدة المفرحة فيه.

خلال هذه الخبرة اقتبس القديس بولس في داخل السجن تسبحة كنسية [1-11] ليتغنى بتواضع المسيح كطريقٍ ملوكي لبلوغ المجد، ويٌحتمل أنه هو واضع هذه التسبحة.

تضم هذه التسبحة ثلاثة عناصر بدائية تشير إلى استخدامها في الليتورجيا الخاصة بالعماد:

* الاعتراف بالإيمان القائم على القيامة.

* سمو اسم يسوع الذي هو رب الكل.

* تشكيلنا على شبه ربنا يسوع الذي هو صورة الآب.

1. حياة جماعية متهللة 1-4.

2. المسيح القائد والمثل الأعلى 5-11.

3. أضيئوا في العالم 12-15.

4. حب وفرح للراعي والرعية 16-30.

1. حياة جماعية متهللة

ختم الرسول بولس الأصحاح السابق بالحث على الجهاد المشترك بروح الحب والوحدة. الآن يقدم لهم السيد المسيح نفسه، خادم كل البشرية مثالاً فريدًا في التواضع والحب الفائق، الذي تمجد ومجد الآب بتواضعه وبذله. وهو في هذا يحث الشعب على الحب العملي المشترك.

"فإن كان وعظ ما في المسيح،

إن كانت تسلية ما للمحبّة،

إن كانت شركة ما في الروح،

إن كانت أحشاء ورأفة" [1].

بقوله: "فإن" تعني أن الحديث هنا هو امتداد للحديث السابق. وبقوله: "إن كان" لا يعني هنا الشك، إنما بالعكس جاء يحمل اليقين أنه ليست "تعزية" أو "كلمة وعظ" إلا في المسيح. وكأنه طالما يوجد وعظ، يجب أن يكون في المسيح. ويقصد بالوعظ هنا التشجيع والإقناع العقلي, ليهذب نفوسنا ويثبتنا في الإيمان.

v ليس شيء أفضل ولا أكثر رقة من المعلم الروحي، مثل هذا يفوق حنو أي أبٍ طبيعيٍ (حسب الجسد)!

تأملوا كيف يتعامل هذا الطوباوي مع أهل فيلبي فيما هو لصالحهم.

أنظروا كيف يتحدث بغيرةٍ متقدةٍ وعاطفةٍ شديدةٍ!

"إن كانت راحة ما في المسيح" وكأنه يقول إن فعلتم أي شيء لحسابي، وإن أظهرتم لي أي اهتمام، إن كنتم تتقبلون أي صلاح من يدي، افعلوا هذا (في المسيح)... إنه لا يذكرنا بمنافع جسدية بل روحية.

بمعنى إن أردتم أن تقدموا لي راحة في تجاربي وتشجيعًا في المسيح، وأية تعزية للمحبة، إن أردتم إظهار أية شركة في الروح، إن كانت لكم أحشاء ورأفة، فإنكم بهذا تحققون فرحي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"تسلية ما للمحبة" يقصد الرسول بالتسلية التعزية والمواساة. فإن مخلصنا الصالح عندما يعزينا ينزع آلامنا الخفية مهما كانت قوتها, ويهبنا الراحة الحقيقية التي ما بعدها راحة.

"شركة ما في الروح" تجمع الشركة المسيحية أبناء الله، وتربطهم بربط المحبة والبذل. إن كانت شركة بين المؤمنين فهي في الروح القدس.

"إن كانت أحشاء ورأفة"... المقصود بالأحشاء والرأفة المشاعر الداخلية الدقيقة والأحاسيس المرهفة النابعة عن المحبة واللطف والوداعة والشفقة والعطف. إن كنتم تتوقعون رأفة الله ومراحمه، فلتقدموا رحمة ورأفة لبعضكم البعض.

"فتمّموا فرحي حتى تفتكروا فكرًا واحدًا،

ولكم محبّة واحدة بنفس واحدة،

مفتكرين شيئًا واحدًا" [2].

v انظروا إنه لم يقل "اجعلوني فرحًا" بل قال: "تمموا فرحي" حتى لا تبدو الوصية كأنها مقدمة لأشخاص معيبين. إنه يقول: لقد بدأتم تغرسون هذا فيٌ، لقد قدمتم لي بالفعل نصيبًا من السلام، لكنني أود البلوغ إلى كماله.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أهل فيلبي يودون أن يقدموا للرسول راحة وتعزية وشركة في الروح وحنوًا ورأفة. هنا يوجههم أن يمارسوا كل هذه الأمور أولاً كما يليق في المسيح يسوع بطريقة روحية، ثانيًا أن يحملوا وحدة الروح والحب المتبادل فيما بينهم بهذا يتحقق فرحه، وينال كل ما يبغونه له.

يسألهم أن يحققوا له فرحه، الذي لن يتحقق إلا بوحدتهم وحبهم لبعضهم البعض. وكأنه يقول لهم إن كنت أكرز لكم بإنجيل المسيح لخلاصكم، فلتكونوا مصدر فرحٍ كاملٍ لي. حقًا إني مسرور بكم، لكنني محتاج إلى البلوغ إلى كمال الفرح الذي لن يتحقق إلا بأن يكون لكم الفكر الواحد، ولكم ذات الحب. هذه الرسالة هي رسالة فرح, والفرح يمثل الخط الذهبي الذي جُدلت به كلمات الرسالة، لكن كيف نتمم فرح الرسول؟

1- بالفكر الواحد: بأن يفكر كل واحد فينا فيما هو لأخيه، ونكون مستعدين للتنازل عن أفكارنا الخاصة الخاطئة، عندئذ نصل إلى الفكر الواحد. يتحدث بولس الرسول عن اتفاق تلاميذه معًا بأنه يُحسب حنوًا يُقدم له شخصيًا، مظهرًا بهذا مدى الخطورة العظيةم جدًا متى كانوا ليسوا بفكرٍ واحدٍ.

2- بمحبةٍ واحدةٍ: المحبة تستر كثرة من الخطايا، وهي رباط الكمال. عندما نحب الآخرين عندئذ نكون محبوبين منهم وتكتمل صوره المحبة التي أرادها الله لنا. كأنه يقول إن أردتم أن أنال راحة منكم، وتعزية من محبتكم وشركة في الروح معكم، وشركة معكم في الرب، وأجد رحمة ورأفة لديكم فانظروا إلى حبكم بعضكم لبعض. فإنني اقتني هذا كله أن أحببتم بعضكم بعضًا.

v "ولكم ذات المحبة"، بمعني لا تكون الوحدة في الإيمان وحده، بل وفي كل الأمور الأخرى، فإن هذا يختلف عن أن يكون لهم الفكر الواحد وليس لهم المحبة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

3- بنفسٍ واحدةٍ: النفس هي مركز المشاعر والأحاسيس. وعندما يكون لنا الفكر الواحد والمحبة الواحدة سيكون لنا المشاعر الواحدة، وبهذا تكتمل فينا صورة الملكوت.

v صلى الرب للآب عن الذين له أن يكونوا واحدًا كما هم واحد (يو 17: 22)... الثلاثة ليسوا ثلاثة آلهة، ولا ثلاثة قديرين، بل إله واحد قدير. الثالوث كلّه هو الله الواحد، فالحاجة إلى واحد. ليس ما يحضرنا إلى هذا الواحد إلا إن كنّا نحن الكثيرون قلبًا واحدًا.

القديس أغسطينوس

"لا شيئًا بتحزّب أو بعجب،

بل بتواضعٍ،

حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم" [3].

جاءت الآيتان 3 و4 مقابل 1 و2 فبعد أن حثهم بوصايا إيجابية خاصة بالتواضع والحب وشركة الروح والحنو والوحدة، حثهم على الوصايا السلبية المضادة ليتجنبوا التحزب أو الانشقاق والكبرياء والأنانية.

"لا شيء بتحزب" ينشأ التحزب في الجماعة النشطة حيث يكون لكل عضوٍ طموحاته وخططه. تنشأ من اعتزاز الإنسان بذاته وبرأيه الخاص, ثم التمسك بهذا الرأي، ومحاولة فرضه على الجماعة، وينتهي التحزب بالانقسام، وقد ينتهي بالبدع والهرطقات. "أو بعُجب"... العُجب هو الخيلاء، والكبرياء هو العمل لمجد الذات، هو تجسيم وتجسيد لكلمة "أنا".

v "لا شيئًا بتحزبٍ أو عجبٍِ". هذا كما أقول دومًا هو علة كل الشرور. منه تصدر المحاربات والخصومات. بهذا تبرد المحبة عندما نحب مديح الناس، عندما نصير عبيدًا للكرامة التي يقدمها الكثيرون لنا. فإنه يستحيل أن يصير الإنسان عبدًا لحب المديح، ويكون عبدًا حقيقيًا لله.

v ليس شيء غريب عن المسيحي مثل التعالي. أقول التعالي، وليس الجرأة ولا الشجاعة، لأن الأخيران يتناسبان مع المسيحي. التعالي شيء، والجرأة والشجاعة شيء أخر. هكذا التواضع شيء، والخسة والمداهنة والتملق شيء أخر.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v "حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم" [3]... لم يقل أفضل من أنفسكم بل أفضل من أنفسهم... فماذا يقصد الرسول من هذا؟ إنه يقصد أن نعطي لكل واحد كرامة وتقديرًا واعتبارًا أكثر مما يستحق...

نقدر الناس بأكثر مما يستحقون...

"فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح"... إنه فكر التواضع. "فليكن فيكم" أي ضرورة وجود هذا الفكر في حياتنا، لأنه هو العمود الفقري لكافة الأفكار المستقيمة, وهو الضمان الوحيد الهروب من التحزب والانقسام والخصام والعجب والكبرياء والمجد الباطل وتمجيد الذات...

لا تظن فيه أنه مجرد أعظم منك، بل هو "أفضل" منك، أي له سمو أعظم جدًا، فلا تستغرب ولا تتألم إن رأيته يُكرم. نعم، حتى وإن عاملك باستخفافٍ، احتمل هذا بنبلٍ، إذ تحسبه أعظم منك. وإن شتمك، تخضع له. وإن عاملك رديًا تحمل ذلك في صمتٍ. لأنه إذ يتأكد الإنسان تمامًا أن الآخر أعظم منه لا يغضب إن عامله رديًا، ولا يسقط في الحسد، لأنه لا يحسد أحدًا أعظم منه بكثير، بل ينسب كل شيء إلى سموه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه،

بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضًا" [4].

الأنانية تقتل الحب المسيحي، إذ يليق بالمؤمن أن يحب قريبه كنفسه، ويضع نفسه في موضع قريبه، بل ويعطي الأولوية له عن نفسه.

v لا يطلب أحد ما لنفعه، بل ما هو لنفع الآخر. لا يطلب أحد ما لكرامته، بل ما لكرامة الآخر.

القديس أمبروسيوس

v قدم لنا الرب نفسه مثالاً بإرسال تلاميذه اثنين اثنين (مر 6: 7)، فكل منهما يود أن يخضع بفرحٍ وبكل قلبه للآخر، متذكرًا كلمات الرب: "من يضع نفسه يرتفع" (لو 18: 14).

القديس باسيليوس الكبير

2. المسيح القائد والمثل الأعلى

"فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا" [5].

ما يطلبه الرسول منهم ليس بوصايا نظرية، لكن بالشركة العملية مع السيد المسيح الذي قدم بتجسده مفهومًا فريدًا للحب والتواضع، لا لمصلحة خاصة به، بل لأجل محبوبيه.

v ليس شيء يحث النفس العظيمة الحكيمة (صاحبة الفلسفة) علي ممارسة أعمال صالحة مثل أن تتعلم أنها بهذا تصير على شبه الله. أي تشجيع يعادل هذا؟ لا شيء! هذا ما يعلمه الرسول تمامًا عندما أراد أن يحثهم علي التواضع.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v ذاك الذي ظهر في غابة طبيعتنا البشرية بسبب حبه للبشر، أصبح تفاحة باشتراكه معنا في الجسد (اللحم والدم). وكل من هذه (اللحم والدم) يقابله أحد ألوان التفاح. فاللون الأبيض يمثل لون اللحم، أما اللون الأحمر فيمثل الدم. لذلك، عندما تفرح النفس في الأمور السماوية فإنها ترغب أن ترى تفاحًا على السقف، وهكذا ترى ما هو فوق وتركز على التفاح، فيقودها هذا إلى الطريق السماوي للحياة حسب تعاليم الإنجيل. الذي جاء من الأعالي والذي هو فوق الجميع أرانا الطريق من خلال ظهوره في الجسد، فقد كان لنا مثالاُ عاليًا لكل فضيلة وصلاح. وكما قال السيد المسيح: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 29:11). وقد تكلم الرسول في نفس الموضوع عندما تحدث عن التواضع، ودعوني أقرأ النص لأوضح الحقيقة العامة: يقول بولس ينظرون إلى أعلى "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح أيضًا. الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد" (في 5:2). لقد شاركنا حياتنا بالجسد والدم وبإرادته أخذ هذا، تقول العروس، "أنعشوني بالتفاح"، حتى أبقى باستمرار ناظرة إلى أعلى، فأرى على الدوام صور الفضيلة واضحة في عريسي. ففيه أرى الوداعة، الخلو من الغضب، التصالح مع الأعداء، حب الذين يسببون له الضيقات، مقابلة الشر بالخير، كما أرى القوة والنقاء والصبر وليس به أي أثر للمجد الباطل أو الخداع.

القديس غريغوريوس النيسي

"الذي إذ كان في صورة الله،

لم يُحسب خلسة أن يكون معادلاً لله" [6].

لو أن يسوع مخلوق بشري وعادل نفسه بالله لحسب مسلكه هذا خلسة، سرق مجد الله، ونسب لنفسه ما لله. لكنه إذ هو كلمة الله المتجسد، فما فعله هو من قبيل حبه وتواضعه.

"إذ كان في صورة الله"... كان المستخدمة هنا تصف الإنسان الذي له مميزات وصفات معينة وهذه الصفات لا يمكن أن تتغير أو تتبدل, فمثلا زكا كان قصير القامة فهي صفة ثابتة فيه لن تتغير.

"كان في صورة الله" فهو يقصد أن السيد المسيح كان ولا يزال هو الله في ذات جوهره بلا تغيير ولا تبديل. وليس معنى قول الرسول عن السيد المسيح إنه "كان في صورة الله" إنه فقد هذه الصورة عندما أتخذ صورة العبد. كلا، إنه يملك صورة الله قبل التجسد وبعد التجسد وإلى الأبد. وهنا يثور السؤال: السيد المسيح الذي له صورة عبد هل فعلاً وحقيقة صار عبدًا له جسد بشري وروح بشرية مثلنا؟ نعم وبلا شك إنه صار عبدًا حقيقيًا.

"لم يحسب خلسة": هذا التعبير معناه إن السيد المسيح ليس في حاجة إلى خطف المساواة بالله، لأنه يملكها إذ هو مساوي للآب في الجوهر, وعندما يعتبر نفسه إنه مساوٍٍ للآب فلا يُعد هذا سرقة أو اختلاسًا لأن مساواته للآب وأزليته مع الآب هي حقيقة صادقة.

v ليت ذاك الذي لا يستطيع بعد أن يرى ما سيظهره الرب يومًا ما لا يطلب أولاً أن يرى ما يؤمن به. إنما ليؤمن أولاً أن تُشفى العين التي بها يرى. فإن ما يُعلن لأعين العبيد هو فقط شكل العبد، لأنه إن كان الذي "لم يُحسب خلسة أن يكون معادلاً لله" [6] يمكن أن يُرى الآن أنه معادل لله بواسطة الذين يرغب هو في شفائهم، لم تكن هناك حاجة أن "يُخلي نفسه آخذًا صورة عبد". ولكن إذ لا يوجد طريق به يمكن رؤية الله، وإنما يمكن أن يُرى الإنسان، لهذا فإنه صار إنسانًا، حتى بهذا يُرى فيشفي ما لا يُمكن به أن يُرى. فإنه هو نفسه يقول في موضع آخر: "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: Cool.

القديس أغسطينوس

v بالتدبير صار بيننا في شبهنا "وأخذ صورة عبدٍ"، ومع ذلك فهو من فوق. قال بوضوح مخاطبًا اليهود: "أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق؛ أنا لست من هذا العالم" (يو 8: 23). وأيضًا قال: "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان" (يو 3: 13).

القديس كيرلس الكبير

v وإن كان مشتركًا في طبيعتنا كإنسانٍ فهو لا يزال في نفس الوقت فوق كل الخليقة كإله.

القديس كيرلس الكبير

v "قد تركت بيتي. رفضت ميراثي. دفعت حبيبة نفسي ليد أعدائها" (إر 12: 7). لاحظ إذًا أن ذاك الذي هو في "صورة الله" (في 2: 6) جالس في السماوات، وأنظر إلى بيته الذي يفوق السماوات، ولو أردت أن ترى أيضًا ما هو أعظم وأعلى من ذلك، فإن بيته هو الله: "لأني في الآب" (يو 14: 11). "لقد ترك أباه وأمه" (مت 19: 5). ترك أورشليم السمائية، وجاء إلى الأرض، قائلاً: "قد تركت بيتي. رفضت ميراثي".

كان ميراثه في الواقع في الأماكن التي تُوجد فيها الملائكة والصفوف التي توجد فيها القوات المقدسة.

"دفعت حبيبة نفسي (نفسي الحبيبة) ليد أعدائها". دفع نفسه لأيدي أعداء النفس، لأيدي اليهود الذين قتلوه، لأيدي الملوك والرؤساء المجتمعين ضده، فإنه: "قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه" (مز 2: 2).

العلامة أوريجينوس

"لكنه أخلى نفسه،

آخذًا صورة عبد،

صائرًا في شبه الناس" [7].

وهو الكلمة الإلهي صار إنسانًا، أخذ ناسوتنا. لم يظهر في مجده، بل أخذ شكل العبد، وصار في شبه الناس، صار إنسانًا حقيقيًا وهو الإله الحق.

1- أخلى نفسه من مجد لاهوته، لأنه أخفى مجد لاهوته داخل ناسوته، وحجب مجده داخل حجاب جسده, إنه أخفى لاهوته عن الشيطان ليكمل لنا الفداء، ولتدور معركة الصليب الرهيبة. أخلى نفسه، فلم يسمح للاهوته بتخفيف الآلام عن ناسوته فجاع وعطش وتعب وبكى وتألم ومات.

2- أخذ صورة عبد: ظهر في صورة نجار بسيط في أسرة فقيرة في بلد حقيرة. اتخذ صورة عبد، فصار هو العبد الوحيد الذي أرضى الله الآب.

3- صار في شبه الناس: ولكنه يختلف عن أي إنسان آخر، لماذا؟

أ- لأنه هو الإنسان الوحيد الذي بلا خطية.

ب- لأنه هو الإنسان الوحيد الكامل.

ج- لأنه ليس إنسانًا كاملاً بلا خطية فقط، بل لأنه هو الله ذاته.

4- وإذ وُجد في الهيئة كإنسانٍ: التشبيه "كإنسانٍ" يعلن لنا إنه ليس مثل أي إنسان. إنه إنسان بالحقيقة، لكنه يختلف عن كل البشر.

5- وضع نفسه وأطاع مشيئة الآب.

6- أطاع حتى الموت: هو البار القدوس الذي لم يفعل خطية جاز في الموت، لأنه حمل خطايانا وآثامنا.

7- موت الصليب: وهو أشر وأقصى أنواع الموت. مات موت اللعنة, موت العار, موت السخرية, مات موت العثرة والجهل, أطاع إلى المنتهى حتى صرخ على الصليب قائلاً: "قد أكمل". "لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه اسما فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء وعلى الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل إنسانٍ أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب".

كثيرًا ما علق العلامة أوريجينوس علي قول الإنجيلي: "وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو 52:2)، مؤكدًا أنه إذ أخلى نفسه حقيقة وصار طفلاً، لا نعجب من أنه يتقدم ليس فقط في القامة جسمانيًا، بل وحتى في الحكمة. وقد استشهد بقوله النبي عنه: "عرف أن يرفض الشر ويختار الخير قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير علي الأرض" (إش 15:7-16).

v تعمد الكلمة القول في جسارة بأنه أخلى نفسه لكي يسلك في هذه الحياة. وبإخلائه يجعل العالم في الملء. لكن إذ كان ذاك الذي سلك في هذه الحياة مخليًا نفسه، فإن هذا الإناء الخالي إنما هو الحكمة بعينه، لأن جهالة الله أحكم من الناس (1 كو 25:1 ).

v حمل ضعف خطايانا، وحملنا. جاء إلى الذين لعنوه، وضعفت قوته بين الذين لعنوه عندما نزل من السماء، لأنه في نفس الوقت أخد شكل العبد وأخلي نفسه. هكذا يقول " قوتي ضعفت بين الذين يلعنونني " (إر 10:15)

v نزل الرب لا ليهتم بنا فحسب، بل ولكي يحمل ما لنا.

v خُلق الإنسان علي شبه صورة (الله). ولهذا فإن مخلصنا الذي هو صورة الله، بحنوه نحو الإنسان الذي خلقه علي مثاله، إذ رآه قد ترك صورته جانبًا ولبس صورة الشرير، أخذ صورة الإنسان ونزل إليه.

العلامة أوريجينوس

v قال الرب لليهود: "ماذا تظنّون في المسيح" (مت 22: 42)؟ أجابوه: "ابن داود"، لأنهم عرفوا ذلك بسهولة إذ تعلّموه من الأنبياء. بالحقيقة كان من نسل داود، ولكن "حسب الجسد" من العذراء مريم التي كانت مخطوبة ليوسف. وعندما أجابوه قال لهم: "فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلاً: "قال الرب لربّي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه؟...

هل تتعجّبون من أن يكون ابن داود إلهًا له، عندما ترون مريم أمًا لربّها؟

إنه رب لداود "الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله" [7]، وابن داود بكونه "أخلى نفسه آخذًا صورة عبد".

v يا أيّها النبي القائل: "أنت أبرع جمالاً من بني البشر" (مز 45: 3)؟ أين رأيته؟ هناك أنا رأيته. هل تشك أن المعادل لله أبرع جمالاً من بني البشر؟...

وليسأل ذاك القائل: "رأيناه، ليس فيه حُسن ولا جمال" (إش 53: 2 LXX). أنت تقول هذا، أخبرنا أين رأيته؟... "

أخلى ذاته، آخذًا صورة عبدٍ، صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب". هنا أنا رأيته.

هكذا الاثنان في توافق مملوء سلامًا، كلاهما يتفق معًا.

أي جمال أبرع من الله؟ وأي تشويه أكثر من المصلوب؟

v لقد ترك أباه حتى لا يُظهر نفسه هنا مساويًا للآب، بل "أخلى ذاته، آخذًا صورة عبدٍ". لقد ترك أيضًا أمه، المجمع، الذي وُلد منه حسب الجسد لقد التصق بامرأة أي بكنيسته.

القديس أغسطينوس

v قد يقول أحد الحاضرين: أنا إنسان مسكين، أو قد أكون في ذلك الوقت مريضًا على الفراش، "أنا امرأة وأُخذت إلى الطاحونة، فهل أُرفض؟! تشجع يا إنسان، فإن الديان لا يحابي الوجوه. لا يقضي بحسب منظر الشخص ولا حسب كلامه. لن يكرم المتعلمين فوق البسطاء، ولا الأغنياء أكثر من المحتاجين. إن كنتم في حقل تأخذكم الملائكة. لا تظنوا أنه يأخذ أصحاب الأراضي ويترك الحارثين. حتى وإن كنت عبدًا أو فقيرًا لا تتضايق. لقد أخذ شكل العبد [7]، فهل يرفض العبيد؟ حتى وإن كنت راقدًا على الفراش، إذ مكتوب: "يكون اثنان على الفراش واحد، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر" (لو 34:17). حتى وإن كنت مظلومًا تحت إلزام، رجلاً كنت أو امرأة، مكبلاً أو جالسًا بجوار طاحونة، فإن الذي بسلطانه يحل المقيدين لن يتجاوزك.

الذي عتق يوسف من العبودية وأخرجه من السجن إلى المملكة يفديك من ضيقتك إلى ملكوت السماوات.

يليق بك أن تفرح فرحًا حسنًا، وتعمل وتجاهد بغيرة فإنك لن تفقد شيئًا من جهادك. كل صلاة هي لك. كل مزمور تتغنى به يسجل لك. العفة من أجل الله تُحسب لك.

القديس كيرلس الأورشليمي

v كما أن المسيح "أخذ صورة عبدٍ" [7] وغلب الشيطان بالتواضع، هكذا فإنه في البداية سقط الإنسان عن طريق الكبرياء والمجد الباطل بخداع الحيّة؟

القديس مقاريوس الكبير

v تقارن العروس جمالها بمثل حنان الله القدوس، فتقلد السيد المسيح في عملها، فتصبح للآخرين كما كان المسيح للبشر. قلد بولس السيد المسيح بالتضحية بحياته حتى يُعطي بني إسرائيل الخلاص إزاء معاناته وضيقاته. "فإني كنت أوّد لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد" (رو 3:9). يمكن تعديل هذه الكلمات لتناسب العروس كالآتي: هذا هو جمال روحك، وهذه هي محبة الله الذي أخلى نفسه وأخذ شكل العبد (في 7:2) وأعطى نفسه فداء عن العالم. هو الغني الذي أصبح فقيرًا من أجلنا، حتى يمكننا أن نحيا بموته، ومن أجلنا افتقر لكي نغتني، وبعبوديته نملك (2 كو 9:Cool.

v تصف العروس العريس بأن ظله على الفراش: "سريرنا أخضر" (نش 16:1). أي أن الطبيعة البشرية تدرك أو سوف تدرك أنك تظللها برعايتك. "لقد أتيت" قالت العروس، "أنت الجميل الذي يظلل فراشنا". لأنه إن لم "يخيم ظلك علينا على هيئة عبد" (في 7:2) عندما تكشف لنا عن أشعة بهائك الإلهي، من يستطيع أن يتطلع إلى عظمتك البهية؟ "وقال لا تقدر أن ترى وجهي. لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (خر 20:33). لقد أتيت إلينا الآن كشخصٍ رائعٍ ويمكننا استقباله. أتيت إلينا متجسدًا كإنسانٍ، لتخفي عن عيوننا أشعة ألوهيتك. كيف اتحدت الطبيعة التي تدوم إلى الأبد بالطبيعة التي تموت؟ إن ظل جسده عمل كوسيط يمنحنا النور نحن الذين كنا نعيش في الظلمة: تستعمل العروس كلمة فراش (سرير) لكي تُفسر بحاسة تصويرية اتحاد الطبيعة البشرية مع الله.

القديس غريغوريوس النيسي

"وإذ وُجد في الهيئة كإنسان،

وضع نفسه،

وأطاع حتى الموت، موت الصليب" [8].

قبل ناسوتنا لكي يعلن حبه بآلامه الحقيقية وطاعته عوض عصياننا، وبكامل حريته. قبل أبشع أنواع الموت وهو الصلب ليحقق مصالحتنا مع الآب. قبل عار الصليب لكي يمجدنا. مارس الحب والتواضع:

* أخلى نفسه، وأخفى مجده الأزلي بتأنسه.

* لم يستنكف من أن يحمل شكل الإنسان وهو الإله الحي.

* قبل أن يحتل آخر صفوف البشرية، إذ صار عبدًا للجميع، يشتهي أن يخدم الكل.

* قبوله الألم حتى الموت.

* اختياره عار الصليب. فالصليب هو الطريق الملوكي لبلوغ المجد: المسيح أخلى نفسه من مجده، وأطاع حتى الموت، فتمجد فوق الكل، وحملنا فيه لنشاركه مجده. ان كان المسيح هو مثالنا فإننا لا نرى صليبًا بدون إكليل. إن كنا نتألم معه فسنملك أيضًا معه.

هنا نلاحظ الآتي:

1. يؤكد القديس بولس أن شركة الابن الكاملة في الطبيعة الإلهية ليست نوعًا من الاختلاس؛ أي لم يغتصبها من الآب، بل واحد مع الآب في أزليته، إذ هو واحد معه في ذات الجوهر.

2. تخليه لا يعني تغير ابن الله في الطبيعة الإلهية، عندما أخذ جسدًا لأجل خلاصنا. لقد أخلى نفسه، لا بتخليه عن الطبيعة الإلهية أو انتزاعها عنه، بل بإرادته حمل ناسوتنا. يتعامل التجسد مع إرادة الابن لا مع طبيعته. لقد صار إنسانا كاملاً، إذ بالحقيقة تجسد، مشاركًا حالنا البشري دون تغير في لاهوته.

3. أخلى الابن نفسه لكي يملأ فراغنا. صار إنسانًا لنصير أبناء الله. نسأله أن يملأ فراغنا بحلوله في حياتنا، فنسمعه يقول على الدوام: "وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل" (يو 10: 10).

4. تعبير "عبد" يحمل مفارقة صارخة لكونه في شكل الله، ولقبه "رب" الذي أعلن في نهاية العبارة.

5. اتسم القديس بولس بالجانب العملي كما بعمق الفكر. إنه لا يتركنا قط كما على سحابٍ. لا يفصل قط المعرفة عن العمل، فالمسيحية في عينيه حياة وإيمان. العقيدة الإيمانية دون الحياة لا ترفعنا إلى شيءٍ. بعد أن قدم الرسول قياس الأعالي في مجد المسيح، لم يود أن يتركنا هناك.

v "وضع نفسه، وأطاع حتى الموت موت الصليب". أنظروا قد يقول أحد: لقد صار بإرادته مطيعًا إذ لم يكن مساويًا لمن أطاعه. يا لكم من معاندين جهلاء! هذا لن يقلل من شأنه قط. فإننا نحن أنفسنا نصير مطيعين لأصدقائنا، وهذا لا تأثير له (علي كرامتنا).

لقد أطاع بكونه الابن لأبيه، لم يسقط إلى حال العبودية، بل بهذا الفعل تظهر بنوته العجيبة فوق كل شيء آخر، بهذا يكرم بقوة الآب. إنه يكرم الآب ليس لكي تحتقروه هو، بل بالحري لكي تتعجبوا منه، وتتعلموا من هذا الفعل أنه ابن حقيقي، بتكريمه لأبيه أكثر من أي شيء أخر.

ليس من أحد يكرم الله هكذا. فبقدر علوه هكذا مارس التواضع الذي حققه. إذ هو أعظم من الكل، ليس من أحدٍ يعادله، هكذا في تكريمه لأبيه فاق الكل، ليس عن إلزام ولا بغير إرادة، بل هذا أيضًا من سموه. نعم، فإن الكلمات لا تسعفني. حقًا، إنه لأمر عظيم لا يُنطق به أنه صار عبدًا، واجتاز الموت، إنه لأمر عظيم للغاية. لكن يبقى شيء أعظم وأكثر غرابة، لماذا؟ ليس كل أنواع الموت واحدة. موته يبدو أكثرهم بشاعة من الكل، مملوء عارًا ولعنة. إذ كُتب: "ملعون من عُلق علي خشبة" (تث 23:21، غل 13:3). لهذا كان اليهود يشتاقون بكل حمية أن يقتلوه بهذه الوسيلة، ليجعلوه في عارٍ. فإن كان أحد لا يريد أن يتخلى عنه بسبب موته، فسيتركه بسبب طريقة موته ذاتها. ولذات السبب صُلب معه لصين وهو في الوسط، حتى يشاركهما سمعتهما الرديئة، فيتحقق قول الكتاب: "أحصي مع آثمة" (إش 12:53). مع هذا أشرق الحق بالأكثر، وصار أكثر بهاءً. فإنه إذ خطط الأعداء مثل هذه الأمور ضد مجده، أشرق مجده بطريقة أعظم مما توقعوا. ليس بقتله، بل بقتله بهذه الكيفية ظنوا أنهم يجعلوه رجسًا ليؤكدوا أنه أكثر نجاسة من كل البشر، ولكنهم لم ينالوا شيئًا!

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لو لم يكن الرب قد صار إنسانًا لما كان في وسعنا أن نُفتدى من الخطية، وأن نقوم من بين الأموات، بل لبقينا أمواتًا تحت الأرض، ولما كنا نُرفع إلى السماء، بل لرقدنا في الجحيم.

البابا أثناسيوس الرسولي

v لأن الكلمة الذي هو الله أخذ جسدنا، ومع ذلك فقد بقيَ إلهًا. ولهذا يقول بولس الرسول المقدّس جدًا أنه صار في شبه الناس ووُجد في الهيئة كإنسانٍ، لأنه كان الله - كما قلت - في شكلنا البشري، مماثلاً لنا، ولم يأخذ جسدًا بلا نفس كما ظن بعض الهراطفة، بل بالأحرى جدًا تحييه نفس عاقلة.

v حتى إن كان يُقال أنه تألم في جسده، فهو لم يقبل الآلام في طبيعة ألوهيّته، ولكن قبلها في جسده الخاص القابل للألم.

القديس كيرلس الكبير

v يقول الكتاب في ميخا: "هوذا الرب يخرج من مكانه، وينزل ويمشي على شوامخ الأرض" (مي 3:1). لذلك يُقال أن الله ينزل عندما يتنازل ليهتم بالضعف البشري. هذا يلزم أن يظهر على وجه الخصوص في ربنا ومخلصنا الذي لم يُحسب خلسة أن يكون مساويًا لله، "أخلى نفسه آخذا صورة عبد". لقد نزل، لأنه "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو 13:3). فقد نزل الرب ليس فقط ليهتم بنا، وإنما أيضا ليحمل ما هو لنا، إذ "أخذ صورة عبد"، ومع أنه هو نفسه غير منظور في طبيعته، إذ هو مساوي للآب، إلا أنه أخذ شكلاً منظورًا، "ووُجد في الهيئة كإنسانٍ". أيضًا عندما ينزل يصير أسفل مع البعض، لكنه يصعد مع آخرين ويكون أعلى.

يرى العلامة أوريجينوس أن السيد المسيح إذ أطاع حتى الموت، أعلن أنه لم يفعل ذلك عن ضرورة وإلزام، وإنما عن اختيار وحرية إرادة.

v ما معنى: صار مطيعًا" ( في 2: Cool، وسلم ذاته لأجلنا كلنا" (رو 8: 32) هذا يعني جعل الرب نفسه حملاً في المسيح، لأن "الحكمة بنت بيتها" (أم 1:9) و"أطاع حتى الموت". إنك تكتشف أن كل ما تقرأه عن المسيح تحقق لا علي ضرورة بل بإرادته.

v تمجد عندما جاء إلى الصليب وعندما قبل الموت. أتريد أن تعرف أنه تمجد؟ يقول بنفسه: "أيها الآب قد أتت الساعة. مجد ابنك، ليمجدك ابنك أيضًا" (يو 1:17). حتى آلام الصليب كانت له مجدًا، لكن هذا المجد لم يكن تشامخًا بل تواضعًا.

العلامة أوريجينوس

v أن العمل في سبيل البشر كان بحسب الصلاح الذي من الآب بالابن.

القديس باسيليوس الكبير

v إذ كنا قابلين للموت، خاضعين له بسبب خطايانا، تنازل ليموت عن الخاضعين للموت حتى يرد لنا الحياة فيه.

القديس جيروم

"لذلك رفعه الله أيضًا،

وأعطاه اسمًا فوق كل اسم" [9].

بعد أن سجل معلمنا بولس رحلة التواضع من العرش الإلهي إلى صليب العار، يسجل له رحلة العودة من الجحيم منتصرًا ظافرًا بأعدائه إلى عرش الآب. ترتب على ذلك الآتي:

1- رفعة الله: رفعه من بين الأموات إلى أرض الأحياء، ورفعة من بين الأحياء واصعده إلى أعلى السماوات وأجلسه عن يمينه.

2- وأعطاه اسمًا فوق كل اسم: إنه اسم يسوع ومعناه "يهوه يخلص".

3- لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة: يجثو باسمه كل كائن مهما كان. فكل مؤمن يجثو عن رضا وحب واشتياق. يجثو له من هم في السماء، أي الطغمات الملائكية. ومن على الأرض، أي النساك والعباد ولباس الصليب والأبرار والصديقون والعاشقون اسمه القدوس. ومن تحت الأرض، وهم هؤلاء الذين سيجثون رغمًا عنهم عندما يكتشفوا حقيقة ألوهيته وسلطانه.

4- ويعترف كل لسان أن يسوع هو رب: كلمة "يعترف" في الأصل اليوناني تحمل معنى التسبيح والتمجيد وتقديم الشكر. يعترف كل لسان, فلسان الأبرار يسبحه ويمجده ويشكره, ولسان الأشرار أيضا سيعترف بربوبيته.

بتأنسه احتل مركزنا، وصار ممثلاً لنا حتى إذ رفعه الآب وأعطاه اسمًا فوق كل اسمٍ رفعنا معه، كأعضاء جسده المقدس. يقول الرسول: "أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماوات، فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط، بل في المستقبل أيضًا" (أف 1: 20-21).

حمل اسم يسوع عندما تحقق تنازله بتجسده وتأنسه، وأحصى مع آثمة، لا عن خطية ارتكبها، وإنما ليحمل خطايانا وآثامنا في جسده. هذا الاسم صار سرّ الغلبة والنصرة للمؤمنين به على قوات الظلمة التي غلبها بالصليب وشهر بها.

v كلمة "يسوع" مجيدة وتستحق كل سجود وعبادة. إنه الاسم الذي يفوق كل اسم.

العلامة أوريجينوس

v "أخبرني يا من تحبه نفسي". إنني أدعوك هكذا (دون ذكر اسم معين) لأن اسمك فوق كل اسم (في 9:2). إنه لا يوصف، وغير مدرك بالعقل البشري. لذلك فإن اسمك يكشف عن صلاحك، علاقتي بك روحية.

القديس غريغوريوس النيسي

v نرى الكتاب المقدس لا يقدم لنا الرب تحت اسم واحد، ولا تحت الأسماء المنوطة بلاهوته فقط، أو الدالة على عظمته، بل تارة يستعمل ميزات الطبيعة (خواصه الأقنومية)، فيعرف أن يقول: "الاسم الذي يفوق جميع الأسماء" (في 2: 9)، اسم الابن، والابن الحقيقي، والله الابن الوحيد، وقوة الله وحكمته وكلمته. وتارة، بالنظر إلى كثرة سبل وصول النعمة إلينا التي بصلاحه يمنحها لطالبيه حسب حكمته الكثيرة الأوصاف، يدعوه الكتاب المقدس بنعوت أخرى كثيرة، فهو يسميه تارة الراعي، وتارة الملك، ثم الطبيب، فالعريس والطريق والباب والينبوع والخبز والفأس والصخرة. هذه التسميات لا تدل على الطبيعة، كما قلت، بل على تعدد مظاهر النشاط الذي يبذله، رحمة منه بكل فرد من خليقته، وتلبية لحاجة كل من يسأله.

القديس باسيليوس الكبير

v حينما قال: "دُفع إليَّ كل سلطان" (مت 28: 18)، "آخذها" (يو 10: 18)، و"لذلك رفَّعه الله" [9]، فإن هذه هي الهبات الممنوحة لنا من الله بواسطته. لأن الكلمة لم يكن محتاجًا إلى أية شريعة في أي وقت.

البابا أثناسيوس الرسولي

v لنرى بالحقيقة أن الابن لا الآب مُقام من الأموات، إلا أن قيامة الابن هي من عمل كل من الآب والابن. إنها من عمل الآب، إذ كُتب "لذلك رفَّعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم" [9]. هكذا أقامه الآب إلى الحياة ثانية، رافعًا ومنقذًا إيّاه من الموت. هل أقام المسيح نفسه أيضًا؟ بالتأكيد فعل هذا، لأنه تحدث عن الهيكل كمثالٍ لجسده، قائلاً: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو 2: 19). فكما أن تركه للحياة يشير إلى آلامه هكذا أخذه للحياة يشير إلى القيامة... من الواضح أن الآب أعاد له الحياة، إذ يقول المزمور: "أقمني فأجازيهم" (مز 41: 10). لكن لماذا تنتظرون منّي برهانًا على أن الابن قد أعاد الحياة لنفسه؟ دعوه يتحدّث بنفسه: "لي سلطان أن أضعها" (يو 10: 18)... إنه يقول: "لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا"، "ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي"، "لأخذها أيضًا" (يو 10: 17-18).

القديس أغسطينوس

"لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة،

ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض" [10].

صار عمله الخلاصي العجيب موضوع تسبيح السمائيين وخلاص البشريين ورعب الشياطين. أمام اسمه "يسوع" الذي يعني "يهوه مخلص"، يجثو السمائيون والأرضيون وحتى الشياطين.

يجثو السمائيون باسمه، إذ اكتشفوا سرّ الحكمة المكتومة. ويجثو البشريون إذ يشكرونه على مصالحتهم مع الآب. وتجثو الشياطين في رعبٍ ومذلةٍ، إذ فقدوا سلطانهم ومملكتهم التي في قلوب البشر.

ولعله يقصد البشر جميعًا، الذين عبروا إلى الفردوس كما إلى السماء، والذين يجاهدون على الأرض، والذين ماتوا وصاروا في القبور؛ الكل يجثون باسم يسوع الناصري.

v عندما يأتي علنًا في مجيئه الثاني لا يكون في صمت. فإنه وإن كان قد جاء أولاً ملتحفًا بالتواضع، إلا أنه سيأتي مُعلنًا في قوة.

الشهيد كبريانوس

"ويعترف كل لسانٍ،

أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" [11].

تعترف كل الخليقة وتشهد أنه الرب صاحب السلطان المطلق، وهو في هذا ليس في تضادٍ مع الآب، لأنه واحد معه في ذات الجوهر. ما يفعله هو باسم الآب أيضا ولمجده الإلهي.

v أيّة أقوال أوضح وأكثر بيانًا من هذه الأقوال؟ إن الرب لم يكن أصلاً في حالة وضيعة ثم رُقيَ، بل بالأحرى إذ كان إلهًا فقد اتّخذ صورة عبد. وباتّخاذه صورة العبد لم يرتقِ بل أذلّ نفسه. إذن فأين هو أجر الفضيلة في هذه الأمور؟ لأنه إن كان وهو الإله قد صار إنسانًا وبتنازله من علوّه لا يزال يُقال أنه يُرفّع، فمن أين يُرفّع وهو الله؟... فهو ليس في حاجة إلى ازديادٍ، وليس الأمر كما يفهمه الأريوسيّون... ما هي النعمة التي ينالها واهب النعمة؟ أو كيف نال هو الاسم للعبادة، وهو الذي كان دائمًا معبودًا باسمه؟

البابا أثناسيوس الرسولي

3. أضيئوا في العالم

"إذًا يا أحبّائي كما أطعتم كل حين،

ليس كما في حضوري فقط،

بل الآن بالأولى جدًا في غيابي،

تمّموا خلاصكم بخوفٍ ورعدةٍ" [12].

لم يقدم لهم الرسول وصية جديدة، ولا يحثهم على وصية كمن قد كسروها، فهم دومًا حاملون سمة الطاعة، لكنه يطلب المزيد سواء في حضوره أو في غيابه عنهم بالجسد.

v يليق بنا ونحن نقدم نصائح أن نصحبها بالمديح، بهذا تصير النصائح مقبولة... كما فعل بولس هنا كمثالٍ. انظروا بأي تمييز فريد يقول: "إذًا يا أحبائي". انه لم يقل "كونوا مطيعين" إلا بعد أن مدحهم بالكلمات: "كما أطعتم كل حين" بمعنى أنني لست أقدم أناسًا آخرين كقدوة لكم، بل أقدمكم أنتم أنفسكم مثالاً.

v لماذا "الآن بالأولى جدًا في غيابي"؟ نعم، ربما يبدو أنكم كنتم تفعلون كل شيء تقديرًا لي، خشية العيب، لا يكن الأمر هكذا. فإن فعلتم هذا بوضوح في حضوري فإنكم إذ تجاهدون بأكثر غيرة وحمية في غيابي فهذا برهان واضح أن ما كنتم تفعلونه ليس من أجلي، وإنما من أجل الله.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"تمموا خلاصكم بخوفٍ ورعدةٍ"، فالخلاص هو حركة دائمة حية، وسلوك لا يتوقف حتى يتم حين يصيرون على قياس ملء قامة المسيح، فلا خلاص بدون مثابرة وسهر. أما الخوف والرعدة فيشيران إلى الحذر الشديد والجدية الحازمة مع النفس، وإدراك حقيقة المعركة ضد قوات الظلمة.

"تمموا خلاصكم": للإنسان دور في تتميم الخلاص, فالخلاص عمل مشترك بين الله الذي يوجد فينا الرغبة في الخلاص, ويهبنا المعونة للانتصار على الخطية, ويزرع فينا الفضيلة, وبين الإنسان الذي يتمم الخلاص بعمل الأتي:

1- يقبل الخلاص المقدم لنا على عود الصليب.

2- يقبل المعمودية كموتٍ ودفنٍ وقيامةٍ مع المسيح.

3- يقبل سرّ الميرون، ثم ممارسة سر التوبة والاعتراف, وسرّ الإفخارستيا.

4- يترجم الإيمان النظري إلى إيمان عملي، أقصد الأعمال الصالحة، الإيمان العامل بالمحبة.

"وبخوفٍ ورعدةٍ" [12]: ليس خوف المهانة والمذلة، ليس خوف العبيد، وإنما خوف الأبناء. الخوف والحذر لئلا تخدعنا الحية القديمة أو الذات الماكرة، فنسقط ونهلك ونُحزن قلب الآب علينا.

v كان مثل هذا الخوف لدى بولس، إذ يقول: أخاف "حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 27:9). فإن كان بدون عون الخوف لن تتحقق الأمور الزمنية، كم بالأكثر الأمور الروحية. فإني أود أن أعرف من تعلم الحروف (التي ينطق بها) بدون خوف؟ من صار بارعًا في أي فن بدون خوف؟...

من أين ينتج الخوف؟ إن كنا نحسب الله حاضرًا في كل مكان، يسمع كل الأشياء، ويرى كل شيء، ليس فقط ما يُمارس بالعمل وما يُقال، بل أيضًا وما في القلب وفي أعماق النفس، إذ هو يميز أفكار القلب ونياته (عب 12:4). فإن كنا ندرك ذلك، لن نفعل شيئًا أو ننطق به أو نتخيله إن كان شريرًا.

أخبرني، إن كان يلزمك أن تقف دومًا بجوار شخص الحاكم أما تقف بخشية؟ فكيف تقف في حضرة الله وأنت تضحك أو تلقي بظهرك إلى خلف ولا تخف وترتعد؟ لا تستهن بطول أناته، فإنها لكي تجلبك للتوبة، إذ هو طويل الأناة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v أنه ذاك الإنسان الذي تمّم خلاصه بخوفٍ ورعدةٍ. أنه ذاك الذي يسير بكل حرصٍ وسط فخاخ وشباك وشهوات هذا العالم، ويطلب نعمة الرب وعونه، ويترجّى برحمته أن يخلص بالنعمة.

القديس مقاريوس الكبير

v الأراضي المنخفضة تمتلئ، والأراضي المرتفعة تجفّ. النعمة هي مطر. فلماذا تتعجّبون إذن إن كان الله يقاوم المتكبّرين، ويعطي نعمة للمتواضعين (يع 4: 6)؟ لذلك القول: "بخوفٍ ورعدة" يعني بتواضعٍ. "لا تستكبر بل خفْ" (رو 11: 20). خفْ حتى تمتلئ، لا تستكبر لئلاّ تجفْ!

القديس أغسطينوس

"لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا،

من أجل مسرته" [13].

إنها نعمة الله القادمة أن تقدس الإرادة، وتهب قوة لعمل الصلاح، أي تحقق الإرادة الصالحة بالسلوك العملي. فهو خالق النفس والجسد، واهب الإرادة ومعطي القوة وكل الطاقات التي للإنسان. وهو يقدم هذا من أجل مسرته بالإنسان ليكون أيقونة له.

"لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا" [13] هذه الآية تطمئنا، وتوجه نظرنا لله العامل فينا. إنها تهبنا روح الرجاء فعندما نشعر أن الله القادر على كل شيء ليس ببعيدٍ عنا، وإنه قادر أن يصد عنا كل حروب عدو الخير، عندئذ تستريح قلوبنا.

"من أجل مسرته" [13]: يسر بأبنائه كما يُسر بابنه الوحيد.

يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم كيف يقول المرتل: "اعبدوا الرب بخوفٍ واهتفوا (افرحوا) برعدةٍ" (مز 2: 11)؟ وإن كان الله هو العامل فينا، فكيف نتمم خلاصنا بخوف ورعدة؟

v لا تخافوا حين أقول: "بخوفٍ ورعدةٍ". فإنني لست أقول بهذا المعنى أن تتوقفوا عن العمل في يأس، وأن تظنوا أن الفضيلة أمر يصعب بلوغه، وإنما أن تقتفوا أثرها، ولا تضيعوا أوقاتكم في مساعٍ باطلةٍ. فإن كان حالكم هكذا فإن الله يعمل كل شيء. ألا ترون: "الله هو العامل فيكم". فإن كان هو العامل، فمن جانبنا ليكن لنا فكر حازم متمسك غير متهاون.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لا تخافوا فإنكم لستم منهزمين، فإن كلاً من الرغبة القلبية والعمل هما من الله، فحيث تكون لنا الإرادة هو يزيد إرادتنا. كمثال: أرغب أن أمارس بعض الأعمال الصالحة، أنه هو الذي يعملها بذاتها، وبها أيضًا يعمل في الإرادة. يقول الرسول هذا من تقواه العظيمة إذ يحسب كل أعمالنا الصالحة هي هبات النعمة.

إذ يدعوها هبات، لا يٌضعف من حرية الإرادة، بل يمنحنا حرية الإرادة. فيقول: "العامل فينا أن تريدوا". لا يحرمنا من حرية الإرادة، بل يُظهر أن بعملنا الصالح ذاته نزيد رغبتنا القلبية في الإرادة. فالعمل يجلب عملاً، وهكذا عدم العمل يجلب عدم عمل. هل تعطي صدقة؟ فان هذا يحثك ان تعطي أكثر. هل ترفض العطاء؟ ستصير بالأكثر غير ميال إلى العطاء.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة" [14].

يقدم لنا الرسول سبع نصائح هامة تعيننا في تتميم خلاصنا بخوف ورعدة (14-16):

1- افعلوا كل شيء بلا دمدمة [14].

2- ولا مجادلة [14].

3- تكونوا بلا لوم [15].

4- بسطاء [15].

5- بلا عيب [15].

6- في وسط جبل معوج وملتو تضيئون بينهم كأنوار في العالم [15].

7- متمسكين بكلمة الحياة [16].

يحثنا الرسول أن نمارس حياتنا الجديدة ونتمم الوصية بفرحٍٍ، في طاعة تنبع عن أعماق القلب، وليس بترددٍ وتذمرٍ وجدالٍ. قدم الله وصيته لنجد فيها لذة الطاعة له كمحبوبنا، لا لتكون موضوع جدال نظري تفسد سلامنا الداخلي. فإن المنازعات والمجادلات الغبية تفسد العينين عن معاينة الحق والتمتع بعذوبة الشركة في النور.

تشير الدمدمة إلى الشكوى الخفية التي تثور في النفس والتردد. تعتبر الدمدمة المرحلة الأولى من التذمر، وتنتج من ضعف المحبة وقلة الصبر وضيق القلب.

v ألم تلاحظوا أنه يعلمهم ألا يتذمروا (دمدمة)؟ ليُترك التذمر للعبيد الذين ليس لهم مبادئ وأردياء. اخبروني أي ابن هو هذا الذي يتذمر دومًا عندما يعمل في شئون أبيه، والذي يعمل لصالحه... لماذا يتذمر من يعمل بحرية إرادته وليس عن اضطرار؟ من الأفضل ألا يفعل شيئًا من أن يفعله بتذمرٍ، فإن العمل نفسه يفسد.

v الدمدمة (التذمر) لا تٌطاق، هي مرعبة للغاية، على حافة التجديف... المتذمر جاحد لله، ومن كان جاحدا لله يصير مجدفًا.

v إذ يجد الشيطان نفسه بلا سلطان أن يسحبنا من ممارسة ما هو حق يرغب في إفساد مكافأتنا بوسائل أخرى. فانه يبحث عن فرصة لكي يدس في فكرنا الكبرياء أو المجد الباطل، وإن لم يستطع ذلك يدس الدمدمة، وان لم يجد فيدس الريب والشك. انظروا كيف يدفع هذه الأمور بكل قوة إلى الخارج.

القديس يوحنا الذهبي الفم

المجادلة أي المناظرة والمناقشة بأسلوب يشوبه الكبرياء والتمسك بالرأي، وهذا ضد الحياة المسيحية المقدسة المحبة. والمجادلة هنا جاءت في اليونانية لتعني الشك (1 تي 8:2).هذا و يثور الجدال بسبب تشامخ الإنسان على أخيه.

v ماذا يعني "ولا مجادلة"؟ أي الحوار المستمر إن كان هذا أمر صالح أم غير صالح؛ لا تدخلوا في مجادلات.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء،

أولادًا لله بلا عيب،

في وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ،

تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم" [15].

إذ نقبل الإرادة المقدسة من الله، ونتممها بقوته العاملة فينا، ونحيا بلا تذمر ولا جدال، نتمتع بحياة مقدسة تنعكس على أعماقنا الداخلية كما على سلوكنا مع أقربائنا ومع الله نفسه. لهذا يقول: "لكي تكونوا بلا لوم"، أي تحملون قدسية داخلية وطهارة ونقاوة قلب، لا موضع لعيبٍ في أعماقنا. وأما قوله: "وبسطاء" فتعني سلوكًا بسيطًا مع الغير، لا يحمل أذية لأحد. ونكون "أولادًا لله بلا عيب"، أي نكشف عن تمتعنا بشركة الطبيعة الإلهية.

بهذه الحياة بجوانبها الثلاث نصير ككواكبٍ مستنيرةٍ بشمس البرّ ومتلألئة تضيء العالم.

الكلمة اليونانية المترجمة هنا "أنوار" هنا تعني الكواكب المنيرة كالشمس والقمر والنجوم.

بسطاء: أي لا نظهر غير ما نبطن، بعيدين عن كل مكرٍ ودهاءٍ، ولا نخلط الشر بالخير.

"أولاد الله" هذا شرف وامتياز لنا، لكنه أيضًا مسئولية علينا، لأن الأولاد يجب أن يشابهوا ويماثلوا أباهم في الصلاح. يجب علينا أن نعيش بلا عيب لكي يكون لنا نصيبا مع مصاف القديسين.

"في وسط جبل معوج وملتو، تضيئون بينهم كأنوار في العالم": إذا كان الاعوجاج والالتواء أمر طبيعي في حياة أولاد إبليس، فإن النور والإضاءة شيء طبيعي في حياة أولاد المسيح.

v لأن الآباء القدّيسين الذين كانوا قبلنا امتلكوا كلمة الحياة، فقد صاروا أنوارًا العالم.

القديس كيرلس الكبير

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أولاد الله يضيئون وسط جيل معوج وملتوي، كما تضيء الكواكب في الليل، في وسط الظلمة، وتُحسب بلا عيب بسبب جمالها. نعم أن الظلمة المحيطة بالكواكب تعكس بهاءً أعظم على الكواكب، هكذا من يسلك باستقامة وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ.

يرى العلامة أوريجينوس أن أولاد الله الذين بلا عيب يسيرون في وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ، كما سار بنو إسرائيل في وسط البحر الأحمر، ولم تستطع المياه أن ت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي   تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Icon_minitimeالأربعاء نوفمبر 17, 2010 11:48 am

باذن ربنا باقى التفسير هايكون جاهز قريب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي   تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Icon_minitimeالثلاثاء نوفمبر 30, 2010 1:59 am

الاصحاح الثالث

فرح في الرب

في الأصحاح الأول كشف الرسول بولس عن الآلام كمناخٍ طيبٍ للتمتع بالفرح، وفي الثاني الخدمة كمصدر فرح حقيقي، وهنا يعلن عنطبيعة هذا الفرح أنه في الرب المتألم القائم من الأموات، وهو فرح على مستوى سماوي.

يخبرنا القديس بولس أن حياة كل إنسان هي عصب خطة الله، الذي يُسر به كابنٍ وأيقونة له حية متهللة. يلزمني أن أحمل هذه الخطة، التي هي حياتيالسماويةفي المسيح. هذه الحياة لها تكلفتها السلبية كما الإيجابية:
أولاً: التكلفة السلبية للحياة الجديدة المتهللة

1. الحذر من حرفية العبادة، أو التخلص من الشكليات التي بلا روح. كان المتهودون يعلمون بأن المؤمنين يحتاجون للخضوع للناموس الموسوي بطريقة حرفية، خاصة طقس الختان، بدونه لن يتحقق الخلاص. هاجم القديس بولس هؤلاء المتهودين بذات اللقب الذي استخدموه للأمم "الكلاب"، وقارن ختانهم ببعض الممارسات الوثنية لبتر الإنسان أعضاءه ودعاه "القطع". كان يمكن للرسول أن يفتخر بحفظه الناموس الموسوي حرفيًا، لكنه بإرادته تخلى عن هذا لأنه أراد أن يعبربهمإلى إسرائيل الجديد، كنيسة المسيح، يتعبد لله بالروح.

2. عدم الثقة في الجسد بل في الروح.

3. كل ما في هذا العالم نفايةإن قورن بالسيد المسيح.

4. نسيان ما هو وراء، أي الأمور الحاضرة.

5. مجد هذا العالم عار.
ثانيًا: التكلفة الإيجابية للحياة الجديدة المتهللة

1. العبادة بالروح .

2. الرجاء في تغيير أجسامنا الواهية إلى شبه جسد المسيح الممجد. فمع الثقة في الجسد لا نستخف بأجسامنا الواهية. لا تتغير مادتها، إنما ستكون لها خبرة المسيح القائم من الأموات، جسده الممجد. تعبر منالانحطاط إلى المجد، وتتقبل عدم الفساد.

3. قبول المسيح كفايتنا، وبرنا .

4. النمو في معرفة المسيح المصلوب القائم من الأموات [10-11]. نشترك في آلامه بفرح، ونتشبه بموته، وتكون لنا قوة قيامته. بهذا نصير مثله. الإيمان يهبنا الشركة في حياة المسيح وقيامته. هو انفتاح على عمل الله في حياتنا، فنتقبل المسيح برّنا. أيضًا يليق بنا أن نجاهد دومًا من أجل بلوغ الجعالة السماوية بدعوة الله في المسيح [12-16]. نجاهد دومًا لأننا لسنا بعد كاملين.

5. مواطنتنا هي في السماء. يليق بنا أن نحيا كمواطني أسمى دولة، مملكة السماء. سكن ربنابالجسدعلى الأرض أكثر من 33 عامًا، لكن إقامته على الأرض لم تجعل منه مواطنًا أرضيًا متعلقًا بالعالم. ونحن إذ صرنا أعضاء جسمه يلزمنا ألا ننسى أننا اكتسبنا جنسيته. "لا تشاكلوا هذا العالم، بل تغيروا بتجديد أذهانكم" (رو 12: 2).

1. عجز الناموس عن تحقيق الفرح1-11.

2. سباق لبلوغ الكمال12-16.

3. المكافأة: مواطنة سماوية17-21.

1. عجز الناموس عن تحقيق الفرح

"أخيرًا يا إخوتي افرحوا في الرب،

كتابة هذه الأمور إليكم ليست عليّ ثقيلة،

وأمّا لكم فهي مؤمنة".

الآن يكتب الرسول بولس إلى محبوبيه شعب الكنيسة التي في فيلبي مطالبًا إياهم بالفرح في الخدمة. والعجيب أن الكاتب يبعث رسالته وهو مقيد بالسلاسل، ويرسلها إلى كنيسة مع كونها أمينة (مؤمنة) ومنتعشة لكن المتهودين يزعجونها. فالمتاعبسواءمن الخارج أو من الداخل لا تقدر أن تفقد المؤمن أو الخادم فرحه في الرب. وقدرما نتهلل داخليًا نكون بالأكثر مستعدين لقبول الألم من أجله، ولا تقدر قوة ما أن تعزلنا عنه.

"أخيرًا": يقصد بها الرسول إنه سيبدأ استكمال رسالته.

لقد هدأ بولس أهل فيلبي الذين كانوا في حالة كآبة شديدة. كانوا في قنوط، إذ لم يكونوايعرفونكيف سارت الأمور مع بولس. كانوا في كآبة إذ ظنوا أنها قد تفاقمت جدًا بالنسبة له، وبالنسبة للكرازة ولأبفرودتس. لقد أكد لهم وطمأنهم من جهة كل هذه النقاط، وقال:" أخيرًا يا إخوتي افرحوا". يقول لهم: ليس لكم بعد علة للكآبة معكم أبفرودتس الذي حزنتم من أجله، ومعكم تيموثاوس، وأنا نفسي سآتي إليكم، والإنجيل في حالة تقدم. ماذا يعوزكم بعد؟ افرحوا!

القديس يوحنا الذهبي الفم

"يا إخوتي" يستخدم هذا اللفظ للتعبير عن شدة الحب والاعتزاز والأخوة والمشاركة لأهل فيلبي. لقد دعا الغلاطيين "أولادي" (غل 19:4)، أما هؤلاء فدعاهم "إخوتي"، فعندما يهدف نحو تصحيح أمرٍ ما أو إظهار حنوه يدعوهم أولاده، وعندما يخاطبهم بكرامةٍ عظيمةٍ يلقبهم إخوته.

"افرحوا في الرب": الفرح هو الخيط الذهبي الذي يمر بين طيات هذه الرسالة. أما مصدر الفرح فليس النجاح الظاهر، ولا الإمكانيات الخارجية، إنما "في الرب". ليس من حصنٍ آمنٍ للنفس البشرية أكثر من الفرح في الرب "وأما لكم فهي مؤمنة". ما أروع أن يكتب الرسول لهم عن الفرح وهو في شدة الضيق والألم, فالألم يلازمه الحزن، ولكن اجتماع الألم مع الفرح لا يتحقق إلا في الرب.

افرحوا في الرب... لماذا؟

أ- لأن الرب هو ضابط الكل، وهو محب البشر.

ب- لأن الرب هو الذي يهتم بكل أمورنا، ويهبنا كل شيء.

ج- لأننا نطرحتحت أقدام صليبه خطايانا وآثامنا وهمومنا،فيحملها عنا المصلوببرضا ولطفٍ.

د- لأنه ينقذنا من أعدائنا الخفيين والظاهرين، ويحول الشر إلى خير، والضيقات إلى بركات.

و- لأن الفرح بالرب يهبنا القوة في جهادنا الروحي.

ه- لأنه هو الذي ينير ظلمتنا.

"أخيرًا يا إخوتي افرحوا في الرب" يقول بحق "في الرب"، وليس "حسب العالم"، فإن هذا ليس بفرحٍ. يقول أن هذه المتاعب التي بحسب المسيح تجلب فرحًا.

"كتابة هذه الأمور إليكم ليست عليٌ ثقيلة، وأما لكم فهي مؤمنة. احذروا الكلاب". ألا تلاحظوا كيف يتدرع بالصبر لكي يقدم نصيحة في البداية؟ فإنه بعد أن قدم لهم مدحًا عظيمًا، وأظهر إعجابه بهم، عندئذ قدم النصيحة ثم عاد يكرر المديح. فإن هذا الأسلوب من الكلام يبدو أنه كان يحمل صعوبة بالنسبة لهم. لذلك حاول تغطيته من كل جانب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"انظروا الكلاب،

انظروا فعلّة الشر،

انظروا القطع".

"انظروا": أي النظر بعيونٍ يقظة وحرصٍ شديدٍ. ويكرر الرسول نفس اللفظ ثلاث مرات للدلالة على أهمية وخطورة الأمر. عندما بدأ بولس كرازته بين الأمم هاج عليه المتهودون، وبذلوا كل جهدهم لكي يربطوا المسيحية باليهودية, وكأنها طائفة جديدة من الطوائف اليهودية.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الذين يفسدون الإيمان بالمناداة بضرورة ممارسة أعمال الناموس الحرفية كالختان وحفظ السبتللدخول في طريق الخلاص يشبهون الكلاب التي تنبح وتهاجم لتؤذي. فهي تشوه الإيمان بالمخلص، وتفقد المؤمنين يقينهم في عمله علي الصليب. هذا ويرى الأب فيكتورينوس بأن الكتاب المقدس يشَّبه المدافعين عن بيت الرب بالكلاب التي في أمانة تحرسه من اللصوص والمفسدين.

تتحدث الأسفار المقدسة عن الكلاب النافعة والمدافعة عن الكنيسة، كما يعلمنا داود في المزمور 68 قائلاً بأن هذه الكلاب تلحس دماء الأعداء في هيكل الله. وهنا يتحدث (بولس) عن نوع مضاد من الكلاب. واضح أنه يتحدث عن اليهود (المقاومين للكلمة) لأنهم عاملون بالشر. فإن الأعمال(الناموسية الحرفية)هي عملهم الوحيد في حياتهم دون معرفة الله، ويترجون الخلاص من أعمالهم

ماريوس فيكتورينوس

"انظروا الكلاب": كان اليهود يدعون الأمم بالكلاب، وهنا قلب الرسول بولس الصورة حتى أن بولس يضع نفسه في مصاف الأمم ويشبه المتهودين بالكلاب. لماذا يدعو المطالبين بالعودة إلى حرفية الناموسكطريق الخلاص بالكلاب؟ لأنهم عوض الكرازة بلغة الحب، واحتضان النفوس بأبوة روحية ينبحون كالكلاب بأصوات مزعجة للنفس، ومقلقة للجماعة، ويؤذون البسطاء بأفواههم التي لا تكف عن أن تعض وتؤذي. بينما يطالب هؤلاء بحرفية الناموس لكي يتطهروا إذا بهم يتدنسوا كالكلاب (تث 23: 18؛ مز 59: 6، 14، 15؛2 بط 2: 22). إنهم يحملون عداوة لصليب المسيح، ينسبون له العجز عن المصالحة مع الله بدون حرفية الناموس. كان اليهود يدعون الأمم كلابًا (مت 15: 26)، لكن بعدم إيمانهم فقدوا سمتهم كإسرائيل الحقيقي، فصاروا أممًا، ونُسب إليهم لقب الكلاب الذي دعوا به الأمم.

لكن من هم الذين يلقبهم كلابًا؟ كان في ذلك الموضع بعضًا ممن أشار إليهم في كل رسائله، من اليهود...الأردياء والمنحطين الذين يطمعون في الربح القبيح والمغرمين بالسلطة. هؤلاء كانوا يرغبون في جذب كثير من المؤمنين إليهم بالكرازة بخلط المسيحية مع اليهودية في نفس الوقت، مفسدين الإنجيل.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"انظروا فعلة الشر": إذ يحرفون الإنجيل بسلبه عمل الصليب،فصاروا بتعاليمهم "فعلة الشر"، مخادعين، يكرزون ولكن لا لحساب مملكة الله، بل لحساب الظلمة والشر.

"احذروا فعلة الشر"... فإنهم يعملون بقصدٍ شريرٍ، العمل الذي هو أشر من البطالة، إذ يستأصلون ما قد وُضع بتدبير صالح ويقتلعونه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"انظروا القطع":عوض قوله "الختان"،يقول: "انظروا القطع". كان الختان علامة في الجسد على قبول العهد مع الله.وإذ رفضوا العهد الجديد، وبالتالي فقدوا سمتهم كإسرائيل الروحي، تحول ختانهم من علامة العهد مع الله إلى مجرد قطع في الجسم لا معنى له ولا قوة.وهو بهذا يكشف عن إساءتهم لمفهوم الختان، إذ جردوه من مفهومه الروحي وهدفه. صار قطعًا في الجسد، لا يختلف عن الممارسات الوثنية، الأمر الذي يمنعه الناموس (لا 21: 5). وكأنهم فيما هم ينفذون الناموس حرفيًا إذا بهم يتعدونه. يرى البعض أن الرسول غالبًا لم يقصد بالقطع الختان. إنما قصد الجراحات الممنوعة على الكهنة للتعبير عن حزنهم على موت أحد أقربائهم. حتى لو أخذنا المعنى الآخر فإن المتهودين افتخروا بقطع جزء من الجسد، كأن هذا الأمر فقط هو الذي سيصيرهم من شعب الله, بينما اغفلوا المعاني الروحية للختان... فالختان هو ميثاق مع الله وتقديس القلب لله.

يقول: "احذروا القطع" كان طقس الختان مكرمًا عند اليهود، إذ فتح الناموس له الطريق، وكان السبت يحسب أقل من الختان. فيمكن إتمام الختان مع كسر السبت. فلم يقلأن الختان شر، وأن لا لزوم له، لئلا يرعب الناس. لكنه عالج الأمر بأكثر حكمة، ساحبًا إياهم منه.

لم يرد حتى أن يشترك في الاسم، بل ماذا قال؟إن هذا الختان هو "قطع". لماذا؟ لأنهم لا يفعلون شيئًا سوي قطعًا في الجسد. فإنه إذ يُمارس، ولكن ليس حسب الناموس، لا يكون سوى قطعًا من الجسد. لهذا السبب دعاه هكذا. أو ربما لأنهم أرادوا أن يقطعوا الكنيسة إلى شقين، ونحن ندعو الأمر "قطعًا" في الذين يفعلون هذا عشوائيًا، بلا هدف ولا مهارة. يقول: الآن إن كنتم تطلبون الختان، تجدونه عندنا نحن "الذين نعبد الله بالروح"، أي نتعبد روحيًا. أجبني: أيهما أسمى، النفس أم الجسد؟ واضح ان الأولىأسمى. لهذا فإن ذاك الختان (الذي للنفس) هوأسمى أيضًا، أو بالحري ليس أسمى بل هو الختان الوحيد. فإنه إذ يُوقف الرمز يأتي بحق الأمر كتابة: "انزعوا غرل قلوبكم" (إر 4:4). بنفس الطريقة عالج الأمر في الرسالة إلي أهل رومية قائلاً: "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا، بل اليهودي في الخفاء (في الداخل) هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالحرف هو الختان" (رو 2: 28-29). أخيرًا نُزع عنه الاسم نفسه إذ لم يعد ختانًا (بل قطعًا) كما يؤكد. فالرمز كان يدعي هكذا (ختانًا) حتى تحل الحقيقة، ولكن متى جاءت الحقيقة لم يعد للرمز ذات الاسم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه، عالمًا أن مثل هذا قد انحرف، وهو يخطئ، محكومًا عليه من نفسه" (تي 10:3-11). ليتنا كبحارة حكماء نبحر في إيماننا في المسلك السليم حتى نعبر بأكثر أمانٍ، ونتبع سواحل الأسفار المقدسة.

القديس أمبروسيوس

"لأننا نحن الختان الذين نعبد الله بالروح،

ونفتخر في المسيح يسوع،

ولا نتّكل على الجسد" .

بينما يطالب المتهودون بالختان الجسدي، ليحسبوا من أهل الختان يصيرون أهل الغرلة روحيًا، بينما إذ نمارس ختان الروح نصير نحن أهل الختان "الذين نعبد الله بالروح، ونفتخر (نفرح) في المسيح يسوع، ولا نتكل على الجسد".

وقد ذكر معلمنا بولس ثلاث علامات للختان الروحي الحقيقي:

1- العبادة لله بالروح لا الحرف القاتل: حتى نتمتع بالشركة العميقة مع الله الذي هو روح وحياة. فنقدم له القلب ليقدسه بروحه القدوس ويقيم منه هيكلاً له.ليس معنى عبادة الله بالروح هو إبطال الطقوس والتدبير الروحي,إن كان يساعدنا على عبادتنا الروحية.

2- فرح في يسوع المسيح يسوع:، يهبنا فخرًا واعتزازًا بالرب وصليبه.

3- عدم الاتكال على الجسد:فمع تدبير حياتنا الروحية، لكن خلاصنا يقوم على عمل الروح. لا نمارس العبادة الجسدية التي تخص الجسد دون الروح ولا تتكل على الجسد أي لا تعتمد على الذات في عبادتنا، فلا يكون الدافع لعبادتنا هو إرضاء ذواتنا.

1. كان لابد أن يقول: "اختتنوا للرب" (إر 4: 4). فإن الختان من الجانب الجسدي لم يقتصر علي أهل الختان بحسب شريعة موسى وحدهم، وإنما علي أناس آخرين كثيرين. فكهنة الأوثان المصريين كانوا يختتنون لها (للأوثان)، فكان هذا الختان من أجل الأوثان وليس للرب، بينما ختان اليهود ربما كان للرب. فإذا كنا قد فهمنا معنىاختتنوا للرب بالمعنى الحرفي، فلننتقل إلي معناه الرمزي حتى نعرف كيف يوجد بين المختونين بعضًا منهم مختتن للرب، والبعض الآخر مختتن ولكن ليس للرب.

توجد كلمات أخرى بخلاف كلمة الحق أي عقيدة الكنيسة: فإن الذين يمارسون الفلسفة، قد ختنوا أخلاقهم وقلوبهم، ويمارسون ما يمكن أن نطلق عليه ضبط النفس؛ فإن الهراطقة يمارسون ضبط النفس وهم في الوقت نفسه مختتنين جسديًا، ولكن في هذه الحالة فإن ختانهم ليس للرب، لأن الختان عندهم يُنَفَّذ بموجب عقيدة كاذبة. ولكن حينما تذهب إلي الكنيسة وتتبع تعاليمها الحقة، فإنك لن تكون فقط مختتنًا، وإنما مختتن للرب.

العلامة أوريجينوس

"مع أن لي أن اتّكل على الجسد أيضًا،

إن ظن واحد آخر أن يتّكل على الجسد،

فأنا بالأولى".

يقدم لنا الرسول نفسه مثالاً على عدم الاتكال على الجسد، بل على عمل الله فيه. فمن جهة إن أراد أحد أن يفتخر بامتيازاته الجسدية الخارجية فلدى الرسول الكثير ليفتخر به، الأمر الذي لا يقدر أن يباريه فيه أحد. فرفضه للافتخار بالأمور الجسدية ليس عن نقصٍ لديه أو عجز عن تحقيقها.

يذكر الرسول بولس سبع امتيازات له (ع4-6)

1- مختون في اليوم الثامن:وهذا إثبات إنه ولد في اليهودية، وليس دخيلاً عليها، لأن الدخلاء يختتنون يوم دخولهم الإيمان اليهودي.

2- من جنس إسرائيل: لأنه لا ينسى الديانة اليهودية التي أسسها الله على جبل سيناء.

3- من سبط بنيامين: بنيامين الابن الوحيد ليعقوب الذي ولد في أرض الموعد من زوجته المحبوبة راحيل, وهو آخر أبناء يعقوب.

4- عبراني:هناك فرق بين الإسرائيلي والعبراني: الإسرائيلي هو إنسان يهودي نال الختان, وليس بالضرورة أن يجيد اللغة العبرية، أما العبرانيفيجيد اللغة العبرية كما يعني أن أجداده لم يختلطوا مع الأمم في الزواج كما فعلكثيرون من اليهود الآخرين الذين نزحوا من الأمم.

5- فريسي: أي المفرز والمخصص والمكرس لله. وإنه من الذين يعتنون بممارسة الطقوس والفرائض الدينية.

6- مضطهد الكنيسة: كان شاول غيورًا جدًا على ديانته، فلم يطق أن يرى أحدًا خارج الحظيرة اليهودية. لذلك عندما نشأت المسيحية وجذبت الكثيرين من أبناء جنسه اشتعلت نار الغيرة داخله فأقترف كثير من الآثام ضد الكنيسة وسجن واضطهد الكثير من المؤمنين وكان راضيًا بقتل استفانوس.

7- من جهة برّ الناموسكانبلا لوم: تمم كل مطالب الناموس من وصايا وتقليدات، "ولكن ما كان لي ربحًا، فهذا حسبته من أجل المسيح خسارة".

"من جهة الختان مختون في اليوم الثامن،

من جنس إسرائيل من سبط بنيامين،

عبراني من العبرانيّين،

من جهة الناموس فرّيسي".

من جهة إمكانياته للافتخار والاتكال على الجسد، فقد تمتع بكل الأمور التي كان اليهود يعتزون بها.

يشير بهذه الظروف أنه ليس دخيلاً ولا وُلد من والدين دخيلين. ختانه في اليوم الثامن يتبعه أنه ليس بدخيل، وأنه من سلالة إسرائيل، وأن أبواه ليسا دخيلين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يقول: هويتي اليهودية ليست بأية حال مُلتبس فيها. فإنني لست من أسرة نصف يهودية. إني زرع حر، ابن راحيل المحبوبة التي من أجلها البطريرك (يعقوب) نفسه احتمل العبودية

ثيؤدورت أسقف قورش

"من جهة الغيرة مضطهد الكنيسة،

من جهة البرّ الذي في الناموس بلا لوم".

إنهم ليسوا أكثر غيرة منه، فقد كان غيورًا على حرفية الناموس وتقليدات آبائه والاعتزاز بأمته، بذل كل جهده لاضطهاد الكنيسة خدمة للناموس وإسرائيل. الأمر الذي لن يقدر أن ينكره أحد من بني أمته.أما عن حياته الشخصية فبحسب الناموس كان فريسيًا مدققًا في حرفية متشددة، يُحسب في أعين اليهود بارًا.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بولس بعد أن أعلن عن ما كان يمكنه أن يفتخر به، وهي أمور ليست باختياره، إذ لم يختر لنفسه أن يختتن في اليوم الثامن، ولاأن يكون من جنس إسرائيل الخ.، يتحدث عما هو باختياره، إذ كان يمكن أن يكون فريسيًا ولكن غير غيور علي الناموس كما فعل بعض رؤساء الكهنة. باختياره كان غيورًا جدًا فاضطهد الكنيسة، وسلك في البرّ وبلا لوم حسب الناموس.

يقول حين كنت أغزو الكنيسة لم أكن مدفوعًا بحب الكرامة والمجد الباطل والغيرة مثل قادة اليهود، بل كنت ملتهبًا بالغيرة علي الناموس.

ثيؤدورت أسقف قورش

قبل اهتدائه تمم بولس الناموس بطريقة رائعة، إنما خوفًا من الناس أو من الله نفسه، حتى حين كان يضاد الناموس في مفاهيمه الداخلية. لكنه كان ينفذ الناموس خشيه العقوبة وليس حبًا في البرّ.

القديس أغسطينوس

"لكن ما كان لي ربحًا،

فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة".

مع كل ما قد بلغه في أعين إسرائيل القديم، ومع كل ما تمتع به من امتيازات، أدرك الرسول أن هذا كله لن ينفعه شيئًا، وأنه عاجز عن تبريريه لدى الله. ألقى بهذا كله وحسبه خسارة ليربح السيد المسيح القادر وحده أن يبرره. من يلتصق بالحرف الناموسي يسقط في الفقدان والخسارة مادام يفقد المسيح مصدر حياته وشبعه.حسب الرسول الكرامة التي نالها من شعبه بسبب غيرته على حرفية الناموس خسارة لحقت بأعماقه.

إنه يسأل إن كنت من جهة نقاوة سلالتي وغيرتي وعاداتي وطريقة حياتي قد فقت الكل، فلماذا أرفض كل هذه الكرامات إلا لأني وجدت أن أمور المسيح أفضل، وأفضل جدًا؟ لهذا أضاف: "لكن ما كان لي ربحًا، فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة" (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى)... أما نحن فلسنا حتى نستحق بالمال لنربح المسيح، بل نفضل الحرمان من الحياة العتيدة عن الصالحات التي للحياة الحاضرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

هذه الكلمات هي مديح للناموس. كيف هذا، هذا ما يعلنه هنا. لنصغِ بانتباه إلي كلماته عينها. لم يقل "الناموس خسارة" بل "حسبته خسارة". ولكن عندما تحدث عن الربح لم يقل: "حسبته" بل قال: "كان لي ربحًا"... قديمًا كان ربحًا بسبب طبيعته، وأخيرًا صار هكذا بحسب رأيي.

يقول ماذا إذن، أليس الناموس هكذا (ربحًا)؟ إنه خسارة من أجل المسيح.

كيف كان الناموس ربحًا؟ ولم يُحسب ربحًا، بل كان هكذا.

تأملوا كيف كانت عظمته،إنهيجلب الناس الذين كانوا بهيمين في طبيعتهم ليحملوا شكل البشر.

لو لم يوجد الناموس ما كانت النعمة قد أُعطيت. لماذا؟ لأنه صار نوعًا من الجسر، فحيث كانت هناك استحالة للصعود إلى العلى من حالة الانحطاط الشديد جاء في شكل سلم، ولكن الذي صعد لم يعد بعد محتاجًا إلى السلم، دون أن يحتقر السلم، بل هو شاكر له. إذ رفعه إلى هذا الوضع، لم يعد يحتاج إليه...

هذا هو حال الناموس، فقد رفعنا إلى فوق، فكان لنا ربحًا،أما بالنسبة للمستقبلفحسبناه خسارة. كيف؟ ليس لأنههوخسارة، وإنما لأن النعمة أعظم.

ذلك كما لو أن فقيرًا كان جائعًا، فإذ وجد فضة هربمنه الجوع، أما وقد وجد ذهبًا ولم يُسمح له بالاحتفاظ بالاثنين معًا، حسب الاحتفاظ بالفضة خسارة، مع أنها هي في ذاتها ليست هكذا. وإذ يلقيها يأخذ العملة الذهبية...

إذن الناموس ليس خسارة، وإنما هو هكذا بالنسبة للإنسان الذي يلتصق بالناموس ويهجر المسيح.

الناموس إذن خسارة إن قادنا بعيدًا عن المسيح، أما إذا بعث بنا إليه فهو ليس خسارة. لهذا قال: "من أجل المسيح خسارة"، فإن كان من أجل المسيح، فهو ليس خسارة بطبعه.

لكن لماذا لا يسمح لنا الناموس بالذهاب إلى المسيح؟ يخبرنا (الرسول) نفسه بأن الناموس قد أُعطي ليقودنا إلى المسيح. والمسيح هو مكمل للناموس وغاية الناموس. إنه يقودنا إليه إن أردنا. "لأن المسيح غاية الناموس" من يطيع الناموس يترك الناموس ذاته. إنه يسمح لنا بالذهاب إلى المسيح إن كنا نراعي هذا، وإلا فإنه لا يسمح لنا بذلك. نعم حقًا لقد حسبت كل شيء خسارة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"بلإني أحسب كل شيء أيضًا خسارة،

من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي،

الذي من أجله خسرت كل الأشياء،

وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح.

إذ التقى بالرب ورآه وفتح قلبه لسكناه، سقطت كل هذه الامتيازات كنفاية لا تستحق أن يشغل فكره بها. هذه النفاية لا يليق بالمؤمن أن يحتفظ بها، بل يلقيها خارجًا لتلهو بها الكلاب الضالة. ما كان يعتز به قبلاً صارت نفسه تمقته ليعتز بعار الصليب، وفقر المسيح، وذبيحته الفريدة القادرة أن تفتح أبواب السماء ليدخل كل مؤمن ويستقر في الأحضان الإلهية في مجد أبدي.

"من أجل معرفة فضل المسيح يسوع ربي" بعدما نهض شاول من سقطته بعد سماعه صوتربنايسوع عرف جيدًا أن كل ما كان له ربحًا هو في حقيقته خسارة من أجل معرفة المسيح يسوع.

"من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية"... خسر شاول كل امتيازاته السابقة, وخسر وضعه كشخصٍ مقربٍ من القيادات الدينية, وخسر وضعه كقائدٍ غيورٍ مشهورٍ, وخسر وضعه بين أصدقائه ومعارفه، وخسر وضعه وسط أسرته المتدينة. خسر كل هذه الامتيازات وهو يعتبرها نفاية, والحقيقة أن القديس بولسمارس عملية استبدال، فاستبدل هذه الأرباح الوهمية المؤقتة الزائلة بأرباح حقيقية تبقى معهإلى الأبد.

أقول: لماذا يعني هنا الناموس؟ أليس العالم صالحًا؟ أليست الحياة الحاضرة صالحة؟ لكن إن سحبتني هذه عن المسيح أحسب كل هذه الأشياء خسارة. لماذا؟ "من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي". فإنه إذ تشرق الشمس، يحسب الجلوس بجوار شمعة خسارة. فالخسارة تقوم علي المقارنة، علي السمو علي الأمور الأخرى... لاحظوا كيفيدعو كل شيء خسارة، ليس في ذاتها، وإنما من اجل المسيح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لقد قرأ (الرسول) أن إبراهيم إذ اعترف أنه تراب ورماد وجد نعمة الله في تواضعه الشديد (تك 27:18). وقرأ أن أيوب إذ جلس في المزبلة (أي 8:2) استرد كل ما فقده (أي 42-17:10). وقرأ في نبوة داود أن الله يقيم المسكين من التراب والبائس من المزبلة (مز 7:113)

القديس أمبروسيوس

إنني لست أهرب منها (وصايا الناموس) كأمور دنيئة، لكنني أفضل ما هو أسمي. فإنني إذ أتذوق الحبوب ألقي النفاية (غطاء البذور). لأن النفاية هي الجزء الكثيف من القش. إنها تحمل الحبوب، لكن ما أن تُجمع الحبوب حتى تُطرح النفاية.

ثيؤدورت أسقف قورش

ليس من فقدان لطوباوية الفضيلة بسبب الألم، أيضًا ملذات الجسد لا تضيف شيئًا للمتعة.

عظيم هو الربح الذي نقتديه بالصلاح، الذي هو الغنى بالله، وليس الغنى الزائل، إنما بالعطايا الأبدية حيث لا تحارب بل نعمة دائمة لا تنتهي.

القديس أمبروسيوس

من منكم يتوقع أن يسمع صوت ملاك يقول له: "الآن علمت أنك خائف الله، فلم تمسك ابنك عني" (تك 12:22)، أو ابنتك أو زوجتك، ولم تمسك مالك أو كرامة العالم، أو طموح العالم، بل احتقرت كل الأشياء وحسبتها نفاية لكي تربح المسيح. لقد بعت كل شيء وأعطيت للفقراء واتبعت كلمة الله؟ (مت 21:19). من منكم تظنون أنه يسمع كلمة كهذه من الملائكة؟ لقد سمع إبراهيم هذا الصوت.

العلامة أوريجينوس

"وأوجد فيه، وليس لي بري الذي من الناموس،

بل الذي بإيمان المسيح،

البرّالذي من الله بالإيمان".

"لكي أربح المسيح وأوجد فيه" أي اتحد به.بقوله: "أوجد فيه" يكشف أنه كان ضالاً لم يكن له مكان لراحته واستقراره، فوجده الرب يسوع ودخل به كما إلى أحشاء محبته ليستقر في بيته في أمان. فحين كان يظن أنه باربحسب الناموس كان بالحقيقة تائهًا وضالاً، وإذ تمتع بالإيمان صار في المسيح مستقرًا ومختفيًا يرتدي بره برًا له. هذا هو الإيمان بالمسيح كعطية إلهية.

إن كان ذاك الذي كان له برّه جرى نحو هذا البرّ الآخر، إذ برّه الخاص به هو كلا شيء، كم بالأولى الذين ليس لهم برّ يلزمهم أن يجروا إلى المسيح؟ حسنًا قال: "لي بري"، ليس الذي اقتنيه بتعبي وكدحي، وإنما وجدته من النعمة. إن كان الذي كان بهذا السمو العظيم قد خلص بالنعمة، فكم يليق بنا نحن. كان يبدو أنهم سيقولون بأن البٌر الذي يأتي بالتعب أعظم، لذا أظهر أنه نفاية أن قورن بالبرّ الآخر... وما هو البرّ الآخر؟ الذي من الإيمان بالله، أي يمنحه الله. هذا هو برّ الله. هذا بكليته هو هبة. هبات الله لا تقارن بالأعمال الصالحة التي بلا قيمة الصادرة عن جهادنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لأعرفه، وقوّة قيامته،

وشركة آلامه،

متشبهًا بموته".

وضع الرسول القيامة قبل الآلام، لماذا؟ لأنه عاينالسيدالمسيح القائم أولاً في حياته ثم دخل إلى حلبة الآلام. أعلن له السيد المسيح عن أمجاد قيامته أولاً، ثم أخبر حنانيا عن آلام الرسول. لا يوجد فاصل بين لأعرفه وقوة قيامته لأن أهم شيء في معرفة المسيح هي قوة قيامته التي كانت لأجلنا نحن وليس لأجله.

"شركة آلامه": بولس المتألم في سجنه وقيوده وهو بريء يعرف أن آلامه هذه ما هي إلا شركة مع المسيح المتألم.

عوض الانشغال بالحرفيات القاتلة والتي كان يظنها طريق البرّ، دخل في المسيح وحلّ المسيح فيه بالإيمان. بهذا صارت له معرفة فائقة. تعرف عليه، ويبقى ينهل من ينبوع المعرفة والحكمة ليدرك عمليًا قوة قيامته، ويختبر شركة آلامه، ويسعد بالتشبه بآلامه. لا يحتمل أن يفسد وقته بحوارٍ جدليٍ حول ما يخص الجسد، ويترك تمتعه الدائم بمعرفة متجددة لا تنقطع للسماوي القادر أن يبرر الجميع بدمه الثمين وببهجة قيامة المسيح برًا له (رو 4: 25 ؛ 1 كو 17:15).

ماذا يعني "بالإيمان لأعرفه" بالإيمان نعرفه، وبدونه يستحيل معرفته. لماذا؟ وكيف؟ بالإيمان نعرف قوة قيامته... فإن كانت قيامة المسيح حسب الجسد تُعرف بالإيمان، كيف يمكن بالعقل إدراك ولادة كلمة الله؟ لأن القيامة أقل من الولادة... لأنه يُوجد للقيامة أمثلة كثيرة، أما الميلاد فلن يوجد له مثيل قط. لم يولد أحد قط من عذراء.

هذه الأمور (الولادة من عذراء والقيامة) تهب البرّ، هذا ما يليق بنا أن نؤمن به أنه قادر أن يفعله، أما كيف كان قادرًا هذا ما لا نستطيع برهنته. فإنه بالإيمان ندخل في شركة آلامه، لكن كيف؟ إن لم نؤمن لا نقدرأن نحتمل الآلام.إن لم نؤمن بأننا إن كنا نتألم معه فسنملك أيضًا معه (2 تي 12:2) لما يمكننا أن نحتمل الآلام... من يؤمن أن المسيح قام يسلم نفسه للمخاطر، ويشاركه آلامه. إذ تكون له شركة مع ذاك الذي قام، مع ذاك الحي.

الاضطهادات والأحزان والشدة يلزم ألا تجعلنا مضطربين، فإننا بها نتشبه بموته. وكأنه يقول إننا نتشكل بشبهه. وكما يقول في موضع آخر: "حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع" (2 كو 10:4). هذا يأتي من الإيمان العظيم. فإننا لسنا نؤمن فقط أنه قام، وإنما حتى بعد قيامته له سلطان عظيم، فنرحل في ذات الطريق الذي سافر فيه، أي نصير إخوته في هذا الأمر أيضًا. كأنه قال: صرنا مسحاء في هذا الأمر! يا لعظمة كرامة الآلام! إننا نؤمن أننا نصير في شبه موته خلال الآلام!

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لعلّي أبلغ إلى قيامة الأموات".

ما يشغل الرسول بولس على الدوام هو انطلاقه اليومي في طريق القيامة خلال شركته مع السيد المسيح في آلامه وصلبه، حيث ينعم بكرامة الشركة معه، والدخول إلى الأمجاد الأبدية.

قيامة الأموات التي يقصدها الرسول هنا هي القيامة الواحدة الوحيدة العامة الشاملة لجميع الأموات،الأبرار والأشرار، وهي تتم في لحظة واحدة يعقبها الجزاء والعقاب.

"لعلي" التي استخدمها الرسول لا يقصد منها الشك في أمر قيامته، لكنه يقصد بها صعوبة الوصول إلى هذا الأمر. إنه يحتاج إلى جهاد العمر كله.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن كل البشر سيقومون، فماذا يعني الرسول بقوله: "أبلغ إلى قيامة الأموات"؟ [البعض بالحق يقوم ليُكرم، وآخرون لكي يُعاقبوا... ماذا يعني ببلوغ القيامة التي تشير إليها هنا؟ القيامة التي تقود إلى المسيح نفسه.]

هذا لأن بولس لا يزال يثابر في شركة الآلام التي كادت أن تكون علي شبه الموت نفسه حتى يقول: "لعلي أبلغ قيامة الأموات". لم يكن لديه أدنى شك أنه يبلغ قيامة الأموات. ولكن ما هو بلوغ قيامة الأموات؟ إنها الحياة الكاملة التامة لكل شخص، والنابعةعن شركة آلام المسيح بكل وسيلة، والتي تتجلى بوضوح في نهاية الزمن عندما تتحقق قيامة الأموات، أي عندما يعود الأموات إلى الحياة

ماريوس فيكتورينوس

يقودنا نشيد الأناشيد الآن إلىالرغبة في التفكير بعمق في الحُسن العظيم. لكن تتألم نفوسنا عندما نعرف أنه لا يمكننا الإلمام بهذا الحُسن. كيف لا يأسف أي شخص عندما يكتشف أن الارتقاء إلى هذا الحُسن صعب المنال، إذ ترتفع النفس الطاهرة النقية بواسطة الحب لكي تشارك في هذا الحُسن، ولكن يظهر أنها للآن لم تتمكن من الحصول على ما تبحث عنه، كما يقول القديس بولس (في 11:3).

القديس غريغوريوس النيسي
2. سباق لبلوغ الكمال

"ليسإني قد نلت أو صرت كاملاً،

ولكني أسعى لعلّي أُدرك الذي لأجله أدركني أيضًا المسيح يسوع" .

سرّ قوة الرسول بولس إدراكه عدم بلوغه بعد الكمال، لا بروح اليأس والتهاون، وإنما بالسعي والجهاد مدركًا أن السيد المسيح نفسه يطلبه ويسعى إليه لكي يفديه ابنا له. بينما يود أن يدرك المسيح يعلم تمامًا أن المسيح أدركه. فغيرة الرسول على خلاص نفسه لا تقارن بغيرة السيد المسيح على اقتنائه له.

"أسعى لعلي أدرك" لم ينل بعد الرسول المكافأة، ولا تمتع بعد بكمال المجد، ولا أنهى بعد سباقه، لكن ما يسنده أن السيد المسيح هو العامل فيه بنعمته. يبدأ معه، ويسير معه في طريق جهاده، ويكون هو غايته. فالزمن مقصر، والجهاد طويل، لكن الإمكانيات التي له جبارة وقديرة، لأنها إمكانيات عمل الله فيه. إنه تعبير واضح وقوي عن حياة الجهاد "الذي لأجله أدركني أيضًا المسيح يسوع". لقد أدرك السيد المسيح شاول الطرسوسي وهو في طريقه إلى دمشق ممتطيًا جواده، متكبرًا متعجرفًا مملوءً غضبًا وحقدًا ليكمل معصيته باضطهاد يسوع المسيح في شخص أولاده. أدركه فهرب الشر من داخله وفر الكبرياء واختفى الحقد.

يوجد شكلان للكمال، شكل عادي، وآخر علوي. واحد يُقتني هنا، والآخر فيما بعد. واحد حسب القدرات البشرية، والآخر خاص بكمال العالم العتيد، أما الله فعادل خلال الكل، حكيم فوق الكل، كامل في الكل.

القديس أمبروسيوس

نحن جميعًا الآن غير كاملين، هناك سنكون كاملين حيث يصير كل شيء كاملاً. يقول الرسول بولس: "ليس إني قد نلت أو صرت كاملاً" ، فهل يجسر أحد أن ينسب لنفسه الكمال؟ نعم بالأحرى لندرك عدم كمالنا، فننال الكمال.

القديس أغسطينوس

يليق بالبشر أن يحتملوا الصراع كله، فيأتوا إلى قيامته. ولعله يقصد إن ظننت إني متأهللبلوغ القيامة المجيدة، وهي موضوع ثقة علي شبة قيامته، فإني احتمل كل الصراعات. بهذا أكون قادرًا أن أنال القيامة، وأن أقوم في مجدٍ!.. حياتي لا تزال بعيدًا عن النهاية. لازلت بعيدًا عن الإكليل، لازلت أجري وأثابر للبلوغ إلى الهدف. إنه لم يقل "إني أجري" بل يقول "أسعى". فانتم تعلمون بأية غيرة يسعى الإنسان.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ينبغي أن تتغيّر نفوسنا وتتحوّل من حالتها الحاضرة إلى حالة أخرى – إلى طبيعة إلهيّة، وتصير خليقة جديدة بدلاً من العتيقة، أي تصير صالحة متحننة وأمينة بدلاً كونها في المرارة وعدم الإيمان. وهكذا إذ تصير مناسبة ولائقة تعود وتسكن في الملكوت السماوي. لأن بولس المغبوط يكتب هكذا عن تغييره الذي به أدركه المسيح، قائلاً: "ولكنّي أسعى لكي أُدرك الذي لأجله أدركني أيضًا المسيح يسوع". كيف أدركه الله إذن؟ يحدث هذا مثلاً حينما يمسك طاغية مجموعة من الأسرى ويسوقهم قدّامه، ثم بعد ذلك يدركهم الملك الحقيقي ويخلّصهم منه. هكذا حين كان بولس تحت سيادة وتأثير روح الخطية الظالم، فإنه كان يضطهد الكنيسة ويتلفها، لكن لأنه كان يفعل هذا عن غيرة لله وبجهل... لهذا فإن الله لم يهمله بل أدركه، إذ أضاء حوله الملك السماوي الحقيقي.

يعلّمنا الروح التواضع الحقيقي الذي لا نستطيع الآن أن نصل إليه حتى بالتغصّب، لكن يعلّمنا أن نثمر بالحق أحشاء رأفات (كو 3: 12) وشفقة، وكل وصايا الرب بدون تعب أو تغصّب، كما يعرف الروح نفسه كيفيّّة ذلك حين يملأنا بثماره.

القديس مقاريوس الكبير

إني أعجب من أولئك الذين يدعون لأنفسهم الكمال، أولئك الغنوسيين، الذين يُهيأ لهم أنهم أفضل من الرسول. إنهم مغرورون ومفتخرون بينما يقول الرسول نفسه:"ليسإني قد نلت أو صرت كاملاً..." ومع هذا يحسب نفسه كاملاً لأنه قد انفصل عن حياته الأولى، ساعيًا بلا ملل نحو حياة أفضل، غير مدعٍ الكمال في المعرفة، لكنه كان ساعيًا نحو الكمال. هنا أيضًا يضيف: "فليفتكر هذاجميعالكاملين"، واصفًا الكمال بجلاءأنه ترك للخطية، وتجديد في الإيمان الكامل وحده، نازعين من ذاكرتنا خطايانا السابقة.

القديس إكليمنضس السكندري

"أيهاالإخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت،

ولكني أفعل شيئًا واحدًا،

إذ أنا أنسى ما هو وراء،

وامتد إلى ما هو قدّام".

مع عظمة ما ناله الرسول، لكن بمقارنته بما يعده له الرب من أمجاد يحسب كل ما ناله كلا شيء. ففي كل يوم يتمتع الرسول ببركات كأنها جديدة، فيصرخ: هوذا الكل قد صار جديدًا". ينسى الماضي لأنه مشغول بحاضرٍ مجيد، إن قورن بما يناله غدًا يصير في نظره كلا شيء. إنه في سباق دائم بروح الرجاء المفرح في الرب.

وهب الله الإنسان الاشتياق المستمر للنموّ والتقدّم، فينسى ما هو وراء ليمتد إلى ما هو أعظم. فإن كان قد تمتّع بمجد الكواكب يشتهي خلال النعمة الإلهية أن يبلغ مجد الشمس، إذ يقول الرسول: "إن نجمًا يمتاز عن نجمٍ في المجد" (1 كو 15: 41)، كما قيل "حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت الله" (مت 13: 43). هذا وفي العهد القديم جاء في الشريعة بأن "كل واحدٍ يسير في المحلّة على حسب علامته (رايته)" (عد 2: 2).

"ولكني أفعل شيئًا واحدًا... ". يركز المتسابق كل أفكاره ويجمع كل قواه للوصول إلى الهدف بأقصى سرعة. الذي يركز على شيءٍ واحدٍ يحقق نجاحًا ما أفضل من الذي ينشغل بأمور كثيرة، فهو لا يحقق نجاحًا يذكر. يقدم بولس الرسول هنا صورة مستعارة من سباق عربات الخيل في القرن الأول الميلادي. وكأن المتسابق لابد أن يكون حاصلاً على الجنسية الرومانية. وهكذا نحن المتسابقون يا أحبائي جميعًا قد خرجنا من جرن المعمودية وحصلنا على الجنسية السمائية.

"إذا أنسى ما هو وراء"... أرفض حتى النظر إلى مكان الخطية. النظر إلى الماضي قد يعطل مسيرة الإنسان تجاه الملكوت, فعندما ينظر الإنسان إلى ماضيه ويفتخر بأعماله الصالحة ويعتمد عليها ويشعر إنه إنسان كامل يصاب بالشيخوخة الروحية. قد ينظر الإنسان إلى ماضيه بما فيه من أخطاء وخطايا ويذكر تفصيلات هذه الخطايا فيتعثر فيها ثانية.

"وامتد إلى ما هو قدام"، أي أركز أفكاري وجهدي في الواجب المُلقى على عاتقي ومسئوليتي تجاه إلهي وكنيستي.

في حديثه عن الزواج والبتوليّة يقول القديس أغسطينوس أننّا لا ندين الزواج، فمن تزوّج لا يعود ينظر إلى الوراء حين كان غير متزوّج، بل يتطلّع إلى ما هو قدّام ليحيا بفرح في حياته الزوجيّة مقدّسًا. وأما البتول فإنه إذ جعل الزواج خلفه لا يعود ينظر إلى الوراء، بل يتطلّع إلى الأمام.

إذ تطلّعت امرأة لوط إلى خلف صارت جامدة. إلى حيثما بلغ الشخص فليخف لئلاّ يتطلّع إلى الوراء من تلك النقطة. يلزمه أن يسير في الطريق، فليتبع المسيح.

بقي الرجاء الذي أظن أنه يقارن بالبيضة. فإن ما نرجوه لم يتحقّق بعد، ذلك مثل البيضة التي لم تصر بعد كتكوتًا... فالرجاء يحثّنا على ذلك: أن نستخفّ بالأمور الحاضرة وننتظر الأمور العتيدة. "ننسى ما هو وراء"، ومع الرسول "نمتد إلى ما هو قدّام".

القديس أغسطينوس

ليس للرب نهاية، ولا يمكن إدراكه بصورة كاملة؛ ولا يجرؤ المسيحيّون أن يقولوا "لقد أدركنا"، لكنهم يظلّون يسعون بتواضعٍ ليلاً ونهارًا.

القديس مقاريوس الكبير

إذ يستحيل علي الذين يصعدون ويبلغون القمة أن يتحاشوا الشعور بالدوار، لهذا يحتاجون ليس فقط أن يتسلقوا صاعدين، بل وأن يكونوا حذرين عند بلوغهم الذروة. الحذر شيء وفقدان توازن رؤوسنا عندما نرى المسافة التي تسلقناهاشيء آخر، فلنلاحظ ماذا تبقي لنا أن نصعد ونهتم بهذا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

تنقسم الخليقة إلى قسمين واضحين: أحدهما حسًي ومادي والآخر عقلاني وروحي... أما القسم الثاني من الخليقة وهو العقلاني الروحي، فلا قيود عليه وليس له حدود ولا يحصره أي شيء. وإضافة إلى ذلك تمتاز الطبيعة الروحيّة بأن لها ناحيتين:

أولاً: يظل الخالق (الغير مخلوق) ثابتًا دائمًا كما هو. لذلك فهو لا يسمح أن يتغيّر الحق نقصًا أو زيادة.

ثانيًا: أما الناحية الثانية فهي تخص الخليقة، وتنظر دائمًا إلى بدايتها والهدف الأول لها. بالمشاركة فيما وراء الحدود.

تظل الخليقة ثابتة في الخير، ومن وجهة نظر مُعيّنة، فهي خُلقت بينما تتغيّر باستمرار إلى الأحسن في نموها وكمالها. فهي ليست محدودة، ولا يمكن أن نوقف نموّها إلى الأحسن، غير أن حالتها الراهنة من الحُسن حتى ولو كانت عظيمة وكاملة، إلا أنها بداية فقط إلى مرحلةٍ أحسن وتفوّق الحدود. وهكذا فإن كلمات الرسول تتحقّق: "أيها الاخوةإني لا أحسب نفسي أني قد أدركت. ولكني أفعل شيئًا واحدًا إذ أنا أنسى ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدّام" (في 3: 13). إن الخير الذي هو أعلى مما قد حصلنا عليه يشد انتباه الذين ساهموا فيه، ولا يسمح لهم بالنظر إلى الماضي، لأنهم يتمتّعون بما هو جدير، أما الأشياء الدنيا فقد مُسحت من ذاكرتهم.

عندما كتب الرسول العظيم بولس إلى كنيسة كورنثوس عن رؤيته السماوية، لم يكن متأكدًا إذا كان قد رآها بروحه فقط أم بجسده وروحه معًا. وشهد قائلاً: "أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسى أنى قد أدركت. ولكنى أفعل شيئًا واحدًا إذا أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام" (في 13:3). يتضح من هذا أن بولس وحده كان يعرف ما يوجد وراء السماء الثالثة (لأن موسى نفسه لم يذكرها عندما تكلم عن خلق الكون وأصله). استمر بولس في الارتفاع ولم يتوقف بعدما سمع عن أسرار الفردوس التي لا يُنطق بها. ولم يسمح للسمو والارتفاع الذي وصل إليه أن يحدّ من رغبته هذه وأكد بولس أن ما نعرفه عن الله محدود لأن طبيعة الله أبدية وأسمى مما نعرفه وليس لها حدود. أمّا من يتحدون مع الله فتنمو وتزداد شركتهم معه باستمرار في الحياة الأبدية، ويتفق هذا مع كلمات السيد المسيح: "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 8:5). إنهم سوف يعرفون الله بقدر ما تسمح به عقولهم من فهم، إلا أن الله الغير محدود والغير مدرك يبقى دائمًا بعيدًا عن الفهم. إن مجد الله العظيم جدًا لا حدود له كما يشهد بذلك النبي (مز 5:145، 6). يبقى الله دائمًا كما هو عندما نتطلع إليه ونفكر في علو سمائه. هذا ولقد حاول داود العظيم بكل قلبه أن يرتفع بفكره إلى الآفاق العليا. وكان دائمًا يتقدم من قوة إلى قوة (مز 7:84). وصرخ إلى الله: "أما أنت يا رب فمتعالٍ إلى الأبد". (مز 8:92).بذلك يتضح أن الشخص الذي يجرى نحو الله يصبح أعظم كلماارتقى إلى أعلى وينمو باستمرار في الخير حسب مستواه في الارتفاع. ويحدث هذا في جميع العصور والله هو الأعظم ارتفاعًا الآن وإلى الأبد ويظهر باستمرار هكذا لمن يقتربون منه فهو أعلى وأسمى من قدرات كل من يرتفعون.

القديس غريغوريوس النيسي

لكن ماذا تعني عبارة: "لأننا نسعى وراء أفكارنا (شرورنا)"؟ إن الذين بدأوا بوضعأياديهم على المحراث وكذلك امتدوا إلى ما هو قدام لكي يزرعوا ونسوا ما هو وراء، بهذا أعطوا ظهرهم للأعمال الشريرة. لكن إذا وضع أحد يده على المحراث ونظر إلى الوراء فإنه في هذه الحالة يسعى وراء شروره، لأنه يسعى مرة أخرى إلى الأشياء التي كان قد تحول عنها، ويجئ مسرعًا إلى الخطايا التي تركها.

كل الذين بعدما سمعوا دعوة الرب للتوبة تحولت حياتهمإلى الفساد، سواء كانوا مسيحيين قد تركوا الحياة الوثنية، أو مؤمنين قد تقدموا في الإيمان، ثم بعد ذلك سقطوا ورفضوا التوبة، فإنهم لن يستطيعوا أن يقولوا سوى تلك الكلمات: "لأننا نسعى وراء أفكارنا وكل واحدٍ يعمل حسب عناد قلبه الردئ".

الإنسان البار ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام؛ أما الإنسان الذي يوجد في وضع مضاد للإنسان البار، فإنه سوف يتذكر ما هو وراء، ولن يمتد إلى ما هو قدام. بتذكره لما هو وراء يرفض سماع السيد المسيح القائل: "فلا يرجع إلى الوراء ليأخذ ثوبه"؛ يرفض سماع السيد المسيح القائل: "تذكروا امرأة لوط"؛ يرفض سماع السيد المسيح القائل: "إن الذي يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء لا يصلح لملكوت الله". وفي العهد القديم مكتوب أيضًا أن الملائكة قالوا للوط بعد خروجه من سدوم: "لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك" (تك 19: 17): "لا تنظر إلى ورائك" امتد دائمًا إلى ما هو قدام؛ لقد تركت سدوم، فلا تنظر إذًا إليها، لقد تركت الشر والخطية فلا تعود بنظرك إليهما؛ "ولا تقف في كل الدائرة". فإنه حتى إذا أطعت الأمر الأول "لا تنظر إلى ورائك"، هذا غير كافِ لإنقاذك إن لم تطَع الأمر الثاني أيضًا: "ولا تقف في كل الدائرة".

إن بدأنا التقدم والنمو الروحي، يجب علينا ألا نتوقف في حدود دائرة سدوم، بل نتخطى تلك الحدود ونهرب إلى الجبل. إذا أردت ألا تهلك مع أهل سدوم فلا تنظر أبدًا إلى ما هو وراء، ولا تقف في دائرة سدوم، ولا تذهب إلى أي مكان آخر سوى الجبل، لأنه هناك فقط يمكننا أن نخلص؛ الجبل هو ربنا يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين آمين.

العلامة أوريجينوس

بالحق كل الحياة البشرية تقوم هكذا، لا تقتنع بما قد عبر، ولا تقتات علي الماضي كما علي المستقبل. إذ كيف يكون الإنسان في حال أفضل لو أن معدته كانت ممتلئة بالأمس بينما لا يجد اليوم ما يشبع جوعه كما يليق؟ بنفس الطريقة فإن النفس لا تربح شيئًا بفضيلة الأمس ما لم يتبعها سلوك لائق اليوم.

القديس باسيليوس

"أسعى نحو الغرض،

لأجل جعالة دعوة الله العُليا في المسيح يسوع" .

يرى الغرض بكل وضوح،وتوجد أمامه علامة في سباقه لا تنحرف عينا قلبه عنها. فمن أجل مكافأة دعوة الله له في المسيح يسوع لا يمكن للأحداث الزمنية بمباهجها أو أحزانها ولا الأرض بكل جمالها ومتاعبها أن تسحب قلب الرسول عن السماء، إذ ينعم بعربونها داخله، وهو يجري مع كل نسمة من نسمات عمره ويحمل معه كثيرين في الرب، ليجد الكل موضعًا في المسكن الأبدي.

سباقه هذا هو دعوة عليا (غل 4: 26؛ كو 3: 1)، دعوة سماوية (عب 3: 1). أما الجعالة فهي إكليل البرّ (1 كو 9: 24؛ 2 تي 8:4)، إكليل الحياة (1 بط 4:5)، إكليل مجد لا يفنى"

"أسعى نحو العلامةmark "وكما يقول آدم كلارك "أسعى نحو الخط"،هذا يشير إلى الخطوط البيضاء التي على أرضية الاستادStadium من نقطة الابتداء حتى موضع الهدف، الذي يليق بالذين يركضون أن يثبتوا أنظارهم عليها، فإذا خرج أحدهم عن الخط يحسب جريه لاغيًا وغير قانوني، وذلك كي لا يتجمهروا في الطريق بل يلتزم كل منهم أن يسلك في حدود الخطين الموضوعين له.

"أسعى نحو الغرض لأجعل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع". الغرض الذي أسعى نحوه هو المسيح. إن كان السيد المسيح نفسه هو الطريق وهو المكافأة، فإن المكافأة نفسها تدعوني للركوض كي أقتنيها.عندما قيل لديوغنيس Diogenesالكلبي (أحد الفلاسفة اليونانيين يؤمنون بأن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي   تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Icon_minitimeالثلاثاء نوفمبر 30, 2010 2:25 am

"أسعى نحو الغرض لأجعل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع". الغرض الذي أسعى نحوه هو المسيح. إن كان السيد المسيح نفسه هو الطريق وهو المكافأة، فإن المكافأة نفسها تدعوني للركوض كي أقتنيها.عندما قيل لديوغنيس Diogenesالكلبي (أحد الفلاسفة اليونانيين يؤمنون بأن الفضيلة هي ضبط النفس): "لقد صرت شيخًا مسنًا فلتسترح من أتعابك" أجاب: "إنكنتقد ركضت في الميدان كل هذاالزمانفهل أتلكأ في السير وقد اقتربت من النهاية، أما يليق بي أن أسرع إلى الأمام بالأكثر؟"

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي تعبير "في المسيح يسوع"، موضحًا تواضع الرسول بولس، فهو يعلم يقينًا أن المكافأة هي في السماء حيث البهاء، والتي لن نبلغها إلا في المسيح يسوع.

هذا الألم المؤقت البسيط سيتحول إلى مكافأة كرامة بهية أبدية.

الشهيد كبريانوس

رقص بولس روحيًا عندما امتد إلى قدام من أجلنا ونسي ما هو وراء، واضعًا هدفه قدامه، مناشدًا نوال مكافأة المسيح... هذا الرقص يصحبه الإيمان وترافقه النعمة.

القديس أمبروسيوس

كان يركض على الأرض، والمكافأة متدليّة من السماء. إذن ركض على الأرض، وبالروح صعد. انظروا فإنه يبسط نفسه إلى خارج، انظروا إنه متعلّق بالمكافأة.

القديس أغسطينوس

إن كنتَ تنحني إلى أسفل تسقط وتصير خائرًا. تتطلع إلى فوق حيث توجد المكافأة، فإن رؤية المكافأة تزيد من عزيمة إرادتك. الرجاء في نوال المكافأة يجعلك لا تشعر بالأتعاب، وتجعل المسافة قصيرة. وما هي هذه المكافأة؟ ليست إكليل سعف، فماذا هي؟ ملكوت السماوات، الراحة الأبدية، المجد مع المسيح، الميراث، الأخوة، ربوات الأشياء التي لا يمكن تسميتها. إنه يستحيل وصف جمال المكافأة. من ينالها هو وحده يدركها ويتقبلها. إنما هي ليست من ذهب، ولا مرصعة بالجواهر. إنها أثمن بكثير. يُحسب الذهب وحلاً إن قورن بتلك المكافأة. وتُحسب الحجارة الكريمة قرميدًا إن قورنت بجمالها. إن كان لك هذه المكافأة وأخذت طريق رحيلك إلى السماء تستطيع أن تسير هناك بكرامة عظيمة. الملائكة تكرمك حين تحمل المكافأة، وستلتصق بهم بكل ثقة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"فليفتكر هذا جميع الكاملين منّا،

وإن افتكرتم شيئًا بخلافه،

فالله سيُعلن لكم هذا أيضًا".

هذا الأمر يتفق فيه جميع المؤمنين الحقيقيين الذين بلغوا الكمال، أو النضوج، ولم يعودوا بعد أطفالاً في حياتهم الروحية وسلوكهم المسيحي (1 كو 14: 20) والذين لا يثقون بعد في الجسد. هؤلاء قد وضعوا قلوبهم على الحياة الأبدية، إنهم يسلكون حسب قوانين السباق (2 تي 5:2)، فيتمتعون بالنصرة الكاملة والإكليل الأبدي.

هكذا يليق أن نقتدي بهم، ونسلك على منوالهم فنركض قانونيًا كأناس مجاهدين ناضجين، فلا نكون أطفالاً في الفهم بل رجالاً لنا خبرة عميقة (1 كو 6:2)، ننطق بالحكمة بين الكاملين، الناضجين في المعرفة المسيحية، حتى نبلغ الإنسان الكامل (أف 13:4)، نبلغ إلى النضوج المسيحي (عب 15:5).

"فليفتكر هذا"... ذكرت في الرسالة نحو عشر مرات, وعدد عشرة يعبر عن الكمال وأيضا المسئولية. مسئوليتنا أن يكون لنا الفكر الصحيح، فكر المسيح.

"جميع الكاملين فينا" المقصود بالكاملين هنا هم الناضجون روحيًا، الذين يجتهدون لكي يصلوا إلى حياة الكمال، وقد تعدوا مرحلة الطفولة الروحية.

"وإن افتكرتم شيئا بخلافه" لو انشغلتم بأمور أخرى ليست شريرة ولكنها تعطلكم في السباق الروحي، فماذا يكون الحل؟

"فالله سيعلن لكم هذا": فإن الله سيعلن لكم الحق بروحه الساكن فيكم.

أي شيء هو "هذا"؟إنه يلزمنا أن ننسي ما هو وراء. لذلك فإن من هو كامل لا يحسب نفسه كاملاً...

"الله سيُعلن لكم": أنظروا كيف ينطق بهذا التواضع! الله سيعلمكم، أي يحثكم وليس يعلمكم، لأن بولس يعلم، لكن الله يقودهم. وهو لم يقل "سيقودكم" بل "سيعلن لكم" كمن يُعلن لهم خلال جهلهم. نطق بهذا ليس بخصوص التعاليم (العقائد)، وإنما بخصوص كمال الحياة وعدم ظننا في أنفسنا أننا كاملون، لأن من يحسب نفسه أنه يدرك كل شيء لا يقتني شيئًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يتحدث الرسول عن نفسه أنه كامل وغير كامل. فيحسب نفسه غير كاملٍ، متطلعًا كم من برّ لا يزال ينقصه، لكنه كامل حيث لا يستحي من أن يعترف بعدم كماله وأنه يتقدم لكي يبلغ الكمال.

القديس أغسطينوس

"وأمّا ما قد أدركناه فلنسلك بحسب ذلك القانون عينه،

ونفتكر ذلك عينه".

لقد خشي الرسول على نفسه كما عليهم أنهم بعد أن قطعوا شوطًا ضخمًا في الركوض يفقدون ما تمتعوا به بعد استمراريتهم في ذات قوانين الركوض والسباق، فينحرفوا عن الخط الأبيض الموضوع لهم. فيليق بهم أن يفتكروا في هذا الخط وتتركز أنظارهم على المكافأة المجيدة المقدمة من الله بالمسيح يسوع.

"وأما ما قد أدركناه"، أي ما قطعناه من مشوار الحياة الروحية... ما سلكنا فيه في أمور روحية...وما وصلنا إليه بصعوبة بالغة، فلنحرص عليه.

"فلنسلك بحسب ذلك القانون"، أي لنسير جميعًا في درب الملكوت في صفوف منتظمة يحكمنا قانون السلوك الروحي، قانون الجهاد الروحي.

"ونفتكر ذلك عينه": نسير أيضًا بنفس الفكر حتى يكون لنا الفكر الواحد في الجهاد الروحي, كل حسب قامته، وكل حسب جهده.

يقول: لنتمسك بما نجحنا في نواله: الحب والاتفاق والسلام... انظروا فإنه يود أن يجعل من وصاياه قانونًا لنا، والقانون لا يُضاف إليه شيء ولا يُنقص منه، لأن هذا يفسد كقانون. "بحسب ذلك القانون عينه"، أي بذات الإيمان وفي داخل حدوده.

القديس يوحنا الذهبي الفم
3. المكافأة: مواطنة سماوية!

"كونوا متمثّلين بي معًا أيها الاخوة،

ولاحظوا الذين يسيرون هكذا

كما نحن عندكم قدوة".

يحسب الرسول نفسه أنه هو الخط الأبيض في أرضية السباق، فيلزمهم جميعًا أن يركضوا معًا في حدود الخط، مقتدين به وبالخدام الذين معه مثل تيموثاوس وأبفرودتس. قدم نفسه والخدام الأمناء أمثلة حية وقدوة. الآن يحذرهم من المعلمين الكذبة الأشرار. إنهم يحملون اسم المسيح لكنهم أعداء صليبه. ما يشغلهم هو التهود والتبرير بالطقوس اللاوية، لا بذبيحة المسيح. في تعاليمهم يؤمنون بالصليب، لكن في حياتهم يرفضونه ويقاومونه.

"كونوا متمثلين بي": نافسوا بعضكم بعضًا في الإقتداء بالرسول بولس, لماذا؟

أ- يود أن يوجه أنظارهم إلى المبادئ الروحية التي يكرز بها, ولاسيما إن الإنجيل لم يكن قدكُتب بعد، لذلك يضع الرسول أمامهم الأناجيل المُعاشة المقروءة، متمثلة فيه هو والقادة الروحانيين.

2- لأنه هو شخصيًا يتمثل بالمسيح.

"لاحظوا الذين يسلكون هكذا كما نحن": توجد أمور روحية يجب أن نلاحظها جيدًا ونتأملها, وتوجد أمور جسدية يجب أن نغض النظر عنها. هذه تبني وتلك تهدم. وهنا غيَّر بولس الحديث عن نفسه إلى الحديث عن المجموعة، وكذلك غيَّر الرسول الصورة الإستعارية من صورة السباق إلى صورة المسيرة.

قال قبلاً: "احذروا الكلاب"، إذ أراد أن يقودهم بعيدًا عنهم، الآن يحضرهم إلى أولئك الذين يود أن يتمثلوا بهم. إنه يقول: إن أراد أحد ان يتمثل بي، إن رغب أحد في أن يسلك ذات الطريق أن يلتفت إليَّ. فإني وإن كنت غير حاضر، لكنكم تعرفون أسلوب طريقي، أي سلوكي في الحياة. فإنه لم يعلمهم فقط بالكلمات، وإنما أيضًا بالأعمال. وكما في خورس (الموسيقي) وفي الجيش يلزم أن يتمثلوا بالقائد فيتقدموا. كان الرسل مثالاً يُحفظ في شكل نموذجي. لاحظوا كيف كانت حياتهم دقيقة، فيُحسبون نموذجًا ومثالاً وكقوانين حية. ما قالوه في كتاباتهم أعلنوه للكل بأعمالهم. هذا هو أفضل وسائل التعليم، بهذا يقدر المعلم أن يحمل تلميذه. أما إن تحدث كفيلسوف،بينما في تصرفاته يسلك في اتجاه مضاد، فلا يحسب بعد معلمًا. فالفلسفة النظرية سهلة حتى علي التلميذ، لكن الحاجة إلى التعليم والقيادة بالأعمال. هذا يجعل المعلم محترمًا ويهيئ التلميذ للخضوع بالطاعة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأن كثيرين يسيرون ممّن كنت أذكرهم لكم مرارًا،

والآن أذكرهم أيضًا باكيًا،

وهم أعداء صليب المسيح".

العجيب أن السيد المسيح يعلن أن قطيعه صغير (لو 32:12)، بينما المعلمون الكذبة كثيرون. هؤلاء يذكرهم الرسول باكيًا بمرارة، حزنًا على هلاكهم، وفي مرارة من أجل خداعهم للبسطاء.

من هؤلاء الذين يذكرهم الرسول باكيًا؟

1- المتهودون... وكيف صاروا أعداء الصليب؟

أ- نادوا بضرورة الالتزام بأعمال الناموس ولا سيما الختان.

ب- يريدوا أن يقيموا حاجزًا بين اليهود والأمم.

2- الغنوسيون... وكيف صاروا أعداء الصليب؟

أ- اعتقدوا أن المادة شر وخطية, وبما أن الجسد مادي، فإنه سيظل في شره وخطيته.

ب- بما أن الجسد سيظل في شره، لذلك دعوا أتباعهم إلى ارتكاب كافة الخطايا والشرور والآثام وترك العنان للجسد.

ج- نادوا بأن الإنسان كما يجرب الفضيلة وحياة الصلاح يجب أن يجرب الرذيلة وحياة الخطية.

"الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم،

ومجدهم في خزيهم،

الذين يفتكرون في الأرضيات".

"نهايتهم الهلاك":يحزن الرسول بولس على هلاكهم الأبدي، وقد اتسموا بصفات خطيرة:

أ."إلههم بطنهم": يقيمون من بطونهم آلهة يتعبدون لها، فلا يعيشون من أجل الأبدية،بل يشغلهم شبعهم ولذة الطعام. يفضلون شهوة الطعام على وصية الإنجيل، ويبحثون عن لذة المأكولات المختلفة ولا يشبعون، والمعتاد إن شيطان النهم يتبعه شيطان الزنا.

يرى العلامة أوريجينوسأن الإنسان في حاجة إلى ختان التذوق، حتى إذا أكل أو شرب، يأكل ويشرب لمجد الله (1 كو 31:10)، أما الإنسان غير المختون التذوق فإن إلهه بطنه، يكرس حياته للذة التذوق

ما هو شكل ذي الأربعة أرجل؟ رأسه منحنية نحو الأرض، يتطلع نحو بطنه، ويطلب ما هو لها. أما أنتياإنسان فرأسك تتجه إلى السماء، عيناك تنظران إلى فوق. لذلك عندما تحط من نفسك بشهوات الجسد، وتصير عبدًا لبطنك وإلى الأجزاء السفلية، تقترب من الحيوانات دون سبب، وتصير كواحدٍ منهم.

القديس باسيليوس الكبير

لأننا لا نعترف أنه يوجد إله آخر، فلا نفعل كالنهمين بالنسبة للبطن الذين آلهتهم بطونهم (أف 3: 19)، ولا كمحبي المال بالنسبة للفضة، ولا كالطامعين بالنسبة لعبادة الأوثان.

يجب علينا ألا نقيم إلهًا، ولاأن نؤله شيئًا من الذي يؤلهه الناس، ولكن لنا إله الذي هو فوق كل شيء، الله الذي هو "إله وأب واحد للكل، الذي علي الكل، وبالكل، وفي كلكم" (أف 4: 6).

وبما أن شغلنا الشاغل هو حب الله، إذ يربطنا الحب بالله، فسنقول: "ها قد أتينا إليك لأنك الرب إلهنا".

لذلك قال الرب لهم: "كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم، هكذا تعبدون الغرباء في أرض ليست لكم". أي أن كل إنسان يتخذ له إلهًا من أي شيء كان، فهو بذلك يعبد آلهة غريبة.

هل تُؤلّهِ المأكولات والمشروبات؟ فإن إلهك يكون بطنك (في 3: 19)

هل تحسب فضة هذا العالم وغناه خيرًا عظيمًا؟ إذًا المال هو إلهك، حيث قال عنه السيد المسيح أنه سيد الذين يحبون الفضة، حينما قال: "لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال، لا يقدر أحد أن يخدم سيدين" (لو 16: 12).

الذي يُقّدِر المال ويُعظِم الغنى حاسبًا أنه خير، والذي يُجلِس الأغنياء في صفوف الآلهة ويحتقر الفقراء، يؤله المال.

إذا كان يوجد في أرض الله، التي هي الكنيسة، أناس يعبدون آلهة غريبة بتأليههم لأشياء حقيرة، فسوف يطردون في أرض غريبة، وهناك في تلك الأرض الغريبة فليعبدوا آلهتهم التي كانوا يعبدوها وهم في داخل الكنيسة! فيُطرح الإنسان الجشع خارجًا، خارج الكنيسة! ويُطرح الإنسان النهم خارجًا، خارج الكنيسة!

سوف أقف هنا عند التفسير الرمزي، دون أن أتأمل كيف أن الله في عنايته، بعدما أقام شعبه عبادة في أرض غريبة (أرض الشيطان)، قام بطرده من أرضه الخاصة إلى الأرض التي كتب عنها: "اسمع يا إسرائيل. كيف صرت في أرض عدوّة؟ كيف حُسِبتَ ضمن الهابطين إلى الهاوية؟ أليس لأنك تركت الرب مصدر حياتك. لو كنت قد سلكت في طريق الرب لعشت في سلام إلى الأبد" (با 3: 9-13).

العلامة أوريجينوس

يحفظ جنس البشر بعمليّتين جسديّتين (الطعام والزواج)، يخضع لهما الحكيم والقدّيس كأمرين واجبين، وأما الجاهل فيندفع فيهما مقهورًا منقادًا بشهوته... كم من كثيرين يندفعون بشرَهٍ نحو أكلهم وشربهم ويجعلونهما كل حياتهم، كأنهم يعيشون لأجلهما. فبينما بالحق يأكل البشر فليعيشوا، إذا بهؤلاء يظنّون أنه يعيشون لكي يأكلوا. هؤلاء يمقتهم كل حكيم، وبخاصة الكتاب المقدس الذي يدين الشرهين والسكّيرين "الذين إلههم بطنهم". لا يدفعهم إلى المائدة حاجتهم للقوت بل شهوة الجسد، لذلك ينهمك هؤلاء في أكلهم وشربهم

القديس أغسطينوس

ليس من إنسان تحت هذه السماء يتربى على هذه الممارسات (كثرة الأكل الترف) يمكن أن يصير حكيمًا، مهما كانت عبقريته الطبيعية جديرة بالإعجاب... إنه كمن يدفن عقله في بطنه... أولئك الناس إيمانهم في بطونهم.

القديس إكليمنضس السكندري

يرى القديس إكليمنضس السكندري أن مناداة أفلاطون بعدم المبالغة في الطعام تقوم على معرفته بما فعله داود النبي مع شعب إسرائيل حين قسم على جميع الشعب رجالاً ونساء رغيف خبز واحد وكأس خمر وقرص زبيب (2 صم 6: 17، 19).

ب"مجدهم في خزيهم": مفاهيمهم خاطئة، فيرون في خزيهم وعارهم مجداً. يبررون الشر ويفتخرون به، ويفعلون الخطية ويتباهون بها متناسينأن الخطية عار.

يفتخر أناس بكونهم أبناء حكام، وبقدرتهم على إنزال بعض الكهنة من درجاتهم الكهنوتية، مثل هؤلاء يتعظمون ويتفخرون من أجل أمورٍ تافهةٍ لا طائل من ورائها، وبالتالي فإنه لا يوجد أدنى سبب لتعظمهم هذا. ويوجد من يفتخرون بأنهم يملكون سلطان إعدام الناس، ويفتخرون بأنهم قد حصلوا على ما يسمونه امتيازPromotion يمكنهم من الإطاحة برؤوس الناس: إن مجد هؤلاء الناس يكون في خزيهم (في 3: 19). وآخرون يفتخرون بغناهم، ليس الغنى الحقيقي، بل الغنى الأرضي... لا تستحق كل هذه الأشياء حتى أن توضع في الاعتبار، ولا يليق بنا أن نتفاخر بأي منها.

الأشياء التي تعطينا الحق في التعظم والتفاخر، هي أن نفتخر بأننا حكماء، أو أن نفتخر (بتعقّل) بأننا منذ عشر سنوات مثًلا لم نقترب من الملذات الجسدية والشهوات، أو لم نقترب منها منذ الطفولة؛ أو أيضًا حينما نفتخر بحمل القيود في أيدينا من أجل السيد المسيح، هذه أشياء تدعو للتفاخر عن حق، ولكن حتى هذه الأشياء أيضًا، فإذا حكَّمنا عقلنا بالحق، نجد أنه ليس لنا أن نتعظم أو نتفاخر بها.

كان لدى بولس الرسول ما يدعوه للتعظم بسبب الرؤى والإعلانات والمعجزات والعلامات وبسبب الآلام التي تحملها من أجل السيد المسيح، وبسبب الكنائس التي أقامها في أماكن كثيرة من العالم، في كل ذلك كان لديه ما يدعوه للتفاخر، وبحسب الأشياء الخارجية الظاهرة التي تدعو للفخر، كان سيبدو افتخاربولس الرسول شيئًا طبيعيًا بالنسبة للناس؛ ومع ذلك، وبما أنه من الخطر عليه أن يتفاخر، حتى بالنسبة لتلك الأشياء، فإن الآب في رحمته، كما أعطاه تلك الرؤى، أعطاه أيضًا على سبيل الرأفة به، ملاك الشيطان ليلطمه لئلا يرتفع؛ ومن أجل هذا الموضوع تضرع بولس إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقه، فأجابه الله: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل" (2 كو 12: 7-9)

1.الذين يفتكرون في الأرضيات لا يسمحون بتأسيس الأمور الجديدة، ولا للأمور القديمة أن تُطهر

2. نفوس الأبرار في يد الله (حك 1:3)، وأما الذين بين الأشرار فيحسبون كلا شيء

العلامة أوريجينوس

ج."يفتكرون في الأرضيات": ويتناسون أن محبة العالم عداوة لله. تنشغل أفكارهم دومًا بالماديات والأرضيات، لا موضع للروحيات والإلهيات في قلوبهم وأفكارهم. يعلق العلامة أوريجينوس علي وعد الله لإبراهيم: "وأكثر نسلك تكثيرًا كنجوم السماء، وكالرمل الذي علي البحر" (تك 17:22)، قائلاً بأن الكنيسة - نسل إبراهيم – تضم كثيرين يُقارنون بنجوم السماء في بهائهم الروحي. كما يوجد بها كثيرون يفكرون في الأرضيات (في 19:3)، وبسبب خطاياهمصاروا أثقل من رمل البحر.

3. ليس شيء مناقض وغريب عن شخص المسيحي مثل طلب الحياة سهلة والراحة. الاستغراق في الحياة الحاضرة غريب عن مهنتنا وتجندنا.

سيدك قد صُلب فهل تطلب الراحة؟

سيدك سُمر بالمسامير فهل تعيش في ترفٍ؟

هل هذه الأمور تقيم منك جنديًا شريفًا؟ لذلك يقول الرسول: "لأن كثيرين يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مرارًا، والآن أذكرهم أيضًا باكيًا، وهم أعداء المسيح". حيث وُجد البعض وقد تظاهروا بالمسيحية، وعاشوا في الطريق السهل والترف، وهذا مضاد للصليب. لهذا تكلم الرسول بهذا.

فالصليب يخص نفسًا في موقع معركة، تتوق أن تموت، لا تطلب شيئًا سهلاً...

هؤلاء وإن كانوا يقولون أنهم لا يزالوا للمسيح، إلا أنهم أعداء الصليب. فلو أنهم أحبوا الصليب لصارعوا كي يعيشوا الحياة المصلوبة.

أليس سيدك علي الصليب؟ لتقتدي به. أصلب نفسك ولو لم يصلبك أحد.

أصلب نفسك، لا بقتل نفسك، حاشًا، فإن هذا شر، بل كما قال بولس: "قد صُلب العالم لي، وأنا للعالم" (غل 14:6).

إن كنت تحب سيدك مُتْ موته!

تعلم عظمة قوة الصليب، وكم من الصالحات يحققها، وافعل هذه فهي أمان لحياتك.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"فإن سيرتنا نحن هي في السماوات،

التي منها أيضًا ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع المسيح" .

"فإن سيرتنا"أو موطننا أو جنسيتنا هي في السماويات، فنحن على الأرض غرباء راحلون، فكيف نلتصق بالأرضيات؟ إن كانت الجنسية الرومانية في ذلك الحين لها تقديرهاوامتيازاتهاالخاصة (أع 28:22)،فكم تكون الجنسية السماوية. من حقوق المتمتع بهذه الجنسية أن عدو الخير لن يقدر أن يلحق بنا أو يتسلل إلينا.

"لأن العدو قد طارد نفسي" (مز 3:143)... كيف يمكننا أن نفلت من هذه المطاردة؟ إن وجدنا موضعًا لا يقدر (الشيطان) أن يدخله. تسأل: وما هو هذا الموضع؟ أي نوع هو هذا الموضع سوى السماء؟ ولكن كيف يمكنني أن أصعد إلى السماء؟ أصغِ إلى كلمات بولس التي تكشف عن هذا، وقد التصق بجسدٍ كما نحن، فنقدر أن نحيا هناك. "فكروا في ما هو فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله" (راجع كو 1:3-2). وأيضًا: "طريق حياتنا يعبر في السماء" (راجع في 20:3)

القديس يوحنا الذهبي الفم

من يرفض هذا العالم يجب أن يؤمن بكل يقين أنه ينبغي أن يعبر بفكره منذ الآن بالروح إلى عالم آخر. هناك تكون سيرتنا ولذّتنا وتمتّعنا بالخيرات الروحيّة.

رئيس الشرّ الذي هو نفسه الظلام الروحي – ظلام الخطية والموت – وهو ريح عاصف، وإن كان خفيًا، فإنه يهز كل جنس البشر على الأرض، ويقودهم بالأفكار القلقة الطائشة، ويغوي قلوب الناس بشهوات العالم، ويملأ كل نفسٍ بظلام الجهل والعمى والنسيان، ماعدا أولئك الذين وُلدوا من فوق، وانتقلوا بقلوبهم وعقولهم إلى عالم آخر كما هو مكتوب أن مدينتنا هي في السماوات.

بالرغم من أنّنا على الأرض فإن "مدينتنا هي في السماوات". إذ فيما يخص العقل والإنسان الباطن نصرف وقتنا ونقوم بأنشطتنا في ذاك العالم. وكما أن العين الظاهرة – عندما تكون صافية – ترى الشمس دائمًا بوضوحٍ، هكذا العقل المُطهر تمامًا ينظر دائمًا مجد نور المسيح، ويكون مع الرب ليلاً ونهارًا.

هذا لا يمكن أن يتحقق إذا لم يجحد المسيحي هذا العالم ويؤمن بالرب بكل قلبه. في هذه الحالة تستطيع قوة الروح أن تجمع القلب المشتّت في الأرض كلها، وتأتي به غالبًا محبة الرب وتنقل الذهن إلى العالم الأبدي.

القديس مقاريوس الكبير

من أراد بالحقيقة أن يكون تابعًا لله يلزمه أن يمزق القيود التي تربطه بهذه الحياة. هذا يتحقق بالعزل الكامل ونسيان العادات القديمة. فما لم ننتزع أنفسنا من كل من الرباطات الجسدية والمجتمع الزمني وننتقل كما إلى عالم آخر خلال سلوك حياتنا، وكما قال الرسول: "هدايتنا في السماء "، يستحيل تحقيق هدفنا نحو مسرة الله. وكما قال الرب بصورة دقيقة: "فكذلك كل واحدٍ منكم لايترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذً (لو 14: 33). إذ نفعل هذا يلزمنا أن نلاحظ قلوبنا بكل يقظةٍ، ليس فقط أن نحذر لئلا نفقد فكر الله أو نلطخ ذكرى عجائبه بتخيلات باطلة، وإنما لكي نحمل أيضًا فكر الله المقدس مختومًا على نفوسنا، كختمٍ دائمٍ لا يُمحى، وذاكرة طاهرة.

الزهد هو حل رباطات هذه الحياة المادية الزائلة، وتحرر من الارتباطات البشرية حتى نهيئ أنفسنا بالأكثر لنكون على الطريق الذي يقود إلى الله. إنه الدافع الذي لا يُعاق لاقتناء بالخيرات النفيسة جدًا التي هي"أشهى من الذهب والحجارة الكريمة" (مز 19: 10) والتمتع بها. باختصار الزهد هو انتقال من القلب البشري إلى طريقة حياة سماوية، فيمكننا القول: "فإن هدايتنا نحن هي في السماوات". أيضًا إنه النقطة الرئيسية– هو الخطوة الأولى نحو التشبه بالمسيح، الذي وهو الغني افتقر لأجلنا (2 كو8: 9). فإن لم ننل هذا الشبه يستحيل علينا أن نبلغ طريق الحياة حسب إنجيل المسيح

بينما نسحب جسدنا على الأرض مثل ظل، نحفظ نفوسنا في صحبة الأرواح السمائية.

القديس باسيليوس الكبير

"بابل كأس ذهب بيد الرب تُسكر كل الأرض" (إر 28: 7). إن أردت أن تعرف كيف أنكلالأرض أصبحت سكرى بفعل كأس بابل، أنظر إلى الخطاة الذين يملأون الأرض كلها. لكنك قد تقول لي أن الأبرار لم يسكروا من كأس الخطاة، فكيف يقول الكتاب أن كل الأرض تسكر من كأس بابل؟ لا تظن أن الكتاب لا يقول الصدق حينما يقول ذلك، لأن الأبرار في الواقع ليسوا أرضًا (ترابًا)، وبالتالي فإن كل الأرض فقط أي الخطاة وحدهم هم الذين يسكرون. أما الأبرار، فبالرغم من وجودهم على الأرض إلا أن سكناهم في السماوات (في 3: 20). بالتالي لا يليق أن يقال للإنسان البار:"أنت تراب (أرض) وإلى التراب تعود"، بل سيقول له الرب، طالما أن ذلك الإنسان يلبس صورة السماوي (1 كو 15: 49): "أنت سماء وإلى السماء تعود". لذلك فإن كأس بابل لن يسكر إلا الذين مازالوا أرضًا.

البار ليس أرضًا (إر 28:7). فإنه وإن كان على الأرض، لكن دولته السماء. فلا يسمع: "أنت أرض، وإلى أرض تعود" (تك 19:3) بل بالأكثر يسمع: "أنت سماء وإلى سماء تعود، لأنك تحمل صورة السماوي" (1 كو 49:15)، وتقف ثابتًا

لتخرجوا من كل ما هو ليس مقدسًا ولا مكرسًا لله. نقول إننا نخرج لا من أماكن، بل من أفعال، ليس من أقاليم، بل من أساليب حياة. أخيرًا، نفس الكلمة التي تدعي "مقدسhagios" في اللغة اليونانية تعني أن الشيء خارج الأرض. لأن من يكرس نفسه لله يتأهل أن يظهر خارج الأرض وخارج العالم. يمكن لهذا الشخص أن يقول وهو سالك علي الأرض "لنا طريق حياة في السماء".

يُقال عن النفس التي تخطيء: "من شعب الأرض" لأن هذا القول لا ينطبق علي ذاك الذي يقول: "محادثتنا في السماء التي منها أيضًا تنتظر مخلصًا هو الرب يسوع"، لذلك كيف يمكنني بحق أن أدعو هذه النفس: "من شعب الأرض" هذه التي ليس لها شركة مع الأرض، بل هي بالكامل في السماء، تقطن فيها حيث المسيح جالس عن يمين الله (كو 1:3). والتي تشتهي العودة لتكون مع المسيح. فإن هذا أفضل، لكنها تلزم أن تبقي في الجسد لحسابنًا

العلامة أوريجينوس

قلوب المؤمنين هي سماء، يرفعونها يوميًا إلى هناك عندما يقول الكاهن: "ارفعوا قلوبكم"، فيجيبون: "رفعناها عند الرب". وبكلمات الرسول: "مواطنتنا هي في السماء". إن كانت مواطنة المؤمنين هي في السماء، فإنه إذ تكون فيهم المحبة الحقيقية، فإن جذر المحبة يُغرس في السماء. علي النقيض فإن جذر الطمع الذي في قلوب المتكبرين مغروس في جهنم، لأن هؤلاء يطلبون دومًا المقتنيات الأرضية، ويميلون إليها، ويحبونها،ويضعون كل رجائهم في الأرض

الأب قيصريوس أسقف أرل

"الذي سيغيّر شكل جسد تواضعنا،

ليكون على صورة جسد مجده،

بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء" .

لقد سبقنا الرأس السماوي وقد حمل طبيعتنا فيه، هذه التي تقدست وتمجدت بقيامته وتهيأت للسماء، حتى إذ نحمل صورة جسد مجده نعبر به ومعه إلى موطننا السماوي. هذا ما يتحقق في يوم الرب العظيم، حيث نقوم بأجساد على صورة جسد المسيح القائم من الأموات. فكما لبسنا صورة آدم الترابي سنلبس صورة آدم الروحاني، فننعم بالجسد الروحاني (1 كو 15: 42-44).الآن ننال القيامة الروحية لنفوسنا كعربون لقيامة الجسد (رو 11:Cool.

"سيغير"... هذا يذكرنا بجسد السيد المسيح الذي تغير على جبل طابور.

"جسد تواضعنا"... المسيحية لا تحتقر الجسدبل كرمت الجسد جدًا, فبعدتجسد كلمة الله نال الجسد كرامة ما بعدها كرامة. الجسد شريك للروح في رحلة العمر والجهاد لذلك سيشاركها في المجد.لكن لماذا يدعوه الإنجيل جسد تواضعنا؟ لأنه يتعرض للضعف والمرض والسقوط.

"ليكون على صورة مجده"... سيتغير جسد تواضعنا ليصبح مثل جسد المسيح بعد القيامة الذي خرج من القبر وهو مغلق.

"بحسب عمل استطاعته"... إنه يستطيع هذا فقد قام من بين الأموات بذاته وفي اليوم الأخير يقيمنا.

في حديث القديس هيلاري أسقف بواتييه عن الثالوث القدوس يشير إلى هذه العبارة: "يخضع لنفسه كل شيء"،موضحًا أنه يُخضع العدو إبليس تحت قدميه، ويخضع الموت حيث يهب الخلود نازعًا سلطان الموت، كما يخضع الطبيعة البشرية فيبطلها لا ليفني الإنسان بل لكي ما تُبتلع طبيعته في طبيعة جديدة مجيدة.

4. في خضوع أعدائه ينهزم الموت، وإذ ينهزم الموت يتبعه الخلود. يخبرنا الرسول هنا أيضًا عن مكافأة خاصة تُوهب خلال هذا الخضوع، إذ يتحقق خضوع بخضوع الإيمان. إذن يوجد خضوع آخر يحقق التحول من طبيعة إلى طبيعة أخري. إذ تبطل طبيعتنا من جهة حالها الذي نحن عليه الآن، وتخضع له فتصير علي شاكلته. بالإبطال لا يعني نهاية وجودها، وإنما تقدمها إلى حالٍ أسمى، هكذا تدمج في صورة الطبيعة الأخرى التي تنالها، فتخضع لشكلٍ جديدٍ... إننا نخضع لمجد قانون جسده.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

يقول "جسد تواضعنا"، لأنه الآن متواضع، خاضع للهلاك وللألم، ويبدو كما بلا قيمة، ليس فيه شيء أسمى من الحيوانات الأخرى. "ليكون علي صورة جسد مجده".

ما هذا؟ هل سيشكل جسدنا علي مثاله، ذاك الجالس عن يمين الآب، والمسجود له من الملائكة، والذي تقف أمامه القوات غير المتجسدة، ذاك الذي أعلى من كل نظام وسلطان وقدرة؟

ألا يستحق النحيب، إذ يبكي العالم كله وينتحب الذين سقطوا من هذا الرجاء؟ فإنه إذ أعطي الرجاء في جسدنا أن يصير على مثاله لا يزال يسير مع الشياطين؟ لست أبالي بجهنم هناك، فمهما قيل عنها فإن السقوط من مجدٍ عظيمٍ هكذا الآن وفيما بعد تحسب جهنم كلا شيء بالنسبة لهذا السقوط.

"بحسب استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيءٍ". يقولأن لديه استطاعة أن يخضع كل الأشياء لنفسه، حتى الدمار والموت... لقد أظهر أعمالاً أعظم لسطانه لكي تؤمن بها أيضًا... رجاؤنا هذا (أي التمتع بصورة مجده) فيه الكفاية أن يقيمنا من بلادتنا العظيمة وخمولنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

كل الذين يأتون إليه ويرغبون في أن يصيروا شركاء في الصورة الروحية بتقدمهم يتجددون كل يوم في الإنسان الداخلي (2 كو 16:4)، ذلك حسب صورة خالقهم، حتى يصيروا علي شبه جسد مجده، ولكن كل واحد حسب قدراته.

العلامة أوريجينوس



من وحي فيلبي 3
أنت هو ينبوع فرحي!

في وسط آلامي أراك حاملاً الصليب.

فتتهلل نفسي لشركة آلامك .

وفي خدمتي لإخوتي أراك خادم الجميع.

فأشتهي أن أُبذل معك بكل سرور.

أنت هو ينبوع فرحي.

أعبدك، لا في شكليات باطلة،

بل بالروح والحق أثبت فيك وأنت فيٌ.

تجدد طبيعتي بروحك القدوس،

فأحمل دومًا طبيعة مفرحة.

أجد فيك كفايتي.

وبك أتبرر أمام الله أبيك!

تتهلل نفسي أن تفيض عليٌ بمعرفة أسرارك.

وتدخل بي إلى حجالك.

اختبر وسط الآلام قوة قيامتك.

وترفع نفسي كما إلى سماواتك.

هناك احتمي فيك،

فلن يقدر العدو أن يتسلل إليٌ!

ولا تقدر فخاخه أن تصطادني.

حولت حياتي إلى سباقٍ مفرحٍ.

أنسى علي الدوام ما مضى،

مشتهيًا أن أبلغ إليك بروح النصرة.

أنت إكليلي ونصرتي الأبدية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي   تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Icon_minitimeالثلاثاء نوفمبر 30, 2010 2:36 am

الاصحاح الرابع

فرح في كل حين

بعد هذا الحديث الشيق عن فرح الأسير بولس، معلنًا أنه ليس من سجن، ولا من تخطيط الأشرار ضده، ولا من غضب الإمبراطور يقدر أن ينزع فرحه الداخلي منه، لذا ختم رسالته عن الفرح الدائم. قدم لنا مقومات هذا الفرح، كما أوضح أنه فرح كنسي شعبي مشترك.

1. مصدر الفرح1-4.

2. سرّ الفرح5-9.

أ. عدم الارتباك بشيءٍ.

ب. صلاة عن كل شيءٍ.

ج. شكر من أجل كل شيءٍ.

3. فرح مشترك عملي10-20.

4. تحية ختامية21-23.
1. مصدر الفرح

"إذًا يا إخوتي الأحبّاء والمشتاق إليهم،

يا سروري وإكليلي،

اثبتوا هكذا في الرب أيها الأحبّاء".

"إذًا": تربط ما بعدها بما قبلها. وبما أنكم يا إخوتي الأحباء تنتظرون مجيء الرب فلابد أن تثبتوا في الرب حتى النفس الأخير.

في وسط السباق يثبت المؤمن في المسيح المصلوب لكي لا ينحرف يمينًا أو يسارًا، ولا يمكن لكائنٍ أو لحدثٍ أو لظرفٍ ما أن يسحب عينيه عن الجعالة العليا، بل يحيا في السماويات، ويمارس مواطنته فيها. هذه العلاقة الشخصية مع محب البشر تفتح قلبه ليتمثل بمخلصه، فيحمل إخوته في قلبه بالحب ليجد فيهم سروره وإكليله، لكن ليس خارج مخلصه.

إذ يتحدث الرسول عن سباق وجهاد معركة يدعو المؤمنين إخوته الأحباء المشتاق إليهم ليسندهم بالحب والحنو. ففي وسط الآلام يحتاج الإنسان إلى مساندة المخلصين له في الرب.

يدعوهم سروره وإكليله، ليس فقط لأنه بخلاصهم يتمتع بإكليل سماوي من أجل محبته وجهاده لأجلهم، وإنما كأبٍ حقيقيٍ يرى في سرورهم الأبدي سروره، وفي تمتعهم بالإكليل السماوي تمتعه هو به.

ما يبهج قلبه أن يكون هو آخر الكل، حتى في السماء، فيفرح بسموهم وسرورهم وإكليلهم. لهذا يوصيهم: "اثبتوا هكذا في الرب أيها الأحباء"، لأن ثبوتهم هذا كأنه ثبوته هو في الرب!

الحب، هو ذروة كل فضيلة بالنسبة للمسيحي، لا يتحقق كما يليق إن لم يثبت المؤمنون متحدين معًا كشخصٍ واحدٍ، يفكرون معًا في توافقٍ. هذا ما عناه الرسل هنا بقوله: "اثبتوا هكذا في الرب أيها الأحباء". لنفهم أنه يود منهم أن يتحدوا في الفهم، إذ بالحقيقة يدعوهم "إخوتي الأحباء جدًا". الحب المشترك هو ثمرة التفكير المتناسق والوقوف معًا في المسيح. حينما يكون للكل إيمان متساوي في المسيح، فنقف جميعًا معًا فيه.

الأب ماريرس فيكتورينوس

انظروا كيف يضيف مديحًا لهم بعد التحذير. "يا سروري وإكليلي". لم يقل فقط "سرور"، بل ومعه "مجد". ليس فقط "مجد"، وإنما أيضًا "إكليلي". أي مجد يمكن أن يعادل ذلك، إذ هو إكليل بولس.

القديس يوحنا الذهبي الفم

افتخر الحكيم جدًا بولس بالذين دُعوا بواسطته، قائلاً: "يا سروري وإكليلي"، أما التلاميذ فلم يقولوا شيئًا من هذا، ولكنهم فرحوا فقط بسبب أنهم استطاعوا أن يسحقوا الشيطان (لو 10: 17).

القديس كيرلس الكبير

"أطلب إلى أفوديّة،

وأطلب إلى سنتيخي،

أن تفتكروا فكرًا واحدًا في الرب".

بعد أن قدم الرسالة باسم الكنيسة كلها، شعبًا وكهنة، أوصى أشخاصًا معينين، غالبًا لهم دورهم القيادي. بدأ بسيدتين هما أفودية وسنتيخي، كانتا على خلاف إما فيما بينهما أو بينهما وبين الكهنة أو الخدام. ويرى البعض أنهما كانتا شماستين في كنيسة فيلبي. يسألهما أن تتحدا معًا في الفكر في الرب، وأن تعيشا في سلام الرب وفي محبته. يدعوهما للوفاق حتى تتمتعا مع أهل فيلبي بفرح المسيح.

معنى كلمة أفودية "رحلة مؤقتة" ومعنى سنتيخني "سعيدة الحظ"، وهما عملتا مع بولس في خدمة الإنجيل كغيرهما غير إنه وقع الاختلاف بينهما وعطلتا عملهما.

يطلب من هاتين السيدتين أن تلتزما بالفهم المشترك في الرب. يلزمهما خلال إيمانهما في المسيح أن يكون لهما التفكير والفهم لما يقوله الإنجيل عن المسيح. لكنه يقول "أطلب"، لأن هذا لنفعهما؛ "إنني لست أصدر أمرًا بل أطلب".

الأب ماريرس فيكتورينوس

"نعم أسألك أنت أيضًا يا شريكي المخلص،

ساعد هاتين اللتين جاهدتا معي في الإنجيل

مع إكليمنضس أيضًا،

وباقي العاملين معي الذين أسماؤهم في سفر الحياة" .

هنا يوجه حديثه غالبًا إلى تلميذه تيموثاوس أو سيلا (أع 15: 40؛ 19:16) اللذين خدما معه في فيلبي، أو أسقف فيلبي والمسئول عن رعاية الكنيسة فيها.

كما اشترك معه في الخدمة فليشترك في حمل النير، فيسند هاتين الشماستين. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هاتين السيدتين كان لهما دورهما القيادي في الكنيسة، وفي خدمة الإنجيل مع إكليمنضس وباقي العاملين مع الرسول بولس.

يلاحظ أن أول الذين قبلوا الإيمان في فيلبي سيدة، وهي ليدية بائعة الأرجوان (أع 14:16)؛ وربما كانت هاتان الشماستان من بين الحاضرات عند النهر حيث يقول الإنجيلي لوقا: "كنا نكلم النساء اللواتي اجتمعن" (أع 13:16)، ومن بين هؤلاء النساء من آمن، وربما اختيرت هاتان السيدتان للعمل كشماستين تخدمان كلمة الرب وسط النسوة.

كما طالبه الاهتمام باكليمندس الذي صار فيما بعد أسقفًا على روما، وله رسالة موجهة إلى أهل كورنثوس، سبق لي ترجمتها ونشرها.

أيضًا يسأله بصفة خاصة أن يهتم بالخدام العاملين مع الرسول بولس الذين لم يذكر أسماءهم هنا، لكن أسماءهم مسجلة في سفر الحياة بالروح القدس.

كان من الضروري أن يسجل يسوع المسيح (عند ميلاده) اسمه في إحصاء كل العالم. سُجل مع كل أحد، وقدَّس كل أحد. لقد ارتبط مع العالم في الإحصاء، وقدم للعالم أن يرتبط به. بعد الإحصاء استطاع أن يسجل أسماء أولئك الذين من كل العالم "في سفر الحياة" معه. من يؤمن سينقش اسمه مؤخرًا في السماء مع القديسين.

العلامة أوريجينوس

افرحوا في الرب كل حين،

وأقول أيضًا افرحوا".

إذ يشير إلى علاقة الأسقف بالخدام والخادمات يسأل جميع العاملين أن يمارسوا الفرح الدائم في الرب. مؤكدا ضرورة الفرح، إذ هو طريق الخدمة الروحية الناجحة. المسيح هو فرحنا الحقيقي، فيه نجد حياتنا وقيامتنا وشبعنا ومجدنا، وبالتالي فرحنا الدائم. وإذ لا يستطيع أحد ولا حدث ما أن يعزلنا عنه، لا يمكن أن يُنزع فرحنا من داخلنا.

من يلصق فرحه بالزمنيات يفقد فرحه مع تغير الظروف والأحداث، ومن يربط فرحه بثبوته في المسيح يتمتع بالفرح الدائم فيه.

"افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضا افرحوا"يعود الرسول في نهاية الرسالة ويؤكد أن هدف الرسالة هو الفرح, أفراح الملكوت مستمرة في كل حين... في السعة وفي الضيق، في الراحة وفي الشقاء، في الظروف السعيدة وفي الظروف التعسة، في الغنى العظيم وفي الفقر المدقع، في الصحة التامة وفي المرض القاتل. أفراح الملكوت تمنح القوة لمواجهة المشاكل والآلام.

يطوب (السيد المسيح) الذين ينوحون ليس علي فقدانهم أقربائهم، وإنما الذين تنخسهم قلوبهم، الذين يحزنون علي أخطائهم ويهتمون بخطاياهم أو بخطايا الآخرين. أما الفرح هنا فليس مضادًا لهذا النوح إنما يتولد منه. لأن من يحزن علي خطاياه ويعترف بها يفرح. علاوة علي هذا يمكننا الحزن علي خطايانا مع الفرح في المسيح.

لقد عانوا من الآلام: "لأنه قد وُهب لكم... لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألموا لأجله" (29:1)، لهذا يقول لهم: "افرحوا في الرب". هذا يعني إن أظهرتم مثل هذه الحياة تفرحون. أو عندما لا تُعاق شركتهم مع الله تفرحون...

إن كانت الجلدات والقيود التي تبدو أكثر الأمور خطورة تجلب فرحًا، فأي شيء يمكنه أن يسبب لنا حزنا؟

"وأقول أيضًا افرحوا"، حسنًا يكرر القول. لأن طبيعة هذه الأمور تجلب حزنًا، لذا بتكراره يؤكد الالتزام بالفرح بكل وسيلة.

الفرح الحقيقي هو فرح الحياة الأخرى، حيث لا تتعذب النفس، وتتمزق الشهوة بسعادة المسيحي سعادة حقيقية وليست بلذة محمومة، إنها تعطي الحرية للنفس وهي حربة جذابة وغنية باللذات الحقيقية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

عندما تتحدون قلبيًا تفرحون في الرب، وعندما تفرحون في الرب تتحدون قلبيًا معًا في الرب.

الأب ماريرس فيكتورينوس
2. سرّ الفرح

"ليكن حلمكم معروفًا عند جميع الناس،

الرب قريب".

كلمة "الحلم" هنا تحمل معنى اللطف وطول الأناة والرقة في التعامل وعدم الجدال الجاف والإذعان للغير، فهي تعبير عام شامل كما يقول آدم كلارك.

الإنسان الحليم يأخذ في اعتباره الآخرين فلا يتصلف في آرائه، بل يسمع وينصت ويقدر الرأي الآخر مادام في الرب.

بقوله: "الرب قريب" يكشف أن ما يمارسه الخادم أو المؤمن من حلم ينال مكافأته سريعًا من الرب نفسه الوديع والمتواضع القلب. إنه قادم سريعًا ليكافئ من شاركوه سماته، وحملوا صليبه بفرحٍ.

"الرب قريب"... هذه الحقيقة هي حصانة لكل نفس ضد الخطية، لأنه مادام الرب قريب فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إليه؟

سبق فقال: "آلهتهم بطونهم، ومجدهم في خزيهم" (في 19:3). فيُحتمل أنهم أرادوا ان يدخلوا في عداوة مع الأشرار، لهذا يحثهم ألا تكون لهم شركة معهم، بل يلزمهم أن يحتملوهم بكل حلمٍ، يحتملوا ليس فقط إخوتهم بل وأعداءهم والمقاومين لهم.

الرب قريب، فليس من مجالٍ للقلق... هل ترون (الأشرار) يعيشون في ترفٍ وأنتم في ضيق؟ الدينونة قريبة، وقريبًا سيعطون حسابًا عن أعمالهم... ستنتهي الأمور قريبًا.

هل يخططون ضدكم ويهددونكم؟ "لا تقلقوا في أي شيء". فإنك أن تعاملت برفقٍ مع الذين يدبرون شرورًا، فإن هذا ليس لنفعهم (ماداموا لم يتوبوا). المكافأة علي الأبواب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ يطالبهم الرسول أن يكون حلمهم معروفًا عند جميع الناس، لا يبغي مدحهم من الناس، وإنما أن يكونوا قدوة للغير. ليس شيء يجتذب النفوس للإيمان مثل طول أناة المؤمنين وحلمهم.

إنهم يطوَّبون ليس فقط عندما يمارسون الأعمال الصالحة، وإنما أيضًا يُلهمُون الآخرين لفعل الأعمال الصالحة.

الأب أمبروسياستر

"لا تهتمّوا بشيء،

بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر،

لتُعلم طلباتكم لدى الله".

قد يظن الإنسان أن وصية الحلم أو الوداعة وطول الأناة صعبة، خاصة حيث يوجد مقاومون، لكن انتظار مجيء الرب القادم سريعًا ينزع عن النفس أي قلق أو ارتباك. أما سلاح المؤمن في ذلك فهو الصلاة مع الدعاء والشكر، فيستجيب الرب لطلبة الإنسان المصلي الشاكر!

الرب وحده هو المعين الحقيقي، فلنلجأ إليه بالصلاة والطلبة بغيرة (دعاء)، مع الشكر على عطاياه فيهب أكثر ويسند ويعين. هنا يربط الرسول عدم القلق بالصلاة والطلبة والشكر.

"لا تهتموا بشيء"... ليس معنى هذا أن نسلم أنفسنا للإهمال والكسل، ولكن القصد طرح هموم الحياة عنا، وإن لا نتحزب أو نرتبك أمام هموم الحياة والتجارب المختلفة، لأن سلام الله قادر أن يحفظ قلوبنا "بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر". الصلاة هي الطريق الوحيد إلى الراحة الحقيقية, وفي كل مرة نصلي بإيمان نشعر إن الله قريب منا يسمعنا ويستجيب دعاءنا. الصلاة تشمل التسبيح والسجود والشكر والطلب، أما الدعاء فهو الطلب، وكليهما يجب أن يقترنا بالشكر لأن تقديم الشكر يسر الله ويريح قلوبنا.

"لتُعلم طلباتكم لدى الله"... الله يعلم كل شيء، ولكن المقصود هنا استجابة الطلبات سواء بالإيجاب أو الرفض أو الانتظار.

أنظروا تعزية أخرى، هوذا دواء يعالج الحزن والكآبة، وكل ما هو مؤلم, ما هو هذا؟ الصلاة والشكر في كل شيء. إنه يرى ألا تكون صلواتنا طلبات مجردة، وإنما أن تكون تشكرات أيضًا علي ما لدينا. إذ كيف يمكن أن يطلب الإنسان أمورًا مقبلة وهو غير شاكرٍ علي الماضي؟... يلزمنا ان نشكر عن كل شيء، حتى عن تلك التي تبدو خطيرة، فإن هذا هو دور الإنسان الشاكر. في الحالات الأخرى (المفرحة) تتطلب طبيعة الأمور الشكر، أما هنا فالشكر ينبع عن نفس شاكرة وعن إنسان في غيرة منجذب نحو الله.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لا تقلقوا من جهة أنفسكم. لا تدعوا الأفكار غير الضرورية والارتباك بخصوص العالم والأمور الزمنية أن تحل بكم. فإن الله يمدكم بكل ما تحتاجون إليه في هذه الحياة، وستكونوا في حال أفضل في الحياة الأبدية.

الأب ماريرس فيكتورينوس

"وسلام الله الذي يفوق كل عقل،

يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع".

سلام الله هو عطية مجانية مقدمة للنفس التي تلقي رجاءها عليه فلا تضطرب، بل في وقت الضيق تصلي وتطلب وتشكر أيضًا. فتنفتح أبواب السماء ويفيض عليها السلام الإلهي الفائق للعقل، والقادر وحده أن يحفظ القلب والفكر في المسيح يسوع.هذا السلام الإلهي الداخلي يهب الإنسان نوعًا من التناغم بين النفس والجسد، وبين العقل والقلب، وبين الإرادة والسلوك، فيحيا المؤمن بلا صراعات داخلية، لأن روح الله يهبه وحدة داخلية فائقة. فلا تقدر خطية ما أن تتسلل إلى أعماقه لتفسد سلامه، ولا يقدر عدو الخير أن يقترب إليه، لأنه لا يحتمل النور الإلهي السماوي.

"وسلام الله الذي يفوق كل عقل" عندما يُقبل الخاطي إلى المخلص يحصل على "السلام مع الله", ثم يعيش حياة الإيمان، فيختبر "سلام الله الذي يفوق كل عقل". فالسلام المنسوب لله نفسه نحن منتسبون إليه أيضًا، وهو ملجأنا. فإننا نضع طلباتنا لديه عارفين إنه يسمع لنا, وإنه يتكفل بكل ما يخصنا, وهذا يعزي قلوبنا ويريحها ولو لم نحصل على جواب حسب فكرنا البشري. فنحن كثيرا ما نصرخ إليه من أجل ضيق خاص أو سببٍ مكدرٍ, ونحصل على السلام الكامل مع أن الشيء الذي طلبنا إزالته باق بعد، إذ يرفعنا فوقه ولا يقدر أن يكدرنا. هكذا بقيت شوكة بولس كما هي ولكنها لم تقدر أن تكدر راحة بولس.

سلام الله الذي يهبه للبشر يفوق كل فهمٍ. لأنه من يستطيع أن يتوقع، ومن يستطيع أن يترجى أن مثل هذه الصالحات تحدث؟ إنها تفوق كل فهم الإنسان وليس فقط كلماته. لم يرفض أن يبذل ابنه من أجل أعدائه والذين يبغضونه والذين أصروا أن يتركوه وذلك لكي يصنع سلامًا معنا. هذا السلام، الذي هو المصالحة، حب الله، يحفظ قلوبكم وأفكاركم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

اتسم الرسول بمحبته الشديدة لشعبه، لا يكف عن التعبير عن محبته لهم بكل وسيلة، تارة بالتشجيع وأخرى بالنصح، ودومٍا بالصلاة عنهم. هنا يطلب لهم السلام الإلهي الذي يففوق كل عقلٍ.

هذا هو دور المعلم، ليس فقط أن ينصح بل أيضًا يصلي لكي بالطلبات يسندهم حتى لا يُهزموا بالتجارب ولا يُخدعوا. كأنه يقول: ليت ذاك الذي وهبكم مثل هذا النوع من الفكر الذي لا يُدرك، هو نفسه يحفظكم ويجعلكم في أمان، حتى لا يصيبكم شر. إما أنه يقصد هذا أو يقصد ذاك السلام الذي قال عنه المسيح: "سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم" (يو 27:14)، هذا السلام يحفظكم، إذ يفوق فهم الإنسان.

ماذا يعني: "في المسيح يسوع"؟ إنه يحفظنا فيه حتى تبقوا ثابتين، ولا تسقطوا من إيمانه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

عندما يحل سلام الله علينا ندرك الله. ولا يكون للخلاف ولا للتنافر ولا للنزاعات موضع، ولا يوجد شيء موضع تساؤل. هذا أمر صعب في الحياة العالمية. لكنه يتحقق عندما يكون لنا سلام الله حيث يصير لنا الفهم. لأن السلام هو حالة تمتع فعلي بالراحة والأمان.

الأب ماريرس فيكتورينوس

"أخيرًا أيها الإخوة كل ما هو حق،

كل ما هو جليل،

كل ما هو عادل،

كل ما هو طاهر،

كل ما هو مُسر،

كل ما صيته حسن،

إن كانت فضيلة وإن كان مدح،

ففي هذه افتكروا".

إذ يملك الرب في الداخل ويقيم سلامه الفائق تتحول طاقات الإنسان كلها للتأمل والتفكير فيما هو للرب وحده.

"أخيرا أيها الإخوة": أخيرا تشير هنا إلى قرب انتهاء الرسالة.

ماذا يعني "أخيرًا"؟ إنها تُستخدم بمعني: "لقد قلت كل شيء". إنها كلمة ينطق بها من كان مسرعًا، وليس له أن يفعل شيئًا في الأمور الحاضرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

وضع الرسول عدة بوابات يعبر عليها أي فكر لتحدد إن كنا نقبله أو نرفضه وهذه البوابات الست هي:

1- الحق. 2- الجلال والوقار. 3- العدل.

4- الطهارة. 5- السرور والفرح. 6- السمعة الحسنة.

يُعلمنا عن مكان العريس ومسكنه. إنه لا يحل في النفس البعيدة عن الفضيلة, فإذا أصبح أي شخص إناءً للعطور، يخرج منه مختارات من المرّ يصير كوبًا للحكمة التي تستقبل خمر الفرح النقية.

تعلمنا كلمات النشيد الآتية عن التغذية التي يُقدمها الراعي الصالح لرعيته فلا يدع غنمه تدخل الصحراء أو الأماكن الممتلئة بالأشواك لترعى، بل يقدم التوابل العطرة بالجنة كغذاء (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). وبدلاً من مرعى العشب يجمع لها الراعي السوّسن لتغذيتها.

يعلمنا كلمة الله الأمثلة، لأننا نرى أن طبيعة القوة المهيمنة على كل شيء ترتب مكانًا لهؤلاء الذين يستقبلونه بنقاءٍ وطهارةٍ. وهم يملكون حديقة مليئة بنباتات كثيرة مختلفة مزروعة بالفضائل. ويُنميهم العريس بقوة بواسطة السوّسن المزدهر، ويمتلئون بثمار التوابل العطرة.

يرمز السوّسن للفكر النقي المضيء ورائحته الجميلة لا تتفق مع رائحة الخطية الرديئة. تقول العروس أن السيد يعرف خرافه الروحية، ويغذيها في حدائقه ويجمع السوّسن ليغذي به غنمه.

يختار لنا بولس العظيم السوّسن لغذائنا من بيت الغذاء المقدس: "كل ما هو حق، وكل ما هو جليل، وكل ما هو عادل، وكل ما هو طاهر، وكل ما هو مسر وكل ما هو حسن الصيت، وكل ما كان فيه فضيلة وخصلة حميدة" (في 8:4). هذا هو في رأيي السوّسن الذي يغذى به الراعي الصالح والمعلم العظيم قطيعه.

القديس غريغوريوس النيسي

"كل ما هو حق" – ما هذه الأمور التي هي حق؟ إنها تلك التي بيَّنها الإنجيل: يسوع المسيح ابن الله، وكل ما يدور حول الأخبار السارة. عندما تكون أفكارك حق يتبع ذلك أنها تكون جليلة. ما هو حق لا يكون فاسدًا، وهذا يعني أنها مكرمة. ما هو ليس بفاسدٍ هو حق. لذلك ما هو حق وجليل هو أيضًا عادل أو يحقق العدالة. وما هو عادل فهو طاهر، إذ يتقبل التقديس من الله. كل ما هو عادل وجليل وحق وطاهر فهو مسر (محبوب) ولطيف. لأنه من لا يحب هذه الفضائل المقدسة؟... تتعلق بعض البنود من هذه القائمة بالفضيلة الحقيقية ذاتها، بينما البنود الأخيرة تخص ثمر الفضيلة. ما يخص الفضيلة هو الحب والحق والكرامة (جليل) والعدل والطهارة. وما يخص ثمر الفضيلة أنه مسر ولطيف

الأب ماريرس فيكتورينوس

"كل ما هو حق": فحيث لا موضع للخطية، ولا للباطل يتجلى الحق الإلهي في النفس والفكر. فيصير فكر الإنسان عرشًا للسيد المسيح القائل: "أنا هو الحق"، ولن يقبل أن يكون ملهي لإبليس وأفكاره الباطلة. يقصد ب "كل ما هو حق" جميع الجوانب المرتبطة بالحق، الحق في كل شيء في الفكر والكلام والتصرف بحسب وصية الإنجيل أي في الأمور التي تفيد روحيًا ولا تحزن قلب الله أو الإنسان نفسه أو الآخرين.

القديسون دائمًا متهللون جدًا أن يروا ثمار الحق عمليًا.

هيلاري أسقف آرل

إن حصنا أنفسنا بذلك، إن منطقنا أحقاءنا بالحق، لا يقدر أحد أن يغلبنا. من يطلب تعليم الحق لن يسقط على الأرض.

القديس يوحنا الذهبي الفم

المسيح ليس فقط هو الله، بل بالحقيقة الله الحق، إله حق من إله حق، إذ هو نفسه الحق.

القديس أمبروسيوس

"كل ما هو جليل":إذ يدرك المؤمن مركزه كابن لله لا يستطيع أن يفكر إلا فيكل ما هو لائق بكرامته في الرب، أي فيما يتسم بالجلال والوقار، الأشياء ذات المهابة والقداسة وليس في الأشياء التافهة. إذ نلنا حرية مجد أولاد الله (رو 8: 21)، فلا نفكر ولا نعمل إلا بما يليق بمركزنا الجديد في الرب، مجدنا الداخلي. وكما يقول الرب نفسه: "وأكون مجدًا في وسطها" (زك 5:2).

الذين يستنيرون يتقبلون ملامح المسيح... فإنه حتما يُطبع على كل واحد منهم شكل الكلمة وصورته وملامحه حتى يُحسب المسيح مولودًا في كل واحدٍ منهم بفعل الروح القدس... ويصير الذين يتعمدون مسحاء آخرين.

الأب ميثوديوس

"كل ما هو عادل":يؤدي العدل الحق الواجب نحو الله والناس بأمانة وإخلاص. فلن يقدر فكر ما ضد الآخرين أن يعبر بأولاد الله المقدسين فيه. لأنه حيث يملك الحب لا يقدر الظلم أو البغضة أن تتسلل.

لقد أُعطي لنا الغضب لا لنرتكب أعمالاً عنيفة ضد إخوتنا، بل لكي نصلح من شأن الساقطين في الخطية بالعمل بدون كسل. لقد زرع فينا الغضب كنوع من المنخاس لكي نصر على أسناننا ضد الشيطان مملوءين عنفًا ضده وليس ضد بعضنا البعض. أسلحتنا هي لمحاربة العدو وليس لمحاربة بعضنا البعض.

هل أنت غضوب ؟ كن هكذا ضد خطاياك. أدب نفسك، واجلد ضميرك، وكن قاضيا قاسيا، واحكم بلا رحمة على خطاياك.

هذا هو طريق الانتفاع من الغضب. هذا هو السبب الذي لأجله غرس الله فينا الغضب

القديس يوحنا الذهبي الفم

"كل ما هو طاهر": الطهارة هي نقاوة القلب والذهن من الفكر الدنس. ففكر المؤمن المقدس في الرب القدوس يتمتع بفيض من الطهارة والنقاوة والعفة.

الحقيقة هي أن الكل غير طاهرين، هؤلاء الذين لم يتطهروا بواسطة الإيمان بالمسيح، وذلك كقول العبارة: "إذ طهر بالإيمان قلوبهم" (أع 15: 9).

إننا محتاجون إلى العفة، ونحن نعلم أنها عطية إلهية، وهي امتناع القلب عن الميل نحو كلام الشر مع عدم تقديم أعذار عن خطايانا.

إننا محتاجون إلى العفة حتى نقمع الخطية فلا نرتكبها، وإن أخطأنا فلا نبرر ذلك بكبرياء شرير.

وبالإجمال، نحن نحتاج إلى العفة لكي نحيد عن الشر، ونحتاج إلى فضيلة أخرى هي البرّ لكي نفعل خيرًا. هذا ما ينصح به المزمور المقدس قائلاً: "حد عن الشر واصنع الخير". وبأي هدف نصنع هذا؟ "اطلب السلامة واسعَ وراءها" (مز 34: 14). سيكون لنا السلامة الكاملة، عندما تلتصق طبيعتنا دون أن تنفصل عن خالقها، فلا يكون لنا في أنفسنا ما يضاد أنفسنا.

وهذا أيضًا– كما أظن– أراد مخلصنا نفسه منا أن نفهمه بقوله "لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقدة" لأنه ماذا تعني الأحقاء الممنطقة؟ إنها ضبط الشهوات، وهذا هو عمل العفة. وأما السرج الموقدة فتعني الإضاءة والتلألؤ بالأعمال الصالحة، أي عمل البرّ.

وهنا لا يصمت الرب عن توضيح هدف صنع هذه الأمور إذ أضاف قائلاً: "أنتم مثل أناس ينتظرون سيدهم متي يرجع من العرس" (لو 12: 35، 36) فعند مجيئه يأتي ليكافئ الذين حفظوا أنفسهم من الشهوات، وصنعوا الأعمال التي تأمر بها المحبة. وهكذا يملكون في سلامه الكامل الأبدي أي بغير صراع مع الشر، بل يبتهجون بالخير بفرحٍ سامٍ

القديس أغسطينوس

"كل ما هو مسر": نفكر في كل ما يسر الغير ويجلب المحبة ويسعد القلوب بالعطف والاحتمال وعدم ذم الآخرين أو إدانتهم. يغمر المؤمن السرور والفرح الذي لا يُنطق به، فرح الروح، بكونه الجو الطبيعي الذي يسود مملكة الله في القلب. يشعر المؤمن في أعماقه أنه أسعد كائن على وجه الأرض.

"كل ما صيته حسن": يبتعد الصيت الحسن عن الكلمات القبيحة وينطق أولاد الله بما يمجد أبيهم السماوي. فالمؤمن الحقيقي يشهد له حتى الأعداء، إذ يشعر الكل بغنى نعمة الله عليه فيلتمسون بركة الرب الحالة فيه. أفكاره دائمًا لصالح البشرية وبنيانها الدائم، يشرق على من حوله بنور السيد المسيح الذي فيه.

"إن كانت فضيلة، وإن كان مدح ففي هذه افتكروا"، فكره أشبه بالنحلة التي تمتص الرحيق من كل زهرة لتقدم عسلاً شهيًا. هكذا يرى المؤمن في كل إنسان حتى الذين يُدعون مجرمين جانبًا فاضلاً يتعلمه. بهذا إذ لا يكف عن أن يتعلم من كل أحد ما هو صالح ونافع، يصير فكره وسلوكه وكلماته موضع مديح الناس، وإن كان هذا لن يشغل قلبه، إذ يطلب مديح الرب لا الناس.

ما هو حق بالحقيقة هو فضيلة. الرذيلة هي بطلان، مسرتها باطلة، مجدها باطل، كل ما فيها باطل. ما هو طاهر هو ضد التفكير في الأمور الأرضية. ما هو جليل ضد أولئك الذين آلهتهم بطونهم (في 19:3).

القديس يوحنا الذهبي الفم

إننا نصير مثل الطعام الذى نأكله. دعونا نأخذ مثال الإناء الأجوف من الكريستال، فكل ما يوضع فيه يُرى بوضوح. ويشبه ذلك عندما نضع بهاء السوّسن في نفوسنا، فإنها تشع وتُظهر من الخارج الأشكال الموجودة بالداخل. ولتوضيح هذه النقطة. تتغذى الروح بالفضائل التي تُسمى رمزيًا بالسوّسن، ويُصبح الشخص المكوّن بهذه ذا حياة طيبة، مُشرقًا، مُظهرًا في حياته كل نوع من الفضيلة. لنفرض أن السوّسن النقى هو ضبط النفس والاعتدال والبرّ والشجاعة والقدرة وكل ما يقوله الرسول أنه حق وجليل ومستحق للحب وعادل ومقدس وعطوف وفاضل ومستحق للتمجيد (في 8:4) تتكون هذه الفضائل جميعها في النفس نتيجة للحياة النقية وتزيّن النفس التي تمتلكها.

القديس غريغوريوس النيسي

"وما تعلّمتموه وتسلّمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيّ،

فهذا افعلوا،

وإله السلام يكون معكم".

مع توصيتهم كتابة يوصيهم الرسول بلغة التسليم أو التقليد والإقتداء به. فلا يكفي ما تعلموه من الرسول كتابة أو شفاها، وإنما أيضا ما تسلموه وما رأوه فيه في حياته العملية، هذا يلتزمون به، لأنه يقدم إنجيل المسيح، فيكون معهم اله السلام. الإله الذي هو مصدر السلام الداخلي، والمحب للسلام، والحافظ له في كل الظروف هو معهم وفيهم.

هذا هو تعليمه في كل نصائحه أن يقدم نفسه نموذجًا. وكما يقول في موضع آخر: "كما نحن عندكم قدوة" (في 17:3). مرة أخرى يقول هنا: "وما تعلمتموه وتسلمتموه"، أي تعلمتموه بكلمة الفم. "وسمعتموه ورأيتموه فيّ"، سواء بكلماتي أو أفعالي أو سلوكي. أنظروا كيف يقدم لنا هذه الوصايا في كل الجوانب؟ لما كان يصعب وضع تعبير دقيق لكل الأمور الخاصة بدخولنا وخروجنا وحديثنا وتحركاتنا وتعاملاتنا – وإذ يحتاج المسيحي أن يفكر في كل هذه الأمور – لذلك قال باختصار كمن يلخص الأمور: "سمعتموه ورأيتموه فيّ". إني أقودكم إلى الأمام بالأفعال وبالكلمات. افعلوا هذه الأمور، ليس فقط بالكلام وإنما أيضًا بالعمل.

"وإله السلام يكون معكم"، أي ستكونون في هدوء وأمان عظيم، ولا تعانوا من أمرٍ مؤلمٍ، ولا ما هو ضد إرادتكم، فإننا إذ نكون في سلامٍ معه، يكون هذا خلال الفضيلة، حيث يكون بأكثر سلام معنا. فإن ذاك الذي يحبنا، ويُظهر حنوه علينا حتى بغير إرادتنا، سوف يُظهر بالأكثر حبه لنا حين يرانا نسرع نحوه. ليس شيء فيه عداوة لطبيعتنا مثل الرذيلة. في أمور كثيرة يتضح كيف أن الرذيلة تحمل عداوة ضدنا، بينما تحمل الفضيلة صداقة من نحونا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ربما يتساءل أحد إن كان التقليد الشفهي قد توقف بظهور أسفار العهد الجديد. نجيب بأن الرسل أنفسهم قد ذكَّروا المؤمنين بالتقليد الشفهي حين كتبوا رسائلهم للجماعات المسيحية الأولى، إذ من خلاله يستطيعون أن ينالوا فهمًا للحق المسيحي:

"إذ كان لي كثير لأكتب إليكم لم أرد أن يكون بورقٍ وحبرٍ، لأني أرجو أن آتى إليكم فمًا لفم ليكون فرحنا كاملاً" (2 يو 12).

"وكان لي كثير لأكتبه لكنني لست أريد أن أكتب إليك بحبرٍ وقلمٍ. ولكنني أرجو أن أراك عن قريب فنتكلم فمًا لفم" (3 يو 14، 13).

"أما الأمور الباقية فعندما أجئ أرتبها "الكلمة اليونانية تعني أطقسها" (1 كو 34:11).

"لأجل هذا تركتك في كريت لكي تكمل ترتيب الأمور الناقصة وتقيم في كل مدينة قسوسًا" (تي 5:1).

في مواضع كثيرة يوصي الرسول بولس تلاميذه أن يحفظوا التقليد، ويودعوه أناسًا آخرين، وأن يتمسكوا بالتقاليد التي تعلموها بالكلام أو برسالته وأن يتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التقليد الذي أخذه منه" (2 تس 6:3). كما حذرنا من كل تقليد بشري مقاوم للإيمان "حسب أركان العالم وليس حسب المسيح" (كو 8:2).

إذا حاولنا أن نحذف العوائد غير المكتوبة لأنها ليست بذات أهمية فلننتبه إلى أننا نسيء إلى البشارة في أهم أركانها، ونجعل الكرازة الإنجيلية اسمًا لغير مسمى.

القديس باسيليوس الكبير
3. فرح مشترك عملي

"ثم أني فرحت بالرب جدًا،

لأنكم الآن قد أزهر أيضًا مرّة اعتناؤكم بي،

الذي كنتم تعتنونه،

ولكن لم تكن لكم فرصة".

يكن الرسول بولس بالامتنان والشكر لأهل فيلبي من أجل عنايتهم به، متهللاً بالرب الذي وهبهم هذا الحب والحنو، وقد ترجمت العطية إلى عمل كلما سنحت لهم الفرصة للتعبير عنها.

وهنا نأتى إلى الجزء الأخير من الرسالة والذي قد يكون أحد الأسباب الهامة لكتابة الرسالة, ويتناول هذا الجزء شكر الرسول وتقديره لأهل فيلبي على محبتهم وازدهار الفضيلة في حياتهم ومعونتهم له وقبوله لهذه المعونة والطلب من الله ليعوضهم أجرًا صالحًا سمائيًا حسب غناه في المجد.

"فرحت بالرب جدًا": يفرح بولس الرسول بالرب رغم قيوده في حبسه وإن كان سبب الفرح هو محبتهم ومعونتهم, فالله هو الذي حرك قلوبهم بذلك... هو يفرح أيضًا لأن الرب أنجح ما زرعه، الشجرة التي غرسها ونمت وأينعت وازدهرت وأتت بالثمر.

قلت مرارًا أن الصدقة تُقدم ليس من أجل مستلميها بل من أجل الذين يعطونها، لأن الأخيرين ينتفعون بها بطريقة أعظم. هذا ما يظهره بولس هنا أيضًا. فأهل فيلبي أرسلوا إليه شيئًا بعد فترة طويلة، وفعلوا نفس الشيء مع أبفرودتس. انظروا الآن كيف أنه إذ هو مزمع أن يرسل أبفرودتس حاملاً هذه الرسالة يمدحهم، مظهرًا أن هذا العمل هو من أجل حاجة المُعطين لا المستلمين لها. فعل هذا لكي ما لا ينتفخ الذين قدموا له إحسانًا بالزهو، وأن يصيروا في أكثر غيرة في ممارسة العمل الصالح. إذ هم بالحري ينالون نفعًا لنفوسهم، بينما الذين يتقبلون العطايا لا يندفعون بجسارة لينالوا العطية حتى لا يُقابلوا بالنقد. يقول الرب: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع 35:20).

لماذا يقول: "ثم إني فرحت بالرب جدًا"؟ يقول ليس بفرحٍ عالميٍ، ولا بفرح هذه الحياة، وإنما في الرب. ليس لأني تسلمت قوتًا (معونة)، وإنما من أجل تقدمكم، فإن هذا هو قوتي. لهذا يقول "جدًا (فرحًا عظيمًا)"، حيث أن الفرح ليس جسدانيًا ولا من أجل قوتٍ، بل من أجل تقدمهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن حديثه هنا يحمل مديحًا رقيقًا كما يحمل عتابًا، لأنهم اعتنوا به، وقدموا له عطية، ولكن بعد فترة طويلة. غير أنه يقدم لهم العذر إذ يقول: "ولكن لم تكن لكم فرصة".

يقول أيضًا القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بولس كان حريصًا أن يتجنب كل عثرة من جهة المادة حتى لا يعطل أحد فخره (1 كو 15:9)، فكان يعمل بيديه لأجل احتياجاته واحتياجات من معه.

"ليس إني أقول من جهة احتياج،

فإني قد تعلّمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه".

لم يكتب لهم شاكرًا إياهم لأنه كان محتاجًا، ولا لأنه يطلب المزيد، فقد تدرب أن يشعر بالشبع والاكتفاء بالقدر الذي لديه، وتحت أية ظروف، حتى وإن كان في القيود داخل السجن، أو تحل به ضيقات واضطهادات. لن يرجو أن ينال شيئًا من أحد. كالمثل القائل: "الذهن المكتفي عيد دائم".

"ليس إني أقول من جهة احتياج" لئلا يظن أحد إنه قبل العطية ويطلب المزيد, ففي عُرف بولس إن الخدمة ليست طريقًا للتكسب, ولا للفائدة الشخصية, ولكن هنا بسبب محبته الشديدة لأهل فيلبي, وأيضًا بسبب الاحتياج قَبِلَ معونة أهل فيلبي "تعلمت أن أكون مكتفيا بما أنا فيه". استخدم بولس لفظ الاكتفاء للتعبير عن القناعة. يقصد الاكتفاء، وليس الشراهة.

يقول إني أعاتبكم ليس لأني أطلب ما هو لي، بل انتقدكم كما لو كنت في عوزٍ، إذ أطلب هذا ليس من أجلي... هنا يتحدث إلى أولئك الذين عرفوا الحقائق، وبالكشف عنها يجعلهم في موضع أكثر حزنًا. إذ يقول: "تعلمت أن أكون مكتفيًا بما أنا عليه".

القديس يوحنا الذهبي الفم

يقول صاحب المشورة الصالحة: "تعلمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه". إذ عرف أن أصل كل الشرور هو محبة المال (1 تي 10:6). ولهذا كان مكتفيًا بما لديه، ولا يطلب ما هو لدى الغير. يقول: يكفيني ما لديّ، سواء كان قليلاً أو كثيرًا فهو بالنسة لي كثير... هذا معناه: "لن أكون محتاجًا ولا أكون مستفضلاً". لست محتاجًا، لأنني لا أطلب المزيد ولا استفضل لأن ما لدي هو ليس لي بل لكثيرين. قال هذا عن المال. لكنه يستطيع أن يقول هذه الكلمات عن كل شيءٍ. فإن كل ما كان لديه في تلك اللحظة كان مكتفيًا به. فلم يكن يطلب كرامة أعظم، ولا خدمات أكثر، ولا يشتهي مجدًا باطلاً، ولا يسأل كلمة شكر، إذ لا يوجد ما يستوجب ذلك. لكنه كان صبورًا في أتعابه، مطمئنًا لاستحقاقاته، يترقب نهاية الصراع، الأمر الذي يتطلب منه الاحتمال. يقول:"أعرف أن أتضع"

القديس أمبروسيوس

غالبًا ما يُظن أن المعاناة من الفقر بلوى، لكن الفيض أيضًا يمكن أن يصير بلوى. الإنسان الحكيم يضبط نفسه فلا يضعف بواسطة الفيض.

العلامة أوريجينوس

كل أنواع البشر بالحق يمكن أن يعانوا من الفقر، أما أن يعرف الشخص كيف يحتمل الفقر فهذا علامة العظمة... أما الذي يعرف كيف يستفضل (أي يشعر بالفيض في شكرٍ) فهذا لا يخص إلا الذين لا يفسدهم الفيض.

القديس أغسطينوس

"أعرف أن أتضع،

وأعرف أيضًا أن أستفضل في كل شيء،

وفي جميع الأشياء قد تدرّبت أن أشبع وأن أجوع،

وأن أستفضل وأن أنقص".

هذا هو عمل نعمة الله الفائقة أن تهب المؤمن أن يمارس حياة التواضع كشركة مع ربنا يسوع في تواضعه، وأن يشعر بفيض عطايا الله عليه، فلا يشعر بالاكتفاء فقط، وإنما بالشوق الحقيقي للعطاء بلا توقف. وكما يقول الرسول: "كأننا لا نملك شيئًا ونحن نملك كل شيء". "كأننا فقراء ونحن نغني كثيرين". يحمل طبيعة العطاء فيفيض حبًا وحنوًا وسلامًا وعطاء ماديًا ونفسيًا وروحيًا. وفي هذا كله يعرف أن يتواضع، لأنه يدرك أن ما يقدمه ليس من عنده، بل هو عطية الله له لأجل إخوته.

لا يفتخر معلمنا بولس الرسول هنا بما اتسم قبوله برضا العطاء والفيض والشبع وأيضًا النقص والجوع والعطش، إنما ينسب كل شيء للسيد المسيح.

"أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوّيني".

ما كان يمكن للرسول أن يتمتع بهذا الشعور الداخلي بالشبع ولا أن يفيض على الغير بذاته، إنما هي قوة المسيح العاملة فيه. لذا يسبحه قائلا أن المسيح قوته (غل 2: 20).

النجاح ليس من عندي بل هو نجاح ذاك الذي يعطيني القوة
القديس يوحنا الذهبي الفم

"غير أنكم فعلتم حسنًا إذ اشتركتم في ضيقتي" .

مع تمتعي بعطية الاكتفاء وعدم الاحتياج إلى أحد، لكنكم تستحقون المديح لأنكم شاركتموني آلامي واحتياجاتي. شهوة قلبي أن أرى الكل مملوء حبًا، لكن ليس عن طمع من جانبي ولا لكي أنال شيئا من أحد. لقد شاركوه آلامه بالحب وعبروا عن هذا بالعطاء وسط ضيقاته.

"غير أنكم فعلتم حسنًا إذ اشتركتم في ضيقتي"... من العادة عندما نكتب رسالة شكر إلى أحد نذكر هذا الشكر في رأس الرسالة, لكن بولس الرسول ترك شكره حيث ختم به رسالته... لماذا؟ لأنه يريد أن يعطيهم الدروس الروحية أولاً ويأتي بهم إلى الفرح ثم يقدم شكره لهم.

" فعلتم حسنا" فالرسول يقدر تعب محبتهم وتصرفهم بشهامة وكرم ونبل...

"ضيقتي" يعبر عن الفاقة والعسر والحاجة التي كان يعاني منها الرسول في سجنه.

إذ يرى الذين يقدمون العطايا من يتسلمها لا يتعاطف معهم بل يحتقر عطاياهم، يسقطون بالأكثر في حالة بلادة... لذلك عالج بولس هذا الأمر. فما قاله قبلاً حط من أفكارهم المتشامخة، وما جاء بعد ذلك أنعش استعدادهم للعمل، إذ يقول: "غير أنكم فعلتم حسنًا إذ اشتركتم في ضيقتي". انظروا كيف استبعد نفسه، ثم عاد فاتحد بهم. هذا هو دور الصداقة الروحية الحقيقية. يقول: "لا تظنوا لأني في غير احتياج لست محتاجًا إلى عملكم هذا. إني محتاج إليه من أجلكم. لم يقل: "أعطيتموني" بل "اشتركتم"، ليظهر أنهم هم أيضًا انتفعوا، إذ صاروا شركاء في أتعابه. لم يقل "خففتم" ضيقتي بل "اشتركتم في ضيقتي" وهو أمر أسمى

القديس يوحنا الذهبي الفم

"وأنتم أيضًا تعلمون أيها الفيلبيّون،

أنه في بداءة الإنجيل لما خرجت من مكدونيّة

لم تشاركني كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ إلا أنتم وحدكم.

في بدء كرازته في مكدونية لم تشترك كنيسة ما في احتياجات الرسول أثناء كرازته سوى الكنيسة التي في فيلبي. لم يساهموا في احتياجاته عندما كان في فيلبي فقط، وإنما أرسلوا إليه حين ذهب إلى كورنثوس (2 كو 8:11-9).

يا لعظمة مديحه لهم! فإن أهل كورنثوس وروما يُثارون عندما يسمعون هذا منه، فقد فعل أهل فيلبي هذا دون أية كنيسة أخرى، وكانوا هم المبتدئين. إذ يقول: "في بداءة الإنجيل" أعلنوا دون غيرهم عن مساندتهم للرسول القديس، بكونهم المبادرين بالعمل دون وجود أي مثال يقتدون به، حاملين هذا الثمر.

ولا يستطيع أحد أن يقول أنهم فعلوا هذا لأنه سكن معهم أو لأجل نفعهم، إذ يقول: "لما خرجت من مكدونية، لم تشاركني كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ إلا أنتم وحدكم". ماذا يعني "العطاء"، و"المشاركة"؟ إذ لم يقل: "لم تعطني كنيسة واحدة"، بل "تشاركني في حساب العطاء والأخذ"؟ إنه موضوع شركة!

يقول: "إن كنا نحن قد زرعنا لكم الروحيات، أفعظيم إن حصدنا منكم الجسديات؟ (1 كو 11:9) مرة أخري يقول: "تكون فضالتكم لأعوازهم" (2 كو 14:Cool. كيف شارك هؤلاء؟ بالعطاء في الجسديات وقبول الروحيات. فكما أن الذين يبيعون ويشترون يشاركون بعضهم البعض بالعطاء المشترك مما لهم، هكذا الأمر هنا.

إنه ليس أمر ما أكثر نفعًا من هذه التجارة والمقايضة. تبدأ علي الأرض وتتم في السماء. الذين يشترون هم على الأرض، لكنهم يشترون وينتفعون بما يخص السماويات، بينما يقدمون ثمنًا أرضيًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"فإنّكم في تسالونيكي أيضًا،

أرسلتم إليّ مرّة ومرّتين لحاجتي".

إذ كان ينشئ الكنيسة في تسالونيكي كان يسدد احتياجاته هو ومن معه جزئيا بعمل يديه (1 تس 9:2 ؛ 2 تس 7:3-9)، والباقي بالمعونة التي ساهمت بها الكنيسة في فيلبي.

هنا أيضًا مديح عظيم، إذ وهو قاطن في العاصمة قامت مدينة صغيرة (فيلبي) بتقديم له القوت.

القديس يوحنا الذهبي الفم

جاء النص اليوناني "حاجات" وليس حاجاتي. ويرى القديس يوحنا ذهبي الفم أنه قد تعمد ذكر هذه الكلمة، لأنه كثيرًا ما ابرز أنه لا يحثهم علي العطاء عن احتياج، بل لنفعهم. فقد خشي لئلا يصابوا بحالة فتور في المشاعر وإحباط في الرغبة في العطاء، لذا أكد أنهم أرسلوا لأجل إشباع الاحتياجات.

"ليس أني أطلب العطيّة،

بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم".

لم يشتهِ الرسول أية عطية من أحد، لكن ما يشتهيه ثمر الروح فقط، المُعلن عمليًا بالعطاء وسد احتياجات الخدمة.

كل ما يقدمه الإنسان عن صدقة وتواضع يضاف إلى حسابه في الملكوت، وإن كان حسب الظاهر إن بولس الرسول هو الذي تسلم عطاياهم، لكن في الحقيقة إن الله الذي تسلم هذه العطايا.

يوجد فرق بين من كان في عوز ولا يطلب شيئًا، وبين من يكون في عوز ولا يحسب نفسه أنه في عوز. يقول الرسول: "ليس إني أطلب العطية، بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم". لست أطلب ما هو لي. هل ترون أن الثمر صادر منهم؟ يقول: هذا أقوله لأجلكم، وليس من أجلي، وإنما لخلاصكم. فإنني لست أربح شيئًا عندما أأخذ، إنما النعمة يتمتع بها الذين يعطون، والمكافأة قائمة في مخزن المُعطين، أما العطايا فيستهلكها الذين يستلمونها هنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"ولكني قد استوفيت كل شيء واستفضلت،

قد امتلأت،

إذ قبلت من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيّبة،

ذبيحة مقبولة مرضيّة عند الله".

يعبر الرسول بولس عن سخاء أهل فيلبي إذ قدموا ليس فقط احتياجاته بل وما فضل عنه، فامتلأ لا بالعطاء بل بنسمة الحب القادمة من قلوبهم، واشتم عملهم ذبيحة مقدمة لله وليس لبولس، ذبيحة مقبولة موضع سروره.

إذ قال: "ليس إني أطلب" فلئلا يصابوا بحالة فتور في العطاء، أضاف: "ولكني قد استوفيت واستفضلت"، أي خلال تلك العطية التي بها تناسب من كان في عوزٍ. بهذا يجعلهم أكثر غيرة. فإن الذين يقدمون إحسانات كلما كانوا أكثر حكمة يطلبون فيمن يتقبل العطاء أن يكون شاكرًا. فإنكم ليس فقط قدمتم ما كان ناقصًا بل اجتزتم هذا بتفوق.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة مرضية عند الله"وصف بولس الرسول عطايا أهل فيلبي بالآتي:

1- رائحة طيبة 2- ذبيحة مقبولة 3- مرضية عند الله.

وهذه الأوصاف تطابق أوصاف العهد القديم التي كانت تشير إلى ذبيحة الصليب.

"نسيم رائحة طيبة"... هي رائحة المحبة التي قدمها أبناء المسيح لخادم المسيح.

"إذ قبلت من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة، مقبولة مرضية عن الله". أنظروا من الذي رفع عطيتهم، يقول: لست أنا، بل الله خلالي، فمع إني لست في عوز، اذكروا أن الله الذي ليس له احتياج قبل من أياديكم مثل هذه. حتى أن الأسفار المقدسة لا تحجم عن أن تقول: "تنسم الرب رائحة زكية" (تك 21:Cool حيث تشير إلى من هو مسرور. حقًا أنتم تعرفون كيف أن نفوسنا تتأثر بالروائح الزكية، كيف تُسر وكيف تبتهج. فلم تحجم الأسفار المقدسة عن أن تستخدم كلمة بشرية وتطبقها على الله. وهكذا لكي تظهر للبشر أن عطاياهم مقبولة. لأنه ليست الشحوم ولا الدخان (البخور) يجعل الذبيحة مقبولة بل غاية فكر من يقدمها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يظهر أنه بالحق الرحمة نحو الفقراء تسكب زيتًا على ذبيحة الله، أما الخدمة المُقدمة للقديسين فتضيف عذوبة البخور

العلامة أوريجينوس

عندما ساعد الإخوة الطوباوي الرسول بولس في احتياجات ضيقته قال أن هذه الأعمال الصالحة هي ذبائح الله... فإنه عندما يتدفق أحد بمسكين يقرض الله، وعندما يعطي الأصاغر يعطي الله ذبائح روحية رائحة رضا.

الشهيد كبريانوس

"فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد،

في المسيح يسوع".

إذ كيلوا للرسول بكيل الحب الفائض يكيل لهم الله حسب غناه ليتمتعوا بأمجاد سماوية بفيض في المسيح يسوع. لم يتركوا بولس في عوز، فلن يتركهم الله في احتياج إلى شيء. لا يستطيع بولس أن يوفي لهم الدين، لكنه قدم الصك لمرسله يسوع المسيح الذي وحده قادر أن يفي عن رسله وتلاميذه.

"حسب غناه".. يعطي الفقير حسب فقره القليل, ويعطي الغني حسب غناه الكثير, والملك يعطي حسب عظمته أكثر, فما بالك بملك الملوك إذا وهب؟!

"المجد"... صفة ملازمة لله منذ الأزل وإلى الأبد. فالله ممجد من ذاته لا يستمد مجده من أحد.

"أبينا": نحن نتعامل مع أبٍ، عينه علينا يشعر بكل احتياجاتنا ويهتم بنا.

انظروا كيف يطلب لهم أن تحل عليهم البركات كما يفعل الفقراء (حين يتقبلون عطية ما). فإن كان بولس يبارك أولئك الذين أعطوا كم بالأولي بنا ألا نخجل من ذلك. عندما ننال (عطية من أحد)، ليتنا لا نتقبل العطية كما لو كنا نحن أنفسنا محتاجين، فلا نفرح من أجل أنفسنا، بل من أجل المعطين. نحن أنفسنا ننال مكافأة إن فرحنا من أجلكم. وليتنا لا نتضايق عندما يحجم الناس عن العطاء بل بالحري نحزن من اجلهم. فإننا نجعلهم في أكثر غيرة إن علمناهم أننا لا نعمل هذا من أجل أنفسنا، إنما ليملأ إلهي "احتياجكم" بكل نعمة أو بكل فرح "حسب غناه" أي حسب هبته المجانية، فهي بالنسبة له سهلة وممكنة وسريعة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"ولله أبينا المجد إلى دهر الداهرين آمين".

هذا الحب المتبادل بين الرسول وأهل فيلبي يمجد الله أب الجميع الذي يفرح بعمل نعمته فيهم.

المجد الذي يتكلم عنه لا يخص الابن وحده بل أيضًا الأب، فإذ يتمجد أيضًا الآب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

هنا كما في فيلبي 19:4 لا يفصل بين الله والآب، بل يصلي لإلهنا وأبينا. يدعوه الله من أجل المهابة، ويدعوه الآب من أجل الكرامة ولأن كل بداية هي منه.

الأب امبروسياستر

هنا يسبح الآب وحده، بينما في موضع آخر يسبح الابن وحده (رو 5:9)... فلا يفصل الابن عن الآب ولا الآب عن الابن. إنه يقدم التسبحة للطبيعة الإلهية ككل.

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم أن الرسول بولس ليس معه من هو نظير نفسه (في 20:2) ومع هذا يدعوهم إخوته.
4. تحية ختامية

"سلّموا على كل قدّيس في المسيح يسوع،

يسلم عليكم الإخوة الذين معي".

يود من الكنيسة أن تبلغ كل عضو عن تحيات الرسول والعاملين معه له شخصيًا، حاسبًا رسالته هذه مُقدمة للكنيسة ككل كما لكل عضوٍ فيها كرسالة خاصة به.

ليس من يدعو نفسه قديسًا هو قديس، بل ذاك الذي يؤمن بالرب يسوع ويعيش حسب تعليمه

الأب ثيؤدوروت أسقف قورش

"يسلّم عليكم جميع القدّيسين،

ولاسيما الذين من بيت قيصر".

يرى في شعب فيلبي قديسين كما أيضًا في شعب روما، حتى المسيحيين في قصر نيرون كانوا في عينيه قديسين يقدمون تحياتهم ومحبتهم لقديسي الكنيسة في فيلبي.

"من بيت قيصر" ليس المقصود نيرون وأسرته ولكن المقصود بعض رجال الحرب وموظفو القصر الذين آمنوا.

إنه يرفعهم من نفسياتهم ويقويهم بأن يظهر لهم أن كرازته قد بلغت حتى إلى بيت الملك (الإمبراطور). فإنه إن كان أولئك الذين كانوا في قصر الملك استخفوا بكل شيء من أجل ملك السماء، كم بالأكثر يليق بهم أن يفعلوا ذلك. هذا دليل أيضًا علي حب بولس وأنه أخبر عنهم بأمور كثيرة عظيمة حتى أن الذين في القصر قد اشتاقوا إليهم، والذين لم يروهم قط يسلمون عليهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

"نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي   تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Icon_minitimeالثلاثاء نوفمبر 30, 2010 2:37 am

"نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم. آمين".

لا يجد الرسول في أغلب رسائله ما يختم به حديثه سوى تقديم ربنا يسوع المسيح لمحبوبيه المرسل إليهم الرسالة. هذا أعظم ما يشتهيه لكل إنسان! تبدأ الرسالة بالنعمة وتنتهي بها... النعمة هل عمل الله مع النفس البشرية التي لا تستحق هذه النعمة.

كُتبت إلى أهل فيلبّي من رومية على يد أبفرودتس.

إذ كان معصم الرسول في القيد الحديدي لذلك أملى رسالته إلى ابفرودتس الذي أخذ بركة كتابتها كما أخذ بركة صاحبها.



من وحي فيلبي 4
أنت فرحي الدائم!

كيف لا تتهلل نفسي،

وأنت في داخلي تفيض بفرح الروح؟

كيف أضطرب وتقلق نفسي،

وأنت قائد حياتي وضابط الكل؟

كيف أخاف من المستقبل،

وأنت تفتح بالصلاة كل الأبواب المغلقة؟

كيف لا أمارس الحياة السماوية،

وأنت غيرٌت طبيعتي الجاحدة،

ووهبتني الشركة في حياتك الشاكرة؟

أنت فرحي الأبدي .

أختبره في أعماقي حيث أنت تقيم!

وأختبره مع إخوتي،

حيث كنيستك، جسدك متهلل!

لأفرح هنا علي الأرض،

حيث عبر قلبي إلى سماواتك!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي   تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي Icon_minitimeالثلاثاء نوفمبر 30, 2010 8:24 am

تسلم ايدك يا سولالالالالالالالا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير رسالة بطرس الرسول الاولى
» دراسة رسالة بولس الرسول الى العبرانيين بوربوينت
»  دراسة فى رسالة بولس الرسول الى اهل غلاطية بوربوينت
»  دراسة رسالة بولس الرسول الى اهل افسس بوربوينت
» تفسيرمسموع لرسالة بولس الرسول اهل غلاطيه

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: منتدى الكتاب المقدس :: دراسة اسفار الكتاب المقدس-
انتقل الى: