+++السلام والنعمة "الراعى يحبك الراعى ينتظرك"+++
+++السلام والنعمة "الراعى يحبك الراعى ينتظرك"+++
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
البوابةالبوابة  الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  الكتاب المقدسالكتاب المقدس  الكتاب مسموع و مقروءالكتاب مسموع و مقروء  تفسير الكتابتفسير الكتاب  مركز تحميل الصورمركز تحميل الصور  youtubeyoutube  جروب المنتدىجروب المنتدى  twittertwitter  rssrss  دخولدخول  

 

 تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *   تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 9:23 am

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]


المقدمة

مركزه عند اليهود:

تسلمت الكنيسة المسيحية من يدي الكنيسة اليهودية هذا السفر ضمن أسفار العهد القديم، وقد احتل هذا السفر مركزًا خاصًا بين الأسفار لما يحمله من أسلوب رمزي يعلن عن الحب المتبادل بين الله وكنيسته، أو بين الله والنفس البشرية كعضو في الكنيسة.


وقد ضمت النسخة العبرية للتوراة التي جمعها عزرا الكاتب في القرن الخامس قبل الميلاد هذا السفر، كما ترجم إلى اليونانية ضمن أسفار النسخة السبعينية في القرن الثالث قبل الميلاد، دون أي اعتراض أو شك من جهة معانيه الروحية

وفي أيام السيد المسيح، حاول الحاخام شمعي استثناءه من الكتاب المقدس بسبب رغبته في التفسير الحرفي للكتاب المقدس بطريقة قاتلة...، فأكدت مدرسة هليل اليهودية التقليدية قانونية السفر.

وجاء في الترجوم اليهودي[2] "الأناشيد والمدائح التي نطق بها سليمان النبي، ملك إسرائيل، بالروح القدس، أمام يهوه الرب العالم كله في ذلك رنمت عشرة أناشيد، أما هذا النشيد فهو أفضل الكل".

وأكدت المدراش [3] Midrash: "نشيد الأناشيد هو أسمى جميع الأناشيد، قدمت لله الذي سيحل بالروح القدس علينا. أنه النشيد الذي فيه يمتدحنا الله، ونحن نمتدحه!".

ربما يتسأل البعض: لماذا استخدم الوحي هذا الأسلوب الرمزي الغزلي في التعبير عن الحب المتبادل بين الله وكنيسته؟

اعتاد الله أن يتحدث معنا خلال الوحي بذات الأسلوب الذي نتعامل به في حياتنا البشرية، فهو لا يحدثنا فقط باللغات البشرية بل ويستخدم أيضًا تعبيراتنا، حتى لا يكون الوحي غريبًا عنا.

ذكر على سبيل المثال أن الوحي يتحدث عن الله بأنه حزن أو غضب أو ندم... مع أن الله كليّ الحب لن يحزن لأنه لا يتألم، ولا يغضب إذ هو محب، ولا يندم لأن المستقبل حاضر أمامه وليس شيء مخفي عنه. لكنه متى تحدث الكتاب عن غضب الله إنما نود أن يعلن لنا أننا في سقطاتنا نلقي بأنفسنا تحت عدل الله، وما يعلنه الوحي كغضب إلهي إنما هو ثمر طبيعي لخطايانا، نتيجة هروبنا من دائرة محبته.

بنفس الطريقة يستخدم الوحي التعبيرات البشرية عندما يقول: "عينا الرب نحو الصديقين، وأذناه إلى صراخهم، وجه الرب ضد عاملي الشر" (مز 34: 15)، فهل يعني هذا أن لله عينان أو اذنان أو وجه! إنما هو يحدثنا عن رعاية الله لنا بأسلوبنا!...

هكذا أيضًا إذ يتحدث الكتاب المقدس عن كرسي الله أو عرشه، فهل أقام الله له كرسيًا أو عرشًا محدودًا يجلس عليه؟ ألم تكتب هذه كلها لكي نتفهم ملكوت الله ومجده وبهاءه حسب لغتنا وتعبيراتنا البشرية؟

على نفس النمط يحدثنا الوحي عن أعمق ما في حياتنا الروحية، ألا وهو اتحادنا بالله خلال الحب الروحي السري، فيستعير ألفاظنا البشرية في دلائل الحب بين العروسين، لا لنفهم علاقتنا به على مستوى الحب الجسداني، وإنما كرموز تحمل في أعماقنا أسرار الحب لا ينطق له

3. عبارات هذا السفر لا يمكن أن تنطق على الحب الجسداني، ولا تتفق مع القائلين أنه نشيد تغنى به سليمان حين تزوج بابنة فرعون أو ما يشبه ذلك، نذكر على سبيل المثال[4]:

أ. "ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر" (1: 1). هكذا تُناجي العروس عريسها، لكنها تطلب قبلات آخر "فمه"... مع أنها تعلن له "حبك" أطيب من الخمر. كيف يمكن لعروس أن تطلب من عريسها أن يقبلها آخر بينما تستعذب حب العريس نفسه؟ يستحيل أن ينطبق هذا على الحب الجسداني، لكنه هو مناجاة الكنيسة للسيد المسيح عريسها، فتطلب قبلات فم الآب، أي تدابيره الخلاصية، والتي تحققت خلال حب الابن العملي، كقول الكتاب "الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبر"...

ب. "لرائحة أدهانك الطيبة، اسمك دهن مهراق، لذلك أحبتك العذارى" (2: 1) إذ تُشيد العروس برائحة عريسها الطيبة المنعشة، وأن اسمه عطر كالدهن المسكوب، تعلن أن العذارى قد أحببنه. هل يمكن لعروس أن تفرح لأن عريسها موضع حب عذارى غيرها؟ لكن العروس هنا هي الكنيسة التي تُريد أن كل المؤمنين - كالعذارى - يحبون عريسها.

ج. "اجذبني وراءك فنجري" (4: 1). كيف تغير ضمير المتكلم المفرد إلى المتكلمين الجمع في عبارة واحدة؟! هل المتكلم هنا مفرد أم جمع؟ أن كانوا جمعًا فكيف تلتقي الجماعة في حب الواحد جسدانيا؟! وأي عروس تطلب من عريسها أن يجتذبها فتجري ومعها كثيرات نحو حبه؟!.

من هذه الأمثلة وما على شاكلتها كما سنرى، يظهر هذا السفر قد كتب لا ليُعبر عن حب جسداني بين عريس وعروسه، بل حب إلهي يربط الله بكنيسته ومؤمني

كاتب السفر وعنوانه:

كتب هذا السفر سليمان الحكيم، الذي وضع أناشيد كثيرة (1 مل 4: 32)

وقد لقب "نشيد الأناشيد"، وذلك لأن تكرار كلمة "نشيد" تُشير إلى أفضليته على غيره من الأناشيد، كالقول "ملك الملوك، رب الأرباب، قدس الأقداس، سبت السبوت، سماء السموات، باطل الأباطيل عبد العبيد[5]...".

1. إن كان سليمان قد كتب سفر الجامعة مدركًا حقيقة الحياة الأرضية أنها "باطل الأباطيل" فإنه إذ تلامس مع الحياة السماوية وجدها "نشيد الأناشيد".

في سفر الجامعة يعلن الحكيم أنه لا شبع للنفس خلال كثرة المعرفة، أما في سفر نشيد الأناشيد فتشبع النفس
وتستريح تمامًا بالحب الإلهي، ولا تكون بعد في عوز

في سفر الجامعة يتحدث عن كل ما هو تحت الشمس وإذا ليس فيه جديد، أما في النشيد إذ تدخل النفس إلى أحضان الله ترى كل شيء جديدً

2. فهم اليهود هذا السفر بطريقة رمزية تمثل العلاقات القائمة بين الله (العريس) وشعبه (العروس) منذ الخروج حتى مجيء المسيا، وفهمه المسيحيون أنه يمثل العلاقة بين المسيا المخلص والكنيسة عروسه

المسيح في سفر النشيد:

يليق بنا في دراستنا للكتاب المقدس بوجه عام، ولهذا السفر بوجه خاص ألا نقف عند الحرف واللفظ، بل ندخل إلى الأعماق، لنلتقي مع الله الكلمة نفسه، نرى يسوعنا واضحًا، حيًا، يُريد الاتحاد بنا لنعيش به ومعه إلى الأبد.


في هذا يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [في فن الرسم من يتأمل صورة تكونت باستخدام الألوان بطريقة ماهرة لا يقف بصره عند حدود الألوان، بل بالحرى يتطلع إلى الشكل الذي أوجده الفنان بألوانه. هكذا يليق بنا في دراسة الكتاب المقدس ألا نقف عند مادة الألوان، بل ننظر شكل الملك الذي تُعبر عنه مفاهيم الذهن الطاهرة خلال الكلمات. فالألوان هنا هي الكلمات الحاملة لمعان غامضة مثل (ما جاء في هذا السفر من كلمات): "الفم، القبلات، المرّ، الخمر، أعضاء الجسد، السرير، الجواري، وما أشبه ذلك..." أما الشكل الذي عبرت عنه هذه الكلمات فهو: هالة الكمال والطوباوية، الاتحاد مع الله، عقاب الشر، المجازاة عما هو بحق صالح وجميل".

شخصيات السفر:

1. العريس، وهو السيد المسيح الذي يخطب الكنيسة عروسًا مقدسة له (أف 5: 27).

2. العروس، وهي الكنيسة الجامعة، أو المؤمن كعضو حيّ فيها، وتسمى "شولميث".

3. العذارى، في رأي العلامة أوريجانوس هم المؤمنون الذين لم يبلغوا بعد العمق الروحي، لكنهم أحرزوا بعض التقدم في طريق الخلاص.

4. بنات أورشليم، ويمثلن الأمة اليهودية التي كان يليق بها أن تكرز بالمسيا المخلص

5. أصدقاء العريس، وهم الملائكة الذين بلغوا الإنسان الكامل (أف 4: 13).

6. الأخت الصغيرة، وهي تمثل البشرية المحتاجة من يخدمها ويرعاها في المسيح يسوع.

أقسام السفر:

سفر النشيد هو سفر الحب العميق، أو سفر القلب الذي لا يتطلب. أقسامًا معينة، بل يحمل وحدة الحب الفياض المتبادل. لكننا من أجل تسهيل الدراسة يمكننا تقسيم السفر إلى ستة فصول:

الفصل الأول: شخصا العروسين:

1. المسيا المتألم [1: 2-6].

2. المسيا الراعي [1: 7-12].

3. المسيا الملك [1: 12-16].

4. المسيا الحبيب [2: 1–7]

الفصل الثاني: الخاطب يطلب خطيبته:

1. ينزل إليها بنفسه [2: 8-14].

2. يحذرها من الواشين [2: 15].

3. وليمة العرس "القيامة والصليب" [2: 16-17، الأصحاح الثالث].

الفصل الثالث: الزفاف السماوي:

1. العروس المقامة [4: 1–15].

2. العروس تشارك عريسها [4: 16].

الفصل الرابع: الحياة الزوجية:

1. بدء الحياة الزوجية [5: 1]

2. ظلال في حياة الزوجية [5: 2-3]

3. بالصليب يعود الحب [5: 4-9].

الفصل الخامس: الحب الزوجي المتبادل:

1. العروس تمدح عريسها [5: 10–16].

2. حوار في الحديقة [الأصحاح 6]

3. وصفه للعروس "شولميث". [الأصحاح 7].

الفصل السادس

:العروس العاملة: [الأصحاح 8].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *   تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 9:29 am

الاصحاح الاول :


شخصا العروسين

العروس تعلن شخصية خطيبها:

في فترة الخطوبة تتعرف العروس على عريسها، تتكشف شخصيته، وتعرف أسراره، وتتحقق صدق حبه لها وتعرف امكانياته حتى ترتبط به عريسًا إلى الأب

وإذ تذوق حبه يبتلع العريس كل تفكيرها، ويمتص كيانها كله، فيصير موضوع حديثها مع أقاربها ومعارفها، بل يصير بالنسبة لها الكل في الكل.فماذا رأت الكنيسة في "المسيا" عريسها؟ لقد رأته:

1. المسيا المتألم.

2. المسيا الراعي.

3. المسيا الملك.

4. المسيا الحبيب

المسيا المتألم

قبلات الفم الإلهي:

لو أن هذا السفر خاص بالمبتدئين لبدأ بمناجاة الله العريس لعروسه، يلاطفها ويعلن حبه لها، ليدخل بها إلى حياة التوبة، فتصطلح معه وتقبل الاتحاد معه، لكنه هو سفر الناضجين الذين ذاقوا بالفعل محبته والتهبت قلوبهم به. لقد تقبلوا تيار حبه المتدفق خلال الصليب، فيطلبون أن يعيشوا حياتهم كلها يلهجون في هذا الحب الإلهي، قائلين بلسان الكنيسة:

"لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ، لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ،لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ، اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ،لِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى" [2-3].

إنه صوت الكنيسة الجامعة وقد رفعت أنظارها إلى الصليب، فاشتمت رائحته الطيبة، ورأت اسمه مهرقًا من أجلها، فوجدت لذة في حبه، لهذا أخذت تناجيه، قائلة: "لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ". وهنا نلاحظ الآتي:

1. إنها تطلب قبلات فم الآب. "لِيُقَبِّلْنِي (هو)"

حقًا لقد قبلها الله بقبلات كثيرة على مر العصور. أعلن حبه لها فخلق العالم كله من أجلها، أوجدها من العدم، وأعطاها صورته ومثاله، وباختصار لم يعوزها شيء. بعد السقوط لم يتركها بل وعدها بالخلاص، ووهبها الناموس المكتوب عونًا، وأرسل لها الأنبياء يؤكدون لها خلاصه... لكن هذا كله لن يشبع العروس، فإنها تريده هو بنفسه يقترب إليها ويهبها ذاته... تريد كل قبلات فمه المباشرة! وكأنها بالعروس التي تفرح بالعريس الذي يطلب يدها ويرسل لها أقاربه، ويبعث إليها الهدايا المستمرة الثمينة... لكنه لن تشبع إنما تطلبه هو!

لقد سبق فرأينا استحالة انطباق هذه العبارة على أي حب جسداني زمني، إذ تطلب العروس من عريسها قبلات آخر غيره، لكن الحديث هنا عن القبلات الإلهية الروحية التي تحمل معنى الاتحاد الخفي لتكون واحدًا مع الآب في ابنه خلال قبلات الصليب.

3. لا تطلب العروس قبلة أو قبلتين أو أكثر بل تريد كل "قبلات فمه"... هذه أحساسات المؤمن حين ينفتح قلبه لمحبة الله، فإنه يرى كأنه لا يوجد في الحياة إلاَّ الله وهو، فيطلب كل حب الله له

4. لا تطلب الكنيسة قبلات الرب جميعها فحسب، لكنها تطلب نوعية خاصة من القبلات، ألا وهي " قُبْلاَتِ فَمِهِ"، التي تُعبر عن العلاقة الزوجية الوطيدة والفريدة التي لا يشترك فيها آخر معهما


الحب الأطيب من الخمر:

تُناجي الكنيسة عريسها المصلوب من أجلها، قائلة: "لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ". هو حب يسكر النفس، فتنسى كل ما هو أرضي لتهيم في حب الله وحده.


كان العنب يُعصر في مصر وربما في فلسطين بأن يسحق بالدوس بالأقدام في المعصرة (نح 13: 15؛ أي 14: 11)، فينساب عصير (دماء) العنب الأحمر، ويخرج الرجال ثيابهم محمرة، أما إشعياء النبي فقد رأى السيد المسيح – العريس المحب – عظيمًا في القوة، بهيًا، يجتاز المعصرة بثياب محمرة من أجل خلاص عروسه... فتساءل قائلاً:

مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَةَ؟!هَذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ، الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ؟!أَنَا الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِرِّ، الْعَظِيمُ لِلْخَلاَصِ.مَا بَالُ لِبَاسِكَ مُحَمَّرٌ وَثِيَابُكَ كَدَائِسِ الْمِعْصَرَةِ؟!قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي، وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ" (إش 63: 1–4)

هذا هو الحب الفريد الأطيب من الخمر... فقد أجتاز الرب المعصرة وحده، لا ليقدم خمرًا أرضيًا بل يقدم دمه المبذول عنا، سرّ حياتنا
وقوتنا وخلاصنا

"لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ،

على الصليب سكب الرب كمال حبه فأفاح برائحته الطيبة في المسكونة كلها،وظهر أسمه في الأرض كلها

فاحت رائحة طيبة، فأدركت الكنيسة أنه بعينه الممسوح بالدهن من قبل الآب لخلاصنا، الذي شهد له النبي: "أحببت الحق وأبغضت الإثم. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز 44؛ عب 1: 9)، بل وأكد الرب ذلك عندما دخل المجمع كعادته وفتح سفر إشعياء النبي، وقال: "روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأُبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأُنادي المأسورين بالإطلاق والعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحريه...

اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ" [2].

على الصليب أهرق هذا الدهن الطيب، ودخل به القبر حتى يتنسم الأموات رائحة الطيب عوض الفساد الذي لحق بهم، وبقيامته قدم للعالم هذا الدهن المهرق الطيب.

لِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى

هذه الجاذبية التي خلقها الصليب في أعماقنا الداخلية حتى خرج كل ما في داخلنا كعذارى نطلب العريس وحده تولد فينا جاذبية، فلا نجري إليه وحدنا، بل ونجتذب معنا كثيرين يجرون إليه بفرح، لهذا تُناجيه النفس البشرية قائلة:

اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ،أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ،نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِكَ،نَذْكُرُ حُبَّكَ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْرِ.بِالْحَقِّ يُحِبُّونَكَ..." [4].

تقول: "إجذبني (أنا) فنجري (نحن) إليك

أدخل (أنا) إلى حجالك، فنبتهج (نحن) ونفرح (نحن) بك ...".

هذا هو سرّ الصليب وفاعليته، إنه يحمل قوة الشهادة والجاذبية، وسرّ البهجة والفرح!

أنجذب زكا العشار وراء السيد المسيح، فجمع الخطاة والعشارين ليلتقوا بالرب ويفرحوا به، وإذ جلست المرأة السامرية معه نادت أهل المدينة ليجالسوه وينعموا بحديثه الفعال.

بالصليب وحده تنجذب النفوس إلى الكنيسة خلال التوبة، أما وسائل العالم المغرية فتحطم صورة الكنيسة حتى في عيني العالم نفسه.

"أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ" [4].

طلبت النفس يد العريس السماوي قائلة: "اجذبني" لكي يسندها ويمسك بها ويدخل بها إلى حجاله الروحي في أبهج لقاء

.يرى العلامة أوريجانوس النفس وهي في حالة انجذاب ودخول إلى حجال الرب صورة للمؤمنين الروحيين الذين انطلقت أذهانهم من التفسير الحرفي لكلمة الله ودخلت بقوة الروح القدس إلى أسرار الكلمة أو التفسير الروحي العميق، تدخل إلى العريس نفسه وتكشف أسرار ملكوته، هذا هو الحجال الإلهي... الذي هو تفسير الكلمة روحيًا، المشبع للنفس لا في هذه الحياة فحسب بل وفي الأبدية أيضًا، أو كما يرى العلامة أوريجانوس هو طعام النفس السماوي.

ويرى بعض الآباء أن "الحجال الإلهي"، هو "سرّ المعمودية". ففي جرن المعمودية يلتقي المؤمن بالسيد المسيح عريسًا له. يلبس الإنسان الجديد، وينعم بالملكوت الإلهي. تلبس النفس مسيحها كثوب أبيض للعرس الأبدي، تلبسه كبرّ لها لسرّ قداستها، يتجمل به، وتحيا به إلى الأبد. في هذا يقول الرسول بولس: "قد لبستم المسيح" (غلا 3: 27)

"أَنَا سَوْدَاءُ وَجَمِيلَةٌ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، كَخِيَامِ قِيدَارَ كَشُقَقِ سُلَيْمَانَ" [5]

إنها تعترف بضعفها الذاتي لكنها تُعلن عن جمالها الذي اقتنته خلال اتحادها بالمسيح يسوع ربها، قائلة: "أنا سوداء كخيام قيدار"[30] التي بلا جمال، لكنني في نفس الوقت جميلة كستائر سليمان


وللعلامة أوريجانوس تفسير جميل لهذه العبارة... إذ يقول]:[الكنيسة هنا توجه خطابها - لا إلى العريس، ولا إلى العذارى الساعيات في الطريق – بل إلى بنات أورشليم، اللواتي اتهمن الكنيسة العروس بالقبح وشهرن بسوادها، فتُجيب الكنيسة على هذا الاتهام بحديث تؤكد به صدق الاتهام، لأنها فعلاً سوداء، وهكذا تبدو وكما حكمت عليها بنات أورشليم. ولكن ليت بنات أورشليم يدركن جمال الداخل الذي للكنيسة، إذ بينما هي سوداء فهي جميلة.

"لاَ تَنْظُرْنَ إِلَيَّ لِكَوْنِي سَوْدَاءَ (داكنة اللون) لأَنَّ الشَّمْسَ قَدْ لَوَّحَتْنِي" [6]

هكذا تعتذر (كنيسة الأمم) لبنات أورشليم عن سوادها قائلة: لا تحسبن يا بنات أورشليم أن السواد المرتسم على وجهي طبيعي، لكن لتفهمن أنه قد حدث بسبب تجاهل شمس العدل ليّ. فإن "شمس العدل" لم يصوب أشعته عليّ مباشرة، لأنه وجدني غير مستقيمة. أننيّ شعب الأمم الذي لم يتطلع إلي شمس العدل ولا وقفت أمام الرب (لو 21: 36)... فإنني إذ لم أؤمن في القديم أختارك الله ونلت أنت رحمة واهتم بك "شمس العدل" بينما تجاهلني أنا، ولوحني بسبب عصياني وعدم إيماني. أما الآن فإنك إذ صرت غير مؤمنة وعاصية، صار ليّ رجاء أن يتطلع "شمس العدل" إليّ أنا فأجد رحمة!]

ففي القديم كان الأمم مثقلين بشمس التجارب، محرومين من شمس العدل، فأعطيت الفرصة لإسرائيل أن يُختاروا وينعم عليهم بالرحمة، أما الآن إذ رفض اليهود شمس العدل وسقطوا تحت شمس العصيان وعدم الإيمان، تمتعت كنيسة الأمم بالمسيح شمس العدل. لقد زال سوادها القديم بإشراق شمس العدل عليها! ولم تعد شمس الخطية تقوى عليها، كقول المرتل "لا تحرقك الشمس بالنهار ولا القمر بالليل" (مز 120: 6).

"بَنُو أُمِّي غَضِبُو عَلَيَّ جَعَلُونِي نَاطُورَةَ (حارسة) الْكُرُومِ،أَمَّا كَرْمِي فَلَمْ أَنْطُرْهُ" [6].

من هم بنو أمها؟ وما هو سرّ غضبهم عليها؟وما هو الكرم الذي تحرسه العروس وكرمها الذي لا تحفظه؟

للعلامة أوريجانوس رأي وهو أن الملائكة هم "بنو أمها"، فقد صار البشر والملائكة منتمين إلى أم واحدة، صار الكل أعضاء في كنيسة المسيح. هؤلاء الملائكة يسندوننا ويحاربون عنا ومعنا، إذ يرسلهم الرب لعوننا في الحرب الداخلية ضد الخطية، حتى تقدر النفس أن ترعى كرم الرب الذي هو "القلب" وتتخلى عن كرمها الذاتي أو أعمال إنسانها القديم، فلا تعود تحتفظ بها بل تتخلى عنها[39]

"أَخْبِرْنِي يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، أَيْنَ تَرْعَى؟ أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ؟" [7]

إذا تحدثت الكنيسة عن عريسها "المسيا المتألم"، فرأت في آلامه جاذبية حتى انسحبت كثيرات معها إليه، هاج العدو عليها... لهذا تستنجد الكنيسة بذات العريس بكونه "الراعي الصالح"، الذي يدخل إلى حياتها ويرعاها بنفسه، أنها تناجيه

في وسط مرارة قلبها بسبب شدة حرب العدو ضدها تشعر النفس البشرية بعذوبة عناية الله راعيها، فتدعوه "يا من تحبه نفسي".

حقًا، ما أحوجنا أن يمسك الراعي نفسه بأيدينا ويدخل بنا إلى كنيسته، موضع راحته، مرعى الخلاص... هناك نلتقي بالسيد المسيح نفسه سرّ راحتنا وسلامنا، وننعم بمواهب روحه القدوس الذي يعزينا.

"أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ؟"

لماذا اختارت العروس أن تلتقي بعريسها الراعي في وقت الظهيرة

لا يمكن لأحد أن يتأهل لراحة الظهيرة ما لم يكن ابن النهار والنور... تقول العروس: "أرني كيف أربض؟ عرفني طريق راحة الظهيرة لئلا أضل عن قيادتك الأمينة، ويصيبني جهل للحق، الأمر الذي يصيب القطعان المضادة لقطيعك!"

ويقول القديس أغسطينوس[42]: [ماذا تعني الظهيرة؟ حرارة شديدة وضياء عظيم! إذًا، أنيّ أتعرف عليك يا من حكماؤك هم حارين في الروح، مضيئين في التعليم]

ويرى العلامة أوريجانوس في الظهيرة رمزًا لكمال بهاء الله، فالعروس تُريد أن تلتصق بالرب في ملء عظمته يحلو ليّ أن أبحث عنك في هذا الوقت بالذات، فلا أجد في طلبك مساءً أو عندما ترعى في الصباح، أو عند مغيب الشمس، إنما أبحث عنك في هذا الوقت... في وسط النهار حيث تكون أنت في ملء نورك... في ضياء عظمتك!"

وايضا في وقت الظهيرة صلب ربنا يسوع المسيح علي عود الصليب العريس الحقيقي فتأسله العروس (الكنيسة)لكي تهرب وتجلس تحت صليبه وتحتمي به

لماذا أنا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك

ويرى القديس چيروم أن القناع هنا يُشير إلى "برقع الشريعة القديمة"[46]، فإنه إذ تلتقي العروس براعيها عند الصليب وقت الظهيرة لا تعود تلبس قناعًا، إذ أنشق الحجاب وزال عهد الظلال، ودخلنا في عهد جديد فيه نلتقي مع الله بوجه مكشوف، أي بدالة الحب البنوي أو الحب الزوجي. لا نعود نحتاج إلى برقع نضعه على وجهنا مثل موسى، بل ندخل إلى أسرار الله، ونكون في حضرته متحدين معه


يُجيب الراعي كنيسته هكذا:

"أِنْ لَمْ تَعْرِفِي (نفسك) أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ،فَاخْرُجِي عَلَى آثَارِ الْغَنَمِ،وَأرْعَيْ جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ"

إذ سألته عن الطريق الخاص به حتى لا تصير مقنعة، تنحرف إلى قطعان الأصحاب، أوضح لها الراعي معالم الطريق في نقط ثلاث:

1. تتعرف أولاً على نفسها، وتدرك الطبيعة الجديدة التي وُهبت لها خلال رعايته.

2. تخرج عن الانعزالية والذاتية، ممتثلة بالآباء القديسين.

3. تشهد للراعي أمام الجداء لتدخل بهم إلى موضع رعايته.

1. يسألها الراعي الصالح أولاً أن تتعرف على ذاتها، أي تبدأ بالداخل، لتدرك أن الله قد خلقها على صورته ومثاله بلا عيب، وقد زينها بالجمال الفريد "الجميلة بين النساء"، وقد دفع الثمن في رعايته لها خلال الصليب.

يأمرها أيضًا بالخروج (اخرجي)، فأنها لا تقدر أن تصير "جميلة بين النساء" أن لم تخرج مع راعيها خارج المحلة لتحمل عاره (عب 13: 13). لتخرج من الأنا أو الذات البشرية، وتصلب مع عريسها، فتحيا فيه وبه، وكأنه ينصحها بل يأمرها هكذا: "إن أردتي رعايتي فاخرجي عن ذاتك وتعالي إلى صليبي".

في خروجها تخرج مع الرأس نفسه الراعي المصلوب، ومع بقية أعضاء الجسد "على آثار الغنم"، سواء مع الآباء القديسين السابقين أو مع المجاهدين. لهذا ينصحنا الرسول أيضًا: "انظروا إلى نهاية سيرتهم وتمثلوا بإيمانهم" (عب 13: 7). أن كنا نخاف الصليب، فلننظر كيف خرج آباؤنا القديسين إلى الصليب فتقدسوا وتجملوا.

3. إذ تعرف النفس مركزها الجديد كعروس جميلة وتمتثل بالآباء القديسين، حاملة عار الصليب خارج المحلة، أي خارج الذات البشرية يلزمها أن تعمل... تشهد للراعي أمام الجداء. هكذا لا تعيش في سلبية، بل يحترق قلبها من أجل الخطاة كقول المرتل: "الكآبة ملكتني من أجل الخطاة الذين حادوا عن ناموسك"، حتى تدخل بهم إلى "مسكن الراعاة"، أي إلى كنيسة المسيح التي يقطن بها الرعاة.

لَقَدْ شَبَّهْتُكِ يَا حَبِيبَتِي بِفَرَسي فِي مَرْكَبَاتِ فِرْعَوْنَ" [9].

1. هنا نلاحظ دعوته لها؟ "فرسي"، بصيغه الجمع فإذا تدخل النفس تحت رعاية السيد المسيح وتحمل مسئولية الشهادة لصليبه تلتزم بالعمل بروح الوحدة مع بقية الخيلوتنضم في العمل مع المجاهدين إذ تسير كأحد الفرسان التي في موكب المسيح يسوع ربنا

بدعوته لها "فرسي" يعلن ملكية الكنيسة للسيد المسيح. هذا هو سرّ قوتها، أنها قد صارت في ملكيته، أقتناها بدمه، ويقودها بنفسه، تعمل لحساب ملكوته، لهذا رأى القديس يوحنا اللاهوتي الكنيسة كفرس الرب الأبيض "والجالس عليه معه قوس، وقد أعطي إكليلاً، وخرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ 6: 2). كل نصرة لنا إنما هي باسمه ولحسابه.

ومن اعتزاز الرب بكنسيته التي يقودها كفرس لقب ب "الجالس على الفرس" (رؤ 19: 19، 21).أما قوله هنا "في مركبات فرعون" ربنا يؤكد أنه وإن صار المؤمنون خيلاً للرب يحملون السمة السماوية لكنهم "مركبات فرعون" أي يعيشون على الأرض (في مصر)، وقد عرفت مصر بجودة خيلها (1 مل 10: 28-29)

الذهب والفضة:
جاء في الترجمة السبعينية: "نصنع لك شبه ذهب مع مرصعات من الفضة، ما دام الملك على مائدته". فالكنيسة في العهد القديم لم يكن لها ذهب بل شبه الذهب ومرصعات من الفضة، أما وقد اتكأ الملك على مائدته صار لعروسه "الذهب"

إذ اتكأ الرب الملك على صليبه صار لنا "الذهب" أي "الحياة السماوية" بعد أن كنا نعيش قبلاً في شبه السمويات، "شبه الذهب"، خلال الرموز والظلال (غلا 3: 19؛ عب 10: 1؛ 1 كو 10: 11).

"مَا دَامَ الْمَلِكُ متكئًا على مائدته أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ" [12].

إذ ملك ربنا يسوع المسيح بالصليب، ساكبًا حياته من أجلها، تقدمت الملكة إليه ترد الحب بالحب، فتقدم حياتها ناردينًا خالصًا، تسكبه عليه، فتفوح رائحته حيثما يكرز بالإنجيل.

هذا ما تقدمه الكنيسة خلال سرّ المذبح! وإذ هي ترفع القرابين لله تقدم نفسها له قربانًا!

هذه الذبيحة العظيمة القدر، السامية، هي نحن أنفسنا!.

"صُرَّةُ الْمُرِّ حَبِيبِي لِيّ. بَيْنَ ثَدْيَيَّ يَبِيتُ" [13].

إن كان قد تألم لأجلها ومات فإنها تتقدم إليه بالمرّ الذي يُستخدم في دهن المسحة وفي الأطياب... تدخل معه إلى القبر تحمل المرّ لتكفين جسده.

1. لا تُقدم الملكة المرّ بأية طريقة كانت وإنما تحزمه وتغلق عليه "صرة المرّ"، وكما يقول العلامة أوريجانوس[53]: [بهذا لا تتشتت رائحة المرّ خارجًا، بل تبقى في الداخل فتكون رائحته أطيب وأقوى، عندئذ يقطن الملك في قلبها حيث يجد راحته، ويسكن في حضنها]

لم تقل الملكة "في قلبي يبيت" بل بين ثديي يبيت، ولعل هذا التعبير مأخوذ عن العادة القديمة أن تعلق الزوجة في عنقها سلسلة بها صورة مصغرة لزوجها الغائب علامة حبها وولائها له، إذ تستقر الصورة على صدرها].

وكما أن للملك ثديان هما "العهد القديم والعهد الجديد"، بهما تتغذى كنيسته فأن الملكة لها ذات الثديان. فإن كتاب الله إنما هو كتاب الكنيسة، يفرح الرب حين يجد كنيسته تقدم للعالم كلمته غذاء للنفوس.

يرًا تدعوه أن يبيت بين ثدييها وكأنها تقول له مع هوشع النبي: "أنيّ أعزل زناي عن وجهي وفسقي من بين ثديي" (هو 2: 2) حتى تجد لك مسكنًا في أيها القدوس. لتدخل وتبت الليل كله، فأنيّ ما دمت في ظلمة هذه الحياة الزمنية أحتاج إليك... لتدخل حتى يفيح نهار الأبدية. لتبت بين ثدييّ، فأخفيك يا إلهي داخلي، لن أخليك، فليس ليّ غيرك!.

"طَاقَةُ فَاغِيَةٍ حَبِيبِي لِيّ فِي كُرُومِ عَيْنِ جَدْيٍ" [14].

الطاقة الفاغية هي حزمة زهر الحناء، التي تطبق العروس يدها عليها طوال الليلة السابقة لزفافها حتى تصير في الصباح حمراء، ذات رائحة طيبة، وبهذا تتهيأ لعريسها وقد أمتازت عين جدي بالحناء الطيبة الرائحة.

إن كان الملك يمسك بصليبه كصولجان ملكه، فإن الملكة تمسك بعريسها في يدها وتطبق عليه فترتسم سماته وعلامة ملكه عليها... أي تحمل اللون الأحمر. إنها لن تكون ملكة ما لم تحمل علامات الصلب والبذل، وتصير حمراء كعريسها. هذا هو سرّ قوتها، وسرّ عرسها وجمالها... لهذا يناجيها الملك قائلاً:

"هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي،هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ،عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ" [15].


يدخل العريس الملك في حوار مع عروسهفهو يُناجيها مؤكدًا لها: "ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة". وهنا كلمة "حبيبتي" جاءت "القريبة مني My Neighbor" وكأنه يقول لها أن سرّ جمالها هو اقترابها إليه، بعد أن أقترب هو منها ونزل إليها.

عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ" [15].

1. يرى السيد المسيح الملك في الكنيسة جمالاً لا يشيخ، سرّه العينان الحمامتان، فقد حلّ فيها الروح القدس – الذي يظهر على شكل حمامة – ووهبها إستنارة داخلية أو بصيرة روحي


يقول العلامة أوريجانوس: [تُقارن عيناها بالحمامتين بالتأكيد لأنها قد صارت الآن تفهم الكتب المقدسة حسب الروح وليس حسب الحرف. صارت تدرك الأسرار الروحية في الكتب المقدسة، لأن الحمامة رمز للروح القدس.

ؤكد العلامة أوريجانوس أن عيني الحمامة تُشيران إلى القلب العفيف النقي، الذي يستطيع أن يتطلع إلى كلمة الله بفهم روحي، قائلاً: [من له عينا الحمامة يرى الحق ويستحق الرحمة... "يرى ذلك المستقيمون ويفرحون" (مز 107: 42)

تُشير العينان الحمامتان إلى النفس البسيطة التي سرعان ما تعترف بخطيتها وتأتي إلى الرب في توبة صادقة، كقول النبي حزقيال: "يكونون كالحمام يهدرون كل واحد على إثمه" (حز 7: 16)

"هَا أَنْتَ جَمِيلٌ يَا حَبِيبِي وَحُلْوٌ،وَسَرِيرُنَا أَخْضَرُ.جَوَائِزُ (عوارض)بَيْتِنَا أَرْزٌ،وَرَوَافِدُنَا (السقف المائل) سَرْوٌ..." [16]

إذ صار للنفس عيني حمامة، تتطلع إلى أسرار الله بالروح القدس، وتدرك جمال عريسها، تدخل معه في اتحاد أعمق... إذ تُناجيه

"سَرِيرُنَا أَخْضَرُ" [16].

ما هو هذا السرير الذي يُنسب للملك والملكة (سريرنا)، إلاَّ الجسد الذي تستريح فيه النفس، والذي يتقبل سكنى الرب فيه؟ فجسدنا لم يعد بعد ثقلاً على النفس ولا مقاومًا لعمل الله، لكنه تقدس وصار هيكلاً للرب تستريح فيه نفوسنا ويفرح به الرب. فيه يلتقي الله بالنفس البشرية وخلاله تنعم نفوسنا بالشركة مع الله، ويكون لها ثمر الروح... لذلك دعي "أخضر" أي مثمر!

لا تقل الملكة "سريري" بل "سريرنا" فإن جسدها لم يعد ملكًا لها وحدها، بل ملك للعريس الملك، لذلك دعى الرسول بولس أجسادنا أعضاء المسيح (1 كو 6: 15). لقد حملت أجسادنا انعكاسًا للوحدة الداخلية بين الكلمة الإلهي والنفس.

والسرير الأخضر يعلن أيضًا "سرّ التجسد"، فهو جسد الملك، إذ أخذ الكلمة الإلهي مالنا... أخذ بشريتنا، وحملنا فيه. هكذا نتطلع إلى جسده كسرير لنا، إذ صار لنا فيه راحة، نرى فيه اتحادنا معه

"جَوَائِزُ (عوارض) بَيْتِنَا أَرْزٌ،وَرَوَافِدُنَا (الأسقف المائلة) سَرْوٌ" [16].

بعد أن تحدثت الملكة عن سرّ اتحادها بالملك، أعلنت مسئولية العاملين في القصر الملكي لحساب هذه الوحدةيرى العلامة أوريجانوس أن الروافد أي الأسقف المائلة التي فوق المنزل والتي تحميه من حرارة الشمس والعواصف والأمطار، إنما هم الأساقفة الذين يعملون بروح المسيح وإمكانياته للحفاظ على المؤمنين

ينبغي أن يكون الأسقف من شجر السرو، إذ يمتاز بالآتي:

. تُعرف شجرة السرو بقوتها العظيمة ورائحتها الجميلة، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [في هذا إشارة إلى التزام الأسقف أن تكون له أعمال صالحة ويحمل عبيق نعمة التعليم...]، أي يحمل جانبين: السلوك الروحي المسيحي الحيّ والقدرة على التعليم ونشر رائحة المسيح الذكية، يخدم بحياته وبتعليمه!.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *   تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 9:35 am

الاصحاح الثانى



إن كانت النفس قد تحدثت مع قريباتها عن السيد المسيح كعريس لها، تمدح حبه وتسترسل في وصفه، ثم عادت فتلاقت مع خطيبها الراعي الصالح، وتعرفت عليه كملك يُقيمها ملكة تجلس معه، الآن تنزل معه الحديقة بعيدًا عن كل تكلف أو رسميات يتناجيان معًا في حديث عذب.

أنه يقول لها: إن كان العالم قد جذبك بكل مغرياته، فطلبتيّ ملذاته ومباهجه، فإنيّ أنزل إليك في العالم، وأكون في الأودية بين يديك لتتعرفين عليّ:

"أَنَا نَرْجِسُ شَارُونَ، سَوْسَنَةُ الأَوْدِيَةِ" [1].

شارون سهل في اليهودية، منطقة خصبة جدًا والمياه فيها متوفرة، لكنها لم تُزرع إذ هي مكان ضيق كان يستخدم كطريق بين مصر وسوريا. نرجس هذا السهل من نوع ممتاز، يظهر دون أن يزرعه أحد من البشر أو يتعب فيه. هكذا يظهر حبيبنا في أرضنا، جاء إلينا بنعمته، وليس لبرٍّ فينا.

وفي وسط الأودية القاحلة يظهر الرب كسوسنة، يصفها القديس غريغوريوس أسقف نيصص أنها تصعد مستقيمة إلى أعلى، زهرتها في القمة بعيدة عن الأرض... هكذا جاء الرب إلى أوديتنا القاحلة حتى يرفعنا به إلى فوق ويكون لنا الزهرة السماوية.

السيد المسيح هو زهرة الشعب اليهودي، فقد قاد الناموس إلى المسيح، وهو سوسنة الشعوب الأممية إذ قبلته مخلصًا... أنه مسيح العالم كله: اليهود والأمم.

"كَالسَّوْسَنَةِ بَيْنَ الشَّوْكِ، كَذَلِكَ حَبِيبَتِي بَيْنَ الْبَنَاتِ" [2].

يقول العلامة أوريجانوس[66]: [إذ صار هو سوسنة الأودية إنما لكي تصير حبيبته أيضًا سوسنة تتمثل به... بمعنى أن كل نفس تقترب إليه وتتبع خطواته وتتمثل به تصير سوسنة]

المؤمن في عيني الرب كالسوسنة "الزنبقة" بهية للغاية، ولا سليمان في كل مجده يلبس مثلها، جميلة لا ببرّها الذاتي، بل بنعمة الدم الذي يجري فيها

في مناجاة الحبيب: "كَالسَّوْسَنَةِ بَيْنَ الشَّوْكِ" توجيه لها أيضًا أنها إن أرادت أن تتجمل بالفضائل يلزمها أن تتحمل آلام الشوك بحذر، وكما يقول القديس أمبروسيوس[67]: [تُحاط الفضائل بأشواك الشر الروحي، حتى أنه لا يقدر أحد أن يجمع الثمر ما لم يقترب بحذر].

ويرى العلامة أوريجانوس في هذا القول صورة صادقة للكنيسة الجميلة وقد أحاطت بها الهرطقات والهراطقة يريدون إبادتها..

"كَالتُّفَّاحِ بَيْنَ شَجَرِ الْوَعْرِ، كَذَلِكَ حَبِيبِي بَيْنَ الْبَنِينَ،تَحْتَ ظِلِّهِ أشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ،وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ في حَلْقِي" [3].

إن كانت تعيش وسط الأشواك ولا تقدر أن ترتفع إليه، فهو ينزل إليها، يصير كشجرة التفاح (رمز التجسد الإلهي) بين يديها. لقد حلّ بيننا نحن الوعر بلا ثمر، وصار كواحد منا، لكن ليس بلا ثمر مثلنا، بل كشجرة التفاح: جميلة المنظر، رائحتها منعشة، يؤكل ثمرها، ويُشرب عصيره... إنه شجرة الحياة التي نقتطفها عوض شجرة معرفة الخير والشر.

إن كانت "شجرة التفاح" تُشير إلى التجسد الإلهي، فإن شجر الوعر يُشير إلى الهرطقات والتعاليم الغريبة، فإنه لا راحة لنا إلاَّ في الكلمة المتجسد وحده، بعيدًا عن كل هرطقة.

"أَدْخَلَنِي إِلَى بَيْتِ الْخَمْرِ،عَلَمُهُ فَوْقِي مَحَبَّةٌ،أَسْنِدُونِي بِأَقْرَاصِ الزَّبِيبِ،أَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ،فَإِنِّي مَجروّحة حُبّاً" [4-5].،

إذ تجلس النفس مع حبيبها عند الصليب، وتتذوق حبه اللانهائي، تطلب منه الدخول إلى أحشائه لترتوي من ينابيع حبه العميقة

سبق أن رأينا "بيت الخمر" هو بيت "الحياة الجديدة"التي صارت لنا خلال آلام السيد المسيح الخلاصية

عَلَمُهُ فَوْقِي مَحَبَّةٌ،

إذ تدخل النفس بيت حبيبها تلتزم بقانون بيته ألا وهو "المحبة"، لكنها إذ لا تقدر أن تطبقه بذاتها تسأله أن يقوم بنفسه بتدبير حياة الحب فيها أي تتسلم من الله "الحب الحقيقي" قانون محبته، فتعرف كيف تحب الله والوالدين والأخوة... الخ.

تعود النفس تصرخ معلنة حاجتها إلى "المحبة" قائلة:

"أَسْنِدُونِي بِأَقْرَاصِ الزَّبِيبِ (الأطياب)]،أَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ،فَإِنِّي مجروحة ٌحُبّاً" [5]

إذ دخلت النفس "بيت المحبة الإلهية" وتسلمت من الله تدبير الحب، تعلن أنها قد صارت مجروحة حبًا يستحيل أن تكون هذه الجراحات خاصة بحب جسداني، فأنه حسب التقاليد الشرقية لا يليق بالمحبوبة أن تقول أنها مجروحة حبًا بل للرجل وحده. هذا ومن جهة أخرى كيف تطلب المحبوبة من آخرين – غير حبيبها – أن يسندوها أو ينعشوها؟! هل يمكن لأقراص الزبيب أو الأطياب أو التفاح أن تضمد جراحات الحب أو تشفي مرضه؟

إنها صرخات النفس داخل الكنيسة "بيت المحبة"، إذ تطلب من خدام المسيح أن يسندوها بأقراص الزبيب أو الأطياب التي هي التعاليم الإلهية المعزية التي تسكب حب المسيح في الداخل، وتفيح رائحته الذكية. إنها تطلب التفاح الذي هو رمز للجسد المقدس، فهو سرّ انتعاشها الروحي! إذ هو وحده يقدر أن يشبع القلب حبًا، ويهب النفس تدبير حب حسن ولائق.

أما سرّ جراحات النفس بالحب، فكما يقول العلامة أوريجانوس[76] هو المسيح نفسه، الذي هو كلمة الله الحيّ الفعّال، الأمضى من سيف ذي حدين، يدخل إلى أعماق النفس ويجرحها بالحب الإلهي

هذه هي جراحات الحب التي جُرحت بها النفس بواسطة "السهم المختار"، السيد المسيح، الذي بمحبته يضع شماله تحت رؤوسنا حتى يوجهها بعيدًا عن الزمنيات، قاطعًا فينا كل محبة للأرضيات وبيمينه يجتذبنا نحو السمويات، لهذا تُناجيه النفس هكذا:

"شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي" [6].

بمعنى آخر، بشماله يؤدب، فتصغر أمامنا الحياة الزمنية وكل ملذات الجسد والعالم، وبيمينه يترفق إذ يفتح القلب أمام السمويات فتشتهيها.

يضع الرب تأديباته تحت رؤوسنا، إذ بدونها لا تكون رؤوسنا متزنة، ويحوط رؤوسنا بيمينه حتى تمتلئ قلوبنًا رجاءً فيه! هذه هي جراحات الحب الإلهية الصادقة الشافية.

إذ دخلت النفس إلى بيت المحبة الإلهية، وجرحت بالسهم الشافي، تتلمس محبته اللانهائية سواء في تأديباته أو حنوه، وتشعر خلال الأمرين (التأديب والحنو) كأن رأسها متكئة على شماله ومحوطة بيمينه، بهذا يصير كيانها كله في أحضانه الإلهية أما وجهها فيصير قبالة وجهه، تتقبل كل قبلات فمه الإلهية... لهذا فهي تحرص ألا يقطع أحد هذه الشركات العميقة، إذ تقول:

"أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بِالظِّبَاءِ وَبِأَيَائِلِ (قوى) الْحُقُولِ أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ..." [7].

كأنها قد حملت مشاعر الرسول بطرس حين أنسحبت أعماقه بالكامل نحو السيد المسيح المتجلي أمامه، فقال: "يا رب جيد أن نكون ههنا" (مت 17: 4).

بالتأكيد، هذه العبارة لا يمكن أن تنطبق على الحب الجسداني، إذ كيف تطلب الحبيبة من صديقاتها ألا ييقظن الحبيب؟! وهل هذا هو عملهن؟! لكنها صورة رائعة للكنيسة الأم التي تطلب من أبنائها "بنات أورشليم" أن يبقين في الأحضان الإلهية، ولا يزعجن الرب المستريح في قلوبهم بارتكابهن شرًا أو خطية! أنه صوت الكنيسة الأم تجاه كل نفس مؤمنة تدعى "ابنة أورشليم" تتطلع إلى أورشليم السمائية كأم لها، تحلفها بقوى حقلها الداخلي الذي باركه الرب! (تك 27: 27)، إذ هي فلاحة الرب (1 كو 3: 9) أن تبقى محتضنة الحب الإلهي الساكن فيها

ولعله أيضًا صوت الكنيسة الموجه إلى جماعة اليهود "بنات أورشليم" التي رأت المسيا نائمًا على الصليب، مدفونًا في القبر ألاَّ تضطرب من هذا فتنكر الإيمان به، فإنه وإن ظهر كما في ضعف لكنه يقوم متى شاء، في اليوم الثالث. لقد نام على الصليب بإرادته، ويقوم أيضًا بإرادته، إذ يقول:"ليّ سلطان أن أضعها وليّ سلطان أن آخذها"، لكن بكل أسف رفض اليهود قبول السيد المسيح المصلوب منتظرين مسيحًا حسب أهواء قلوبهم.

"صَوْتُ حَبِيبِي ، هُوَذَا آتٍ ظَافِراً عَلَى الْجِبَالِ، قَافِزاً عَلَى التِّلاَلِ،حَبِيبِي شَبِيهٌ بِالظَّبْيِ أَوْ بِصغيرِ الآيل،هُوَذَا وَاقِفٌ وَرَاءَ حَائِطِنَا،يَتَطَلَّعُ مِنَ الْكُوى،يبرق خلال الشَّبَابِيكِ" [8-9]

تتحدث كنيسة الأمم مع الشعب اليهودي في عتاب لطيف، فتقول لهم: لقد تعرفت على "كلمة الله" أو صوت الحبيب، الذي جاء متجسدًا خلال اليهود (ابن أختي)، عرفته خلال جبال الشريعة التي تسلمتموها وتلال النبوات التي بين أيديكم. لقد جاءني ظافرًا بفرح وسرور خلال الشريعة والنبوات، لكن في ملء الزمان جاءني بنفسه كالظبي حاملاً طبيعتنا، مختفيًا وراءها – واقفًا وراء حائطنا – يتحدث معنا مباشرة.

لقد تقبلت رسالة تجسده خلال كوى الشريعة وشبابيك الأنبياء... لقد عرفت صوته وأمكنني أن أميزه (يو 10: 3-4).

بماذا تُشبه العروس خطيبها؟

"حَبِيبِي شَبِيهٌ بِالظَّبْيِ أَوْ بِصغيرِ الآيل على جبال بيت آيل[81]" [9]

. يُشبه السيد المسيح بالظبي (الغزال)، وكلمة "ظبي" في العبرية تعني "جمال"، فقد جاء السيد المسيح يطلب يد البشرية التي أفسدتها الخطية وشوهت طبيعتها الداخلية وجمالها الروحي، ليتحد بها فيسكب جماله عليها.

يرى القديس أغسطينوس في الآيل ليس فقط سرعة الحركة بكل طاقاته، وإنما في جريه يظمأ فيجري نحو جداول المياه. وفي الطريق يقتل الحيات فيزداد ظمأه لجداول المياه أكثر من ذي قبل[85]. لهذا يقول المرتل: "كما يشتاق الآيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله" (مز 42: 1).

إن كان المؤمنون يجتمعون معًا بروح واحد كآيل واحدة تشتاق إلى جداول مياه حب الله، فإن ابن الله بالحق جاءنا كالآيل في ظمأ إلى "حبنا"... وفي طريق خلاصنا حطم الحية القديمة، إبليس، من أجل حبه فينا.

حسب الشريعة الموسوية، كان الظبي والآيل من الحيوانات المقدسة، أكلهما محللاً (تث 12: 22؛ 14: 5)... لهذا أختير التشبيه بالظبي والآيل، لأن الخاطب وهو يمد يده لعروسه، يقدم جسده ودمه الأقدسين مهرًا لها، سرّ تقديسها وأبديتها!.

أما تشبيهه بصغار الآيل فهو تأكيد للتجسد، فإن الله غير المحدود قد صار طفلاً بتجسده مخلياً ذاته عن كل شيء من أجلنا

هُوَذَا وَاقِفٌ وَرَاءَ حَائِطِنَا،

يُشير حائطنا إلى طبيعتنا البشرية، فقد نزل إلينا مختفيًا وراء بشريتنا حتى لا نرتعب منه أو نخافه، بل نقبله ونحب الاتحاد به.

"قُومِي يَا قريبتي، يا جَمِيلَتِي، يا حمامتي وَتَعَالَي.لأَنَّ الشِّتَاءَ قَدْ مَضَى، وَالْمَطَرَ مَرَّ وَزَالَ.الزُّهُورُ ظَهَرَتْ، بَلَغَ أَوَانُ الْقَضْبِ،وَصَوْتُ الْيَمَامَةِ قد سُمِعَ فِي أَرْضِنَا.التِّينَةُ أَخْرَجَتْ فِجَّهَا،قُعَالُ الْكُرُومِ تُفِيحُ رَائِحَتَهَا" [10–13]

إنها دعوة للقيامة الأولى، قيامة النفس البشرية في المسيح يسوع من موت الخطية وانطلاقها فوق الأحاسيس الجسدية والشهوات الأرضية، فتعيش حسب الروح لا الجسد

يبدو ليّ أنه كما أن الذين يتقبلون موت المسيح ويميتون أعضاءهم التي على الأرض يصيرون شركاء في شبه موته (كو 3: 5، رو 6: 5)، هكذا أيضًا الذين يتقبلون قوة الروح القدس ويتقدسون به ويمتلئون بعطاياه، يصيرون حمامًا، على مثاله إذ ظهر في شكل حمامة. إنهم يرتفعون بجناحي الروح القدس ويطيرون منطلقين من الأرضيات والمحسوسات إلى المواضع السماوية.

ولكي يظهر أن الوقت قد صار مناسبًا لتحقيق هذه الأمور، يتدخل بطريقة منطقية قائلاً: "لأَنَّ الشِّتَاءَ قَدْ مَضَى وَالْمَطَرَ َزَالَ". فإن النفس لا تصير واحدًا مع كلمة الله وتتحد معه ما لم يمضي مثل ذلك الزمان أي يزول كل شتاء اضطراباتها الشخصية وعواصف رذائلها، فلا تعود تهتز ولا تُحمل بكل رياح تعليم (أف 4: 14). عندما تمضي كل هذه الأمور عن النفس، وتهرب عنها عواصف الشهوات، يمكن لزهور الفضائل أن تبدأ في الظهور داخلها، ويحل أوان القضب... عندئذ أيضًا يسمع "صوت اليمامة" الذي يُشير بالتأكيد إلى الحكمة التي ينطق بها المفوض من "الكلمة" بين الكاملين، حكمة الله العميقة المخفية في سرّ (1 كو 2: 6).

هذا و ذكر الحمامة Turtle-dove يُشير إلى هذه الحقيقة: أن هذا الطائر يقضي حياته في الأماكن الخفية جدًا والنائية بعيدًا عن الجماهير. إنه يحب الصحارى الجبلية أو المناطق الخفية في الغابات، ويوجد دائمًا بعيدًا عن الجموع غريبًا عن الجماهير

"التِّينَةُ أَخْرَجَتْ فِجَّهَا"

فإن الإنسان الروحي الذي تُشير إليه التينة لم يحمل بعد ثمار الروح: محبة وفرح وسلام وبقية هذه الأمور (غل 5: 22)، إنما بدأ الآن يحمل الفج (البراعم الصغيرة).

والرب نفسه يقول في الإنجيل: "اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيدًا" (مت 12: 33)

والعجيب أنه وهو يدعوها لخبرة القيامة قائلاً لها "قومي" يقول لها "بلغ أوان القضب" أي أون تقليم الكرم الذي يُشير إلى الصلب والألم... حيث ينزع عنها فروع أعمال إنسانها العتيق والأفكار الجسدانية الزمنية حتى تأتي بثمر روحي أكثر يحمل سمات سماوية! يدخل بها إلى الآلام والصليب حتى تحمل ثمر القيامة. أنه يفصلها عن شتاء برودة الروح القارصة ليدخل بها إلى ربيع الحياة الجديدة المقامة في المسيح يسوع.

تكرار الدعوة للقيامة:

يكرر السيد الدعوة لخطيبته أن تقوم، قائلاً لها:"قُومِي وَتَعَالَيْ، يَا قريبتي، يَا جَمِيلَتِي،يَا حَمَامَتِي فِي مَحَاجِئِ الصَّخْرِ، فِي سِتْرِ الْمَعَاقِلِ.أَرِينِي وَجْهَكِ، أَسْمِعِينِي صَوْتَكِ،أَنَّ صَوْتَكِ لَطِيفٌ، وَوَجْهَكِ جَمِيلٌ" [13-14]

لماذا يكرر الخاطب الدعوة لعروسه أن تقوم؟ يُجيب القديس غريغوريوس أسقف نيصص قائلاً:بإنه يدعو العروس القائمة أن تقوم ثانية، والتي اقتربت إليه أن تأتي إليه... لأنها يليق بها أن تدخل من مجد إلى مجد (2 كو 3: 18)، وهي دومًا تتطلع إلى ما هي عليه فترى نفسها أقل بكثير مما تود أن تكون عليه. فمع كونها "حمامة" لكمالها في المسيح، لكنه يوصيها مرة أخرى أن تصير "حمامة" أي تدخل إلى حال أكمل، وإذا هي قائمة يدعوها أن تقوم معطيًا إياها قوة للقيام على الدوام ولحياة النمو والتقدم.

في المرة الأولى يدعوها أن تقوم وتأتي إليه: "قومي... وتعالي"، أما الآن فهو يدعوها أن تخرج من بيتها ومن مدينتها وتنطلق إلى محاجئ الصخر إلى ستر المعاقل. فإذ مضى وقت الشتاء الذي فيه أغلقت العروس على ذاتها، يلزمها الآن أن تخرج وتنطلق ليس فقط عن شهوات الجسد الشريرة بل وعن العالم المنظور كله... إنه يدعوها للقاء معه داخل الحصون الأبدية غير المنظورة!

دخولها الصخرة للقاء مع العريس يُشير إلى آمانها، فهناك لا تقدر الحية القديمة أن تجد لها مسلكًا، إذ جاء في سفر الأمثال: "ثلاثة عجيبة فوقي وأربعة ولا أعرفها: طريق نسر في السموات وطريق حية على صخر..." (أم 30: 18). ويعلق العلامة أوريجانوس على ذلك بالقول[90]: [إنه لا يوجد مسلك للحية (على الصخر)، أي لا يمكن أن يوجد أثر للخطية على هذه الصخرة التي هي المسيح، إذ هو وحده بلا خطية. فإذ تستفيد النفوس من الاحتماء داخل هذه الصخرة، تذهب بسلام إلى موضع الحصون، أي تتمتع بالتأمل في الأمور الأبدية غير الجسدية].

لقد تحدث داود عن هذه الصخرة بطريقة مجازية أخرى في المزمور: "أقام على صخرة رجلي، ثبت خطواتي" (مز 40: 3)

"َوَجْهَكِ جَمِيلٌ"

تستطيع أن تدرك أي نوع من "الوجه" هذا الذي مدحه كلمة الله ووصفه أنه جميل أن فهمت ما عناه بولس بالوجه في قوله: "ونحن جميعًا ناظرين... بوجه مكشوف" (2 كو 3: 18)، وقوله أيضًا: "لكن حينئذ وجهًا لوجه" (1 كو 13: 12). إنه بلا شك نوع من الوجه يتجدد يومًا فيوم (2 كو 4: 16)، حسب صورة خالقه (كو 3: 10)، ليس فيه دنس أو غضن أو شيء من مثل ذلك بل يكون مقدسًا وبلا عيب، كالكنيسة التي يحضرها المسيح لنفسه (أف 5: 27)، بمعنى آخر يعني النفوس التي بلغت الكمال، هذه التي تكون جسد الكنيسة، يظهر هذا الجسد بالحق جميلاً ووسيمًا، متى كانت النفوس التي تتكون منه مثابرة على نوال جمال الكمال. فإنه كما أن النفس حين تكون ثائرة تشوه شكل الوجه الجسدي وتجعله مثيرًا، أما إذا كانت في هدوء فتعطي للوجه شكلاً يحمل سلامًا ورقة، هكذا أيضًا وجه الكنيسة يكون جميلاً أو قبيحًا حسب سمات المؤمنين وطموحهم. لقد كتب "الوجه الطلق يُشير إلى قلب ناجح" (ابن سيراخ 13: 26)، وفي موضع آخر قيل "القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا، وبحزن القلب ينسحق الوجه" (أم 15: 13). يكون القلب فرحًا متى كان روح الله فيه، هذا الذي أولى ثماره هي المحبة والثانية هي الفرح (غل 5: 32). وإننيّ أظن أن الحكم العالمية قد أخذت أفكارها من هذه الحقائق إذ قالت أن الحكيم جميل وكل إنسان شرير هو قبيح.

"ستر المعاقل"

فإن هذا التعبير كما قلنا قبلاً يعني وجود سور أمام سور، وهذا ما عبر عنه إشعياء: "يجعل الخلاص سورًا وسورًا حولها" (إش 26: 1). السور يُشير إلى المدينة، والسور الآخر الذي أمام الأول أو حوله فيُشير إلى حصانات أعظم وأقوى. وكان كلمة الله يدعو النفس ويقودها من أهتماماتها الجسدية وإدراكاتها الحسية ويخرج بها ليعلمها أسرار الحياة الأخرى، فتكون في حصانة حتى إذ تتقوى وتُحاصر بالرجاء في الأبديات، لا يسحبها طعم ما ولا تقلقها التجارب.

"خُذُوا (أمسكوا) لَنَا الثَّعَالِبَ الثَّعَالِبَ الصِّغَارَ الْمُفْسِدَةَ الْكُرُومِ،لأَنَّ كُرُومَنَا قَدْ أَقْعَلَتْ (أزهرَتْ)" [15].

ما هي هذه الثعالب الصغيرة؟

إن أخذنا هذا التحذير موجهًا من السيد المسيح إلى المؤمن أو النفس التي ترتبط بمسيحها فإن هذه الثعالب الصغيرة قد تكون خطايا نحسبها هينة كالكذب الأبيض أو الهزل... وقد تكون أصدقاء ظرفاء أو كتبًا معينة أو مكانًا معينًا... لهذا يليق بنا أن نحفظ كل أبوابنا الداخلية مغلقة تجاه أي ثعلب صغير، ممتنعين عن كل شبه شر (1 تس 5: 22).

ويرى العلامة أوريجانوس أن هذه الثعالب الصغيرة [هي قوى الشياطين المضادة التي تُحطم زهور الفضائل في النفس وتبدد ثمر الإيمان خلال الأفكار الفاسدة والمفاهيم المضللة التي تبثها[92]]. كما يقول أيضًا: [إنه بالتأكيد في لحظة الخطية، يكون روح شرير ما حاضرًا في قلب الإنسان، وهناك يعمل.إننا نسمح له بالدخول ونستقبله في داخلنا بميولنا الشريرة]

وكما يقول القديس مرقس الناسك: [يقدم لنا الشيطان خطايا صغيرة تبدو كأنها تافهة في أعيننا، لأنه بغير هذا لا يقدر أن يقودنا إلى الخطايا العظيمة]

إذا أخذنا هذا التحذير موجهًا من السيد المسيح إلى الكنيسة، يقول العلامة أوريجانوس: [فإن هذه الكلمات تظهر موجهة إلى معلمي الكنيسة، فتُطعي لهم الأوامر باقتناص الثعالب المفسدة الكروم. هنا تُفهم الثعالب بكونها المعلمين الذين يروجون التعاليم الهرطوقية، هؤلاء الذين يضللون قلوب البسطاء ويفسدون كرم الرب فلا يأتي بزهر الإيمان الأرثوذكسي مستخدمين حججهم المنمقة. لهذا تعطى الأوامر لمعلمي الكنيسة الجامعة أن يسرعوا إلى انتهار هذه الثعالب ومقاومتها وهي بعد صغيرة ومبتدئة في تعاليمها الفاسدة، وأن يُخضعوا مقاومي كلمة الحق ويأسروهم بإظهار الحق[95]].

صيادو الثعالب الصغيرة:

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص[97] أن صيادي الثعالب الصغار هم القوات الملائكية أو جماعة الرسل القديسين:

1. ربما يكونون القوات الملائكية الذين يصحبون الرب في نزوله على الأرض، ويعملون لحساب ملكوته، فقد قيل عن الرب أنه قوي وقدير في المعركة (مز 23: Cool

2. قد يمثلون الرسل الذين أُرسلوا لاصطياد مثل هذه الحيوانات المفترسة من قلوب البشر ليجعلوا لابن الإنسان موضعًا يسند رأسه فيها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *   تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 9:41 am


الاصحاح الثالث


وليمة العُرس

بالتجسد الإلهي نزل الخاطب إلى خطيبته يطلب يدها، وبقيامته دعاها أن تقوم به ومعه فلا تخاف الموت ولا ترعب سلطان الخطية، لكنه طالبها أن تحذر الثعالب المفسدة لكرم الاتحاد معه. استجابت العروس لدعوة الخاطب المتكررة "قومي... تعالي" فدخلت وليمة العرس التي هي صلبه وقيامته لتنعم بالاتحاد به، فناجته قائلة:

"حَبِيبِي لِيّ وَأَنَا لَهُ، الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ.إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ،ارْجِعْ وَأَشْبِهْ يَا حَبِيبِي الظَّبْيَ وصغير الأَيَلِعَلَى الْجِبَالِ الْمُشَعَّبَةِ (الضيقة)" [16-17].

اعتادت الكنيسة القبطية أن تسمي سرّ الزواج "عقد أملاك وزواج" ففي هذا السرّ يُقدم كل منهما نفسه في ملكية الآخر، كقول الرسول بولس "ليس للمرأة تسلط على جسدها بل للرجل، وكذلك الرجل أيضًا ليس له تسلط على جسده بل للمرأة" (1 كو 7: 4). فلا يطلب أحدهما ما لنفسه بل ما هو للآخر، متخليًا عن الكثير من ميوله ورغباته لأجل الآخر، مقدمًا كل ما يملك للطرف الآخر.

هذا السرّ تراه النفس البشرية أو الكنيسة في أكمل صورة على الصليب، حيث يُقدم الرب دمه مهرًا ليدخل كل منهما في ملكية الآخر... لتقول العروس "حبيبي ليّ وأنا له"

رأته على الصليب معلقًا، فأدركت بحق مفهوم العرس السماوي، فقد اشتراها بكمال حبه، قدم حياته فدية لحياتها، لهذا هي أيضًا تلتزم أن تُقدم حياتها له بفرح وسرور. حتى في الحياة الأبدية تتغنى هكذا: "لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لله بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ" (رؤ 5: 1).

خلال الصليب تُناجى النفس عريسها الأبدي، قائلة: "حبيبي ليّ وأنا له". كأنها تقول له لقد قدمت ليّ كل حياتك فماذا أرد لك؟! أنت لست محتاجًا إلى عبوديتي ولا إلى خدمتي ولا إلى تسبيحي لكنك تريد حياتي كلها!

الراعي بين السوسن:

إن كان العريس قد سبق فدعى نفسه "سوسنة البرية" (نش 2: 1)، والآن فإن الكنيسة تود أن تفرح قلبه فتدعوه: "الراعي بين السوسن"، وكأنها تقول له: أيها السوسنة المتألمة، لقد أثمرت شجرة صليبك اتحادا، فجعلت منا نحن أيضًا "سوسن" على مثالك.

لتفرح وتسر، فإن كنيستك قد حملت سماتك وشاركتك حتى في أسمك!

وليمة القيامة أو الوليمة الأبدية:

إذ دخلت النفس وليمة العرس الإلهي وتذوقت قيامة الرب في حياتها، أي اختبرت القيامة الأولى، قيامة النفس من موت الخطية، اشتهت القيامة الثانية أو قيامة الجسد في مجيء الرب الأخير، فصارت تستعطف العريس قائلة: "أرْجِعْ يَا حَبِيبِي". وكأنها تقول له في مجيئك الأول كنت وراء حائطنا ولم أعرفك، ولا انتظرتك، الآن قد عرفتك أنت كالظبي أو كصغير الآيل، صارت ليّ خبرة معك، أقول: نعم، تعال أيها الرب يسوع فأنيّ ألقاك لأعيش معك إلى الأبد.


نها تتوسل إليه أن يأتي إليها، لكن ليس كالمرة الأولى وراء الحائط يبرق من الشبابيك، إنما يأتي على السحاب علانية، في النهار الجديد، إذ "يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ"

بالقيامة الأولى ندخل إلى النهار الجديد، لكننا إذ نرفع أعيننا إلى القيامة الأخيرة ومجيء الرب الأخير نرى كأن حياتنا في ظلال تنتظر النهار الأبدي فنصرخ معترفين بضعفنا: "إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ"... نراه قادمًا على الجبال المشعبة المملوءة ضيقًا، لكي يهزم ظلال الزمن ويدخل بنا إلى النهار الذي ليس فيه ليل، الذي وصفه الرسول يوحنا هكذا:


"ولا يكون ليل هناك ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الرب الإله يُنير عليهم وهم سيملكون إلى أبد الآبدين" (رؤ 22: 5).

"أبوابها لن تغلق نهارًا، لأن ليلاً لا يكون هناك" (رؤ 21: 25).

التعرف على القائم من الأموات:

بعد أن ترنمت العروس تمتدح فاعلية الصليب في حياتها معلنة أن وليمة القيامة هي وليمة العرس، خلالها تنعم بالاتحاد مع العريس وتنطلق أعماقها الداخلية نحو مجيئه الأخير، استعرضت في صورة رمزية لأحداث القيامة بالنسبة لها، فقالت:

ِفي اللَّيْلِ عَلَى فِرَاشِي طَلَبْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي،طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ، دعوته فما سمع ليّ[103]،إِنِّيّ أَقُومُ وَأَطُوفُ فِي الْمَدِينَةِ، فِي الأَسْوَاقِ وَفِي الشَّوَارِعِ، أَطْلُبُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ،وَجَدَنِي الْحَرَسُ الطَّائِفُ فِي الْمَدِينَةِ فَقُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي؟فَمَا جَاوَزْتُهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً حَتَّى وَجَدْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي،فَأَمْسَكْتُهُ وَلَمْ أَرْخِهِ حَتَّى أَدْخَلْتُهُ بَيْتَ أُمِّي وَحُجْرَةَ مَنْ حَبِلَتْ بِيّ.أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بِالظِّبَاءِ وَبِأَيَائِلِ (قوي) الْحَقْلِ أَلاَّ تُيَقِّظْنَ الْحَبِيبَ حَتَّىيَشَاءَ" [1–5].

يمكننا تفسير هذا الحديث من وجهتين، كحديث الكنيسة الجامعة لعريسها المسيح، أو حديث النفس كعضو في الكنيسة مع مسيحها.

1. التفسير الأول: حديث الكنيسة الجامعة:

حمل هذا الحديث الرمزي صورة حية لأحداث القيامة بالنسبة للكنيسة منذ أرتفع عريسها على الصليب فقد طلبته ثلاث مرات ولم تجده إلاَّ في المرة الأخيرة.

أ. ففي المرة الأولى طلبته "في الليل"، ولعل ذلك إشارة إلى الظلمة التي غطت الأرض في لحظات الصليب، إذ يقول الكتاب: "ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة.

ب. وفي المرة الثانية طلبته العروس ليلاً، ليس على فراشها وإنما كما قالت: "إِنِّي أَقُومُ وَأَطُوفُ فِي الْمَدِينَةِ فِي الأَسْوَاقِ وَفِي الشَّوَارِعِ"، وهذا إشارة إلى حال التلاميذ بعدما دفن الرب ودخلوا إلى العلية وتحول وقتهم كله إلى ليل، إذ طلبوا الرب وهم خائفين والأبواب مغلقة. لقد حاولوا أن يسترجعوا قوتهم ويقومون يبحثون عنه في المدينة في الأسواق والشوارع

ج. أما في المرة الثالثة فقد تم البحث عنه عند القبر الفارغ، فقد خرجت مريم فجر الأحد والظلام باق لم تبالي أن تسير في الشوارع والأسواق حتى اجتازت القبر. لقد خرجت نيابة عن الكنيسة حزينة القلب وسألت الملاك بدموع عمن تحبه نفسها، وما جاوزته قليلاً حتى رأت الرب والتصقت به[104]... لقد أمسكت به أولاً لكنها إذ أرادت أن تبقى هكذا سألها أن تسرع وتخبر التلاميذ أن يلتقوا به في الجليل... وكأن القديسة مريم قد دخلت به إلى الكنيسة بيت أمها وحجرة من حبلت بها.

أما حديث الكنيسة: "أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بِالظِّبَاءِ وَبِأَيَائِلِ (قوي) الْحَقْلِ أَلاَّ تُيَقِّظْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ" فهو حديث عتاب مملوء حبًا موجه من الكنيسة المسيحية إلى جماعة اليهود. لقد سخروا بالعريس على الصليب قائلين: "إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب" (مت 27: 40)، وكذلك رؤساء الكهنة أيضًا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: "خلص آخرين وأما نفسه فلم يقدر أن يخلصها. إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به" (مت 27: 41-42). وكأن الكنيسة بعد أن دخلت إلى قيامته عادت تقول لبنات أورشليم: لماذا كنتن تستعجلن العريس أن يقوم، أسألكن بحق الأنبياء "الظِّبَاءِ وأَيَائِلِ الْحَقْلِ" أن تتركن إياه ليقوم في اليوم الثالث حيث شاء هكذا! إن كان قد رقد على الصليب فراجعن النبوات واذكرن أنه يقوم متى شاء! لقد عرفت الآن سرّ موته ودفنه، إنه مات عن قوة، وقام ليقيمنا معه!

2. التفسير الثاني: حديث النفس البشرية:

أ. طلب الرب بالمجهود البشري الذاتي: لقد بدأت النفس حديثها: "فِي اللَّيْلِ عَلَى فِرَاشِي..." لعلها في وقت ضعفها حلمت حلمًا مزعجًا أنها قد فقدت عريسها، فخرجت تبحث عنه بمجهودها الذاتي لكنها لا تقدر أن تلتقي معه إن لم يجتذبها هو إليه.

ربما عنت بالليل إنها صارت مسترخية في ظلمة الاستهتار، تطلبه وهي مستلقية على فراشها في تواكل بلا جهاد روحي حق... لذلك طلبته فما وجدته. إنما لم تسترح على السرير الذي وصفته قبلاً "سريرنا أخضر" (نش 1: 16)، لكنها أرادت أن تستلقي على سريرها البشري.

رأينا أن الحديث عن "سريرنا الأخضر" يُشير إلى اتحاد الله الكلمة ببشريتنا، فحمل جسدنا فيه، أما الحديث عن "سريري" أو "فراشي" فيُشير إلى "جسدي" أو "بشريتي" في اعتزالها أو اعتدادها بذاتها.

"مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي"

أنها تدعوه هنا "مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي" ولا تعطه اسم، لأنها حين طلبته باسم له، ذاك الذي لا يسمى، لم تجده... سألت عنه القوات الملائكية المجتمعين يسبحون معًا في أعداد بلا حصر فصمتوا... إذ هي تطلب ذاك الذي لا يُدرَك بطريقة محدودة مدركة... وفي صمتهم أدركت خطأها. لهذا فإنها تحرص الآن ألاَّ تلقبه باسم ما

في المرحلة الثانية خرجت النفس من ذاتها، إذ تركت فراشها قائلة "أقوم"، ودخلت المدينة تبحث عن عريسها، تبحث عنه داخل المدينة في الأسواق والشوارع

في المرحلة الثالثة بحثت عنه خلال "الحراس" الذين هم خدام الكلمة الإلهي وفي هذه المرة أيضًا لا تقدر أن تلتقي بعريسها إلاَّ بعد تجاوزهم قليلاً. فالعاملون في الكرم يسندون النفس للدخول إلى العريس، لكنهم لا يقدرون أن يدخلوا بها إليه إلاَّ بعمله هو، إذ وحده يقدر أن يجتذب القلب نحوه.

"مَنْ هَذِهِ الصَّاعِدَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ،كَأَعْمِدَةٍ مِنْ دُخَانٍ،مُعَطَّرَةً بِالْمُرِّ وَاللُّبَانِ وَبِكُلِّ أَذِرَّةِ التَّاجِرِ؟" [6].

انتهى الحلم المزعج وتبددت الظلمة بقيامة الرب، فتعرفنا عليه وتمتعنا بالاتحاد به، وصار لنا سمة "قيامته"، لهذا وقفت الملائكة كأصدقاء العريس القائم من الأموات تترنم ممتدحة العروس القائمة مع عريسها:

يلاحظ أن هذا الحديث لا يمكن أن ينطبق على الحب الجسداني

والآن نراها فجأة توصف أنها صاعدة من البرية معطرة بالمر وباللبان ومزينة بكل أدوات التجميل (الأذرة) المشتراة من التاجر... فهل تدخل به إلى بيت أمها وتتركه لتخرج بالعطور والزينة؟! لكنه حديث روحي رائع فإن العروس وقد التقت بعريسها القائم من الأموات الصاعد إلى سمواته قد أدخلته إلى قلبها... وكانت الثمرة الطبيعية لهذا العمل أن صعدت به ومعه إلى سمواته، كقول الرسول بولس: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات". دخوله إلى أعماقها رفعها عن برية هذه الحياة، فصارت تُناجيه: "ليّ اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذلك أفضل" (في 1: 23).

اعمدة من دخان معطرة:

في القديم كان الله ينزل على جبل سيناء فيدخن علامة بهاء مجده وقدرته (خر 19: 18؛ 20: 18؛ مز 104: 32؛ 144: 5)، وإذ كان مجده ينزل في بيته المقدس، سواء الخيمة أو الهيكل، كان الموضع يمتلئ دخانًا (إش 6: 4؛ راجع رؤ 15: Cool. أما وقد أنفتح قلب المؤمن للرب صارت حياته نفسها مجدًا لله، صارت دخانًا طيبًا صاعدًا من برية هذا العالم ومرتفعًا نحو السماء.


كان الدخان يُشير إلى حلول الله وحضرته ليعطي وعدًا لأحبائه كما فعل مع إبرام حين شق الذبائح الدموية من الوسط ودخل الرب معه في وعود حية، إذ بتنور دخان ومصباح نار يجوز بين القطع (تك 15: 17)، أما الآن فقد حلّ الرب في قلب شعبه وانطلق بهم كالدخان لا ليسمعوا وعودًا من الله إنما لينعموا بالله نفسه نصيبهم

وكان الدخان أيضًا يُشير إلى حضرة الرب لتقديس شعبه كقول النبي إشعياء: "إِذَا غَسَلَ السَّيِّدُ قَذَرَ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ وَنَقَّى دَمَ أُورُشَلِيمَ مِنْ وَسَطِهَا بِرُوحِ الْقَضَاءِ وَبِرُوحِ الإِحْرَاقِ، يَخْلُقُ الرَّبُّ عَلَى كُلِّ مَكَانٍ مِنْ جَبَلِ صِهْيَوْنَ وَعَلَى مَحْفَلِهَا سَحَابَةً نَهَاراً وَدُخَاناً وَلَمَعَانَ نَارٍ مُلْتَهِبَةٍ لَيْلاً" (إش 4: 4-5)، أما الآن وقد تقدست الكنيسة في دم المسيح واغتلست في مياه المعمودية ألهبها نار الروح القدس فصارت دخانًا مقدسًا يرتفع إلى حيث المسيح جالس

ويُشير الدخان إلى حياة الصلاة كقول القديس يوحنا اللاهوتي: "فصعد دخان البخور مع صلوات القديسين من يد الملاك أمام الله" (رؤ 8: 4)... لهذا جاء في سفر النشيد أن الصاعدة كأعمدة من بخور معطرة بالمر واللبان... لأن اللبان رمز لحياة الصلاة.

زمان وليمة العرس:

"هُوَذَا سَريِر سُلَيْمَانَ حَوْلَهُ سِتُّونَ جَبَّاراً مِنْ جَبَابِرَةِ إِسْرَائِيلَ،كُلُّهُمْ قَابِضُونَ سُيُوفاً وَمُتَعَلِّمُونَ الْحَرْبَ.كُلُّ رَجُلٍ سَيْفُهُ عَلَى فَخْذِهِ مِنْ هَوْلِ اللَّيْلِ.اَلْمَلِكُ سُلَيْمَانُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ تَخْتاً مِنْ خَشَبِ لُبْنَانَ.عَمِلَ أَعْمِدَتَهُ فِضَّةً وَرَوَافِدَهُ ذَهَباً وَمَقْعَدَهُ أُرْجُوانا،وَوَسَطَهُ مَرْصُوفاً مَحَبَّةً مِنْ بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ" [7–10]

إن كان صليب الرب وقيامته هما سرّ وليمة العرس، إذ يتقدم العريس القائم من الأموات ويقيم عروسه التي دخلت معه دائرة آلامه وصلبه، يسكن في قلبها فترتفع به صاعدة إلى السماء معطرة ومزينة بكل جمال روحي، فإننا نتساءل: متى يكون هذا؟ أو ما هو زمان الوليمة؟

لقد جاءت الإجابة تحمل جانبين: جانب زمني وآخر أبدي. ندخل إلى موكب العريس ووليمته في زمان غربتنا، في ليل هذا العالم لنحارب أهوال الليل، مجاهدين حتى الدم، وننعم بموكبه الأبدي، في النهار الذي بلا ليل حيث نجلس عن يمينه، شركاء معه في المجد. لهذا يظهر العريس في موكبين أحدهما في الليل حيث يقيم على السرير في وسط أولاده المجاهدين، والآخر في النهار جالسًا على تخته الأبدي.

من هم الستون جبارًا من جبابرة إسرائيل المحيطون به؟

هم أبناء الملكوت، إسرائيل الجديد الروحي، المختارون الذين قبلوا الصليب ودخلوا مع الله في عهد جديد. هؤلاء جاءوا إلى الوليمة في دلال الحب لكن بغير ميوعة، إنما تسلحوا بسيف الروح وخوذة الخلاص، مجاهدين حتى الدم ضد الخطية بغير هوادة. لهذا ينصحنا الرسول بولس قائلاً: "أَخِيراً يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ. الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ. فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ... مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ، وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ، وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ. حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ. وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ" (أف 6: 10– 17).

أما سرّ عددهم 60 فنحن نعلم أن رقم 12 يُشير إلى ملكوت الله على الأرض، إذ يقول القديس أغسطينوس أن الثالوث القدوس (3) يملك على أركان المسكونة (4). إذن ملكوت الله على الأرض يعني 3 × 4 (12). لهذا كان أسباط بني إسرائيل أثني عشر، وعدد تلاميذ العهد الجديد إثني عشر، كما أن عدد أبواب أورشليم أثنا عشر بابًا. ويرى القديس غريغوريس أسقف نيصص أن كل واحد منهم حمل خمسة سيوف التي هي تقديس الحواس الخمس بالمسيح يسوع ربنا، فيكون العدد (12 × 5 = 60). كأن كل الذين صاروا أعضاء في ملكوته تقدست حواسهم بالكمال في المسيح يسوع.

دعوة للوليمة:

"اُخْرُجْنَ يَا بَنَاتِ صِهْيَوْنَ وَانْظُرْنَ الْمَلِكَ سُلَيْمَانَ بِالتَّاجِ الَّذِي تَوَّجَتْهُ بِهِ أُمُّهُ، فِي يَوْمِ عُرْسِهِ وَفِي يَوْمِ فَرَحِ قَلْبِهِ" [11].

هذه هي الدعوة التي توجهها الكنيسة للعالم للتمتع بوليمة الصليب. إنها تطلب من البشرية أن تخرج من ذاتها، من الأنا... "اُخْرُجْنَ"، حتى يستطعن التمتع برؤية الملك الحقيقي "سليمان الجديد"، وقد توجته أمة اليهود بإكليل الشوك.

خلال البصيرة الروحية يرى المؤمنون التاج السري للمصلوب ألا وهو "غفران خطايانا وإزالة اللعنة"[110].

هذا هو يوم عرسه ويوم فرح قلبه، إذ قدم دمه مهرًا لعروسه!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *   تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 9:56 am

الاصحاح الرابع



الزفاف السماوي

1. العروس المقامة.

2. العروس تشارك عريسها.

كان بالتجسد الإلهي نزل كلمة الله إلينا يخطبنا عروسًا له، وبصلبه أقام حفل العرس، فإنه بقيامته قد بررنا، فصرنا العروس المقامة التي بلا عيب، لهذا يمتدحها العريس، ناظرًا فيها كل جمال، قائلاً لها:

"هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي، هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ!" [1].

خلال القيامة وهب الكنيسة كل جمال روحي وقوة، الذي يتحدث عنه القديس بطرس الرسول قائلاً: "كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلَهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ" (2بط 1: 3-4). أما علامات هذا الجمال فهي

1. "عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ مِنْ تَحْتِ نَقَابِكِ (صمتك)" [1].

يقول القديس أبدوسيوس:[العينان جميلتان كعيني حمامة لأنها في شبه حمامة الروح القدس التي نزلت من السماء].لقد سبق فرأينا الرب يشبه كنيسته بعيني الحمامة، لأنها إذ تنظر على الدوام الروح القدس تتجلى صورته على عينيها فيكون لها البصيرة الروحية البعيدة عن كل انطباع أرضي أو جسدي، وتكون بسيطة لا تطلب إلاَّ ما لله، تحب كالحمام، ولا تستريح إلاَّ في أحضان نوح الحقيقي كما فعلت الحمامة التي انطلقت من الفلك.

أما كونهما تحت النقاب، فذلك لأن أسرار الروح التي تعاينها عيني الكنيسة لا يستطيع العالم أن يفهمها أو يدركها، فتبقى بالنسبة له كأنها تحت نقاب!

أما الترجمة الحرفية فهي "في صمتك"، فإن الكنيسة وقد انفتحت بصيرتها لمعاينة أسرار محبة الله الروحية تقف في صمت تتأمل أعمال الله الفائقة، وكما يقول القديس يوحنا سابا[113]: [من شاء أن يتكلم عن محبة الله، فهو يبرهن على جهله، لأن الحديث عن هذه المحبة الإلهية غير ممكن البتة

2. "شَعْرُكِ كَقَطِيعِ مِعْزٍ رَابِضٍ عَلَى جَبَلِ جِلْعَادَ" .

إن كان السيد المسيح هو رأس الكنيسة، فإن الكنيسة هي الشعر المحيط بالرأس[114] الذي يعيش عليه، بدون الرأس لا تساوي شيئًا، ولا يكون لها وجود

هذا هو شعب المسيح، إنه كقطيع ماعز يرعى على جبل جلعاد العالي، جبل كلمة الله المرتفعة التي تنطلق بقلوب أولاد الله نحو السماء

كلما أرتفع القطيع على الجبل يراه الإنسان من بعيد في وحدة واحدة، فلا يقدر أن يميز واحدة عن الأخرى... وهكذا إذ نقوم مع الرب ونرتفع خلال كلمة الخلاص إلى فوق ونتمتع برعايته الكنسية لنعيش بروح سماوي تزول عنا روح الفرقة والانشقاق التي علتها الفكر الأرضي وطلب الكرامة الوقتية ومحبة العالم.

إذ نقوم مع الرب نصعد على جبل جلعاد كقطيع الماعز الذي يجتمع معًا على القمم فيُرى من بعيد كشعرٍ صقيل أسود براق لا يدخله الشيب، إذ يجدد الرب كالنسر شبابنا

أما اختياره جبل جلعاد فلأسباب كثيرة:

. امتازت منحدرات جبل جلعاد بوفرة العشب، فصار مثلاً لحياة الشبع، فحينما وعد الرب شعبه قديمًا أن يخلصهم من بابل العنيفة ويدخل بهم إلى الشبع قال لهم: "وَأَرُدُّ إِسْرَائِيلَ إِلَى مَسْكَنِهِ فَيَرْعَى كَرْمَلَ وَبَاشَانَ وَفِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ وَجِلْعَادَ تَشْبَعُ نَفْسُهُ" (إر 50: 19)، وفي سفر ميخا قيل: "لترع في باشان وجلعاد كأيام القدم" (ميخا 7: 14).

. قديمًا كان البلسان ينبت في جلعاد، يُعرف برائحته العطرة التي طالما أطنب الشعراء والمؤرخون القدماء في مدحه، واستخدمه الأطباء في شفاء الجروح والأمراض، لهذا جاء في إرميا النبي: "أَلَيْسَ بَلَسَانٌ فِي جِلْعَادَ أَمْ لَيْسَ هُنَاكَ طَبِيبٌ؟ فَلِمَاذَا لَمْ تُعْصَبْ بِنْتُ شَعْبِي؟!" (إر 8: 22). وكأنه على جبل جلعاد يعصب الطبيب الحقيقي – يسوع المسيح – جراحات شعبه ويشفي أمراضهم ببلسان دمه المبذول على الصليب

"أَسْنَانُكِ كَقَطِيعِ الْجَزَائِزِ (المجزوزة) الصَّادِرَةِ مِنَ الْغَسْلِ" [3].

لاق بالكنيسة أن يكون لها أسنان، فقد نمت ونضجت ولم يعد يكفيها لبن التعليم، إنما تطلب دسمه، تمضغه وتهضمه في حياتها.

يقول القديس أغسطينوس أن أسنان الكنيسة هم خدامها الذين يمضغون الطعام كالمرضعات ويقدمونه لبنًا للأطفال الصغار في الإيمان. هذه الأسنان مختلفة الأصناف من أنياب وضروس... لكنها تعمل لغاية واحدة وبروح واحد للبنيان.

الخادم كالغنمة المجزوزة، يقص صوفها... أي يقطع عن نفسه أفكار الجسد وأعماله بواسطة الروح القدس الذي وهب له في جرن المعمودية (الغسل). فإن الصوف في الكتاب المقدس يُشير إلى الحياة الجسدية، لهذا كان محظورًا على الكهنة في العهد القديم أن يدخلوا القدس بثياب مصنوعة من الصوف، إنما تكون ثيابهم من الكتان علامة برّ المسيح. كما أكدت الشريعة الموسوية "لا تلبس ثوبًا مختلطًا صوفًا وكتانًا معًا" (تث 23: 11)، "لأنه أية خلطة للبر والأثم، وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال، وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟!" (2 كو 6: 14-15).

4. "اللَّوَاتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ وَلَيْسَ فِيهِنَّ عَقِيمٌ"

الطفل الطبيعي غالبًا ما تنبت في لثته الأسنان مثنى مثنى، وهكذا كان الله يرسل تلاميذه – أسنان الكنيسة – أثنين أثنين للكرازة، لعله كي ينطق الواحد بكلمة الكرازة بينما يصلي له الآخر حتى تخرج الكلمة ممسوحة بالنعمة الإلهية.

"شَفَتَاكِ كَسِلْكَةٍ مِنَ الْقِرْمِزِ. وَفَمُكِ حُلْوٌ" [3].

إن كان أعضاء الكنيسة جميعًا ملتزمين بالثمر المضاعف فإن سرّ هذا "الشفتين اللتين كسلكة من القرمز والفم الحلو"، أي أن المؤمن ملتزم بالشهادة للمخلص خلال شفتيه وفمه... أما مدلولات هاتين الشفتين وهذا الفم فهي:

في القديم ربطت راحاب الزانية حبلاً من القرمز في الكوة دليل إيمانها بالرب المخلص واحتمائها بدمه غافر الخطايا وإقرارها بملكيته عليها وعلى بيتها، فأُنقذت هي وكل من في داخل بيتها من الهلاك.

إذ أراد الجند أن يسخروا من السيد ألبسوه ثوبًا قرمزيًا علامة الملك. أما الكنيسة وقد اتحدت بالملك صارت شفتاها كسلكة من القرمز، لا يخرج منها غير لائقة بها كملكة أو عروس للملك السماوي.

"خَدُّكِ كَفِلْقَةِ رُمَّانَةٍ تَحْتَ نَقَابِكِ"

كان ثوب رئيس الكهنة وأفوره تزين برمان مطرز (خر 28: 33، 34؛ 39: 24–26)، كما زين الهيكل في مواضع مختلفة بمنحوتات على شكل الرمان (1 مل 7: 18). هكذا يُشير الرمان للزينة، تتجمل به الكنيسة بكونها ثوب السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم، والهيكل الذي يقطنه روحه القدوس.

وقد خص الخد بالرمان، لأن الخد يُشير إلى ملامح الإنسان، عليه تظهر علامات الفرح أو الحزن، السلام أو الضيق، فملامح الكنيسة جميلة، مفرحة ومملوءة سلامًا.

لم يقل "خدك كرمانة" بل كفلقة رمانة"، لكي يظهر ما بباطنها، إذ هي غنية بالبذور المكتنزة بالعصير الحلو الأحمر، دائمة النضرة، لا تعرف الضمور!.

خدها كفلقة رمانة، مملوءة احمرارًا، سرّ جمالها هو دم السيد المسيح الذي يُقدسها فلا يكون للدنس أثرًا في داخلها. هذا كما يُشير هذا الاحمرار إلى احتشام النفس وحيائها، فهي لا تُشاكل أهل هذا العالم في العجرفة وصفاقة الوجه.

أما كون خدها "تحت نقابها"، فسرّه ليس الخجل من الناس، بل أعلان حقيقة مجدها أنه من الداخل (مز 45).

"عُنُقُكِ كَبُرْجِ دَاوُدَ الْمَبْنِيِّ لِلأَسْلِحَةِ،أَلْفُ مِجَنٍّ (درع) عُلِّقَ عَلَيْهِ،كُلُّهَا أَتْرَاسُ الْجَبَابِرَةِ" [4].

غالبًا ما يربط الرب جمال الكنيسة بجهادها حتى يفهم المؤمنون أن جمالهم في المسيح يسوع سرّه أيضًا جهادهم الروحي القانوني فلا يبقى خد الكنيسة جميلاً كفلقة رمانة بدون العنق المنتصب كبرج داود المبني للأسلحة، أي بدون الإيمان الحيّ المستقيم غير المنحرف المرتبط بالجهاد.

خلال هذا العنق، الذي هو الإيمان، يرتفع وجه الكنيسة إلى السماء فيشرق الرب عليه بنوره، يجعلها تعيش مستقيمة، ليست كالمرأة المنحنية نحو الأرض (لو 13: 11– 16)، بل منتصبة ترى في الله سرّ قوتها وجهادها. تسمعه يقول لها: "أنا ترس لك" (تك 15: 1)، خلاله تحتمي من كل سهام العدو الملتهبة نارًا (أف 6: 16).

لقد أعتاد القادة الجبابرة أن يعلقوا أتراسهم على البرج ذكرى انتصاراتهم الباهرة ولإبراز بطولتهم، هكذا يستخدم المؤمنون هذا البرج الروحي الذي هو الإيمان كمركز لنصرتهم في المسيح يسوع وغلبتهم على العدو الشرير.

أما ذكر عدد الدرع "ألف" فتُشير إلى طبيعة هذه الأسلحة، إذ رقم 1000 يُشير إلى الحياة السماوية، وكأنه يقول أن أسلحة الكنيسة سماوية روحية، كقول الرسول بولس: "أن أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون" (2 كو 10: 4).

"ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْ ظَبْيَةٍ تَوْأَمَيْنِ يَرْعَيَانِ بَيْنَ السَّوْسَنِ،إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ أَذْهَبُ إِلَى جَبَلِ الْمُرِّ وتَلِّ اللُّبَانِ" [5-6].

إن كان السيد المسيح يظهر للكنيسة متمنطقًا عند ثدييه بمنطقة من ذهب (رؤ 1: 12) إذ يُقدم العهدين القديم والجديد كثديين ترضعهما الكنيسة وتتقوت بهما، فإن الكنيسة أيضًا وهي كنيسة المسيح صار لها هذان العهدان كثديين يتقوت بهما أولادها.

تظهر كلمة الله الواردة في العهدين كتوأم من الغزلان الصغيرة وُلدا من أم واحدة، إشارة إلى تكامل العهدين معًا دون تمييز بينهما، فإن العهد القديم تنبأ عن العهد الجديد، والآخر كشف الأول وأوضحه.

وقد رأينا أن السوسن يُشير إلى جماعة المؤمنين الذين تشبهوا بالسيد المسيح نفسه "سوسنة الأودية" (نش 2: 1)، ويُشير إلى طاقات الإنسان الداخلية وعواطفه ودوافعه التي تصير غذاء لكلمة الله الحيّ!

تعلن العروس لعريسها أن سرّ هذا كله هو صليب العريس وقيامته، لهذا تتعهد أمامه أن تذهب معه إلى جبل المرّ تدخل معه حياة الألم، وتُدفن معه في القبر كما تذهب معه إلى تل اللبان فتحيا كل أيام غربتها في صلاة دائمة حتى يفيح نهار الأبدية ونتهزم ظلال الزمن.

كُلُّكِ جَمِيلٌ يَا حَبِيبَتِي، لَيْسَ فِيكِ عَيْبَةٌ"

كأنه يختم حديثة بالقول: انه يطول الحديث عن وصف جمال من خرجت معه إلى شركة آلامه ودخلت معي في حياة الصلاة والشركة. إنيّ ألمس فيكِ كل جمال، لأن حبي لك يخفي كل ضعفاتك، ودمي يستر كل خطاياكِ، مبرزًا كل جمال أزينك به، فلا أرى فيكِ عيبًا قط.

ويعلق القديس چيروم على حديث العريس هذا هكذا: [أي شيء أجمل من النفس التي تدعى ابنة الله (مز 45: 10)

هَلُمِّي مَعِي مِنْ لُبْنَانَ يَا عَرُوسي،مِنْ لُبْنَانَ، هَلُمِّي،انْظُرِي مِنْ رَأْسِ الإيمان، مِنْ رَأْسِ شَنِيرَ وَحَرْمُونَ]،مِنْ خُدُورِ الأُسُودِ، مِنْ جِبَالِ النُّمُورِ" [8].

إنها دعوة للخروج مع العريس، فإن الحرب الروحية هي للرب، لحسابه وباسمه، فإن خرجت النفس محتمية فيه غلبت وانتصرت، بدونه لا تعرف إلاَّ الهزيمة.

إن كانت الدعوة هنا موجهة للنفس أن تخرج مع عريسها الروحي من Libanus – كما جاءت في الترجمة السبعينية – تكون بهذا قد دعيت أن تنطلق خلال حياة الصلاة (لأن Libanus مشتقة من اللبان) لتدخل في مواجهة الأسود والنمور، فالحياة المسيحية ليست مجرد تعزيات في المخدع فحسب ولكنها أيضًا حرب طاحنة ضد قوات الروح الشريرة،

وإن كانت الدعوة موجهة للخروج معه من لبنان، وهي بلد سياحي، عرف بحياة الترف، فإن العريس السماوي يدعو النفس البشرية أن تصحبه، تخرج من الحياة السهلة، حياة الراحة الجسدية، وتواجه الصراع مع قوات الظلمة، وهي في صحبة عريسها قاهر الأسود والنمور.

أما علامات الخروج فهي أن تنطلق من رأس الإيمان (أمانة)، وخلال الإيمان تقدر أن تدخل إلى رأس حرمون إلى حياة الحرمان والترك الاختياري، تمارس الصليب في داخلها، بأن تخلي ذاتها بالإيمان من شهوات الجسد ورغباته لتحيا في حالة شبع بالمسيح يسوع وحده.

لقد علق القديس أغسطينوس على هذه الدعوة معلنًا أن الدعوة هنا ليست عبورًا مع المسيح، بل هي عبور إليه، أي دخول إلى الاتحاد معه لتمارس الحياة الزوجية الروحية، قائلاً[124]: [اعبري إليّ من رأس الإيمان... فإن الإيمان بدء الزواج].

ويرى القديس غريغوريوس النيصي في دعوتها أن تعبر معه "مِنْ خُدُورِ الأُسُودِ مِنْ جِبَالِ النُّمُورِ"، إن الإنسان وقد جعلت منه الخطية وحشًا مفترسًا كالأسد والنمر، فإنه قد تحول عن هذه الطبيعة... لكن العريس يخشى على عروسه أن تنكص إلى الخطية مرة أخرى، لهذا يدعوها أن تخرج دومًا عن أعمال إنسانها القديم، إنها دعوة الجهاد المستمر المرتبط بحياة الإيمان...:

"قَدْ سَبَيْتِ قَلْبِي يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ،قَدْ سَبَيْتِ قَلْبِي،بِإِحْدَى عَيْنَيْكِ،بِقَلاَدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُنُقِكِ" [9].

في وسط جهادها(الكنيسة) المرّ تئن في داخلها ويبكي قلبها، أما هو فلا يقدر أن يحتمل أنينها ودموعها... فينجذب قلبه إليها، ويأسره تنهدها الداخلي.

لاحظ القديس غريغوريوس النيصي أن العريس هنا يقول "بِإِحْدَى عَيْنَيْكِ"، لأن الإنسان له بصيرتان، البصيرة الخارجية التي يرى بها الأمور المنظورة، والبصيرة الداخلية التي يعاين بها الله... التي هي القلب. هنا ما يأسر قلب الله هي دموع البصيرة الداخلية السرية.

إنه كعريس سماوي يفهم قلب عروسه، يهتم بها وقت جهادها وآلامها، ولا يتطلب منها كلامًا، بل يفهم لغة عينيها الداخليتين

الآن ماذا فعلت آلام الجهاد بنا؟

يؤكد لنا الله الحقيقة المخفية عن أعيننا: أن جهادنا – رغم كل ما يبدو فيه من ضعف – يعلن حلاوة حبنا وتفوح منه رائحة أدهان فريدة في أطيابها، إذ يقول:

"مَا أَطْيبَ حُبَّكِ (ثدياكِ)[127] يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ؟!كَمْ مَحَبَّتُكِ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْر؟ِ!كَمْ رَائِحَةُ أَدْهَانِكِ أَطْيَبُ مِنْ كُلِّ الأَطْايَيبِ!" [10].

لقد جاءت كلمات العريس مطابقة لكلمات العروس في مدحها له، لكن في صورة أروع وأقوى... فما أبعد هذه الكلمات من قول العروس:

"لأَنَّ (حُبَّكَ) ثدييك أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ،لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ..." (نش 1: 2-3).

بينما نقول له: "لأن ثدييك أطيب من الخمر"، إذا به يقول لنا: "مَا أَطْيبَ حُبَّكِ (ثدياكِ) يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ؟! كَمْ مَحَبَّتُكِ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ!". نحن نُناجيه "ِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ"، أما هو فبقوة يقول: "َكَمْ رَائِحَةُ أَدْهَانِكِ أَطْيَبُ مِنْ كُلِّ الأَطْايَيب؟ِ!".

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص سمو كنيسة العهد الجديد خلال الرائحة التي تفوح منها إذ هي "أَطْيَبُ مِنْ كُلِّ الأَطْايَيبِ"، فاقت رائحة كل عبادة قُدمت سابقًا إذ يقول:

[سرّ الحق الذي تحقق خلال رسالة الإنجيل هو وحده حلو بالنسبة لله، ويُحسب أسمى من كل أطايّب الشريعة، فإنه لم يعد مخفيًا وراء رمز أو ظل، بل تفوح رائحته بإعلان للحق واضح ومكشوف

"شَفَتَاكِ يَا عَرُوسُي تَقْطُرَانِ شَهْداً،تَحْتَ لِسَانِكِ عَسَلٌ وَلَبَنٌ،وَرَائِحَةُ ثِيَابِكِ كَرَائِحَةِ لبانَ[129]" [11].

ماذا يرى الرب في عروسه المجاهدة المتألمة؟ إنه يراها كالنحلة إذ قيل عنها "النحلة ضئيلة بين الطير وشهدها أعذب ما يستساغ من الطعام" (ابن سيراخ 3: 11). يعلق القديس غريغوريوس النيصي على ذلك قائلاً: [النحلة محبوبة من كل أحد، ويقدرها الجميع، فبالرغم من ضعف قوتها لكنها تحمل حكمة علوية وتسعى دومًا لبلوغ حياة الكمال]. هذا هو سرّ الشهد الذي يقطر من شفتي العروس والعسل الذي تحت لسانها

لهذا يقول القديس: [يليق بنا أن نطير على مروج التعاليم الموحى بها، ونجمع من كل منها في مخازننا التي للحكمة. هكذا يتكون العسل في داخلنا وكأنه ذلك المحصول الحلو الذي يخزن في قلوبنا كما في خلية نحل، وبواسطة التعاليم المتنوعة تتشكل في ذاكرتنا مخازن على مثال الخلايا الشمعية التي لا تهلك. يلزمنا أن نكون كالنحلة فإن عسلها حلو ولدغتها لا تؤذي، ننشغل في عمل الفضيلة الهام. إنها تنهمك بالحق في تحويل أتعاب هذه الحياة إلى بركات أبدية، وتقديم جهادها لصحة ملوك وعشب. هكذا أيضًا النفس تجتذب العريس، ويعجب بها الملائكة، الذين يكملون قوتها في الضعف خلال الحكمة المكرمة[130]].

ماذا يرى الرب أيضًا في عروسه المجاهدة المتألمة؟ إنه يراها الأرض المقدسة التي تفيض عسلاً ولبنًا (خر 3: 8، 17).

لقد قدم الرب عروسه المجاهدة المتألمة في أروع صورة، فإن كان الرب قد وعد شعبه قديمًا بأرض تفيض لبنًا وعسلاً لتكون بالنسبة لهم موضع راحة جسدية ومكان شبع جسدي ومركزًا للعبادة عليه، فإن عروسه بدورها تصير هي نفسها موضع راحة الرب، يستريح في داخلها الثالوث القدوس، تفيض من ثمر الروح لبنًا وعسلاً يشتهيه الله وملائكته ويفرح به القديسون، بل ويفيض حتى على غير المؤمنين.

في وسط آلام المؤمن يرى الرب شفتيه تقطران شهدًا ولسانه يخفي عسلاً وصدره مملوء لبنًا روحيًا.

أما عن الشهد الذي يقطر من شفتيه فيُشير إلى كلمات النعمة التي تصدر من فم المؤمن، قليلة تتساقط كقطرات (تقطر) لكنها حلوة وشهية! تعطي للمستمع بركة وعذوبة داخلية وراحة في النفس!


أما عن العسل فهو كالكنز المخفي "تحت اللسان" يقدمه المؤمن للآخرين في غير مظهرية أو حب للاستعراض... كنز وغذاء يصلح للناضجين!.

كلنا يعلم أن الإنسان وسط آلامه وضيقاته يزهد في ملبسه، لكن العريس هنا يشتم رائحة العروس وسط آلامها كرائحة صلاة (لبان) نقية! إنه يسمع لتنهداتها وطلباتها لأنها في حالة تألم! يصغي إليها ويستجيب طلباتها لأنها منكسرة القلب! بهذا يخلع المؤمن - في جهاده الروحي - ثيابه الأرضية لكي يلبس الروح القدس ثياب السماء التي لا تبلى: "محبة، فرح، سلام..." (غلا 5: 22). هذا هو عمل الروح في حياة العروس المتألمة!

"أُخْتِي الْعَرُوسُ جَنَّةٌ مُغْلَقَة،ٌعَيْنٌ مُقْفَلَةٌ،يَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ" [12].

لماذا دعيت العروس جنة مغلقة وينبوعًا مختومًا؟

. يرى القديس غريغوريوس النيصي أن الجنة تحوي أنواعًا مختلفة من الأشجار. ثمرها يكون في البداية مرًا، لكن في الوقت المناسب إذ ينضج يكون حلوًا ومفيدًا مبهج لكل الحواس... هكذا النفس في حياتها الروحية، إذ يغرسها الرب نفسه ويرويها، لكنها تحمل آلامًا وأتعابًا ومرارة... وفي الوقت المناسب تأتي بالثمر المبهج للنفوس.

. يتحدث القديس عن سرّ إغلاقها قائلاً: [جنتنا مغلقة من كل جانب بسور الوصايا حتى لا يتسلل إليها مدخلها لص أو وحش مفترس. إنها مغلقة بسياج الوصايا فلا يستطيع خنزير بري أن يقترب إليها].

إن كانت الحديقة تحتاج إلى عين أو ينبوع، فيلزم أن تكون العين مقفلة والينبوع مختوم، وكما يقول الحكيم: "أشرب مياهًا من جبك ومياها جارية من بئرك. لا تفضي ينابيعك إلى الخارج، سواقي مياه في الشوارع. لتكن لك وحدك وليس لأجانب معك. ليكن ينبوعك مباركًا" (أم 5: 15–18). هكذا يوصينا الوحي الإلهي ألا نبدد مياه ينابيعنا في الخارج، في الشوارع، مع الغرباء... وكما يقول القديس غريغوريوس أنه حينما تنحرف أفكارنا الداخلية نحو الخطية (الغريبة) نكون قد أضعنا مياه ينابيعنا وقدمناها للغرباء. [إنها النقاوة هي التي تختم هذا الينبوع ليكون لسيده].

يرى القديس أمبروسيوس أن الينبوع المختوم هو المعمودية التي تبقى مختومة ومغلقة إن لم تغتصب بالأعمال وتعلن بالكلمات. لقد صرنا بالمعمودية فردوسًا به إمكانية الحياة والإثمار لكنه فردوس مغلق، وعينًا تستطيع أن تفجر مياه نقية وعذبة تروي الكثيرين لكنها مقفلة، وينبوع مختوم إن فتح فجر ينابيع مياه حية!

"أَغْرَاسُكِ فِرْدَوْسُ رُمَّانٍ مَعَ أَثْمَارٍ نَفِيسَةٍ فَاغِيَةٍ وَنَارِدِينٍ،نَارِدِينٍ وَكُرْكُمٍ،قَصَبِ الذَّرِيرَةِ وَقِرْفَةٍ مَعَ كُلِّ عُودِ اللُّبَانِ.مُرٌّ وَعُودٌ مَعَ كُلِّ أَنْفَسِ الأَطْيَابِ.يَنْبُوعُ جَنَّاتٍ بِئْرُ مِيَاهٍ حَيَّةٍ وَسُيُولٌ مِنْ لُبْنَانَ (اللبان)" [13-15].

إذن الجنة المغلقة أو العين المقفول أو الينبوع المختوم تُشير إلى الحياة التي لا يدخلها إلاَّ الرب وحده الذي له مفتاح داود "يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح" (رؤ 3: 7). هذه الحياة تحمل ثمار الروح القدس الثمينة السمائية

ماذا يجد الرب فينا؟ أنه يجد أصنافًا متنوعة من ثمار للأكل كالرمان وروائح طيبة وأطياب وبخور (لبان) ومواد تستخدم كأدهان طيبة ومياه حية للشرب...

وفيما يلي أمثلة مما حملته النفس في داخلها من أغراس عديدة، وإن كنت قد سبق فتحدثت عن بعضها في شيء من التفصيل.

1. فردوس رمان: رأينا خد العروس كفلقة رمان مملوء احمرارًا علامة الجمال الروحي خلال دم السيد المسيح، كما علامة الحياء في وداعة وهدوء... إنها تحمل جمال حب الله ووداعته...

2. فاغة الحناء[140]: سبق الحديث عنها، تستخدمها العروس للزينة في الليلة السابقة لعرسها لكي تتهيأ للعريس برائحة طيبة، وهي تصبغ بها يديها ورجليها لتكون حمراء.

. ناردين: يستخلص من نبات صغير الحجم، ينبت بكثرة على جبال الهملايا، على ارتفاع حوالي 1100–1700 قدم فوق مستوى البحر. هو طيب كثير الثمن، استخدم في التجارة. به دهنت مريم أخت لعازر قدمي الرب (يو 12: 13)، كما سكبته هي أو غيرها على رأسه قبل الفصح بستة أيام (مر 14: 3) علامة حبها وشكرها له.


4. كركم: وردتها بنفسجية اللون إلى حد ما، بها عروق حمراء اللون، أما الكركم نفسه فأصفر اللون، يطحن ويخلط بزيت الزيتون ليستخدم طيبًا. ويستخدم الكركم في الطعام كنوع من التوابل، كما يستخدم في الأدوية.

5. قصب الذريرة: عود له رائحة ذكية، يستخرج منه زيت يستخدم في الأمور الخاصة بالذبيحة (إش 43: 24؛ إر 6: 20).

6. القرفة: نوع من الخشب له رائحة طيبة، يستخدمه بعض الشرقيين عوض الشاي، أُستخدم كأحد المُركبات الخاصة بالزيت المقدس لتقديس هرون وبنيه (خر 20: 22)، ولا يزال يُستخدم كأحد عناصر زيت الميرون عند طبخه، كما استخدم أيضًا كنوع من الأدوية

7. أخيرًا يُناجيها العريس قائلاً: "يَنْبُوعُ جَنَّاتٍ مِيَاهٍ حَيَّةٍ وَسُيُولٌ مِنْ اللبان" إذ تحمل في داخلها عريسها الينبوع الحيّ الذي يروي غروسه وكرومه داخل جنته المغلقة، يقبض عليها بسيول تجرف كل مالها نحو الأبدية...

العروس تشارك عريسها

"اِسْتَيْقِظِي يَا رِيحَ الشَّمَالِ،وَتَعَالَيْ يَا رِيحَ الْجَنُوبِ،هَبِّي عَلَى جَنَّتِي،فَتَقْطُرَ أَطْيَابُهَا.لِينزل حَبِيبِي إِلَى جَنَّتِهِ،وَيَأْكُلْ ثَمَرَهُ النَّفِيسَ" [16].

فماذا تعني العروس بريح الشمال وريح الجنوب؟

. في اليونانية كلمة "ريح" هي بذاتها كلمة "روح"... لعل العروس هنا تطلب من عريسها أن يبعث إليها بروحه القدوس الذي يلاحقها من كل جانب، فيعطيها الثمر المتكاثر الذي يفرح به العريس.

دعوة الريح أن تهب عليها إنما هي دعوة للحبيب نفسه بكونه الريح الهادئ الوديع الذي يجتاز القلب ويسكن فيه، فيكون لنا "عمل المسيح" فينا.

. تُشير الريح أيضًا إلى التجارب، فإن هبت على النفس تجارب شمالية أي هاجت الخطية ضدها، أو تجارب يمينية كأن يثور البرّ ذاتي فيها... ففي هذا كله يسندها الرب لا ليحفظها من التجارب فحسب بل يخرج منها ثمارًا يفرح بها العريس! إنه كشمشون الذي أخرج من الآكل أكلا، ووجد في الجافي حلاوة!.

ويلاحظ أن النفس تُسمي قلبها "جنتي" أي خاصة بها، لكنها سرعان ما تدعو عريسها قائلة "لينزل حبيبي إلى جنته". فهي كرمه، من عمل يديه، وتحت رعايته، هو في وسطها فلن تتزعزع.

لِينزل حَبِيبِي إِلَى جَنَّتِهِ، وَيَأْكُلْ ثَمَرَ التفاح الذي له". حقًا يا له من شجر جميل مملوء ثمارًا، تمتد جذوره في مياه (المعمودية) الينبوع المقدس!]. لقد نزل إليها بتجسده، وبصلبه ودخوله القبر، وينزل إليها عند عمادها في الينبوع المقدس، ولا تزال تسأله أن ينزل إليها قادمًا على السحاب ليأخذها معه، فقد حملت ثماره داخلها!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *   تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 10:03 am


الاصحاح الخامس



الحياة الزوجية

1. بدء الحياة الزوجية.

2. ظلال في الحياة الزوجية.

3. بالصليب يعود الحب.

بدء الحياة الزوجية

ما أن دعت الكنيسة عريسها للنزول إليها ليأكل من جنته التي في داخلها، المملوءة من أغراس روحه القدوس، والمرتويه من ينبوع المعمودية المقدس، حتى استجاب لدعوتها فورًا بغير تردد، قائلاً:

"قَدْ نَزلّت إِلى جَنَّتِي يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ،قَطَفْتُ مُرِّي مَعَ أطِايبِي،أَكَلْتُ شَهْدِي (خبزي)مَعَ عَسَلِي،شَرِبْتُ خَمْرِي مَعَ لَبَنِي،كُلُوا أَيُّهَا الأَصْحَابُ، اشْرَبُوا، وَاسْكَرُوا أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ" [1].

لقد أسرع بالنزول إلى جنته بغير تردد، لأن الدعوة هنا جاءت مطابقة لمشيئته، فوجدت استجابة سريعة في عيني الله. لقد دعته للنزول إلى جنته، التي يشتهي أن ينزل إليها على الدوام. فإن كان الرب منذ الأزل قد أعد أحداث الخلاص حتى صارت موضوع لذته وسروره بالرغم مما حملته من خزي وآلام وموت كقول الرسول بولس: "من أجل السرور الموضوع أمامه أحتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 3)، فإن عروسه تدعوه أن ينزل إلى ذات البستان الذي دخله ليلة آلامه، وإلى ذاك الذي فيه وضع جسده في القبر. تدعوه أن يراها وهي تكمل نقائص شدائده في جسمها (كو 1: 24)، أي تشاركه آلامه وصلبه ودفنه، لهذا لا يتردد الرب في قوله: "قطفت مُرّي مع أطيابي"... وكأن أحداث الخلاص صارت حية وممتدة في حياة أولاده!

ويرى الأب روفينوس فلكي ترتفع النفس إلى السماء تطلب عون الله العالي، متوسلة إليه أن ينزل من عظمته، ويتحد بنا هنا نحن الذين أسفل.أن الجنة هنا ليست إلاَّ الموضع الذي صلب فيه الرب، حيث يعلن الحكيم أن العريس يشرب الخمر ممتزجًا بالمرّ، الذي قُدم للرب في لحظات صلبه.
فلكي ترتفع النفس إلى السماء تطلب عون الله العالي، متوسلة إليه أن ينزل من عظمته، ويتحد بنا هنا نحن الذين أسفل.

"أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ،صَوْتُ حَبِيبِي (قريبي) قَارِعاً:اِفْتَحِي، اِفْتَحِي لِيّ يَا أُخْتِي يَا حَبِيبَتِي يَا حَمَامَتِي يَا كَامِلَتِي،لأَنَّ رَأْسِي امْتَلأَ مِنَ الطَّلِّ،وَقُصَصِي مِنْ نَدَى اللَّيْلِ.قَدْ خَلَعْتُ ثَوْبِي فَكَيْفَ أَلْبِسُهُ؟قَدْ غَسَلْتُ رِجْلَيَّ فَكَيْفَ أُوَسِّخُهُمَا؟" [2-3].

يا لها من صورة دقيقة للمعاملات المتبادلة بين الله والإنسان. فقد عاش الإنسان زمانًا طويلاً وهو مسترخي ومهملاً خلاصه بالرغم من كل الإمكانيات التي قدمها له الله ليكون متيقظًا. لقد أراد الله أن يجعله ابنًا للنور والنهار، لكن الإنسان أصر أن يحول زمان غربته كله ليلاً يقضيه نائمًا حتى وإن كان قلبه متيقظًا.

"صَوْتُ حَبِيبِي قَارِعاً"... نزل "كلمة الله" نفسه إلى الإنسان يقرع باب قلبه... يقف أمام النفس يرجوها أن تفتح له. نزل شمس البرّ ودخل زماننا الذي جعلناه ليلاً، لكي يُضئ علينا نحن الجالسين في الظلمة وظلال الموت، فنقوم من غفلتنا!

لعل الحديث هنا خاص بالنفس التي دعت المسيا عريسًا لها، لكنها عادت فاسترخت في حبه. غلبها النوم ولم تقدر أن تسهر معه في ليلة آلامه، مع أن قلبها مسكن الروح القدس فيه حياة، يؤنبها! لقد فترت في حبها له، لكن الله محب البشر يرى قلبها متيقظًا فلا يكف عن أن ينزل إلى بابها يدعوها: "اِفْتَحِي، اِفْتَحِي لِيّ يَا أُخْتِي، يَا خَليِلتيّ، يَا حَمَامَتِي، يَا كَامِلَتِي...

صوت الحبيب هنا يُعاتب في رقة، فلا يجرح مشاعر القلب، بل يشجع عروسه فيدعوها أخته وخليلته وحمامته وكاملته... مع أنها تغط في نومها! لا ينتهرها ولا يوبخها بل يعطيها رجاءً ويشجعها.

أما تكراره السؤال: "اِفْتَحِي، اِفْتَحِي لِيّ..." فربما يوضح الدعوة المتكررة للبشرية في العهدين، القديم والجديد، فإن الله لم يتغير، ولا دعوته قد تغيرت، إذ يطلب أن ينفتح له القلب ويقبله!.

إنه يجتذبها لفتح أبواب قلبها بدعوته إياها "حمامته"، إذ حملت "الروح القدس" الذي نزل على شكل حمامة في داخلها، فصار لها القدرة على فتح قلبها وأخيرًا يُشجعها على ذلك بكونها "الكاملة" التي بلا عيب، فلا تقدر أن تغلق الباب في وجهه.

أخيرًا يتوسل إليها بكونه "حامل الآلام والأحزان" من أجلها، إذ يقول لها:"لأَنَّ رَأْسِي امْتَلأَ مِنَ الطَّلِّ،وَقُصَصِي مِنْ نَدَى اللَّيْلِ" [2].

. بالفعل دخل السيد البستان ليلاً ونام تلاميذه ولم يقدروا أن يسهروا معه ساعة واحدة (مت 26: 40)، أما هو فكان يدخل إلى العمق يتسلم كأس الألم حتى يشربه عن البشرية كلها... في البستان كان "يحزن ويكتئب" (مت 26: 37). كان يصرخ: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت"، وكانت قطرات العرق تتصبب كالدم!!!

إنه يُناجيها ويطلب أن تفتح له من أجل ما أحتمله بسببها في تلك الليلة العاصفة الممطرة، فقد امتلأ رأسه من الطل وقصصه من ندى الليل... حمل الغضب الإلهي في جسده، وكما يقول النبي: "أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا، وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ اللَّهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا وتَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (إش 53: 4-5).

أما هي فقدمت اعتذارات بشرية غير لائقة، وتحدثت بغير اكتراث، فلم تدعوه ربها أو سيدها، ولا حتى نادته باسمه، ولا ذكرت أحد ألقابه، بل قالت:

"قَدْ خَلَعْتُ ثَوْبِي فَكَيْفَ أَلْبِسُهُ؟!قَدْ غَسَلْتُ رِجْلَيَّ فَكَيْفَ أُوَسِّخُهُمَا؟" [3].
يا لها من حجج واهية، تقدمها النفس في فتورها الروحي... أعتذار لعدم فتح القلب لذاك الذي تعلم عنه تمامًا أنه يحبها. أنها صورة للإنسان وقد ضن على نفسه أن يتحمل يسيرًا من التعب لأجل تحقيق اللقاء مع السيد المسيح بالرغم من الكثير الذي دفعه السيد
ما أسهل أن تصنع آذارًا على جسدها وتنتعل حذاءً في قدميها... لكنها انشغلت براحه جسدها عن التمتع بعريسها... تشبهت بهؤلاء الذين قدموا أعذارًا لكي لا يحضروا العرس (مت 22: 5).

إن كانت قد خلعت ثوبها، فهو يعطيها روحه لكي تلبسه، كسرّ حياة فيها، إذ يؤكد على تلاميذه: "ها أنا أرسل إليكم موعد أبي فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي" (لو 24: 49).
إن كانت قد غسلت رجليها، فلتعلم أن القارع على الباب هو سيدها الذي يتمنطق ويغسل أقدام عروسه (يو 13: 5

لهذا قال الرب لبطرس الرسول: "إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب" (يو 13: Cool. إذن فلنقم من سرير "الأنا" أو "الذات البشرية" ونتقدم لعريسنا الذي يسترنا بدمه ويلبسنا روحه القدوس، كما يغسل حياتنا الداخلية فنحيا مقدسين له.

"حَبِيبِي مَدَّ يَدَهُ مِنَ الْكُوَّةِ،فَأَنَّتْ عَلَيْهِ أَحْشَائِي،قُمْتُ لأَفْتَحَ لِحَبِيبِي،وَيَدَايَ تَقْطُرَانِ مُرّاً،وَأَصَابِعِي مُرٌّ قَاطِرٌ عَلَى مَقْبَضِ الْقُفْلِ" [4-5].

إن كانت النفس لا تقدر أن تنصت إلى صوت من أحبها الذي أعلن بطرق متنوعة، فقد بقي أن يمد يده المجروحة على الصليب إلى داخل ذهنها فترى آثار جراحات الحب التي احتملها من أجله، فتئن أحشاؤها عليها

نعود إلى العروس التي تمتعت بيد الرب التي حلت في وسطها فأدركت سرّ صليبه، فتحطم قساوة قلبها الحجري، وقامت لتفتح لحبيبها. لقد صرخت مع الابن الأصغر "أقوم وأذهب إلى أبي" (لو 15). أعلنت شوقها لمن أحبها بالرجوع إليه خلال التوبة الصادقة والدموع المُرّة والتنهدات الخالصة، لذا قالت: "َيَدَايَ تَقْطُرَانِ مُرّاً وَأَصَابِعِي مُرٌّ قَاطِرٌ عَلَى مَقْبَضِ الْقُفْلِ".

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن المرّ يُشير إلى "الموت الذي ماته المسيح عنا"، فقد تلامسنا معه بالتوبة وقبلنا أن نموت معه، لكي تفتح أمامنا الأبواب الدهرية.

"فَتَحْتُ لِحَبِيبِي، لَكِنَّ حَبِيبِي تَحَوَّلَ وَعَبَرَ.نَفْسِي خَرَجَتْ عِنْدَمَا أَدْبَرَ (تكلم).طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ،دَعَوْتُهُ فَمَا أَجَابَنِي:وَجَدَنِي الْحَرَسُ الطَّائِفُ فِي الْمَدِينَةِ،ضَرَبُونِي، جَرَحُونِي.حَفَظَةُ الأَسْوَارِ رَفَعُوا إِزَارِي عَنِّي.أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ (بقوى الحقل وفضائله)[150] ،إِنْ وَجَدْتُنَّ حَبِيبِي أَنْ تُخْبِرْنَهُ بِأَنِّي مجروحَةٌ[151] حُبّاً.مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ، أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ!!مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ حَتَّى تُحَلِّفِينَا هَكَذَا!" [6–9].

لقد قامت تفتح لعريسها بعد طول رقاد، لكن عريسها كان قد تركها وعبر. لماذا فعل هكذا؟ إنه يؤدب الإنسان لتأخره في الاستجابة، وفي تأديبه يبدو كما لو أنه قد تركنا إلى حين... هذا الترك في ذاته يعتبر علامة اهتمام الله بنا

. يتركنا الله فترة قصيرة لكي نتنبه إلى ضعف قلوبنا، عندئذ ندرك أنه ما كان لنا من نقاوة قلب قبلاً إنما هو عطية مجانية من قبل الافتقاد الإلهي.

تقول النفس البشرية: "طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ"، مع أنه واقف بجوارها، بل هو في داخلها، ينتظر أن يرى جهادها من أجله، لتقول مع يعقوب: "لن أتركك حتى تباركني".

"دَعَوْتُهُ فَمَا أَجَابَنِي"، مع أنه مشغول بتدبير كل الأمور لأجل خلاصي.

جالت النفس في كل العالم تطلب من تحبه مع أنه كان في داخلها، وكما قال القديس أغسطينوس: [إنه في غباوة خرج يبحث عنه خارجًا في الطبيعة والكتب، مع أن الله كان في داخله عميقًا أعمق من عمقه، وعاليًا أعلى من علوه].

والآن من هم الحرس الطائف في المدينة الذين ضربوها وجرحوها، وحفظة الأسوار الذين رفعوا إِزَارِها عنها؟

إذ كان المتحدث هنا هو المؤمن في كنيسة العهد الجديد، فإنه باسم الكنيسة يُعاتب جماعة اليهود وقادتها، الذين يمثلون الحرس الطائف في مدينة أورشليم والمسئولين عن حفظ كلمة الله، إذ كان يليق بهم أن يكونوا خدامًا للكلمة وكارزين بالمسيا المخلص، لكنهم يمسكون الكنيسة ويضربونها ويجرحونها، وصاروا يشهرون بها...

أمام هذه الإهانات، لا ينحرف المؤمن عن نظره نحو عريسه، بل بالعكس يؤكد للمضايقين أنه مجروح بمحبة هذا العريس السماوي، قائلاً: "أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ... إِنْ وَجَدْتُنَّ حَبِيبِي أَنْ تُخْبِرْنَهُ بِأَنِّي مجروحَةٌ حُبّاً".

هذه هي المرة الخامسة (5: Cool، حيث تعلن الكنيسة لجماعة اليهود أنه وإن مر أولادها ببعض الفتور، وصار كأن الله قد تركهم، لكن لا زالت الكنيسة حية مملوءة حبًا... إنها تُجاهد حتى ينزع الرب عنهم فتورهم.

إذ ينزع الفتور عن النفس البشرية، ليس فقط تدرك عودتها إلى الأحضان الأبوية في المسيح يسوع، لكنها تشهد لقوة هذا العمل حتى أمام غير المؤمنين، الذين يتساءلون قائلين:

"مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ، أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ!مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ حَتَّى تُحَلِّفِينَا هَكَذَا؟!" [9].

إنك جميلة، ولا ينقصك شيء، فمن هو هذا الحبيب الذي تنشغلين به؟ من هو هذا الحبيب الفريد الذي تحلفينا هكذا من أجل بقائك في اتحاد معه؟!.

لعل في هذا التساؤل نبوة عن قبول اليهود للسيد المسيح في أواخر الأيام، فإنه يأتي يوم يدرك فيه اليهود أنهم يخطئون إذ يطلبون مملكة أرضية ومطامع زمنية، لكن الحاجة إلى خلاص أبدي وتذوق لمحبة الله السماوية!.

العروس تمدح عريسها

إذ يكتشف العالم في العروس حبها لعريسها ويدركون فاعلية هذا الحب في حياتها الداخلية وانعكاساته على ملامحها ومشاعرها وتصرفاتها، يتساءل عن هذا العريس الفريد. وهنا تشهد العروس لعريسها لا بالكلام بل بالحياة التي تعيشها، فإنها تعرفه تمامًا وتلمسه متحدة به، يدخل بها إلى معرفة الآب غير المنظور... تحمل شهادة حقة وعملية فتقول عنه:

1. "حَبِيبِي أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ" [10].
ما أعذب هذا المخلص العريس ففيه أجتمع اللونان: الأبيض والأحمر، كل منهما يوضح الآخر ويكمله! فهو أبيض، لكنه ليس بالأبيض الشاحب الذي بلا حياة

أما مخلص الكنيسة ففي بياضه يحمل احمرارًا دائمًا علامة كمال القوة والحياة والحيوية! كذلك لا يحمل المخلص احمرارًا منفردًا عن البياض وإلاَّ كان في ذلك إشارة إلى القتل وسفك الدم كما جاء في سفر الرؤيا (رؤ 6: 4) وكما وصفت الخطية أنها كالقرمز وحمراء كَالدُّودِي (إش 1: 18)، ولكنه هو "الآتِي مِنْ أَدُومَ بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَةَ هَذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ... الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِرِّ الْعَظِيمُ لِلْخَلاَصِ" (إش 63: 1).

لقد جاءت كلمة "أبيض" هنا بمعنى "بهي"، إذ هو شمس البرّ الذي أضاء علينا نحن الجالسين في الظلمة، ليدخل بنا بواسطة روحه القدوس إلى كمال نور معرفة الآب. حملنا فيه خلال بهائه في استحقاقات دمه (الأحمر) لنكون في حضن الآب نتعرف على كمال أسراره. هكذا يمتزج بهاؤه بعمله الخلاصي، أي بياضه باحمراره، حتى نحمل إنعكاسات بهائه فينا بدخولنا إلى أبيه.

في سفر دانيال نرى لباسه أبيض كالثلج (دا 7: 2)، وفي تجليه أيضًا "صارت ثيابه بيضاء كالنور" (مت 17: 2). وما هو ثوب السيد المسيح إلاَّ كنيسته التي يلتحف بها كالثوب، يسكن في داخلها. فما يحمله من بهاء وبياض يعكسه على كنيسته كما على السمائيين الذين في حضرته على الدوام (مر 16: 5، أع 1: 10) فنظهر في السماء بثياب بيض (رؤ 3: 4، 7: 9)، كما نوصى هكذا: "لتكن ثيابك في كل حين بيضاء" (جا 9: Cool.

"علَمٌ بَيْنَ رَبْوَةٍ" [10].
صار معروفًا للناس والشياطين، تعرفه الكنيسة بكونه "قائم راية للشعوب" (إش 11: 10) ارتفع على الصليب فجذب البشرية إليه ليسكب بهاءه عليها ويُقدسها بالدم، وتعرفه الشياطين فتصرخ: "أنزل من على الصليب" لأنه حطم مملكتهم وأشهرهم جهارًا. ظافرًا بهم (كو 2: 15).
"رَأْسُهُ ذَهَبٌ إِبْرِيزٌ (خالص)،قُصَصُهُ مُسْتَرْسِلَةٌ، حَالِكَةٌ كَالْغُرَابِ" [11].
إن كان الذهب يُشير إلى الحياة السماوية فإن "الذهب الخالص" يُشير إلى لاهوته، إذ فيه "يحل ملء اللاهوت جسديًا" (كو 2: 9).
أما شعره المحيط بالكنيسة المسترسل إنما هو الكنيسة أو كما يقول القديس أغسطينوس: [هو جماعة القديسين الذين بمثابة شعر الرب لا تسقط منه واحدة بدون إذن أبيه... هم يعيشون به. لهذا لا تظهر فيه شعرة بيضاء بل كله "أسود حالك كالغراب"، لا يشيخ مؤمن بل يتجدد كالنسر شبابه].

هذا هو عمل الروح القدس، الذي يهب الشركة بين الأعضاء والرأس، فتبقى الأعضاء في كمال قوتها خلال الرأس الذي لا يضعف مطلقًا.

كما أن السيد المسيح هو "هو أمس واليوم وإلى الأبد" (عب 12: Cool، فإن كنيسته تعبر خلاله فوق حدود الزمن فلا تصيبها شيخوخة ولا تقوى عليها أحداث أرضية!.

"عَيْنَاهُ كَالْحَمَامِ عَلَى مَجَارِي الْمِيَاهِ، مَغْسُولَتَانِ بِاللَّبَنِ جَالِسَتَانِ فِي وَقْبَيْهِمَا (على المجاري)" [12].

مع أنه الملك المرهب الذي يخيف الأعداء، عيناه كلهيب نار (رؤ 1: 14) فاحصة لدقائق الأمور وخفياتها، لكنه إذ يظهر لمؤمنيه يرون عينيه كالحمام البسيط الوديع المملوء براءة. عيناه كعيني الحمامة "أطهر من أن تنظرا الشر" (حب 1: 13).

أن المياه تُشير إلى الشعوب الكثيرة المتعددة التي جاءت إلى الله خلال المعمودية، بهذا فإن الحديث عن عينيه كالحمام على مجاري المياه إنما يُشير إلى تجسد الرب وإعلان بدء جيل جديد مقدس خلال عماده.

أما كونهما مغسولتان في اللبن فيُشير ذلك إلى أهتمام الرب أن يقدم لمؤمنيه الإيمان الخالص غير الغاش غذاء لنفوسهم، إذ يقول القديس أمبروسيوس: [يعتمد الرب في اللبن بمعنى أنه يعتمد في الاخلاص، والذين يعتمدون في اللبن هم أولئك الذين لهم الإيمان الذي بلا دنس]

أما جلوسهما في وَقْبَيْهِمَا أي استقرارهما في موضعهما إنما يُشير إلى رعاية الله لكنيسته وأولاده، يركز نظره الإلهي على كل عضو، ولا يحول عنه عينيه حتى يدخل به شركة الأمجاد.

نستطيع القول أيضًا بأن عيني المسيح هم كهنته وخدامه هؤلاء الذين يحملون نظرة المسيح نحو البشرية، لهم البصيرة الروحية المتفتحة بالروح القدس كما "بالحمامة"، ليدخلوا بالشعوب إلى مياه المعمودية، هناك يغتسلون من خطاياهم، وينعمون بالإيمان غير الغاش كاللبن. يجلس هؤلاء العاملون في وَقْبَيْهِمَا، أي لهم موضع في الرأس "المسيح" حتى يقدرون خلاله أن يتطلعوا إلى كل نفس، مهتمين بخلاص الجميع. أما تشبيههم بعيني المسيح فهو تشبيه كتابي، إذ عُرف النبي في العهد القديم بالرائي (عا 7: 12)، إذ يستطيع النبي بروح النبوة أن يرى ما لا يستطيع الشعب أن يراه. وكان يُلقب أحيانًا بالرقيب (حز 3: 17، 23: 7) يقف على البرج ليرى إن كان هناك أعداء فينذر الشعب.

"خَدَّاهُ كَخَمِيلَةِ (سلطانية) الطِّيبِ وَأَتْلاَمِ (تفيض) رَيَاحِينَ ذَكِيَّةٍ" [13]

خدا السيد المسيح اللذان يشيران إلى طلعته قد تعرضا للهزء والاحتقار كما جاء على لسان إشعياء النبي: "بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين، وجهي لم أستر عن العار والخزي" (إش 50: 6)... هذا الوجه الذي لم يحوله الرب عن بصاق الأشرار (مت 27: 3)، تراه الكنيسة يحمل دلائل الحب الباذل فتشبه بخميلة طيب أي مجموعة من الشجيرات المتشابكة التي تفيح رائحتها طيبًا، وبأتلام (باقات) رياحين ذكية، تشتمها النفس رائحة حياة.

"شَفَتَاهُ سَوْسَنٌ تَقْطُرَانِ مُرّاً مَائِعاً" [13].

تحدثنا قبلاً عن العريس كسوسنة البرية، وأنه بالاتحاد معه يصير المؤمنون أيضًا سوسن. أما هنا فشفتا العريس تشبهان بالسوسن (زنبق)... فماذا يعني هذا؟

يُشير السوسن إلى المجد الملوكي، إذ يتحدث عنه الرب قائلاً: "ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها" (مت 6: 29). فشفتا السيد المسيح تعلنان تعاليم مجيدة، أو بمعنى آخر تقدم كلمة الحياة القادرة أن تدخل بالمؤمن إلى الحياة المجيدة الأبدية. لهذا يقول عنه المرتل: "انسكبت النعمة على شفتيه" (مز 45: 2).

هاتان الشفتان تحملان رائحة طيب عطرة تقطر كالمرّ. وقد وصف الإنجيليون الكلمات الخارجة منهما هكذا: "لم يتكلم إنسان مثل هذا قط" (يو 7: 47)، "كان الجميع يشهدون له يتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه ويقولون: أليس هذا ابن يوسف؟" (لو 4: 22).

أما وصفهما بأنهما يقطران مرًا ممتزجًا بالميعة إنما يعني أن كلماته ممتزجة بالدخول في مرارة آلامه والدفن معه إذ كفن بالميعة... كل من يسمعه يشتهي الدخول معه في شركة آلامه والموت معه. وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يفيض المُرّ من جسده، ويملأ نفوس من قبلوه، وهذا رمز واضح عن أماتة الجسد...].

"يَدَاهُ حَلْقَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ مُرَصَّعَتَانِ بِالزَّبَرْجَدِ" [14].

تُشير "الحلقة" أو "الدائرة" إلى الأبدية، لأن ليس لها نقطة بداية ولا نقطة نهاية. يداه أبديتان، تشبعان النفس والجسد معًا إلى الأبد. أما كونهما من ذهب فإشارة إلى سمتها السماوية... فهو يمسك بعروسه ويدخل يدها في يده السماوية ليسكب عمله فيها فتحمل قوته وإمكانياته السماوية، لتعبر معه إلى السماء.

أما الزبرجد فقد ورد مرارًا في العهد القديم (حز 1: 16، دا 10: 6)، ليُشير إلى قوة التأسيس... إذ "أعمال يديه أمانة وحق"، تؤسسان عروسه على الإيمان الراسخ والحق.

"بَطْنُهُ عَاجٌ أَبْيَضُ مُغَلَّفٌ بِالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ"

تُشير البطن أو الأحشاء إلى مشاعر الله العميقة المملوءة حبًا وحنانًا كما جاء في إرميا: "حنت أحشائي إليه، رحمة أرحمه يقول الرب" (إر 21: 20). أما كون هذا الحنان كالعاج الأبيض، فذلك لأن العاج يأتي كثمر للألم إذ يُنزع من الفيل خلال آلامه حتى الموت. وأما كون أحشاؤه مغلفة بالياقوت الأزرق وهو لون سماوي، إنما ليعلن أن حبه ليس أرضيًا مؤقتًا بل سماوي أبدي.

"سَاقَاهُ عَمُودَا رُخَامٍ مُؤَسَّسَتَانِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ مِنْ إِبْرِيزٍ (ذهب)"

تُشير الساقان إلى القدرة على السير بثبات، وأما الذهب أو الإبريز فيُشير إلى الطبيعة السماوية، وكأن من يتحد بالعريس إنما يقدر أن يسير به في حركة مستمرة نحو السماء، يدُكّ تحت قدميه كل قوى إبليس، محطمًا الموت وقاهرًا الخطية.

وللقديس أمبروسيوس تعليق جميل على هذه العبارة، إذ يقول: [ساقاه عمودا رخام مؤسستان على قاعدتين من ذهب، لأن المسيح يتمشى في النفوس، ويجعل له طرقًا في أذهان قديسيه، فيكون فيها كما لو كانتا قاعدتين من الذهب وأساسات من الحجارة الكريمة طُبع عليها آثار قدمي كلمة الله السماوي]

"طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ، فَتًى كَالأَرْزِ"

لبنان منطقة سياحية جميلة يلجأ إليها بعض المتزوجين حديثًا لبدء حياتهم الزوجية في جو جميل، هكذا فإن وجه الرب يسوع بما يحمله من بشاشة وحنان يفرح النفس التي تُريد أن تعيش في الحياة الزوجية الروحية مع الكلمة الإلهي. لقد وصف المرتل المسيا قائلاً: "أبرع جمالاً من بني البشر"، وجاء في التقرير الذي كتبه بيلاطس البنطي لهيرودس عن السيد المسيح "تشتهي أن تتطلع إليه"

أما سرّ جماله فيكمن في كونه " فَتى كَالأَرْزِ"، المعروف بطوله الشامخ مع استقامته ورائحته الذكية... هكذا يظهر السيد المسيح للنفس كالفتى الذي لا يشيخ قط.

"حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ،هذَا حَبِيِبي وهذّا خَلِيِلي يَا بَنَاتِ أُوشَليمَ" [16].

يقول المرتل: "ما أحلى قولك لفمي، أحلى من العسل لفمي" (مز 119: 103). هكذا يجد المؤمن في كلمات السيد عذوبة خاصة وحلاوة، لأن هذه الكلمات هي روح وحياة. من يأكل منها يرجع إلى السيد جائعًا إليه، ومن يشرب منه يعطش بالأكثر إليه...

أخيرًا، إذ تشعر العروس بعجز اللغة عن وصف عريسها تقول: "َكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ". هذا هو حبيبها الصديق الذي تطلبه وتسعى إليه... إنه مشبع لها، فيه تجد كل حبها وإليه كل اشتياقها!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *   تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 10:08 am

الاصحاح السادس



حوار في الحديقة

إن شهدت النفس لعريسها بدأ غير المؤمنين يتساءلون:"أَيْنَ ذَهَبَ حَبِيبُكِ أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ؟أَيْنَ تَوَجَّهَ حَبِيبُكِ فَنَطْلُبَهُ مَعَكِ؟" [1].

إذ حملت شهادة النفس عن العريس انعكاسات مجده على حياتها وتصرفاتها لقبوها "الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ". حتى منظرها في جماله الروحي ولد فيهم جاذبية خاصة لا ليتعلقوا بها في ذاتها، بل للبحث عن عريسها، الذي هو سرّ جمالها!

أما إجابة الكنيسة فهي:

"حَبِيبِي نَزَلَ إِلَى جَنَّتِهِ، إِلَى خَمَائِلِ الطِّيبِ،لِيَرْعَى فِي الْجَنَّاتِ، وَيَجْمَعَ السَّوْسَنَ.أَنَا لِحَبِيبِي وَحَبِيبِي لِيّ،الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ" [2-3].

ليس بالأمر العجيب أن يحوي هذا السفر تأكيدات مستمرة لوجود العريس داخل الكنيسة، ووجوده داخل النفس التي أقتناها بدمه. فإنه يدخل إلى القلب الحجري المقفر ويجعل منه جنة له (نش 4: 12، 16؛ 5: 1)، بل جنات داخلية يرعى فيها، هناك يجمع السوسن الحامل سمات العريس نفسه والذي دُعي أيضًا بالسوسن (نش 2: 1).
كأن العروس هنا تحذر من تضييع الوقت في البحث عن العريس خارجًا، فإنه بإتضاعه نزل إلى كنيسته ودخل قلوب شعبه. لذا يقول الرسول: "لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي لِيُحْدِرَ المسيح... الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك" (رو 10: 7، Cool.

"أَنَا لِحَبِيبِي"

وكأنها تقول: كل ما ليّ فهو لحبيبي، ليدخل إلى قلبي وليتسلم كل القلب وكل الطاقات والأحاسيس الداخلية، لأن ما أملكه إنما هو له. وما هذه الدعوة إلاَّ استجابة لعمل المحبة الذي أظهره له إذ "َحَبِيبِي لِيّ". قدم ليّ حياته... وهذا أنا أرد حبه بالحب! إنيّ أحبه بملء اختياري إذ هو أحبني بكمال حريته.

حديث العريس مع عروسه في الحديقة:

1. "أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي كَتِرْصَةَ،حَسَنَةٌ كَأُورُشَلِيمَ،مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ (منتظم)" [4].

هنا يراها "جَمِيلَةٌ كَتِرْصَةَ". وكلمة "َتِرْصَةَ" في العبرية تعني "انشراح أو بهجة". وَتِرْصَةَ هي أصغر البنات الخمس لصفحار بن حافر (عد 26: 33)، هؤلاء البنات مات أبوهن وليس لهن أخ، فوقفن أمام موسى والعازار الكاهن وأمام الرؤساء وكل الجماعة لدى باب خيمة الاجتماع وطلبن أن يرثن أبوهن مع أخوة أبيهن، فأعطاهن الرب هذا الحق وصار ذلك فريضة قضاء (عد 27: 1–11)ونلن أيضًا نصيبهن عند تقسيم الأرض على يد يشوع بن نون (يش 17: 3–6). ولعله في سفر النشيد يشبه العروس بترصة كأصغر البنات اللواتي طالبن بحقهن أمام موسى النبي ويشوع، وصدر الأمر من قَبل الرب أن ينلن ميراثًا ونصيبًا. هذا هو جمال النفس المتحدة بالمسيح يسوع، أنها في دالة بغير خوف تطلب ميراثها ونصيبها أي حقها لتعيش كعضوة حية في الجماعة المقدسة. وما هو هذا الميراث أو هذا النصيب الذي للمؤمن إلاَّ الرب نفسه الذي تقبله النفس في داخلها سرّ مجدها وغناها.

وربما قصد ب "ترصة" المدينة الجميلة للغاية التي كانت أصلاً للكنعانيين استولى عليها يشوع بن نون (12: 24) وقدمها لأسباط بني إسرائيل. وقد كانت عاصمة مملكة إسرائيل (الأسباط العشرة) نحو خمسين عامًا (1 مل 14: 17؛ 15: 21، 31؛ 16: 6، 23) حتى بني عمري السامرة. وكان سرّ جمالها أنها كانت قبلاً أممية وعابدة للأوثان لكن إذ ملك عليها يشوع الحقيقي صارت في ملكية الرب.

ويراها الرب أيضًا "حَسَنَةٌ كَأُورُشَلِيمَ"، سرّ حُسنها أنها كأورشليم، مدينة الملك. أي صارت الكنيسة تمثل الأقداس السماوية التي يقطن فيها الله، وعاصمة دائرة ملكوته، كل ما فيها جميل وبهي.

"مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ (منظم)]"
جمالها كترصة أو حسنها كأورشليم قد امتزج بالقوة
مرهبة أمام الأعداء، لأن الرب الغالب في وسطها يحميها، إنها كجيش سماوي يحمل ألوية (أعلام) الغلبة والنصرة، لا تعرف الهزيمة ولا اليأس بل روح الغلبة والقوة. وبحسب الترجمة اليونانية كجيش أحسن تنظيمه، إذ قائده الرب نفسه.

"حَوِّلِي عَنِّي عَيْنَيْكِ فَإِنَّهُمَا قَدْ غَلَبَتَانِي" [5].

لقد غُلبت مراحم الله بدموع المرأة الخاطئة وتنهدات اللص اليمين. فإن الله لا يحتمل أن يرى دموع الإنسان وانسحاقه، ولعل أعظم مثل لهذا آخاب الملك الشرير الذي قتل وورث (1 مل 21: 19)، والذي شهد عنه الكتاب: "لم يكن كآخاب الذي باع نفسه لعمل الشر في عيني الرب الذي أغوته امرأته، ورجس جدًا بذهابه وراء الأصنام..." (1 مل 21: 25-26)، إذ سمع كلام الرب ضده على لسان إيليا النبي شق ثيابه وجعل مسحًا على جسده واضطجع بالمسح ومشى بالسكوت، لم يحتمل الرب هذا المنظر بل قال لإيليا النبي: "هل رأيت كيف أتضع آخاب أمامي؟ فمن أجل أنه قد أتضع أمامي لا أجلب الشر في أيامه" (1 مل 21: 29).

2. "شَعْرُكِ كَقَطِيعِ الْمَعْزِ الرَّابِضِ فِي جِلْعَادَ،أَسْنَانُكِ كَقَطِيعِ نِعَاجٍ صَادِرَةٍ مِنَ الْغَسْلِ،اللَّوَاتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ وَلَيْسَ فِيهَن عَقِيمٌ،(شفتاكِ كسلكة من القرمز، كلامك حلو)[159]،خَدُّكِ كَفِلْقَةِ رُمَّانَة (تُرىَ من) تَحْتَ نَقَابِكِ" [5–7]

لقد سبق أن أمتدحها بذات الصفات في الأصحاح الرابع (1–3)، الأمر الذي سبق فعالجناه بشيء من التفصيل. أما سرّ تكراره بذات العبارات إنما ليؤكد حقيقة هامة أن محبة الله للإنسان تبقى غير متغيرة. فبالرغم مما عاناه الإنسان من فتور – كما ورد في الأصحاح الخامس – لكنها إذ رجعت بدموع التوبة إليه وجدته يمتدحها بذات العبارات التي امتدحها قبلاً، ونظرته إليها لم تتغير، بل يزداد حبًا لها

3. "هُنَّ سِتُّونَ مَلِكَةً وَثَمَانُونَ سُرِّيَّةً وَعَذَارَى بِلاَ عَدَدٍ،وَاحِدَةٌ هِيَ حَمَامَتِي كَامِلَتِي.الْوَحِيدَةُ لأُمِّهَا هِيَ،عَقِيلَةُ (المختارة) وَالِدَتِهَا هِيَ.رَأَتْهَا الْبَنَاتُ فَطَوَّبْنَهَا،الْمَلِكَاتُ وَالسَّرَارِيُّ فَمَدَحْنَهَا" [8-9].

إنه يمدحها خلال لغة الأرقام... فماذا يعني بالستين ملكة؟ والثمانين سرية؟ والأبكار بلا عدد؟ وحمامته الكاملة الواحدة؟!

أولاً: ربما قارنها بالخليقة السماوية المحبة له، فرأى السمائيين طغمات كثيرة شبههم بالستين ملكة والثمانين سرية والأبكار بلا عدد... هؤلاء على درجات متفاوتة من جهة القامة، أما كنيسته التي أقتناها العريس بدمه وقدسها بروحه القدوس، فقد صارت العروس الواحدة الحمامة الكاملة... هذا هو سرّ جمالها وكمالها وقوتها: لقد صارت جسد الرب الواحد، مع أنها تضم أعضاء كثيرون، إذ "يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد" (يو 11: 52)، يجتمعون فيه (أف 1: 10)

أما سرّ وحدتها فلا يقوم على مجرد اجتماع الأعضاء معًا في مكان واحد، أو اتحادهم في لغة واحدة أو ثقافة واحدة... إنما يقوم على العوامل الإلهية التالية:

أ. إنها حمامته... إن كان يوجد الروح القدوس الواحد، الذي هو روح الآب والابن معًا، فقد وهب كنيسته هذا الروح الإلهي لينطلق بالمؤمنين كحمامة واحدة، تنال حياة الشركة مع الله. هذا هو عمل الروح القد

ب. أنها كاملته: إذ تلبس الكنيسة السيد المسيح الكامل، تصير به كاملة، فتقوم وحدتها على أساس الدخول في "الحياة الجديدة الكاملة" التي لنا في المسيح يسوع. في هذه الحياة الجديدة لا نخضع لقانون الانشقاق أو لروح العداوة بل بالحري لروح الحب واهب الوحدة الداخلية. بهذا تصير وحدتنا خلال تقديسنا بالاتحاد مع القدوس، فنمتثل بوحدة الثالوث القدوس

يمكن أن يُفهم من لغة الأرقام الرمزية إعلانات عن سرّ جمال الكنيسة وكمالها وقوتها:

ستون ملكة: تُشبه الكنيسة بستين ملكة، لأنه إن كان رقم 12 يمثل ملكوت الله على الأرض كما سبق فرأينا، إذ يملك الثالوث القدوس على أربعة جهات المسكونة (3 × 4). فإنه إذ يملك الله على حواس المؤمنين الخمس (12 × 5) يكون رقم ستون رمزًا لملكية الله على حياه المؤمنين، أو على حياة الكنيسة الممتدة في كل جهات المسكونة. بهذا تصير الكنيسة ستين ملكة... يملك فينا ملك الملوك فلا تصير حياتنا في عبودية بل ترتقي لتكون حاملة المجد الملكي.

ب. ثمانون سرية: في الرقم الأول ظهرت الكنيسة كملكة خلال ملك الله على أحاسيسها، أما هنا فتظهر الكنيسة كسرية، أي تعيش في حياة خفية روحية مع العريس. أما رقم ثمانون فيُشير إلى اتسام الكنيسة بالطبع الأخروي وهي بعد على الأرض. فإن رقم 10 يُشير إلى حياتنا الزمنية، لذلك جاءت الوصايا العشر في العهد القديم كقانون إلهي نمارسه على الأرض أما رقم 8 (10 × Cool فيُشير إلى الحياة الأخرى كما سبق فرأينا، لأنه تعدى رقم 7 الذي يُشير لأسبوع حياتنا. لهذا جاء الختان في اليوم الثامن، وقام الرب في اليوم الأول من الأسبوع الجديد أو الثامن من الأسبوع السابق، وخلص في فلك نوح ثماني أنفس... هذه كلها تُشير إلى الحياة الجديدة العلوية أو السماوية. فالكنيسة وهي تعيش على الأرض (10) تحيا بالحياة الجديدة السماوية (Cool.

ج. عذارى بلا عدد: هذا الرقم غير المحدود يُشير إلى عذراوية الحياة كلها للرب، فيقدم المؤمن قلبًا عذراويًا لا يقبل عريسًا غير الرب، وفكرًا عذراويًا لا يفكر إلاَّ فيما للرب، وأحاسيس عذراوية... لهذا شبه ملكوت الله بالعذارى خرجن لاستقبال العريس.

ويمكن أن نفهم "وَاحِدَةٌ هِيَ حَمَامَتِي كَامِلَتِي" أنها القديس مريم العذراء، إذ كثيرات نلن كرامة أما هي ففاقتهن جميعًا، وقد جاء في ثيؤطوكية الأحد:

"السلام لك يا مريم،الحمامة الحسنة،التي ولدت لنا الله الكلمة"

وقد انطبق عليها ما ورد في سفر النشيد بعد ذلك "مَنْ هِيَ الْمُشْرِفَةُ مِثْلَ الصَّبَاحِ، جَمِيلَةٌ كَالْقَمَرِ، طَاهِرَةٌ كَالشَّمْسِ، مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ (منظم)؟" [10]. فهي مشرقة كالصباح، إذ تجسد منها شمس البرّ الذي أضاء لنا نحن الجالسين في الظلمة زمانًا. وهي جميلة كالقمر تستمد جمالها من نور ابنها. طاهرة أو مختارة كالشمس، إذ حلّ عليها الروح القدس الذي طهرها وهيئها للتجسد الإلهي. مرهبة كجيش منظم، إذ تحمل في داخلها رب الجنود، قائد المعركة ضد الخطية ومملكة إبليس.

يمكننا أيضًا أن نفهم النص بصورة أخرى، فإن كل نفس تلتقي مع الله وتحمل روحه القدوس فيها خلال الكنيسة وتلبس المسيح يسوع، يُناديها الرب باسمها، ويشرق فيها بنوره فتصير مشرقة بلا ظلام، جميلة كالقمر، مختارة وجميلة بدمه، مرهبة ومنتصرة بصليبه.

اهتمام العروس بالعمل:

"نَزَلْتُ إِلَى جَنَّةِ الْجَوْزِ لأَنْظُرَ إِلَى خُضَرِ الْوَادِي،وَلأَنْظُرَ هَلْ أَزهرَ الْكَرْمُ؟هَلْ نَوَّرَ الرُّمَّانُ؟هناك أعطيك ثدييّ،فَلَمْ أَشْعُرْ إِلاَّ وَقَدْ جَعَلَتْنِي نَفْسِي كمَرْكَبَاتِ عميناداب (قَوْمِ شَرِيفٍ).اِرْجِعِي ارْجِعِي يَا شُولَمِّيثُ،ارْجِعِي ارْجِعِي فَنَنْظُرَ إِلَيْكِ.مَاذَا تَرَوْنَ فِي شُولَمِّيثَ؟مثل انتظام صفوف في معسكر(مِثْلَ رَقْصِ صَفَّيْنِ)" [11–13].

إن كان الرب قد مدح عروسه هكذا، فإن العروس أمام هذا الحب العظيم لم تقف لتنصت للمديح لكنها نزلت إلى واديها الداخلي للعمل، نزلت إلى جنة الجوز وأعطت اهتماما بالكرم وشجر الرمان.

ماذا تعني جنة الجوز؟ يُجيب العلامة أوريجانوس: [نزلت العروس إلى جنة الجوز لتكتشف أن الجوز قد طرح ثماره بطريقة كهنوتية]، فإن هرون الكاهن الأعظم قد أفرخت عصاه وقدمت ثمر الجوز (عد 17: Cool.

والجوز في حقيقته يمثل كلمة الله التي تشغل قلب الكاهن على الدوام، مقدمًا إياها مائدة دسمة لشعبه ليأكلوا ويشبعوا، ويأتوا بثمر كثير. فحين صارت كلمة الرب إلى إرميا بن حلقيا الكاهن قيل له: "ماذا أنت راء يا إرميا؟" فقال: "أنا راء قضيب لوز"، فقال له الرب:
"أحسنت الرؤية لأنيّ أنا ساهر على كلمتي لأجريها" (إر 1: 11-12).

والعجيب أن مديح الرب للنفس الأمينة لا يدفعها للكبرياء بل ينخسها للعمل فتنزل لترى كرم الرب الذي في داخلها والأشجار التي غرستها يمينه: هل أزهر الكرم؟! هل نوّر الرمان؟!

إذ تدخل جنة الرب التي في داخلها، وتتلمس عمله فيها، تفرح بالثمر ولو أنه لا يزال في البداية، فتُناجي عريسها: "هناك أعطيك ثدييّ"[169]... وكأنها تقول له إنيّ أرد حبك بالحب. أنت قدمت ليّ ثدييك اللذين هما العهد القديم والعهد الجديد، وها كلمتك قد أثمرت في داخلي، فأرد لك ما هو ملكك، أعطيك ثدييّ، أي أقدم لك ذات العهدين. لأن كتابك صار كتابي! لكن كيف تقدم له هذه الثديين؟ إنها إذ تشهد لكلمة الله عمليًا أمام الآخرين وتقدم الكلمة لاخوتها إنما تكون قد قدمته للعريس نفسه... إذ يقول: "بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتي الأصاغر فبيّ فعلتم" (مت 25: 40).

أما نظرتها إلى نفسها كمركبات عميناداب بمعني(قوم شريف)فحملت معان أخرى أيضًا منها:

1. عميناداب والد نحشون (را 4: 19، خر 6: 23) من سبط يهوذا، من نسله جاء السيد المسيح، فسرّ شرفها انتسابها للملك المسيح، قائد المركبات الحقيقي الذي به نغلب إلى التمام.

2. عميناداب الآخر من بني عزيئيل، وهو لاوي، أحد الرؤساء الذين إختارهم الملك داود لحمل تابوت العهد (1 أي 15: 3، 10)... وكأن النفس قد أعطي لها في العهد الجديد أن تحمل المسيح نفسه في داخلها... هذا هو سرّ أثمارها وتقديسها.

3. عميناداب بن قهات أيضًا من اللاويين (1 أي 6: 24)... الذي أقامه داود النبي مع غيرهم للغناء أو التسبيح في بيت الرب بعدما أستقر التابوت (1 أي 6: 31)... وكأن هذا هو عمل النفس المتحدة بالمسيح يسوع عريسها: "التسبيح الدائم".

فالكنيسة إذن، أو النفس كعضو في الكنيسة، إنما تجد نفسها في حالة جهاد وحرب تحت قيادة العريس، تتقدس به، وتسبح له وتشكره!

في هذا الجو المملوء جهادًا مع فرح وتسبيح يُنادي العريس عروسه قائلاً:

"اِرْجِعِي ارْجِعِي يَا شُولَمِّيثُ.ارْجِعِي ارْجِعِي فَنَنْظُرَ إِلَيْكِ." [13].

لقد دعاها "شولميث" وهو مؤنث "شالم أو سالم أو سليمان"، وكأن السيد المسيح الذي هو سليمان الحقيقي، يُناديها بلقبه هو. لقد حملت شخصه في داخلها، وسمائها في سلوكها، ودعي اسمه عليها.

إنه ينظر إليها وهي في حالة الحرب ويدعوها " شولميث" أي الحاملة السلام! أما سرّ سلامها فهو رجوعها المستمر إليه... وأن الثالوث القدوس ينظر إليها ويهتم بها ولا ينساها... "ارْجِعِي ارْجِعِي فَنَنْظُرَ إِلَيْكِ".

يعود فيتطلع إلى الذين حوله قائلاً:

مَاذَا تَرَوْنَ فِي شُولَمِّيثَ؟!مثل انتظام صفوف في معسكر(مِثْلَ رَقْصِ صَفَّيْنِ)" [13].

يعتز السيد المسيح بكنيسته أو بالنفس التي هي عضو في كنيسته، إذ يراها وهي تحمل في داخلها السلام قد صارت كصفوف جنود منتظمة للحرب الروحية!

وبحسب النص العبري يراها "مِثْلَ رَقْصِ صَفَّيْنِ"، كلمة "صفان" تعني "جيشان". وكأن الرب يعلن أن كنيسته قد حملت رقصات الجيشين علامة الغلبة والانتصار.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *   تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 10:20 am


الاصحاح السابع



وصفه للعروس "شولميث"


إذ دخل العروسان الحديقة وتبادل الطرفان الحب الزوجي خلال الوحدة الروحية الأبدية، يصف العريس عروسه – الكنيسة – مقدمًا تشبيهات مختلفة عن السابقة، إذ يُناجيها هكذا:

1. "مَا أَجْمَلَ خطواتك (رِجْلَيْكِ) بِالنَّعْلَيْنِ يَا بِنْتَ الأمير!" [1].

يلقبها "بنت الأمير" إذ هي منتسبة لله، وُلدت من الماء والروح كابنة للملك السماوي. لهذا دُعيت في المزمور (45: 13) "ابنة الملك". فإن كانت في أصلها (بعد السقوط) حقيرة ومزدرى بها، لكن بانتسابها لله حملت أصلاً ملوكيًا.

لقد سبق أن مدحت العروس عريسها (نش 5: 11–15) فوصفته مبتدئه من الرأس حتى القدمين، لأنها بهرت بجلاله ومجده فتحدثت عن الرأس الذي يمثل شخصه ثم تدرجت لتمدح حتى قدميه. أما العريس ففي مدحه للعروس يبدأ بالقدمين أو خطواتها حتى يصف الرأس، وذلك لسببين: أولهما أنه يُريد أن يؤكد أن سرّ جمالها هو خطواتها أو سيرها في الطريق الملوكي، أي عودتها بالتوبة إلى العريس سرّ حياتها. أما السبب الثاني فإنه أراد أن يعطي للأعضاء التي تبدو بلا كرامة كرامة أفضل (1 كو 12: 23-34).

أما حديثه عن "النعلين" إنما يُشير إلى الكنيسة – كجماعة أو كأعضاء – وقد احتذت بإنجيل السلام (أف 6: 15)، وكأن العريس قد ركز في بدء وصفها بخطواتها الإنجيلية... تسلك طريق العريس ذاته، تمارس حياتها الإنجيلية المملوءة سلامًا. هذا هو سرّ جمالها الروحي، أنها عرفت الطريق ودخلته! بهذا تحمل أيضًا الشهادة لعريسها كقول الرسول بولس: "ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام، المبشرين بالخيرات" (رو 10: 15). وقول النبي إشعياء: "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام المبشر بالخير المخبر بالخلاص القائل لصهيون قد ملك إلهك" (إش 52: 7)، وقول ناحوم النبي: "هوذا على الجبال قدما مبشر مناد بالسلام، عيدي يا يهوذا أعيادك، أوفي نذورك، فإنه لا يعود يعبر فيك أيضًا الملك" (نا 1: 15).

. "مفاصل فَخْذَيْكِ مِثْلُ الْحَلِيِّ (السلاسل)، صَنْعَةِ يَدَيْ صَانعٍ"

الفخذان يحملان الجسد ويعينانه على الحركة، لهذا فإن مفاصل الفخذين إنما تُشير إلى وحدة الكنيسة المقدسة في المسيح يسوع خلال المحبة. في هذا يقول الرسول: "نكون صادقين في المحبة، ننمو في كل شيء، إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح، الذي منه كل الجسد مركبًا معًا ومقترنًا بمؤازرة كل مفصل حسب عمل على قياس كل جزء يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة" (أف 4: 16). خلال هذه الوحدة ينمو الجسد ويتشدد (كو 2: 19) فتتحقق رسالة الكنيسة.

هذه الوحدة كالسلاسل تربط البشرية معًا مع اختلافها في اللغة والجنس والثقافات، كما تربط الأجيال معًا، فتحمل الكنيسة الروح الجامعية على المستوى المكاني (في كل العالم) والمستوى الزماني (عبر الأجيال)... وهي من صنع يدي صانع ماهر، ألا وهو الروح القدس واهب الشركة.

"وسُرَّتُكِ كَأْسٌ مُدَوَّرَةٌ، لاَ يُعْوِزُهَا شَرَابٌ مَمْزُوجٌ"

تُرشم السرة بدهن الميرون في سرّ التثبيت، لأن الروح القدس يقدس الأعضاء الظاهرة كما يقدس الأحشاء الداخلية، ليكون الإنسان بكليته للرب.

حين تحدث الرب مع حزقيال عن بشاعة ما وصل إليه الإنسان والموت الذي حلّ به قال عنه: "أما ميلادك يوم ولدت فلم تقطع سرتك" (حز 16: 14). فالجنين إذ يخرج من أحشاء أمه يلزم أن تقطع سرته فيخرج إلى نور الحياة الجديدة ككائن حيّ مستقل عن أمه، لا يحتاج إلى الإغتذاء بدمها خلال الحبل السري بل يبدأ ممارسة إنسانيته ليخرج إلى النضوج الكامل. وبنفس الطريقة حين يدخل العروسان إلى الحياة الزوجية يلتزمان أن تقطع فيها حبلا سرتيهما من بيتي أبيهما، ليعيشا الحياة الزوجية الجديدة ويُمارس حبهما الناضج في وحدانية الروح. أقول، هكذا يرى السيد المسيح في كنيسته قد دخلت معه في الحياة الزوجية على مستوى سماوي، وقد قطعت سرتها فصارت كأسًا مدورة أي حملت الطبيعة السماوية (الدائرة التي بلا بداية أو نهاية)، لا يعوزها شراب ممزوج، إذ لم تعد في أحشاء العالم تطلب أفراحه الخارجية... لقد انطلقت كما من بيت أبيها الأرضي لتعيش مع بيت العرس الداخلي في شبع حقيقي وكفاية.

"بَطْنُكِ صُرَةُ (كومة) حِنْطَةٍ مُسَيَّجَةٌ بِالسَّوْسَنِ"

تحوي الكنيسة في داخلها مخازن غذاء روحي (حنطة) مشبع للنفس يسكن في داخلها السيد المسيح، الخبز الحيّ النازل من السماء، الذي من يأكل منه يحيا إلى الأبد (يو 6: 51). هكذا قد تبدو الكنيسة في خارجها فقيرة وجائعة لكن أحشاؤها مخازن خيرات تشبع النفوس الجائعة، وكما يقول الرسول بولس: "كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 6: 10).

هذه الخيرات محاطة بسياج من السوسن الذكي الرائحة، وكأن ثمار الكنيسة مشبعة وجميلة تجتذب النفوس.

"ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْنِ تَوْأَمَيْ ظَبْيَةٍ" [3].سبق أن وصفها بذلك في نش 4: 5 (يمكن الرجوع إليه).
"عُنُقُكِ كَبُرْجٍ مِنْ عَاجٍ" [4].

سبق فوصفها هكذا: "عُنُقُكِ كَبُرْجِ دَاوُدَ الْمَبْنِيِّ لِلأَسْلِحَةِ" (نش 4: 4)، بكونها راسخة وقوية تواجه كل حرب، أما الآن فيصف عنقها "كَبُرْجٍ مِنْ عَاجٍ" وقد سبق فرأينا أن العاج يُشير إلى قبول الألم حتى الموت... حيث يستخرج من الفيل خلال آلامه حتى الموت. فإن كان إيمان الكنيسة عاليًا كالبرج، مرتفعًا نحو السماء، فقد قبلت كل صفوف الألم حتى الموت... لتبقى أمينة في إيمانها، لا تنحرف وراء كل ريح تعلم غريب ولا تتلوث بالبدع والهرطقات لقد كلفها إيمانها الرسولي الأصيل الثمن الكثير!

إنه إيمان من العاج، ناصع البياض، لا يشوبه شيء، ونفيس!

يُشير هذا العنق أيضًا إلى طهارة الكنيسة ونقاوتها، فهي مرفوعة الرأس على الدوام، لا تقدر الخطية أن تنكسه في التراب أو تذله.

"عَيْنَاكِ كَالْبِرَكِ فِي حَشْبُونَ عِنْدَ بَابِ بَثِّ رَبِّيمَ"

إن كان قبلاً قد وصف عينيها بعيني الحمامة، حيث تتجلى فيهما صورة الروح القدس الذي يُقدس سيرتها الداخلية بتطلعها المستمر إليه بغير انحراف، فإنه الآن يصفهما ببرك السمك fishponds في حشبون. هذا المنظر يكشف عن أتساع بصيرتها، فهي كالبرك المنفتحة على السماء لا يحجبها عنها شيء. هذا الانفتاح نحو السماء يولد فيها انفتاحًا نحو البشر أيضًا، لذا دعاها "برك السمك"، كل من ينظر إليها يجدها تحوي الأسماك داخلها... لا تهتم بما لنفسها بل بما هو للآخرين (الأسماك تُشير إلى جماعة المؤمنين)...

إنه لا يصفها بالينابيع لئلا تحمل فقاعات هواء (تُشير إلى الحياة الجوفاء)، ولا بالبحر إذ ليس فيها اضطرابات أو قلق، بل في بساطة الإيمان تعيش بنظرة روحية هادئة.

أما اختيار مدينة حشبون فلأسباب كثيرة منها:

أ. "حشبون" تعني "حساب"... فالنظرة المتسعة والبسيطة لا تعني أن يحيا الإنسان بغير حساب أو بدون تدقيق... إنما بحكمة يضع في اعتباره حساب النفقة.

ب. مدينة حشبون، تدعى حاليًا "حسبان"، وهي آثار مدينة قائمة على تل منعزل تبعد حوالي 16 ميلا شرق الأردن، وحوالي تسعة أميال شمال مادابا، وهي قائمة ما بين آرنون وجابوك. هذه المدينة أتخذها سيمون ملك الأموريين عاصمة لملكه وأعطاها موسى النبي للرأوبيين، وهي تقع على الحدود الفاصلة بين أملاك رأوبين وجاد (عد 32: 37، يش 13: 26). هي إحدى مدن الملجأ الستة من ال 48 مدينة التي أعطيت للاويين (يش 21: 37؛ 1 أي 6: 66). كأن عيني الكنيسة أو بصيرة المؤمن الروحية، كالبرك الهادئة في إحدى مدن الملجأ، يلجأ إليها الناس فينعمون بالمسيح يسوع الملجأ الحقيقي[173].

ج. كانت مدينة حشبون عند مفارق الطرق الرئيسية تمر عليها جموع كثيرة، وهنا إشارة إلى انفتاح قلب المؤمن على الكثيرين ليتمتعوا بالسيد المسيح "الملجأ الأبدي". لهذا يكمل العريس حديثه قائلاً: "عِنْدَ بَابِ بَثِّ رَبِّيمَ". البث هو وحدة قياس عند اليهود تستخدم للسوائل، أما "ربيم" فتعني "ابنة الجموع"... وكأن المؤمن يصير ابنًا لجموع كثيرة. أو كأن الإنسان وقد تمتع ببصيرة روحية يدعو الجموع لتشاركه هذه البصيرة.

"أَنْفُكِ كَبُرْجِ لُبْنَانَ النَّاظِرِ تُجَاهَ دِمَشْقَ"

هذا التعبير يُشير إلى شهامة الكنيسة وشجاعتها المقدسة في الحق، وعدم خوفها من الباطل، فإن كانت وديعة متواضعة لكنها في نفس الوقت قوية وجبارة.

والأنف أيضًا يُشير إلى حاسة الشم للتمييز بين رائحة المسيح الذكية وأطاييب العالم الزائلة. فالمؤمن الحقيقي له أنف كالبرج يدرك خلاله من هو عدو ومن هو صديق، يميز ما هو للبنيان وما هو للهدم. أما اتجاهه نحو دمشق البلد التجاري المهتم بالزمنيات فيُشير إلى جسارة الكنيسة واقتدارها على مواجهة كل تيار.

إن كان المؤمن يلتزم أن يكون له مثل هذا الأنف، فبالأكثر الراعي يليق به ألاَّ يكون "أفطسًا" (لا 21: 7–21). وكما يقول البابا غريغوريوس (الكبير) [174]: [الأفطس هو الذي يعجز عن التمييز، فنحن نميز بحاسة الشم الروائح الذكية من العفنة. إن هذه الحاسة تُشير حقًا لحاسة التمييز التي نختار بها الفضيلة ونرفض الرذيلة. لذلك قيل في مدح الكنيسة العروس: "أَنْفُكِ كَبُرْجِ لُبْنَانَ". فالكنيسة المقدسة تدرك تمامًا بالتمييز التجارب التي تثار عليها بأسباب متنوعة، وتعرف مقدمًا – من فوق برجها – معارك الشر المزمعة أن تحدث]

"رَأْسُكِ عَلَيْكِ مِثْلُ الْكَرْمَلِ،وَشَعْرُ رَأْسِكِ كالقرمز،الملك قَدْ حجز في الشرفات" [5].

رأس الكنيسة مرتفع كالكرمل، الجبل الذي يرتفع إلى أقل من 2000 قدم، ليس في تشامخ بشري واعتداد مملوء عجرفة، بل في قوة النصرة على محبة العالم وكل عواصفه.

والكرمل يعني "أرض الحديقة" أمتاز بالخضرة الكثيفة والثمار الكثيرة والغابات[176]، هكذا لا يظهر رأس الكنيسة فارغًا بل مثمرًا، لا تلهو فيها أية أفكار باطلة، إنما تحمل أعمالاً مجيدة وتقدم ثمارًا تشبع الكثيرين

"مَا أَجْمَلَكِ وَمَا أَحْلاَكِ يا حبيبي!هذه هي عظمتك في لَّذَّاتِك: قَامَتُكِ هَذِهِ شَبِيهَةٌ بِالنَّخْلَةِ وَثَدْيَاكِ بِالْعَنَاقِيدِ.قُلْتُ إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى النَّخْلَةِ وَأُمْسِكُ بسعفها العال.وَتَكُونُ ثَدْيَاكِ كَعَنَاقِيدِ الْكَرْمِ،وَرَائِحَةُ أَنْفِكِ كَالتُّفَّاحِ.وَحَنَكُكِ كَأَجْوَدِ الْخَمْرِ،تسوغ بلذة لِحَبِيبِي وتسيل عَلَى شفتي وأسناني" [6–9].

ي ختام وصفه لها يُناجيها: ما أجملك؟! ما أحلاك؟!، حسب النص الأصلي: "كم صرتِ جميلة؟!" فقد انسكب جمال العريس عليها، بسكناه في داخلها صارت لها عذوبة خاصة! امتزج بثمرها الذي يطلبه الرب ويجده فيها. لقد تطلع إلى قامتها فوجدها شبيهة بالنخلة وثدييها بالعناقيد.

هوذا قد ظهرت قامة الكنيسة، إنها كالنخلة تمتاز بطولها واستقامتها... لقد ارتفعت لتبلغ ملء قامة المسيح (أف 4: 13). وكما يقول المرتل: "الصديق كالنخلة يزهو، كالأرز في لبنان ينمو" (مز 92: 12). لهذا رمز للسبعين رسولاً بسبعين نخلة (خر 15: 27، عد 33: 9)، كما زين بيت الله بالنخيل (1 مل 6: 29، أي 3: 5، خر 40: 22، 41: 18)، وفي الأبدية يحمل المؤمنون سعف النخيل علامة النصرة (رؤ 7). النخلة بجذورها الخفية العميقة تلتقي بينابيع المياه الحية، وهي تقدم ثمرها ظاهرًا ونافعًا لكثيرين خاصة في المناطق المقفرة... ويستخدم سعفها في استقبال الملوك يلوحون بها علامة الغلبة والنصرة. وكأن العريس السماوي يرى في كنيسته – خلال تشبيهها بالنخلة- الاتحاد الخفي العميق معه، والثمار المقدمة للعالم الجائع، والحياة الملوكية المنتصرة الغالبة!

يفرح العريس بعروسه المثمرة، فيصعد إلى النخلة ليجني ثمارها. إنه لم يرسل أحد الخدم ليجني له الثمر، بل يصعد بنفسه ويقطف الثمار بيديه، هنا يعلن للنفس البشرية كرامتها وعظمتها، فإن كان من أجلها قد نزل إلى العالم ليتحد بها، فالآن هو يصعد عليها... لقد ارتفعت بعد أن كانت ساقطة، وبارتفاعها مع عريسها إلى سمواته تشاركه أمجاده، يرى نفسه صاعدًا على نخلته يقطف ثمارها التي هي في الحقيقة من صنع روحه القدوس!

إنه يمسك بسعفها العالي... . وكأنه يرى في نصرتها نصرة له، وفي علوها تمجيد لعمله الخلاصي. نحن نمسك بالسعف لأننا بالرب نغلب وننتصر. وهو يمسك بنصرتنا لأنها لحسابه ولمجد أسمه القدوس. أنه يفرح ويبتهج بكل نصرة نبلُغها!.

أما أنواع الثمر فهي:

أ. يرى ثدييها كعناقيد الكرم... وقد رأينا أن ثدييّ الكنيسة هما العهدان القديم والجديد، فإنهما يبعثان روح الفرح في حياة المؤمنين.

ب. يرى أنفها كالتفاح... وقد رأينا أن التفاح رمزًا للتجسد الإلهي، وكأنها تشتم على الدوام رائحة الإله المتجسد.

ج. حلقها كالخمر الجيد، يُشير بكلمات الفرح المستمر، المستساغة اللذيذة الطعم التي تجعل العريس نفسه أيضًا يفرح لفرحها، فتظهر علامات الفرح على شفتيه وأسنانه.

إذ سمعت العروس وصف العريس ومديحه لها أجابته: إن كل ما قد وصفتني به إنما هو منك ولك يا حبيبي.

"أَنَا لِحَبِيبِي ، وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ"

في الأصحاح الثاني إذ تطلعت العروس إلى المصلوب أدركت حبه الذي خلاله قدم الرب نفسه لها كعريس فقدمت هي حياتها ملكًا له... قائلة: "حَبِيبِي (قريبي) لِيّ وَأَنَا لَهُ، الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ" (2: 16).

وفي الأصحاح الخامس تطلب إليه أن يدخل جنته أي قلبها ليقبل حبها له، ويتسلم حياتها بكل طاقاتها الداخلية كاستجابة حب لعمله معها، قائلة: "أَنَا لِحَبِيبِي وَحَبِيبِي لِيّ الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ" (6: 3). أما هنا فقد ارتفعت إلى الأبدية لا لتقدم حياتها له استجابة لحبه وإنما لتكشف على مستوى العلانية واللانهائية مدى شوقه إليها: "أَنَا لِحَبِيبِي وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ". كأنها تقول له... لقد عرفت سرّ مديحك ليّ، إنك تطلبني أكون معك ولك، أكون موضع شوقك إلى الأبد!

في هذه المرة لا تقول: "حبيبي ليّ" فقد دُهشت أمام بهجته بها واشتياقه نحوها... أنه "يشتهي صهيون مسكنًا له" (مز 132: 13)...

أمام هذا الحب الذي اكتشفته في عريسها نحوها صارت تُناديه:

"تَعَالَ يَا حَبِيبِي (قريبي) لِنَخْرُجْ إِلَى الْحَقْلِ،وَلْنَبِتْ فِي الْقُرَى.لِنُبَكِّرَنَّ إِلَى الْكُرُومِ،لِنَنْظُرَ هَلْ أَزْهَرَ الْكَرْمُ؟!هَلْ تَفَتَّحَ الْقُعَالُ؟!هَلْ نَوَّرَ الرُّمَّانُ؟!هُنَاكَ أُعْطِيكَ حُبِّي (ثدييّ)" [11-12].

إذ أدركت العروس محبته لها أخذت تطلبه ليخرجا معًا وحدهما إلى الحقل ويبيتا في القرى بعيدًا عن ضوضاء المدينة، ويقطفا من الثمار...


الحقل:
أي حقل هو هذا الذي دعت إليه حبيبها ليخرج معها إليه؟

لعله حقل العمل الإلهي المتسع على مستوى البشرية كلها، هذا الذي قال عنه الرب نفسه: "ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد ابيضت للحصاد" (يو 4: 35)... إن كان ربنا نفسه يدعونا للعمل، لكننا لن نخرج بدونه، بل معه وبه لأنه هو صاحب الكرم وهو الذي يهبه النمو. في هذا يقول الرسول بولس: "أنا غرست وأبلوس سقى لكن الله كان ينمي. إذًا ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله هو الذي ينمي... فإننا نحن عاملان مع الله وأنتم فلاحة الله، بناء الله" (1 كو 3: 6-9).

ولعل العروس تقصد بالحقل "حياة الجهاد المستمر"، إذ يقول سفر الأمثال: "من يشتغل بحقله يشبع خبزًا" (أم 12: 11)... فلا قدرة للنفس على الجهاد لتشبع ما لم يعمل الرب معها وفيها.

الخروج:
تقول العروس "لنخرج..."


والآن تستنجد النفس به قائلة "لنخرج..."، وكأنها قد أدركت أنها بدونه تبقى حبيسة "ذاتها"، تعيش أسيرة قوقعتها لا تطلب إلاَّ ما لذاتها. إنه توسُل بل صرخة حب فيه تترجى النفس عريسها أن يطلقها من ذاتها لتعيش معه في حقل الحب، تطلب ما لغيرها.

هذه صورة حية للحياة الزوجية الحقة، فلا يطلب كل طرف أن يأسر الآخر في داخله، يستهلكه لحساب نفسه... إنما وهو يفتح القلب ليدخل بالآخر إليه ينطلق كلاهما معًا في حب وحدوي فيه يقدر الآخر ككائن حيّ مستقل. بمعنى آخر، كثيرًا ما نرى أحد الزوجين في حبه للآخر يطلب ما لذاته، ويرى في الطرف الآخر ليس شخصًا يعيش معه على مستوى المشاركة بل "شيئًا" يفرح به ويكتم أنفاسه ويستغله لاشباع احتياجاته النفسية والاجتماعية والبيولوچية. في حبه للطرف الآخر يخنق إرادة الآخر وحريته وإنسانيته... ظانًا أنه بهذا إنما يحبه!.

هكذا حين تفتح العروس قلبها للعريس ليدخل إليها لا تطلبه "لتستهلكه" إن صح هذا التعبير، أو كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم "لتستغله"، تُريد في عريسها أن تشكله حسبما تُريد، يستجيب لكل طلباتها ويشبع كل احتياجاتها ويحل كل مشاكلها ويبارك كل تصرفاتها فحسب... لكن يليق أن تخرج عن ذاتها، تخرج معه وبه فتطلب منه ذاته أولاً وتخضع لارادته، وإن سألته شيئًا وطلبت حلاً لمشاكلها أو بركة لعملها إنما كثمرة للقائهما معًا، لا كغاية هذا اللقاء. بمعنى آخر: الله أولاً في حياتها... تحبه لأجل ذاته لا على مستوى المنفعة!

لنبت في القرى:

ما هي هذه القرى التي تود أن تبت فيها مع عريسها؟

1. لعلها تقصد بالقرى حياتها الداخلية بجوانبها المتعددة، وكأنها تقول له هيا بنا من مظاهر المدينة الخارجية ولتدخل إلى قلبي وفكري وعواطفي وكل طاقاتي الداخلية، ولتبت معي هناك، لنكشف سويًا ثمار روحك القدوس المتنوعة في داخلي، نجد الكرم قد أزهر والرمان قد نور وثدييّ يُقدمان لبن الحب الخالص.

2. لعله هنا أيضًا دعوة لخدمة القرى، فإن الكثيرين يهتمون بخدمة المدينة الغنية، لكن العروس – الكنيسة – ملتزمة بالكرازة والرعاية داخل القرى حيث البسطاء والفقراء أيضًا.

3. هنا الدعوة للمبيت معه في قرى "متعددة"، أي ترافقه من قرية إلى قرية، ولا يستريح قلبها في المدينة أو في قرية ما، بل تدخل مع عريسها في حياة الاتحاد خلال خدمتها في كل موضع... هكذا لا يجد المؤمن كمال راحته حتى تطمئن أعماقه الداخلية على كل البشرية. في الأصحاح الأول (1: 6) كانت النفس تُعاتب بنات أورشليم أنهن أقمن إياها حارسة للكروم، أما الآن فهي التي تطلب التبكير إلى الكروم المتعددة... لقد خرجت من كل أنانية وكل انغلاق لتبكر إلى كروم الآخرين تعمل فيها مع الرب الكرام الأصيل. والعجيب أنه ليس فقط اتسع قلبها لخدمة الآخرين، لكنها تتعجل الخدمة: "لتبكرن...". لقد أدركت أن الوقت مقصر والأيام شريرة (أف 5: 16).

أخيرًا تقول العروس "هُنَاكَ أُعْطِيكَ حُبِّي (ثدييّ)"... هناك في مجال الخدمة، في حقل الرب، في القرى، في الكروم حين تُقدم للبشرية اتحادها مع المسيح عريسها إنما تُقدم للرب حبها، أو تقدم ثدييها (العهدين)، تقدم كلمة الله بكونه الغذاء المشبع للنفوس


أخيرًا تقول له

"اَللُّفَّاحُ يَفُوحُ رَائِحَته،وَعِنْدَ أَبْوَابِنَا كُلُّ النَّفَائِسِ (الثمار) مِنْ جَدِيدَةٍ وَقَدِيمَةٍ،ذَخَرْتُهَا لَكَ يَا حَبِيبِي"

اَللُّفَّاح من أجمل الزهور التي تُشير إلى الوحدة الزوجية بين الرجل وامرأته، لهذا حدثت بسببه مشاحنة بين راحيل وليئة (تك 30: 14)... ولكن العروس تختم حديثها بقولها لقد فاحت رائحة الحب الوحدوي أو الزوجي بين العريس السماوي وعروسه، وحان وقت كمال هذه الوحدة.

هذه الوحدة التي ظهرت رائحتها تحمل ثمارًا نفيسة جاءت جديدة في كل يوم وقديمة أي أصيلة وعميقة... هي ثمار كلمة الله العاملة في نفوس المؤمنين. هذه الثمار النفيسة ظهرت عند أبواب المؤمنين هم أعضاء في العروس المقدسة.

هذا ما تقدمه العروس الأم للمسيح العريس الأبدي... تقدم ثمار أعضائها بالروح القدس!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *   تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 10:26 am

الاصحاح الثامن


العروس العاملة

في بدء النشيد بدأت العروس بالإلحاح في الدخول إلى حياة الشركة معه، تود أن تختلي به أكثر فأكثر في البرية، وأخرى في الحديقة، وثالثة في الحقل والقرى، ورابعة في بيت أمها لتسقيه من خمر حبها كما أرواها هو بحبه الأبدي، لهذا تُناجيه قائلة:

"لَيْتَكَ كَأَخٍ لِيّ الرَّاضِعِ ثَدْيَيْ أُمِّي،فَأَجِدَكَ فِي الْخَارِجِ، وَأُقَبِّلَكَ، وَلاَ يُخْزُونَنِي.وَأَقُودُكَ وَأَدْخُلُ بِكَ بَيْتَ أُمِّي، وحجرة من حبلت بيّ،وَأنتَ تُعَلِّمُنِ،فَأَسْقِيكَ مِنَ الْخَمْرِ الْمَمْزُوجَةِ مِنْ سُلاَفِ رُمَّانِي" [1-2].

إن كان هذا الأصحاح في جوهره حديث عن الخدمة، فإن أساس الخدمة وأساسها تمتع الخادم أولاً بعريس الكنيسة، حتى متى ألتقي بأخوته يشتمّون فيه رائحة "الحياة" ويتقبلون العضوية في الكنيسة جسد المسيح الحيّ
.

في هذا الحديث أيضًا نلاحظ الآتي:

1. أنها تود أن تقبّله كأخ لها، الراضع ثدييّ أمها... فإنه بحسب التقاليد الشرقية القديمة ما كان يليق ممارسة القبلات علانية حتى بين الرجل وزوجته، ولا يستثنى من هذا إلاَّ الأقرباء من الدرجات الأولى كالوالدين والأخوة. لهذا تُريده كأخ لها الراضع ثدييّ أمها، فتأخذه بين ذراعيها، وتظهر معه علانية، وتقبله في حضرة البشرية كلها ولا يلومها أحد.

2. لعل سرّ دعوتها له برجاء "ليتك كأخ ليّ..." إنما تعلن عن شهوة كنيسة العهد القديم التي كانت تنظر إلى الله كمن هو في الخارج، إذ تقول "أجدك في الخارج"، تطلب إليه أن ينزل إلى جنس البشر ولا يبقى منعزلاً، بل يصير أخًا بكرًا باشتراكه معنا في طبيعتنا وحلوله في وسطنا، فنستطيع أن نتعرف عليه، ونقبله بقبلات العبادة العلنية، وندخل به إلى حياتنا الداخلية.

3. وهو أيضًا حديث كنيسة العهد الجديد التي أدركت في نضوح حبها أن السيد المسيح الأخ البكر – وهو ربها وسيدها وعريسها – يُقبله المؤمنون بقبلات العبادة الحية، ويدخلون به إلى بيت أمهم – أورشليم السماوية – ليعيشوا معه وجهًا لوجه في أحضانه الأبدية.

4. أما قولها "أنت تعلمني"... فهو كشف بطبيعة المسيحي الحقيقي والخادم الأمين، فإن كانت النفس تلتقي بعريسها وتقبله وتعيش معه في بيت أمها – الكنيسة أو أورشليم السماوية – وهناك تسقيه من خمر بهجتها الممزوجة من عصير رمانها، لكنها تبقى في أتضاع تُريد أن تتعلم... إنها في حاجة إليه ليعلمها أسراره السماوية، حتى في الأبدية حين تبقى في أحضانه تراه على الدوام جديدًا في عينيها... وكأنها من لحظة إلى أخرى – إن صح هذا التعبير إذ لا يوجد في الأبدية لحظات أو زمن – تتعلم شيئًا جديدًا عن أسراره الإلهية.


أخيرًا تؤكد العروس اتحادها بعريسها وتعلقها به فتردد ما سبق أن قالته قبلاً:

"شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي، وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي.أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بأيائل (قوى) الحقل،أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ" [3-4]إنها ذات الكلمات التي نطقت بها حين أعلنت أنها "مجروحة حبًا"، وقد سبق لنا شرحها

لعلها أرادت هنا أن تؤكد أنها وإن قدمت كل حياتها للخدمة، لكنها في هذا لا توقف شركتها معه وانشغالها به... بل تؤكد أنها لن تسمح بشيء أو أحد أن يعوق اتحادها به، فالخدمة الحية لا تُلهي الخادم عن مسيحه بل بالحق تدخل به إلى أعماق أكثر في الحياة معه.


شهادة العالم له:

إذ يتطلع العالم إلى الكنيسة التي هي جسد المسيح والشاهدة له أمامه، يقول لها:

"مَنْ هَذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ، كلها بيضاء، مُسْتَنِدَةً عَلَى حَبِيبِهَا (قريبها)؟!" [5].

يعلق القديس أغسطينوس على هذا النص قائلاً: [إنها لم تكن من البداية بيضاء، إنما صارت بيضاء فيما بعد، لأنه "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج" (إش 1: 18)]. كما يقول: [من هذه الطالعة بيضاء في بهاء النور وليس بلون باطل؟!]. ويقول القديس أمبروسيوس:لقد كانت قبلاً سوداء، فكيف صارت بيضاء فجأة (خلال المعمودية)؟!].

ويعلل القديس أغسطينوس سرّ استمرار بياضها هكذا: [الآن هذه التي صارت بيضاء تسلك حسنًا، لأنها مستمرة في الاتكاء على ذاك الذي جعلها بيضاء. فإن يسوع نفسه هذا الذي تستند عليه فيجعلها بيضاء يقول لتلاميذه: "بدونيّ لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5)].

ولعل هذه الدهشة لم تصب العالم فحسب، بل اجتاحت السمائيين أنفسهم إذ يرون ما يصل إليه الإنسان البشري خلال اتحاده بالسيد المسيح في جرن المعمودية، أي يرونه في ميلاده الجديد يحمل إمكانية الصعود نحو السمويات بثياب بيض. وكما وصف القديس كيرلس الأورشليمي الإنسان في المعمودية قائلاً: [ترقص الملائكة حولك وهم يقولون من هذه الطالعة بيضاء في ملابسها مستندة على قريبها؟! لأن النفس التي كانت قبلاً عبدة تبناها سيدها وجعلها قريبة له]. كما يردد السمائيون القول التالي:

"تَحْتَ شَجَرَةِ التُّفَّاحِ شَوَّقْتُكَ (رفعتك)]،هُنَاكَ ولدتك أُمُّكَ،هُنَاكَ وضعتك وَالِدَتُكَ" [5].

هذا هو سرّ صعودها من البرية كلها بيضاء مستندة على حبيبها، أنها قد وضعتها أمها وأنجبتها والدتها تحت شجرة التفاح.

لقد رأينا قبلاً أن "شجرة التفاح" تُشير إلى التجسد الإلهي، إذ ظهر الرب "كشجرة التفاح بين شجر الوعر" (2: 3). فخلال التجسد الإلهي أمكن للكنيسة الأم أن تنجب أولادًا لله في المعمودية، قادرين على الارتفاع نحو السمويات بالإله المتجسد... هذه هي الولادة الجديدة، وهذه هي فاعليتها في حياة المؤمنين.

هنا ربط بين التجسد الإلهي وولادتنا الروحية، فالسيد وُلد جسديًا لكي نولد نحن روحيًا. وهذا هو سرّ الاحتفال بعيدي الميلاد والعماد (الغطاس) في يوم واحد في الكنيسة الأولى...، إذ يرتبط العيدان معًا في ذهن الكنيسة.


عدم الانشغال بالخدمة على حساب العريس:

تؤكد العروس العاملة التصاقها بعريسها وسط انشغالها بخدمة القريب قائلة:

"اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ (ختم) عَلَى قَلْبِكَ،كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ،الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالجحيم (كالقبرِ).لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ، لَظَى الرَّبِّ.مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ، وَالأنهار لاَ تَغْمُرُهَا.إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ تُحْتَقَرُ احْتِقَاراً" [6-7]

إنها تطلب أن تكون ختمًا على قلب العريس، فهي لا تطلب أن يكون لها مجرد موضع في قلبه بل تحتل القلب كله، وكأن الله لا ينشغل إلاَّ بها. تُريد لا أن يكون أسمها منقوشًا على قلبه، بل هي بكل حياتها مختومة عليه، فلا يقدر أحد أن يقترب أو يمحو أسمها من أمام وجه الله.

في سفر إشعياء النبي يقول الرب: "هوذا على كفي نقشتك" (49: 16)، أما هنا فالعروس تطلب أن تكون خاتمًا على ساعده...

بهذا تستقر العروس في قلب الله "مركز العاطفة والحب" وفي ساعده "مركز العمل"، تستريح إلى الأبد على عرش محبته وعلى كرسي قدرته! هذه هي دالة الكنيسة لدى عريسها!.

أما سرّ هذه الدالة القوية فهو الحب الذي سكبه الرب في قلبنا من نحوه لهذا تقول: "المحبة قوية كالموت، الغيرة قاسية كالقبر..." وكأنها تقول له: إن الموت هين، لا يقدر أن يفصلني عن حبي لك، والمياه الكثيرة وجميع الأنهار لا تقدر أن تطفئه أو تغمره. وكما يقول الرسول بولس: "من سيفصلنا عن محبة المسيح: أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف... فإنيّ متيقن أنا لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (رو 8: 38، 39).

في سط العالم قدمت العروس لعريسها ما لا يقدر العالم أن يُقاومه، قدمت قلبها لذاك الذي يجد في القلب لذته، فهي لم تقف عند حدود تقديم الخدمة والجهاد والأسهار، بل قدمت أولاً قلبها أي "حبها" كله، والذي تقول عنه: "إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ تُحْتَقَرُ احْتِقَاراً". وكأنها تردد ما قاله الرسول بولس: "إن أطعمت كل أموالي وإن سلمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس ليّ محبة فلا أنتفع شيئًا" (1 كو 13: 3).

حبها لعريسها يشعل حبها لاخوتها:

عندما قدمت حبها كله للرب أتسع قلبها لاخوتها فقامت تطلب عنهم، قائلة:

"لَنَا أُخْتٌ صَغِيرَةٌ لَيْسَ لَهَا ثَدْيَانِ.فَمَاذَا نَصْنَعُ لاُُخْتِنَا فِي يَوْمٍ تُخْطَبُ؟!إِنْ تَكُنْ سُوراً فَنَبْنِي عَلَيْهَا بُرْجَ فِضَّةٍ،وَإِنْ تَكُنْ بَاباً فَنَحْصُرُهَا بِأَلْوَاحِ أَرْزٍ.أَنَا سُورٌ وَثَدْيَيَّ كَبُرْجَيْنِ،حِينَئِذٍ كُنْتُ فِي أعينهم كَوَاجِدَةٍ سَلاَمَةً" [8 –10].

هذه العبارات البسيطة تحمل دستورًا لحياة الخدمة تتلخص بنوده في النقاط التالية:

. إدراك مركز غير المؤمنين بالنسبة للكنيسة، أنهم يمثلون "الأخت الصغيرة"، ليست أختها فحسب، بل هي أخت للعريس كما للعروس. خلال هذا المنظر لا تتعامل الكنيسة مع غير المؤمنين، حتى المضايقين لها أو المضادين للحق... وإن كانوا حتى ملحدين، على مستوى المعلم مع التلميذ بل الأخ الأكبر الذي يترفق بالأصغر. قد تخطئ الأخت الصغرى في حق الكبرى، فلتحتملها الثانية لأنها "الكبرى"، ولتعطها عذرًا لأن الصغرى ليس لها ثديان... أي لم تكتشف الحق خلال العهدين.

2. إن سرّ ضعف الصغرى أنها بلا ثديين، فعمل الكبرى تقديم كلمة الله أي العهدين القديم والجديد، لكي تتذوقهما الأخت الصغرى وتحبهما وتقتنيهما كثديين لها. هذا هو عمل الكنيسة الإنجيلي... تُقديم كلمة الله الحية لكل إنسان.

3. ماذا تفعل الكنيسة للأخت الصغرى وقد طلبها العريس كخاطب وها هي بلا ثديين؟! لتعاملها بكل عطف وحب، فلا تعيرها ولا تجرح مشاعرها وإنما تترفق بها وتقدم لها كل إمكانية. فإن كانت الصغرى سورًا تبني عليها برجًا فضيًا، وإن تكن بابًا تُحصرها بألواح الأرز... إنها تسندها بالعمل الإيجابي.

تُقدم الأخت الكبرى نفسها وحياتها للصغرى، فتقول لها إن كنتي في حاجة إلى سور يحوط حولك وبرجين يرتفعان بك... فأنا في خدمتك "أنا سور وثدييّ كبرجين". اقبلي السيد المسيح الذي في داخلي سورًا لك وكتابي المقدس ثديين يشبعانك.

4. لا يقف الأمر عند معالجة ما نقص في حياة الأخت الصغرى التي بلا ثديين، لكن الكبرى تبني عليها برجًا من الفضة وتحوطها بألواح أرز... وكأنها تسند أختها حتى تصير خادمة عاملة في كرم الرب. إن عمل الكنيسة هو الدخول بغير المؤمنين إلى الإيمان ودفعهم إلى الشهادة العملية لكلمة الله أمام الغير... بهذا يصيرون كالبرج الفضي (الفضة تُشير لكلمة الله المصفاة كالفضة، والبرج يُشير للشهادة العلنية).
بهذا تصير الكنيسة في أعين الجميع كواجدة سلامًا حقيقيًا في حياة البشرية.

حوار ختامي:

"كَانَ لِسُلَيْمَانَ كَرْمٌ فِي بَعْلَ هَامُونَ،دَفَعَ الْكَرْمَ إِلَى نَوَاطِيرَ (حراس)،كُلُّ وَاحِدٍ يُؤَدِّي عَنْ ثَمَرِهِ أَلْفاً مِنَ الْفِضَّةِ،كَرْمِي الَّذِي لِيّ هُوَ أَمَامِي،الأَلْفُ لَكَ يَا سُلَيْمَانُ وَمِئَتَانِ لِنَوَاطِيرِ الثَّمَرِ.أَيَّتُهَا الْجَالِسَةُ فِي الْجَنَّاتِ،الأَصْحَابُ يَسْمَعُونَ صَوْتَكِ، فَأَسْمِعِينِي.اُهْرُبْ يَا حَبِيبِي وَكُنْ كَالظَّبْيِ أَوْ كَغُفْرِ (صغير) الأَيَائِلِ عَلَى جِبَالِ الأَطْيَابِ" [11–14].

1. إذ تدخل الكنيسة بالعالم إلى عريسها السيد المسيح... تدعو الكل أن يتمتع به، وهنا توضح الكنيسة مبدأ هامًا في الخدمة: إن الكرم إنما هو كرم المسيح، وهو الذي يعمل فيه خلال الكرامين، لذلك تقول: "كَانَ لِسُلَيْمَانَ كَرْمٌ فِي بَعْلَ هَامُونَ". إن الكرم ليس كرمها، بل هو كرم "سليمان الحقيقي"...

في هذا يقول القديس أغسطينوس: [الله يقوم بفلاحتنا نحن كرمه... أما زرعنا فهو العمل الذي في قلوبنا، وهو لا يعمل بأيد بشرية. إنه يقوم بفلاحتنا، كما يصنع الفلاح بحقله. يقول الرب في الإنجيل: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان... أبي الكرام" (يو 15: 1، 5). وماذا يفعل الكرام؟ إنه يقوم بفلاحة حقله. فالله الآب كرام له حقل يقوم بفلاحته وينتظر منه ثمرًا. ويقول الرب يسوع المسيح نفسه أنه: "غرس كرمًا... وسلمه إلى كرامين"، هؤلاء ملتزمون بتقديم الثمار في أوانها].

. كلمة "بعل" تعني "سيد" أو "ملك"، "هامون" تعني "الجموع". وكأن كرم السيد المسيح، ملك السلام، إنما هو جموع البشرية... يصير ملكًا لهذه الجموع ليدخل بهم إلى سمواته.

لقد سلم الرب هذه الكرم لكرامين... "دَفَعَ الْكَرْمَ إِلَى نَوَاطِيرَ" لكنه لا يكف عن أن يعتني بالكرم بنفسه ويهتم به في محبة شديدة، إذ يقول "كرميّ الذي ليّ هو أمامي". يحرسه بنفسه ليلا ونهارًا (إش 27: 1–3)، لا يبخل عليه بشيء، حتى في عتاب يقول: "احكموا بيني وبين كرمي: ماذا يصنع أيضًا لكرميّ وأنا لم أصنعه له؟!" (إش 5: 3-4).

ما هو الثمر الذي يطلبه ملك السلام؟ "كُلُّ وَاحِدٍ يُؤَدِّي عَنْ ثَمَرِهِ أَلْفاً مِنَ الْفِضَّةِ". هذا ما يطلبه من الكرامين أن يقدم الكل ألوفًا، لأن الألف تُشير إلى السماء والحياة السماوية. فالله لن يقبل من الخدام إلاَّ الثمر الروحي السماوي. هذا هو عمل الكنيسة ورسالة خدام الكلمة... أن يدخلوا بالمخدومين إلى الحياة السماوية.

إن كان الثمر يُقدم لحساب السيد المسيح فما هو نصيب الخدام؟ "الأَلْفُ لَكَ يَا سُلَيْمَانُ وَمِئَتَانِ لِنَوَاطِيرِ الثَّمَرِ". وربما قصد بالمئتين أن يكون مئة لرجال العهد القديم ومئة لرجال العهد الجديد، فالثمر كثير يتمتع به كل الخدام في العهدين. لهذا يقول الرسول بولس لشعبه: "يا سروري وإكليلي" (في 4: 1)

إذ تعمل الكنيسة في كرم الرب، ويدرك العاملون أنهم يعملون لحساب السيد المسيح الذي له "الألف" وأيضًا لحساب أنفسهم فلهم "المئتان" يصيرون كمن هم في وسط الجنات. يتحول الباب الضيق والطريق الكرب إلى نير هين وحمل خفيف. يعيشون وهم على الأرض كمن في فراديس مفرحة، لذا يُناجي الرب عروسه قائلاً: "أَيَّتُهَا الْجَالِسَةُ فِي الْجَنَّاتِ، الأَصْحَابُ يَسْمَعُونَ صَوْتَكِ، فَأَسْمِعِينِي". صوت حبك لم يعد مكتومًا، بل يسمعه الذين على الأرض كما يفرح به السمائيون... والآن تعالي إلى لكي أسمع صوتك العملي المفرح، تعالي "رثي الملكوت المعد لكِ منذ إنشاء العالم".

إنها كلمات عريس يفرح قلب عروسه، ويؤكد لها أن ما تصنعه تنال ثماره على مستوى أبدي.

أما هي فتُجيبه بالفرح قائلة: "اُهْرُبْ (اسرع) يَا حَبِيبِي وَكُنْ كَالظَّبْيِ أَوْ كَغُفْرِ (صغير) الأَيَائِلِ عَلَى جِبَالِ الأَطْيَابِ". لقد سبق فرأينا لماذا تُشبه الكنيسة عريسها بالظبي وبأصاغر الآيائل... هنا تستجيب لدعوته قائلة أسرع إليّ وتعالى فإنيّ مشتاقة إليك... إن كنت تدعوني أن ألتقي بك لتسمع صوتي، فأنا أيضًا محتاجة أن ألتقي بك.

ولعل مجيئه مسرعًا على جبل الأطياب يذكرنا بالأطياب التي كُفن بها السيد، فإنه يلتقي معها خلال دفنها معه... إذ تموت معه كل يوم، لكي تحيا معه إلى الأبد.

هذا هو ختام النشيد... وكأنها تُردد ما قالته العروس في سفر أبوغلامسيس (الرؤيا): "آمين. تعال أيها الرب يسوع"!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
maro marmar
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
maro marmar


عدد المساهمات : 2854
نقاط : 7714
تاريخ التسجيل : 10/10/2010

تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *   تفسير سفر نشيد الانشاد  * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة * Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 1:14 pm


لان فى هذا السفر يكلم الله فيه الروح البشرية .............وميرسى ليك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير سفر نشيد الانشاد * وهو سفر الحب بين الله و الكنيسة *
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» طقوس و تفسير وضع بيض النعام في الكنيسة
» تفسير سفر اللاويين
» تفسير سفر الامثال
» تفسير سفر الجـامعــة
» تفسير سفر راعوث

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: منتدى الكتاب المقدس :: دراسة اسفار الكتاب المقدس-
انتقل الى: