+++السلام والنعمة "الراعى يحبك الراعى ينتظرك"+++
+++السلام والنعمة "الراعى يحبك الراعى ينتظرك"+++
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
البوابةالبوابة  الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  الكتاب المقدسالكتاب المقدس  الكتاب مسموع و مقروءالكتاب مسموع و مقروء  تفسير الكتابتفسير الكتاب  مركز تحميل الصورمركز تحميل الصور  youtubeyoutube  جروب المنتدىجروب المنتدى  twittertwitter  rssrss  دخولدخول  

 

 تفسير سفر تيموثاوس الثانية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر تيموثاوس الثانية Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سفر تيموثاوس الثانية   تفسير سفر تيموثاوس الثانية Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 08, 2010 9:58 pm

المقدمة

الأصحاح الأول (روح القوة)

الأصحاح الثاني (الجهاد في الخدمة)

الأصحاح الثالث ( مقاومة روح الضلال)

الأصحاح الرابع (وصايا وداعية)

مقدمة

لهذه الرسالة أهمية خاصة، فقد سجلها رسول الأمم معلمنا بولس الرسول لأحب تلميذله، وشريك معه في الخدمة الرسولية، القديس تيموثاوس، الذي سامه أسقفًا على أفسس. إنها آخر ما سجله الرسول بولس في سجنه الثاني وهو ينتظر يوم استشهاده. فقد كان في حنين أن يلتقي معه، ليقدم له وصاياه الوداعية، لكنه خشي ألاَّ يسعفه الوقت فقدم كل ما في قلبه كخادمٍ، مسجلاً وصاياه الوداعية لابنه الخاص.

المكان الذي أُرسِلَت إليه

كتب الرسول بولس هذه الرسالة إلى القديس تيموثاوس، الذي كان يخدم في أفسس ويرعى شعبها، والدليل على ذلك هو:

1. طلب منه أن يسلم على أنيسيفورس(٤: ١٩)، الذي كان في أفسس (١: ١٨).

2. أوصاه أن يمر على ترواس عند قدومه إليه في روما (٤: ١٣)، وكانت ترواس تقع في الطريق الممهد بين أفسس وروما كما يُفهم من (أع ٢٠: ٥؛ ٢ كو ٢: ١٢).

3. حذره من إسكندر النحاس (٤: ١٤) الذي كان في أفسس (أع ١٩: ٣٣؛ ١ تي ١: ٢٠).

4. أمره أن يبادر إليه (٤: ٩)، وزاد على ذلك قوله: "أما تيخيكس فقد أرسلته إلى أفسس" (4: 12)، وكأنه قد بعث به إلى أفسس لينوب عن القديس تيموثاوس أثناء رحيله.

5. الأضاليل والأخطاء التي طالب القديس تيموثاوس بمقاومتها هي بعينها المذكورة في الرسالة الأولى، وكأن القديس تسلم الرسالة في ذات البلد التي تسلم فيها الرسالة الأولى، أي أفسس.

تاريخ كتابتها

يظهر من هذه الرسالة أن الرسول كتبها وهو في سجن روما (١: ٨، ١٦؛ ٤: ٦). وليس في سجنه الأول بل الأخير، حوالي سنة ٦٧ أو ٦٨ م. فقد سجن في روما مرتين. في السجن الأول كان داخل السجن نفسه، أما في الثاني فأقام في بيت استأجره، فكان السجن بالنسبة له "تحديد إقامة" أكثر منه سجنًا.

يظهر أن هذه الرسالة كتبت أثناء سجنه الثاني من الأدلة التالية:

1. لم يكن يتوقع انطلاقه من السجن سريعًا وتركه روما كما جاء في رسالته إلى أهل فيلبي (١: ٢٤؛ ٢: ٢٤)، وفي رسالته إلى فليمون (في ٢٢)، بل على العكس كان يتوقع استشهاده، إذ يقول: "فإني الآن أسكب سكيبًا ووقت انحلالي قد حضر" (٤: ٦).

2. يرى البعض أن الرسول يشير إلى سجنه الأول وما لازمه من محاكمة انتهت بالإفراج عنه وانطلاقه للخدمة، إذ يقول: "في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي، بل الجميع تركوني، لا يحسب عليهم! ولكن الرب وقف معي وقواني لكي تتم بي الكرازة، ويسمع جميع الأمم، فأُنقذت من فم الأسد" (٤: ١٦، ١٧). وإذ كان غالبية الدارسين يرون أن الرسول يتحدث هنا عن ظهوره أمام نيرون مرة، وأن القضية قد تأجلت ليظهر مرة أخرى، وأن الكرازة قد التهبت خلال خدمته ما بين المحاكمتين وهو في السجن.

3. يطلب الرسول منه أن يُحضر الرداء الذي تركه في ترواس عند كاربس (٤: ١٣)، والكتب أيضًا ولاسيما الرقوق؛ هذا يظهر أن الرسول قد قُبض عليه في المرة الثانية بأمر روماني كطلب نيرون في وقت لم يكن متوقعًا فيه فلم يجد الوقت لجمع هذه الأشياء.

4. أسماء بعض الأشخاص الواردة في الرسائل التي كتبها أثناء سجنه الأول لم تذكرُ هنا، مما يبدو أنهم غائبون عنه، هذا يدل على أن هذه الرسالة لم تكتب في السجن الأول. ففي رسالته إلى كولوسي يذكر أن معه تيموثاوس ومرقس وديماس (كو ١: ١؛ ٤: ١؛ ٤: ١٤)، أما هنا فيكتب إلى تيموثاوس المقيم في أفسس، ويطلب منه أن يحضر معه مار مرقس الرسول (٤: ١١)، كما يقول عن ديماس أنه قد تركه (٤: ١٠).
غرض الرسالة

1. كتب الرسول إلى تلميذه لكي يحضر ومعه مار مرقس، ليلتقي معهما في السجن قبل استشهاده، لكنه خشي أن يستشهد قبل وصولهما، لهذا قدم في هذه الرسالة وصايا وداعية أبويّة يؤكد فيها ضرورة الجهاد بروح القوة لا اليأس، من أجل الحفاظ على الإيمان المستقيم، ومقاومة الهرطقات بحزم مع وداعة ومحبة، كما يلهب فيهما تلمذة الآخرين للمساندة في الخدمة.

2. يكتب الرسول وهو ينتظر استشهاده في روما إلى كنيسة تجتاز محنة الألم تحت نير نيرون الظالم، لذا كتب يشجع الكنيسة على احتمال الألم بغير تذمر أو شك (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). كما يكرر عبارة "لا تخجل"، فالضيق لا يقيد كلمة الإنجيل، بل يسند الكثيرين للعمل بلا خجل من صليب ربنا يسوع المسيح.

3. جاءت هذه الرسالة يقدمها خادم منتصر يودع عالمًا مملوءً بالضيق. إنه يعلن تمام جهاده وحفظه للوديعة الإيمانية حتى النفس الأخير منتظرًا الإكليل الأبدي.
أقسام الرسالة ومحتوياتها

1. تحية افتتاحية ص ١ : ١ – ٥.

2. روح القوة ص ١ : ٦ – ١٨.

3. الجهاد مع الخدمة ص ٢.

4. مقاومة روح الضلال ص ٣.

5. وصايا وداعية ص ٤.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر تيموثاوس الثانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر تيموثاوس الثانية   تفسير سفر تيموثاوس الثانية Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 08, 2010 10:10 pm

الاصححاح الاول

روح القوة

إذ يكتب الرسول بولس من سجنه وصيته الوداعية لكل أولاده، خاصة الرعاة، في شخص تلميذه القديس تيموثاوس، وقد أحاطت الضيقة بالكنيسة بسبب ظلم نيرون. لهذا فإن النغمة الذي سادت الرسالة ككل هي "روح القوة" التي صارت لنا في المسيح يسوع غالب الموت. أما مفتاح السفر فهو: "لأن الله لم يعطنا روح الفشل (التهيب)، بل روح القوة والمحبة والنصح" (1: 7). هكذا يحيا الخادم بروح القوة في كرازته بالإنجيل، وفي خدمته وتشجيعه الخدام، وفي قبوله حب إخوته، كما في مناهضته للبدع والأضاليل:

1. الافتتاحية ١ – ٢.
2. تعلق الرسول بأولاده ٣ – ٧.
3. الكرازة بروح القوة ٨ – ١٢.
4. التمسك بالتعليم الصحيح ١٣ – ١٤.
5. مساندة أولاده له ١٥ – ١٨.
1.الافتتاحية

"بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله،

لأجل وعد الحياة التي في يسوع المسيح،

إلى تيموثاوس الابن الحبيب.

نعمة ورحمة وسلام من الله الآب والمسيح يسوع ربنا".

تقاربت الافتتاحية هنا بتلك الخاصة بالرسالة الأولى، فهي موجهة من ذات الرسول إلى نفس المرسل إليه، وفي نفس البلد. ومع ذلك فقد وُجدت بعض الاختلافات التالية:

أ. في الرسالة الأولى يركز القديس بولس على أنه رسول بأمر الله مخلصنا وربنا يسوع المسيح ليؤكد أن عمله الرسولي لا يقوم على إعلان بشري بل بمشيئة الله نفسه. أما هنا وإن كان قد أكد ذات الأمر، لكنه يركز عينيه على المكافأة الأبديّة، قائلاً: "لأجل وعد الحياة التي في يسوع المسيح". في الرسالة الأولى كان يجاهد في الخدمة متذكرًا أن الدعوة قد وُجهت إليه كأمر إلهي، وأن الله في محبته يلتزم، إن صح هذا التعبير، أن ينجح طريقه، أما هنا فقد أدرك أنه يسكب سكيبًا ووقت انحلاله قد حضر (٤: ٦). لهذا سُمرت عيناه على المكافأة التي طالما كان يترقبها. إنها تمتع بالمسيح يسوع نفسه بكونه الحياة (يو ١٠: ١)، فهو رجاؤنا ومكافأتنا!

إن كانت هذه الرسالة الوداعية تدور حول موضوع "روح القوة"، فإن سرّ القوة هو "الحياة" التي صارت لنا بدخولنا في المسيح يسوع حياتنا، لننعم به في كمال المجد على مستوى فائق. كأن الحياة التي ينتظرها كمكافأة ينعم بها هنا خلال الإيمان في عربونها، إذ ننال مسيحنا هنا بالإيمان أما هناك فننعم به وجهًا لوجه.

ب. يدعو الرسول بولس تلميذه: "الابن الحبيب"، فقد قاربت لحظات انتقاله ويخشى ألاَّ يراه. لذا كتب إليه بروح الحب والود ليكشف عن أعماق أحاسيسه الداخلية. ويرىالقديس يوحنا الذهبي الفم في هذا اللقب: "الابن الحبيب" إعلانًا عن طاعة القديس تيموثاوس، إذ كان للقديس أبناء كثيرون، لكن دعوته "الحبيب" تُقدم له على وجه الخصوص من أجل طاعته له كأبيه الروحي.

على أي الأحوال، إن كانت رسائل القديس بولس قد كشفت عن شخصيته من جهة جهاده وجديته وحزمه كما عن عمق مفاهيمه اللاهوتيّة، فإنها أبرزت أيضًا مشاعر الحب الفائقة! لقد عاش الرسول بولس محلقًا في السماويات على مستوى لا يُعبَر عنه، وفي نفس الوقت كإنسان واقعي يؤمن بتقديس الجسد بكل مشاعره وأحاسيسه وعواطفه في المسيح يسوع. إنه لا يكبت المشاعر الإنسانية بل يطلقها بطريقة روحية عالية. هذا ما ظهر بأكثر وضوح في ختام رسالته إلى أهل رومية كاشفًا عن مشاعر الحب التي تربطه بكثيرين بأسمائهم. وقد تحدثالقديس يوحنا الذهبي الفم عن هذه المشاعر التي ملأت قلب الرسول في استطالة، نذكر منها:

[بولس هذا العجيب، الذي بذل لحمه، وأنكر جسده، الذي جال في كل الأرض يحمل نفسه وحدها (كأنها بلا جسد)، وقد ألقى عنه كل هوى، وتمثل بالقوات الروحية العلوية، وقطن في الأرض كما في السماء، وارتفع مع الشاروبيم، واشترك معهم في التسبيح السماوي واحتمل الآلام... بولس هذا عندما ابتعد عن نفس عزيزة عليه اضطرب وتكدر، حتى هرب من المدينة التي لم يجد فيها من كان يتوقع أن يراه هناك... لقد ترك ترواس لذات السبب إذ لم تقدر أن تقدم له صديقه: "ولكن لما جئت إلى تراوس لأجل إنجيل المسيح، وانفتح لي باب في الرب لم تكن لي راحة في روحي، لأني لم أجد تيطس أخي، لكن وعدتهم فخرجت إلى مكدونية" (٢ كو ٢: ١٢).

ما هذا يا بولس؟ أنت الذي قُيدت ... ودخلت السجن، وحملت آثار السياط، فكان ظهرك لايزال ينزف دمًا!... أنت الذي لم تحتقر إنسانًا واحدًا يحب أن يخلص، عندما بلغت ترواس ورأيت الأرض صالحة للزرع، ومستعدة للبذر، وكان الصيد كثيرًا وسهلاً، ألقيت من بين يديك هذا المكسب الهام الذي من أجله أتيت؟ تقول: "لأجل إنجيل المسيح"، بمعنى أنه لا يقف أحد في طريقك من أجل إنجيل المسيح، وتقول: "انفتح لي باب في الرب"، ومع هذا تهرب سريعًا؟

نعم، بالتأكيد سقطت تحت سطوة الحزن، فإن غياب تيطس قد آلمني كثيرًا. غلبني الحزن وسيطر عليّ حتى وجدت نفسي مضطرًا لهذا... الذين يحبون بعضهم بعضًا لا يكفيهم الارتباط بالنفس لتعزيتهم، بل هم محتاجون إلى وجودهم معًا بالجسد، وإن لم يوهبوا ذلك ينقصهم الكثير من سعادتهم.]

2. تعلق الرسول بأولاده:

في لحظات الصلب تجلت روح قوة ربنا يسوع المسيح حيث انكشف اهتمامه بكل البشرية، مقدمًا حياته فدية عن الجميع، طالبًا المغفرة حتى عن صالبيه، دون أن ينسى إعالة أمه فسلمها لتلميذه القديس يوحنا الحبيب أمًا له، وقدمه ابنًا لها. إنها مشاعر الحب الفائقة التي تعلو الألم حتى مرارة الصليب. هكذا تشبه الرسول بولس بمعلمه فحمل "روح القوة" الذي هو "روح المسيح"، الذي به وهو يدرك أنه ينسكب سكيبًا لا يوصي تلميذه عن أمورٍ خاصة بنفسه ولا يحدثه عن سجنه وآلامه، إنما في قوة يتحدث عن اهتمامه به بعمق، قائلاً: له: "إني أشكر الله الذي أعبده من أجدادي بضمير طاهر، كما أذكرك بلا انقطاع في طلباتي ليلاً ونهارًا، مشتاقًا أن أراك، ذاكرًا دموعك لكي أمتلىء فرحًا".

هكذا تبرز روح القوة بحق في حياة المؤمنين خلال اتساع قلبهم بالحب نحو إخوتهم وأولادهم الروحيين فلا يفكرون حتى في لحظات انتقالهم فيما هو لأنفسهم بل فيما هو للغير، مظهرين كل حبٍ وتعلقٍ بهم، ليس فقط خلال العمل الظاهر، وإنما أيضًا في الطلبات المستمرة لدى الله.

لعل الرسول بولس وهو يكتب إلى تلميذه مذكرًا إياه أنه نشأ في أحضان أم وجِدة تقيتين، عاد بذاكرته إلى أجداده هو أيضًا، إذ يقول: "الذي أعبده من أجدادي بضمير طاهر"، فهو إنسان لا ينكر الجميل. إن كان قد اضطهد كنيسة الله وافترى عليها مجدفًا على مسيحها الأمر الذي كان يردده كثيرًا، لكنه لا يتجاهل بركة آبائه اليهود الذين سلموا له الإيمان الحق إلى مجيء المسيا. يرى الرسول بقلبٍ متسعٍ في آبائه الجذور الصالحة لكرمة الله التي أثمرت في العهد الجديد بالمسيح يسوع.

ماذا يقصد الرسول بقوله: "بضمير طاهر"؟ حقًا كان الرسول مجدفًا ومفتريًا، لكنه حتى في هذا لم يكن سييء النية، إنما ظن أنه يخدم الله، مشتهيًا أن يعمل بضمير صالح طاهر. وقد صار له هذا الصلاح أو تلك الطهارة بالأكثر عندما التقى بالقدوس، وتمتع بالإتحاد معه في المسيح يسوع ربنا. لهذا بكل جرأة يقول: "إني بكل ضمير صالح قد عشت إلى هذا اليوم" (أع ٢٣: ١)، كما يعلن أنه يدرب نفسه كل يوم ليكون له ضمير بلا عثرة (أع ٢٤: ١٦). يقصد الرسول بولس بهذا "الضمير" الحياة الداخلية التي تحمل انعكاسًا على تصرفاته الظاهرة. يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [يتحدث هنا عن حياته التي بلا لوم، ففي كل موضع يدعو حياته ضميره.]

ومما استرعى انتباهالقديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول يعتبر مجرد تذكره لتلميذه فيطلب عنه بلا انقطاع هو عطية إلهيّة يقدم عنها ذبيحة شكر!

طلبات الرسول غير المنقطعة ليلاً ونهارًا من أجل تلميذه لكي يهبه الرب نجاحًا في حياته الروحية وفي خدمته، هي جزء لا يتجزأ من حياة الرسول بولس نفسه بكونها إعلانًا عن اتساع قلبه لإخوته وأولاده، وجزء لا يتجزأ عن عمله الكرازي وخدمته. فإنه لا يكفي الكرازة بالفم والقدوة فحسب، وإنما تلزم الصلاة الدائمة من أجل كل خادمٍ ومخدومٍ. هذا هو سرّ قوة الرسول بولس وقوة أولاده الروحيين!

أقول بصدق ما أحوج العالم كله في هذا العصر إلى رجال صلاة حقيقيين متسعي القلب ومملوءين إيمانًا بالله العامل في خدامه! كرازة بلا صلاة هي خدمة جوفاء، وعمل بشري لا يدوم!

أخيرًا، فإن الرسول بروح القوة المعلنة خلال الحب يكشف عن شوقه العميق أن يراه، وكما قلت قبلاً إنه يرى في المشاعر الإنسانية الرقيقة تقديسًا فلا تُكبت أو تُكتم أنفاسها. إن منظر تلميذه وهو يبكي عند فراق الرسول أو عند سجن الرسول لا يفارق عينيه قط، إذ يقول: "مشتاقًا أن أراك، ذاكرًا دموعك لكي أمتلىء فرحًا". لقد امتلأت حياة الرسول والملاصقين له بالعواطف المقدسة، فيسكبون الدموع عند مفارقته لهم (أع ٢٠: ٣٧، ٣٨؛ ٢١: ٣١)، ويعلن هو عن شوقه إلى كل أولاده: "فإن الله شاهد لي كيف أشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح" (في ١: ٨). "وأما نحن أيها الإخوة فقد فقدناكم زمان ساعة بالوجه لا بالقلب اجتهدنا أكثر باشتهاء كثير أن نرى وجوهكم..." (١ تس ٢: 17 -18 ). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارة الأخيرة هكذا: [ماذا تقول: أنت الإنسان الكبير والعظيم؟ أنت الذي صُلب العالم لك وأنت للعالم (غل ٩: ٢٤)، أنت الذي تركت كل ما هو جسدي، أنت الذي كمن هو بلا جسد، بلغت هذه الدرجة من العبودية في الحب حتى اندفعت بهذا الجسد الترابي – المصنوع من الطين – الذي تراه؟ يجيب: نعم، إني لا أخجل من أن أعترف بذلك، بل أفتخر، إذ أحمل داخلي محبة عظيمة، هي أم كل الفضائل.]

لا يقف الرسول بولس عند هذه العواطف مجردة إنما يستخدمها بالروح القدس لحث أولاده على الجهاد بروح القوة، إذ يقول: "إذ أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك الذي سكن أولاً في جدتك لوئيس وأمك افنيكي، ولكني موقن أنه فيك أيضًا. فلهذا السبب أُذَكِّرُك أن تُضرِم موهبة الله التي فيك بوضع يدي. لأن الله لم يعطنا روح الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح".

يدفعه الرسول للعمل بروح القوة والحب والمشورة، مذكِّرًا إياه بثلاثة أمورٍ: علاقته بأسرته، علاقته بالرسول، علاقته بالله.

أولاً: من جهة أسرته فالقديس تيموثاوس مدين لجدته وأمه بالإيمان الحيّ عديم الرياء الذي تسلمه منذ الطفولة. هذا هو ما يفرح قلب الرسول يرى العائلات المقدسة كنيسة حيّة يتربى فيها أولاد الله على الإيمان الحيّ، فيتسلمون الحق كسرّ حياة يمارسونها كل يوم وليس معرفة نظرية أو شكليات في العبادة. يقول القديس يوحنا: "فرحت جدًا لأني وجدت من أولادك بعضًا سالكين في الحق" (٢ يو ٤). وكتب القديس چيروم إلى لئيتا يرشدها في تربية ابنتها جاء فيها: [كوني مدرسة لها، نموذجًا لما تريدين أن تكون عليه في طفولتها... لا تفعلي أنتِ أو والدها شيئًا مما إذا قلدتكما فيه تكون قد ارتكبت خطية... بسيرتكما تعلماها أكثر مما تعلمانها بوصاياكما.]

أما قوله عن الإيمان المُسَلَّم إليه من عائلته أنه "عديم الرياء"، فإن الكلمة اليونانية لها تستخدم في اختبار السوائل على ضوء الشمس لتظهر إن كانت نقية بلا شوائب. وكأن الرسول بولس يقول له: لقد اختُبِرَ إيمان عائلتك على ضوء السيد المسيح شمس البرّ، فوُجِدَ نقيًا بلا شوائب؛ إيمان غايته خلاص النفس والتمتع بالله لا الظهور أمام الناس لأجل كلمة مديح.

نستطيع أن نقول أن البيوت المقدسة بحقٍ، المؤمنة بغير رياء، الملتهبة بنار الحب الحقيقي تقدِّم للأبناء إمكانيّة حياة مع الله، تسندهم في شبابهم بل حتى في مماتهم. أما البيوت الحاملة صورة التقوى بلا حب حقيقي، فهي تقدم صورة سيئة للأبناء تجعلهم ينفرون من الإيمان ويكرهون الحق أكثر من الذين نشأوا في بيوت مملوءة شرورًا. فالطفل قادر على إدراك ما في قلبي والديه ومعرفة صدق إيمانهما أو ريائهما!

ثانيًا: من جهة علاقته به يقول: "أُذَكِّرَك أن تُضرِم موهبة الله فيك بوضع يدي". إن كنت قد وضعت يدي عليك لتتقبل موهبة الكهنوت والرعاية، فإن علاقتي بك الملتهبة نارًا إنما هي في الرب النار المقدسة. محبتك لي تظهر في إشعالك أو إضرامك لهذه النار الإلهيّة بالتجاوب مع عمل الروح القدس الناري الساكن فيك. هنا يرفع الرسول مستوى العلاقة بينهما إلى الالتقاء في الرب، لكي يحثه على العمل بلا انقطاع، إذ موهبة الله المجانيّة لا تُضرَم في حياة الرعاة الكسالى بل العاملين. وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [كما تحتاج النار إلى وقود، هكذا تتطلب النعمة نشاطنا لكي تكون دائمة الحرارة، "أُذَكِّرَك أن تُضرِم موهبة الله التي فيك بوضع يدي"، أي نعمة الروح التي تقبلتها لكي تدبر الكنيسة وتعمل المعجزات وتقوم بكل خدمة. ففي مقدورنا أن نُلهب هذه النعمة أو نُطفئها، لهذا يقول في موضع آخر: "لا تطفئوا الروح" (١ تس ٥: ١٩). فبالخمول والإهمال تنطفىء، وبالسهر والاجتهاد تبقى حيّة. حقًا إن الموهبة فيك، فلتلهبها أي املأها ثقة وفرحًا وبهجة، وكن رجلاً.]

ثالًثا: علاقته بالله: إن كانت علاقته بأسرته هي في الرب، وأيضًا علاقته مع الرسول في الرب، فإن الرب نفسه يهبه أيضًا روح القوة والحب والنصح، وليس روح الفشل (التهيب). وكأن الرسول بولس يسند تلميذه بالتطلع إلى الله نفسه لا الظروف المحيطة به فلا يخاف ولا يتهيب بالفشل بل يمتلىء قوة وحبًا ونصحًا. أما الظروف المحيطة فيمكننا تلخيصها في العبارات التالية:

أ. حداثة سنه مع كبر المسئولية، ففي الرسالة السابقة قال له: "لا يستهن أحد بحداثتك بل كن قدوة للمؤمنين في الكلام في التصرف في المحبة في الروح في الإيمان في الطهارة" (١ تي ٤: ١٢).

ب. سجن الرسول بولس، وربما علم القديس تيموثاوس بكل ما لحق الرسول من أتعاب أثناء السجن.

ج. شعوره بالفراغ الذي يتركه الرسول برحيله من العالم.

د. وجود مقاومين من المتهودين وأصحاب البدع الغنوسية المفسدة للإيمان المسيحي.

إنه يشجعه على العمل لا بروح الخوف والتهيب، وإنما بروح القوة القادرة على مواجهة المتاعب، وروح الحب القادر على البذل والعطاء، وروح النصح القادر على التمييز بحكم سليم في غير تهور أو تطرف. هذه هي عطايا الروح القدس الذي يهب المؤمنين خاصة الرعاة سلطانًا أن يدوسوا بقوة على الحيات والعقارب وكل قوة العدو، فيخدموا بروح الشجاعة لكن ليست الشجاعة الجسدية المظهرية، ولا القوة التي بالمفهوم البشري، لذا رافقها بالحب. فالقوة هنا هي قوة الله الملهبة للقلب بالحب نحو كل إنسان. ويرافق الحب "النصح"، فالراعي في محبته يلزم أن يكون حكيمًا وناصحًا. ولعله قصد بالنصح روح المشورة، فلا يخدم الراعي بفكرٍ انفراديٍ منعزلٍ، إنما يسلك بروح الكنيسة الجماعي طالبًا المشورة، أيًا كان مركز الراعي أو درجته الكهنوتية. هذا ما نلاحظه في الرسول بولس نفسه الذي وهو يؤمن أنه مفرز من بطن أمهللعمل الرسولي،وأن الابن الوحيد نفسه أعلن ذاته له (غل ١: ١٦)، إذا به يعرض إنجيله الذي يكرز به بين الأمم على المعتبرين، لئلا يكون قد سعى باطلاً (غل ٢: ٢).

يهب الله بروحه القدوس خدامه روح القوة للعمل بلا تخوف، بينما الأشرار "تقع عليهم الهيبة والرعب" (خر ١٥: ١٦). يغرس الله في أولاده الشجاعة الروحية، ويترك الرعب يفسد قلوب الأشرار. ويعطي مع القوة روح الحب، فيدرك الخدام حب الله ليتسع قلبهم بالحب نحوه ونحو كل البشرية. فيرافق القوة لطفًا وحنانًا، أما الذي يقدم توازنًا بين القوة والحب فهو روح النصح والتمييز، حيث يعرف الخادم الشجاعة دون فقدان اللطف، واللطف دون الحرمان من الشجاعة؛ أو هو روح النصح الذي يعني روح المشورة المتبادلة بين الخدام وبعضهم البعض الذي يهب الخادم اتزانًا في عمله وخدمته.

3. الكرازة بروح القوة

إذ يحمل الراعي روح القوة والحب والنصح، يكرز بإنجيل المسيح بغير خجلٍ. لذا يقول الرسول: "فلا تخجل بشهادة ربنا ولا بي أنا أسيره، بل اشترك في احتمال المشقات لأجل الإنجيل، بحسب قوة الله الذي خلصنا، ودعانا دعوة مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزليّة".

يوصيه الرسول أن يخدم الله ويشهد للإنجيل وسط الآلام، أما سرّ القوة فيكمن في الصليب، الذي هو سرّ خلاص البشرية، وسرّ تقديسنا. على الصليب شهد ربنا يسوع المسيح للحب الإلهي، متممًا المقاصد الأزلية، وخلال الصليب دخل الرسول إلى الأسر شاهدًا لمحبته للمصلوب. وكأن الرسول يحث تلميذه ألاَّ يكرز بحماسٍ بشريٍ أو غيرةٍ إنسانيّةٍ، وإنما خلال تمتعه بقوة الصليب.

رأينا في دراستنا السابقة كيف أفسد بعض الغنوسيين نفوس البعض، إذ انحرفوا بهم عن الإيمان إلى المعرفة المجردة كعلة خلاص. فصار الإيمان بالنسبة لهم مباحثات مجردة ومناقشات غبية بلا هدف، سوى الوصول إلى المعرفة الذهنية بمجهودهم الذاتي، متجاهلين قوة الإيمان بالصليب كسرّ حياة المؤمنين وخلاصهم وتقديسهم. هذا ما دفع الرسول لإبراز عمل الصليب كسرّ شهادة يسوع المسيح نفسه عن الحب الإلهي الأزلي نحو الإنسان، وسرّ خلاص البشريّة وتقديسها.

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا النص، قائلاً:

[ليس شيء أشر من أن يقيس الإنسان الأمور الإلهيّة ويحكم عليها خلال المباحثات البشريّة (كالغنوسي)، فإنه بهذا يسقط من صخرة (الإيمان) إلى مسافة بعيدة، ويُحرم من النور. فمن أراد أن يبصر أشعة الشمس بعينيه البشريتين ليس فقط لا يعاينها، وإنما يصيبه ضررًا جسيمًا. هكذا وبصورة أشد من يفعل هذا مفسدًا عطية الله بتطلعه إلى النور (الإلهي) خلال بصيرة المباحثات البشريّة.

لاحظ كيف أدخل مرقيون وماني وفالنتينوس وغيرهم هرطقاتهم وتعاليمهم المهلكة إلى كنيسة الله، إذ يقيسون الأمور الإلهيّة بقياس المباحثات البشريّة، فصاروا في خجل من جهة التدبير الإلهي.

وإنني إذ أتحدث عن صليب المسيح أقول أنه ليس موضوع خجل، بل بالحري موضوع مجد! فإنه ليس من علاقة عظيمة هكذا تكشف عن محبة الله للبشر مثل الصليب. فلا السماء ولا البحر ولا الأرض ولا خلقة هذا كله من العدم ولا شيء آخر مثله!

هنا مجد الرسول: "حاشا لي أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح" (غل ٦: ١٤). أما الطبيعيون فيتعثرون فيه ويخجلون منه... من البداية يحث الرسول تلميذه، ومن خلاله يحث الآخرين، قائلاً: "لا تخجل بشهادة ربنا"، أي لا تخجل من الكرازة بالمصلوب بل بالحري تتمجد فيه. فالموت والسجن والسلاسل هذه كلها أمور مخجلة في ذاتها وعار، لكن إن أُضيف إليها السبب ظهر السرّ واضحًا فتصبح أمورًا مجيدة وموضوع افتخار.

إنه الموت الذي خلص العالم ويبيد الموت ذاته!

إنه الموت الذي ربط الأرض بالسماء، محطم قوة الشيطان، وجعل البشر ملائكة وأبناءً لله، وأقام طبيعتنا إلى العرس الملوكي.]

هذا هو "روح القوة"، أن ننعم بالصليب الذي يبيد الموت المهلك ويهبنا الحياة السماوية. فلا نخجل منه، بل نقبله عمليًا في حياتنا، ونشترك في احتمال المشقات من أجله. هذا ما يعلنه الرسول لتلميذه، مقدمًا نفسه مثلاً حيًا، إذ صار أسيرًا للرب المصلوب.

يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان الرسول، قائلاً: [لا تخجل، فإنني أنا الذي أقمت موتى، وصنعت معجزات، وحولت العالم إلى الإيمان، قد صرت أسيرًا، لكنني لست أسيرًا كصانع شر بل أنا أسير من أجل المصلوب (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). إن كان ربي لم يخجل من الصليب فلا أخجل أنا من السلاسل... إن كان ربنا وسيدنا قد احتمل الصليب فيليق بنا بالحري أن نُربط بالسلاسل. من يخجل مما احتمله السيد (الصلب والسلاسل) إنما يخجل من المصلوب نفسه. الآن، فإنني لا أحتمل هذه السلاسل لحساب نفسي، فلا تستسلم للمشاعر البشريّة، بل بالحري احتمل نصيبك من هذه المشقات.]

ولئلا يظن القاريء أن احتمال المشقات في ذاته هو ثمن خلاصنا وتقديسنا أكد الرسول أننا مدينون في ذلك للمقاصد الإلهيّة والنعمة المجانيّة، إذ يقول: "لا بمتقضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزليّة". حقًا إن الصليب واشتياقنا للخلاص وقبولنا للدعوة الإلهيّة هذا كله يدفعنا لاحتمال مشقات الصليب عمليًا، لكن ليست هذه المشقات هي ثمن لهذه العطايا، إنما سرّ القوة يكمن في عمل الله نفسه لخلاصنا وتقديسنا: "لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (في ٢: ١٣).

ظهرت المراحم الأزليّة والتدابير الإلهيّة في المسيح يسوع الذي ظهر في ملء الزمان مصلوبًا لخلاصنا، إذ يقول الرسول: "وإنما أُظهِرَت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل، الذي جُعلت أنا له كارزًا ورسولاً ومعلمًا للأمم. لهذا السبب أحتمل هذه الأمور أيضًا، لكنني لست أخجل لأنني عالم بمن آمنت، وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم" .

هكذا يؤكد الرسول أن ظهور مخلصنا يسوع المسيح وتقديمه الإنجيل خلال صليبه هو سرّ قوتنا وينبوع النعمة الإلهيّة المجانيّة القادرة على خلاصنا من الموت وتقديم الحياة والخلود لنا. يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [ها أنت ترى القوة، ترى العطيّة الممنوحة لنا لا بالأعمال وإنما خلال الإنجيل! هذا هو موضوع الرجاء، الذي تحقق في جسده (بالصليب)؛ وكيف يتحقق فينا؟ بالإنجيل.] في جسده كسر شوكة الموت عنا (١ كو ١٥: ٢٦) بحمله الصليب، وفتح أعين بصيرتنا الداخلية للتمتع بالنور والحياة الخالدة خلال قبولنا الإنجيل. في موضع آخر يؤكد الرسول أن ابادة الموت هو غاية ظهوره، إذ يقول: "فإنه إذ قد تَشَارَك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية" (عب ٢: ١٤-١٥).

هذا هو ما دفع الرسول بولس أن يحمل روح القوة في كرازته وتعليمه الإنجيل بين الأمم، محتملاً المشقات كسيده، قائلاً: "الذي جُعلت أنا له كارزًا ورسولاً ومُعلمًا للأمم".

يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [لماذا يكرر هذا ملقبًا نفسه رسول الأمم؟ لأنه يود أن يقتفوا أثاره، ويلتصقوا هم أيضًا بالأمم! لا يرتاعوا من مشقات (الإنجيل) فقد تراخت أوتار الموت. إنه لا يتألم كفاعل شرٍ، وإنما كمعلم للأمم.]

هكذا يقدم الرسول بولس نفسه مثالاً لاحتمال الآلام من أجل الكرازة بغير خجل، قائلاً: "لهذا السبب أحتمل هذه الأمور أيضًا لكنني لست أخجل". وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [ها أنت ترى كيف يوضح تعليمه بأعماله، قائلاً: "أحتمل هذه الأمور". "لقد أُلقيت في ذلك اليوم" ما هي هذه الوديعة؟ إنها الإيمان والكرازة بالإنجيل. الله الذي أودعه هذه يحفظها مصونة. إنني أحتمل كل شيء حتى لا أفسد الكنز، وإنني لا أخجل من هذه الأمور ما دامت محفوظة لا يصيبها ضررًا. ولعله يقصد بالوديعة المؤمنين أنفسهم الذين عهد الله بهم إليه، أو عهد هو بهم لدى الله، قائلاً: "والآن أستودعكم الله" (أع ٢٠: ٣٠)... إنه يستودع ثمر الوديعة بين يدي تيموثاوس.]

حقًا يظهر الرسول بولس مثلاً حيًا للمعلم الذي يحفظ الوديعة – سواء الإيمان الحق أو المؤمنين أنفسهم – وذلك لاحتماله المشقات المستمرة وتسليمها لتلاميذه ليسلكوا بنفس روحه، حاملين المشقات من أجل الوديعة. وكأن الرسول بولس يقدم لنا نفسه مثلاً حيًا للراعي الأمين، لا في حفظ الوديعة فحسب، وإنما في قدرته على تلمذة أناس قادرين أن يكملوا عمله، سالكين ذات منهجه في حفظ الوديعة باحتمالهم الآلام.

هذا ويلاحظ أن الرسول وهو يتكلم هنا عن المشقات لا يدفع نفسه إليها دفعًا، لكنه متى وُجدت يحسبها مجدًا له. كما جاءت كلمة "يحفظ" في اليونانية كتعبير عسكري يعني "الحماية الكاملة". هذه هي إحساسات المؤمن الحقيقي، أنه تحت الحماية الإلهيّة الكاملة، إذ يقوم الله بحفظ مؤمنيه في وديعة إيمانهم، مما يعطي الخادم طمأنينة ورجاءً. يقول القديس بطرس: "فإن الذين يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودعوا أنفسهم كما لخالقٍ أمينٍ في عمل الخير" (١ بط ٤: ١٩).

4. التمسك بالتعليم الصحيح

"تمسك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته مني،

في الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع.

احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا".

طبع الرسول على قلب تلميذه صورة حيّة لوديعة الإيمان سواء من جهة العقيدة "الكلام الصحيح" أو من جهة السلوك "المحبة". لقد نقش في نفس تلميذه نسخة من دستور الإيمان والخطوط العريضة للحياة العمليّة، فصار التلميذ نفسه أشبه بنسخة حيّة وفعَّالة للإيمان المُسَلَّم عبر الأجيال. هذا هو التسليم الحيّ أو التقليد. إنه تمسك بالإنجيل العملي، معلنًا في حياة الرعاة والرعيّة، ليعبر من جيل إلى جيل كحياة في المسيح يسوع ربنا.

كيف نتمسك بالوديعة ونحفظها؟ "بالروح القدس الساكن فينا". يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس في قدرة نفس بشريّة أن تحفظ أمورًا عظيمة كهذه؛ لماذا؟ لأنه يوجد لصوص كثيرون يتربصون لها، وظلمة كثيفة وشيطان على الأبواب يدبر خططًا ضدها! كيف إذن يمكننا أن نحفظها؟ بالروح القدس؛ بمعنى إن كان الروح ساكنًا فينا، إن كنا لا نطرد النعمة فيسقف (الله) معنا. فإنه "إن لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البناءون، وإن لم يحرس الرب المدينة فباطلاً يسهر الحراس" (مز ١٢٧: ١). هذا هو حصننا، هذه هي قلعتنا هذا هو ملجأنا! إن كان الروح ساكنًا فينا وهو حارسنا، فما الحاجة للوصية؟ لكي نتمسك بالروح ولا نجعله يهجرنا.]

5. مساندة أولاده له:

لقد هجر البعض الرسول وهو في السجن في اللحظات الحرجة، واعتبر الرسول هذا التصرف نوعًا جديدًا من المشقات التي يحتملها من أجل السيد المسيح، بينما يقف البعض بجواره. كان هذا التصرف منقوشًا في قلب الرسول الرقيق المشاعر، فهو يصلي من أجلهم حتى يكافئهم بالسماويات.

"أنت تعلم هذا أن جميع الذين في آسيا ارتدوا عني،

الذين منهم فِيجَلُّس وهَرموجانِس.

ليُعطِ الرب رحمة لبيت أُنيسيفورُس،

لأنه مرارًا كثيرة أراحني، ولم يخجل بسلستي،

بل لما كان في رومية طلبني بأوفر اجتهاد فوجدني.

ليُعطِه الرب أن يجد رحمة من الرب في ذلك اليوم.

وكل ما كان يخدم في أفسس أنت تعرفه جيدًا".

قدم الرسول لتلميذه مثالاً للذين هجروه وقت آلامه، وهم "جميع الذين في آسيا"، هؤلاء الذين كانوا في روما وقد ارتدوا عنه. وقد قصد بآسيا هنا الولاية الرومانيّة في آسيا الصغرى، والتي كانت عاصمتها أفسس. هؤلاء الذين من آسيا إمّا أنهم وُجدوا في روما أثناء سجنه، أو جاءوا معه إليها كما فعل ديماس (٤: ١٠). كان الرسول في سجنه محتاجًا إلى محبتهم وخدمتهم لكنهم قدموا جفافًا عوض الحب، بل استغلوا سجنه لعمل انشقاق في الكنيسة وإثارة هياج ضده، أو لعلهم خافوا من نيرون، فخجلوا من بولس السجين. على أي الأحوال، كان تصرفهم هذا صليبًا حمله الرسول بقوة من أجل الإنجيل. يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [أشار الرسول إلى سلوكهم دون أن يلومهم، إنما مدح ذاك الذي أظهر حنوًا، طالبًا له آلاف البركات لكي تحل عليه.]

لقد طلب رحمة لبيت أُنيسيفورُس، وهو ابن للقديس بولس في الإيمان، قَبِلَ الإيمان على يديه في أيقونيّة، عمل كتاجر في أفسس، وقد أراح الرسول أثناء سجنه، ربما اهتم بتضميد جراحاته، أو قام بزيارته مرارًا في السجن، مُعَرِّضًا حياته للخطر.

يرى غالبية المفسرين أن أُنيسيفورُس كان قد انتقل من العالم في ذلك الحين، وقد طلب الرسول أن يجد رحمة لدى الله في يوم الرب العظيم. وقد أُخذ هذا النص كمثال للصلاة من أجل الراقدين. فنطلب لهم الراحة لا بمعنى أن الصلاة عنهم تسند الأشرار غير التائبين، وإنما نطلب عنهم من أجل أي توانٍ أو تفريط سقط فيه المؤمنون. لهذا تصلي الكنيسة في أوشيّة (صلاة) الراقدين، هكذا: [إن كان قد لحقهم توان أو تفريط كبشر وقد لبسوا جسدًا وسكنوا في هذا العالم، فأنت كصالحٍ ومحبس البشر، اللهم انعم لهم بغفران خطاياهم.] وقد حوت جميع القداسات الرسوليّة صلوات عن الراقدين.

يقول القديس ديوناسيوس الأيوباغى: [إن كانت خطايا المتوفي حقيرة فتجد منفعة مما يعمل بعده، وإن كانت باهظة ثقيلة فقد أغلق الله الباب في وجهه.]

ويقول القديس أغسطينوس: [تُقدَّم القداسات من أجل المؤمنين المنتقلين، فإن كانوا صالحين تُدعى شكرًا، وإن كانوا أشرارًا فلا تفيدهم شيئًا، ولكنها تكون تعزية للأحباء.]

يقول القس روبرتسون: [يقينًا أن أُنيسيفورُس كان ميتًا عندما كتب بولس الرسول هذه الكلمات التي تعتبر دليلاً معقولاً على أن موت أي شخص لا يحرمنا من الحق أو الواجب للصلاة عنه، ويقينًا أن أمثال هذه الصلاة من أجل الموتى توجد في قداسات العصور المسيحية الأولى، وهي إلى الآن تكون جزءًا من القداسات المستخدمة في جزء كبير من العالم المسيحي.]

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر تيموثاوس الثانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر تيموثاوس الثانية   تفسير سفر تيموثاوس الثانية Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 08, 2010 10:25 pm

الاصحاح الثانى

الجهاد في الخدمة

بعد أن كشف الرسول عن "روح القوة" الذي يعمل في حياة الراعي خلال صليب ربنا يسوع المسيح، الروح الذي ننعم به بواسطة الروح القدس الساكن فينا، يتحدث هنا عن الجهاد في الخدمة، موضحًا كيف يحيا الخادم بروح القوة مجاهدًا كل أيامه:

1. الجهاد والنعمة 1

2. تلمذة خدام جدد ٢.

3. الجندية الروحية ٣ – ١٣.

4. تجنب المماحكات الباطلة 14-20.

5. الجهاد والحياة الداخلية ٢١ – ٢٢.

6. الجهاد والخصومات المفسدة ٢٣ – ٢٦.

1. الجهاد والنعمة

"فتقوَ أنت يا ابني في المسيح يسوع".

إذ يود الرسول أن يتحدث عن جهاد الخادم في تلمذته آخرين للعمل في كرم الرب، وفي اهتمامه بخلاص الآخرين دون أن يفسد وقته بالمماحكات الباطلة ويحطم سلامه بالخصومات المفسدة، قدم النعمة الإلهيّة كسرّ القوة في الجهاد. إنه يوصي تلميذه كابن روحي له أن يتقوى في الجهاد لا بالغيرة البشريّة والحماس الذاتي وإنما بالنعمة التي تُوهب لنا في المسيح يسوع ربنا. وإذ يطلب الرسول من تلميذه أن يتحصن في النعمة حتى يقدر أن يجاهد قانونيًا يتحدث معه برقة ومحبة، إذ يقول له "يا ابني".

ما أحوجنا أن تتشدد قوتنا بالنعمة: "تقووا في الرب وفي شدة قوته" (أف ٦: ١٠). حينما اعتمد الرسول بطرس على غيرته البشريّة سقط في الإنكار بالرغم من إشتياقه الداخلي للجهاد، لكن إذ سندته نعمة الله استطاع أن يشهد للسيد المسيح محتملاً الآلام بفرح.

2. تلمذة خدام جدد

"وما سمعته مني بشهود كثيرين،

أُودعه أُناسًا أُمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضًا".

لا تقف أمانة الرسول عند جهاده واهتمامه بخلاص الآخرين ولا أن يتلمذ آخرين يهتمون بذات العمل، وإنما يود أيضًا في هؤلاء التلاميذ أن يتلمذوا جيلاً قادرًا على التعليم. هذا هو الجهاد الحقيقي، أو القيادة الروحيّة السليمة، وهو أن يقيم الراعي تلاميذ قادرين بدورهم أن يتلمذوا أناسًا أكفاء قادرين على التلمذة.

هذا هو مفهومنا للتسليم أو التقليد المقدس، إنه تلمذة غير منقطعة خلال الأجيال لقبول وديعة الإيمان الحيّ العملي بلا انحراف.

3. الجُنديّة الروحيّة

"فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح.

ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي من جنده.

وأيضًا إن كان أحد يجاهد لا يُكلَّل إن لم يجاهد قانونيًا.

يجب أن الحَرَّاث الذي يتعب يشترك هو أولاً في الأثمار.

افهم ما أقول: فليعطك الرب فهمًا في كل شيء" .

يُقدِّم الرسول بولس ثلاثة أمثلة للجهاد الروحي: الجندي الأمين لحساب ملكه ، والمشترك في الألعاب الرياضيّة، والحراث .

أ. الجندي الصالح الذي يعتز بأمانته لبلده ورئيس دولته يحارب لحساب وطنه، هكذا المسيحي في جهاده الروحي يحارب كضد إبليس والخطية تحت قيادة رب المجد نفسه الذي جنده. يدعوه الرسول "رئيس (قائد) خلاصنا" (عب ٢: ١٠)، القائد الذي غلب إبليس على الصليب ولا يزال يغلبه خلالنا (رؤ ٨: ٣٧).

إنها كرامة عظيمة لا نستحقها أن نُحسب جنود روحيين للرب، من أجله تهون كل المشقات والآلام. إذ قَبِلنا هذه الجنديّة الروحيّة يلزمنا ألاَّ نرتبك بأعمال الحياة اليومية، لا لأنها دنسة وإنما لأنها لا تليق بالمُتجنِّدين الذين كرسوا كل حياتهم لخدمة الكلمة.

ب. يناضل المتسابقون في الألعاب الرياضية من أجل نوال الإكليل، فيحتملون تداريب يومية ويمتنعون عن بعض الأطعمة والملذات حتى ينعموا بالفوز. ونحن يلزمنا أن نجاهد قانونيًا، أي حسب شريعة مدربنا يسوع المسيح، لكي ننعم بالنصرة الروحيّة. حقًا إن كثيرين يجاهدون، لكن ليس قانونيًا، وذلك كالذين يتدربون على الألعاب الرياضية بغير مدرب حكيم. هؤلاء غالبًا ما يفشلون بل وقد يتطرفون في إتجاه آخر مما يسبب لهم ضررًا صحيًا وفشلاً في المسابقات ونوال الإكليل. هكذا يليق بالمؤمن أن يجاهد، لكن ليس بذاته، وإنما تحت قيادة سيده "المدرب الحقيقي" بروح كنيسته وفكرها الإنجيلي الآبائي حتى لا ينحرف يمينًا أو يسارًا في تطرف أو مبالغة مما يفقده حياته على الأرض وإكليله السماوي. حقًا إن الجهاد والمشقة أو الألم أمور صعبة لكنها متى كانت قانونية تصير مُفرحة ومُبهجة. يقول القديس چيروم في حديثه عن مزامير المصاعد حيث يترنم اللاويون وهم يصعدون الخمسة عشر درجة للهيكل: [لا تفقد الثقة يا إنسان، فإن الرب واقف على الدرجة الخامسة عشر؛ إنه يراقبك ويعينك! فإن كنت على الدرجة الأولى وتبدو لك المسافة بين الدرجة الأولى والخامسة عشر لا يمكن تسلقها فلا تتطلع إلى الدرجات بل تطلع إلى الرب".] فالجهاد القانوني مؤلم مفرح، مملوء أتعابًا، لكنه يقدم للنفس سلامًا خلال تطلعها للمدرب الحقيقي وعضويتها في كنيسته.

ويرى القديس أمبروسيوس أن الجهاد القانوني أو ما دعاه الرسول أيضًا بالجهاد الحسن)٥: 7) إنما يعني تكريس القلب بالكُلية لهذا العمل دون ارتباك بأمورٍ أخرى، ذلك كمن يعمل لدى إمبراطور لا يليق به أن يرتبك بأعمال أخرى كالتجارة التي وإن كانت ليست محرمة لكنها تعني استهانة بخدمة إمبراطوره.

ج. الحَرَّاث الذي يتعب من أجل الثمر، فإن كان الحراث هو أول من يجاهد في الزراعة إذ يحرث الأرض، فإنه يستحق نصيبه في الثمر، حتى وإن كان غيره قد بذر وآخر حصد. هكذا في جهادنا نعمل ويكون لنا مكافأة حتى وإن كان الثمر لا يُحصد إلاَّ بعد رحيلنا. لنحرث وغيرنا يبذر أو يسقي أو يحصد فإن نصيبنا في الإثمار محفوظ في الرب.

هذه هي الأمثلة الثلاثة التي قدمها الرسول ليشجع تلميذه على الجهاد، ففي المثل الأول يؤكد التزامنا بالجهاد من أجل الملك المسيح نفسه، وفي المثل الثاني لنجاهد قانونيًا حسب شريعة الرب، وفي الثالث نجاهد من أجل الثمر حتى وإن كان متأخرًا.

أخيرًا يوصيه: "افهم ما أقول"، لكنه لا يقدر أن يفهم الوصية كما ينبغي ما لم يفتح الروح القدس بصيرته، لهذا يصلي الرسول من أجله: "فليعطك الرب فهمًا في كل شيء". وكأن الرب هو المعين بنعمته ليس فقط في الجهاد، وإنما أيضًا في الفهم.

بعدما حثه على الجهاد الروحي في الرب، مصليًا من أجله لكي يهبه الرب فهمًا، قدم له السيد المسيح نفسه قائد الإيمان ومكمله (عب ١٢: ٢) غالب إبليس ومحطم الموت، إذ يقول: "اذكر يسوع المسيح المقام من الأموات من نسل داود بحسب إنجيلي، الذي فيه أحتمل المشقات حتى القيود كمذنب، لكن كلمة الله لا تُقَيِّد".

قاد السيد المسيح المعركة الروحية بنفسه ضد الموت، فدخل إليه لكي يكسر شوكته في عقر داره. فقد تجسد كلمة الله لكي يدخل بالجسد إلى الموت، وإذ لا يستطيع الموت أن يحبسه ولا للفساد أن يقترب إليه يقوم بسلطانه لكي يقيمنا معه، ويدخل بنا إلى الحياة الجديدة المقامة. يقول الرسول: "فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جِدَّة الحياة" (رو ٦: ٤). لقد صار ابنًا لداود وخضع للآب عوضًا عنا وقَبِل الموت بإرادته، حتى نُحسب نحن طائعين لأبيه فننعم بقوة القيامة التي له.

هذا هو موضوع كرازته، إذ يقول الرسول: "بحسب إنجيلي" أن ننعم بحياته المُقامة الغالبة للموت. لقد احتمل السيد المشقات حتى القيود كمذنبٍ، أي كفاعل شرٍ (يو ١٨: ٣٠) مع أنه البار الذي لا يعرف خطية. قيدوه حسب الجسد كمن هو تحت الحكم، لكنه هو واهب الحرية الذي لا يُقَيِّد داخليًا... "لكن كلمة الله لا تُقَيِّد"، إذ لا يمكن للكلمة الإلهي الخالق أن يُقَيِّد! هكذا في المسيح يسوع قد يُقيد الخادم حسب الجسد، لكن لا يقدر أحد أن يُقيد كلمة الله التي تُعلن بالأكثر خلال قيود الجسد. يمكن تقييد أجسادهم، أما شهادتهم للرب فلا تتوقف. يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [أيدينا مقيدة وليس لساننا، إذ لا يوجد ما يُقيد اللسان إلاَّ الجبن وعدم الإيمان. فإذ لا يوجد هذان الأمران فينا فإنه حتى وإن قُيدنا بالسلاسل فإن الكرازة بالإنجيل لا تقيد... إنها كلمة الله وليس كلمتنا! القيود البشرية لا تقدر أن تقيد كلمة الله.]

بعد أن قدم الرسول السيد المسيح مثالاً أعظم لاحتمال الآلام والقيود من أجل خلاصنا عاد ليقدم نفسه مثلاً يقتدي أثر سيده، إذ يقول: "لأجل ذلك أنا أصبر على كل شيء لأجل المختارين، لكي يحصلوا هم أيضًا على الخلاص الذي في المسيح يسوع مع مجدٍ أبديٍ".

لقد احتمل سيدي المشقات من أجل خلاصي، ولم يكن ممكنًا للقيود أن تعطل عمله، وها أنا أحتمل بصبر أيضًا من أجل إخوتي المختارين لكي ينعموا معي بالخلاص وتكون لهم معي شركة في المجد الأبدي. يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [انظر أيضًا هناك باعث آخر، إذ يقول إني لا أحتمل هذه الأمور لأجل نفسي، وإنما لأجل خلاص الآخرين. في قدرتي أن أعيش متحررًا من المخاطر ولا أعاني شيئًا من هذه المشقات، لو كنت أهتم بما هو لي وحدي. إذن لماذا أحتمل هذه الأمور؟ من أجل نفع الآخرين كي ينالوا الحياة الأبدية... إنه لم يقل لأجل أشخاص معينين وإنما "لأجل المختارين". إن كان الله اختارهم فإنه يليق بنا أن نحتمل كل شيء من أجلهم "لكي يحصلوا هم أيضًا على الخلاص". بقوله "هم أيضًا" يعني أنهم يحصلون على ما نحصل نحن أيضًا عليه، لأن الله اختارنا نحن أيضًا. وكما تألم الله لأجلنا يليق بنا نحن أيضًا أن نتألم لأجلهم.] لقد تألم السيد عنا مقدمًا آلامه هبة مجانيّة أو نعمة نتمتع بها، أما نحن فنتألم من أجلهم مقابل آلامه عنا، فنرد الحب بالحب، كمن يشتاق أن يفي شيئًا من الدين. لكننا مهما قدمنا من أجل إخوتنا نبقى مدينين لمخلصنا بكل حياتنا.

إذ ننعم بعمل الله الخلاصي ونقبل آلامه من أجلنا نتذوق عربون المجد الأبدي، فتهون كل الآلام والمشقات من أجل تمتع إخوتنا بذات المجد الأبدي.

أخيرًا يختم الرسول حديثه عن الجنديّة الروحيّة بنشيد الغلبة والنصرة، قائلاً: "صادقة هي الكلمة أنه إن كنا قد متنا معه، فسنحيا أيضًا معه. إن كنا نصبر، فسنملك أيضًا معه. إن كنا ننكره، فهو أيضًا سينكرنا. إن كنا غير أمناء، فهو يبقى أمينًا لن يقدر أن ينكر نفسه".

هذا هو النشيد الذي يليق بكل جندي روحي ليسوع المسيح أن يتغنى به أثناء معركته ضد إبليس أو ضد الموت. إنها تسبحة الإيمان بالمسيح المصلوب القائم من الأموات، فيها نعلن قبولنا الموت معه لأجل التمتع بالحياة فيه، نحتمل الآلام بصبر لكي نملك معه، إن اعترفنا به قدام الناس خلال قبولنا الآلام والموت من أجله يعترف هو بنا أمام أبيه، وإن أنكرناه ينكرنا (مت ١٠: ٣٢-٣٣). إن جاهدنا بأمانة ننال الإكليل، وإن لم نكن أمناء يرسل رعاة أمناء يهتمون بشعبه دون أن نُعفَى نحن من المسئولية. بأسلوب آخر نعلن في هذه التسبحة سمات الجندي الروحي للرب: الموت عن الخطية، الصبر وسط الآلام، الشهادة للسيد المسيح، والأمانة حتى الموت!

يعلقالقديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارات، قائلاً: [كيف نموت معه؟ إنه يقصد الموت الذي يتم في الجرن وفي الآلام، إذ يقول: "حاملين في الجسد كُلَّ حينٍ إماتة الرب يسوع" (٢ كو ٤، ١٠)، "دُفِنَّا معه بالمعمودية للموت" (رو ٦: ٤)، "إنساننا العتيق قد صلب معه"، "متحدين معه بشبه موته" (رو ٦: ٦، ٥). لكنه هنا أيضًا يتحدث عن الموت بواسطة المحاكمات، خاصة وأنه يعاني منها أثناء كتابته هذه. هذا هو ما يقصده بقوله هنا: "إن كنا قد متنا معه فسنحيا معه".] كما يقول أيضًا: ["إن كنا ننكره فهو أيضًا سينكرنا"، هكذا يكون الجزاء لا في الأمور الصالحة فقط، وإنما أيضًا فيما هو ليس بصالحٍ... لكن الجزاء لا يكون مساويًا للفعل، لأننا نحن الذين ننكره بَشر أما هو الذي ينكرنا فإله. وما أعظم الفارق بين البشر والله!... هذا ومن ناحية أخرى نحن نضر أنفسنا، أما هو فلا يصيبه ضررًا، وقد أوضح هذا بقوله: "إن كنا غير أمناء فهو يبقى أمينًا لن يقدر أن ينكر نفسه" بمعنى أنه إن كنا لا نؤمن أنه قام من الأموات فعدم إيماننا لن يضره... وإن كان الله لن يصيبه ضررًا نهائيًا بإنكارنا إياه، فإنه لا يرغب في اعترافنا به إلاَّ لنفعنا نحن.]

4. تجنب المماحكات الباطلة

الخادم الذي يسلك بروح القوة لا يقبل الدخول في مماحكات الباطلة، بل ويطلب من المؤمنين أن يتجنبوها حتى لا تهدمهم روحيًا. يقول الرسول: "فَكِّرهم (ذكرهم) بهذه الأمور، مناشدًا (إياهم) قدام الرب أن لا يتماحكوا بالكلام، الأمر غير النافع لشيء لهدم السامعين". يطالبه الرسول أن يُذَكِّر الشعب ويوصيهم قدام الرب أن يتركوا كثرة الكلام الذي يهدم النفس، كما يطالبه أن يهتم هو أيضًا بالحياة العملية المجاهدة عوض المماحكات الباطلة، إذ يقول له: "اجتهد أن تقيم نفسك لله مُزَكَّى عاملاً لا يُخزَى، مفصلاً كلمة الحق بالاستقامة". ليكن كل فكره متجهًا إلى التزكية قدام الله لا النصرة بالكلام مع الناس، ويبذل كل جهده أن يكون كالعامل الذي لا يخجل من احتمال المشقات لأجل الإنجيل، أي التمتع بكلمة الحق.

يرىالقديس يوحنا الذهبي الفم أن قوله ["مفصلاً كلمة الحق بالاستقامة" يعني تركيز الجهاد على إعلان الحق واقتلاع كل ما هو لغو زائد. وكأن الراعي الصالح ينزع بسيف الروح من كرازته كل ما هو غريب عن الحق. بهذا يحصن الرسول تلميذه من الغنوسيين الذين يفسدون وقتهم بما يلقبونه خطأ "المعرفة"، وهي فسلفة كلام لغو لا يحمل روح التقوى، بعيدًا عن الإيمان.]

هذا البتر له أهميته في إيقاف تيار الشر المتزايد بسبب البدع الغنوسية، إذ يقول: "وأما الأقوال الباطلة الدنسة فاجتنبها، لأنهم يتقدمون إلى أكثر فجور، وكلمتهم ترعى كآكلة". الأقوال الباطلة تدخل بهم من شرٍ إلى شرٍ، فتكون كالقرحة الآكلة التي تفسد الجسد. إنهم يؤمنون بالمعرفة (gnosis) الكلامية عوض الإيمان، خلال هذه المعرفة يظنون أن الجسد عنصر ظلمة، خالقه إن لم يكن شريرًا فهو أقل من خالق الروح. هذه العقيدة جعلتهم يرفضون القيامة من الأموات، حاسبين أن القيامة الروحيّة تحققت بالنسبة للنفس هنا، ولا تتحقق بالنسبة للجسد عنصر الظلمة (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). هذه النظرة قدمت لهم مفهومًا دنسًا من جهة الزواج وتناول بعض الأطعمة، بكونها أمور نجسة مُحَرَّمة. هذا أيضًا دفع بعضهم إلى عدم المبالاة بالنسبة لتقديس الجسد، فرأوه كعنصر ظلمة يُترَك له العنان في شهواته بلا ضابط. وهكذا ينحرفون من فكرة إلى أخرى، ومن شر إلى شر، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنهم لا يقفون عند هذا الحد، فإنهم إذ يقدمون شيئًا جديدًا ينتجون وراءه أفكارًا جديدة على الدوام. هكذا لا يتوقف انحرافهم عن الميناء الآمن بل يزداد بغير حدود.]

قدم الرسول مثالاً لانحراف هؤلاء المبتدعين، قائلاً: "الذين منهم هيمينايُس وفيليتُس، اللذان زاغا عن الحق، قائلين أن القيامة قد صارت فيقلبان إيمان قومٍ". قالا بأن القيامة تحققت فعلاً في حياتنا روحيًا ولن تحدث بالنسبة للجسد.

يعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة، قائلاً: [كثيرون ينكرون قيامة الجسد مؤكدين أن القيامة قد حدثت فعلاً بالإيمان... يقولون أنها حدثت بطريقة خلالها لا يتوقعون حدوثها بعد، بل ويلومون الذين يتطلعون إلى قيامة الجسد كما لو كانت القيامة التي وُعدنا بها قد تحققت بعمل الإيمان في الذهن فحسب.] كما يقول: [حقًا توجد قيامة تتحقق الآن، فإن غير المؤمنين كانوا أمواتًا، الأشرار كانوا موتى، أما الأبرار فهم أحياء، عبروا من موت عدم الإيمان إلى حياة الإيمان. لكن هذا لا يعني عدم اعتقادنا في القيامة المقبلة بالنسبة للجسد.]

إذ يتحدث الرسول عن تجنب مماحكات الهراطقة الكلامية، الذين يشوشون الصورة فيظن البعض أنهم طغوا على صوت الحق، أكد الرسول حفظ الله لأولاده المؤمنين في الحق، قائلاً:

"ولكن أساس الله الراسخ قد ثَبَتَ إذ له هذا الخَتْم.

يَعلم الرب الذين هم له،

وليتجنب الإثم كل من يُسمِّى اسم المسيح،

ولكن في بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط،

بل من خشب وخزف أيضًا،

وتلك للكرامة وهذه للهوان".

مهما دخلت الضلالات والبدع ومهما انتشرت الشرور، فإن أساس الله ثابت وكنيسته قائمة، وأولاده معروفون ومحفوظون مختومون بختم الروح القدس فيُدعَى عليهم اسم المسيح. إنهم آنية ذهبية وفضية في السماء بيت الله، يحملون كرامة! حقًا توجد أواني اختارت لنفسها الهلاك، هذه التي لم تحتمل الحق فيها، ولا قَبِلَت عمل الروح القدس ولا دخلت في العضويّة في جسد المسيح، هذه التي هي من الخشب والخزف تحمل هوانًا.

يقول القديس أغسطينوس: [أن من يتطلع إلى شجرة يرى أوراقها كثيرة لكن غالبًا ما يكون الثمر مخفيًا وراء الورق مثل (التين)، هكذا بسهولة يظهر الهراطقة والأشرار فيبدو كأنه لا يوجد بعد مؤمنون لكن من يقترب إلى الشجرة ببصيرة روحيّة يدرك وجود أولاد الله المقدسين مختفين. هؤلاء متأسسون على السيد المسيح نفسه كقول الرسول: "فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الذي وُضع الذي هو يسوع المسيح" (١ كو ٣: ١١). كما يقول: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية، الذي فيه كل البناء مركبًا معًا، ينمو هيكلاً مقدسًا في الرب، الذي فيه أنتم أيضًا مبنيون معًا، مسكنًا لله في الروح" (أف ٢: ٢٠–٢٢). هذا هو سرّ قوة الروح الذي فينا أننا متأسسون على السيد المسيح نفسه، ولنا ختم روحه القدوس، الذي خلاله "يَعلم الرب الذين هم له".]

سبق لنا دراسة "الخَتْم" بكونه علامة الملكيّة لله، كقول القديس ديديموس السكندري: [عندما نغطس في جرن المعمودية، فبفضل صلاح الله الآب وبنعمة روحه القدوس نتعرى من خطايانا إذ نتخلص من الإنسان القديم ونتجدد، ونُختَم بقوته لملكيته الخاصة. ولكن عندما نخرج من جرن المعمودية نلبس المسيح مخلصنا كثوب لا يبلى، مستحقًا لكرامة الروح القدس عينها، الروح القدس الذي جددنا ودمغنا بختمه... لا يمكن لأحد أن يحصل على المواهب السماوية ما لم يتجدد بروح الله القدوس ويدفع بختم قداسته، ولو كان كاملاً في حياة بلا عيب في كل شيء آخر.] والخَتْم أيضًا علامة الدخول تحت حماية الله كقول القديس غريغوريوس النزينزي: [القطيع الموسوم بعلامة لا يُسلَب بمكر بسهولة، أما القطيع الذي لا يحمل العلامة فهو غنيمة للصوص.] والخَتْم هو علامة الجنديّة الروحيّة، كقول القديس كيرلس الأورشليمي لطالبي العماد: [يأتي كل واحد منكم ويقدم نفسه أمام الله في حضرة جيوش الملائكة غير المحصية، فيضع الروح القدس علامة على نفوسكم. بهذا تُسجل أنفسكم في جيش الله العظيم.] هذا الخَتْم أبدي لمجدنا أو دينونتنا، وكما يقول القديس أغسطينوس: [تمسك بما نلته فإنه لن يتغير، إنه وسم ملكي!]

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في حديث الرسول بولس الذي بين أيدينا أمرين: تحذير لئلا نهمل في الختم الذي صار لنا بالروح القدس، وتشجيع فلا نخاف لوجود هراطقة وأشرار. إذ يقول: [ليتنا لا ننزع عنا الختم الملوكي والعلامة الملوكية لئلا نُحسب مع غير المختومين، فلا نكون أصحاء، إنما يليق بنا أن نكون متأسسين بثبات على الأساس فلا نُحمل إلى هنا وهناك.] كما يقول: [إنه يقصد أن يقول: لا تضطربوا لوجود فاسدين وأشرار، فإنه في بيت كبير يوجد مثل هذه الأواني... لكنها لا تنال كرامة.]

يوجد معلمون أمناء ومؤمنون كأوانٍ ذهبية وفضية في بيت كبير لهم كرامتهم في الرب، أما الذهب فيشير إلى طبيعتهم الجديدة السماوية، والفضة تشير إلى حبهم لكلمة الله المصفاة كالفضة سبع مرات. فالمعلم الحق هو من يحيا بفكرٍ سماويٍ، ولا يرتبط قلبه بالماديّات ولا تتعلق نفسه بأمجاد زمنيّة، يتمسك بكلمة الله (الفضة) ويختفي وراءها فلا يقدم لشعبه مماحكات كلامية فاسدة، وإنما حياة إنجيليّة صادقة. أما الهراطقة الفاسدون فيشار إليهم بالخشب والخزف؛ إنهم كالخشب يحترقون بنار الشهوات فلا يوجدون، وكالخزف يحملون الفكر الترابي، ويطلبون الماديّات ولا يقدرون على معاينة السماويات أو التعرف عليها.

ما نقوله عن المُعلِّمين والهراطقة ينطبق بدرجة أو أخرى على الشعب أيضًا، فمنهم من هو ذهبي أو من الفضة ومنهم من هو خشبي أو خزفي، لكن هل لنا أن نميز الآن الناس؟

يجيب القديس كبريانوس، قائلاً: [إنه لكبرياء وتشامخ أن يتجاسر أحد يظن أنه قادر أن يفعل ما لم يهبه الله حتى للرسل، فيحسب أنه يستطيع تمييز الزوان عن الحنطة... ومن يفكر أنه يختار الأواني الذهبيّة والفضيّة ويحتقر الأواني الخشبيّة والخزفيّة ويحتقرها ويطردها، مع أن الأواني الخشبية لا تُحرَق إلاَّ يوم الرب بالنار الإلهيّة المحرِقة، والأواني الخزفية لا يسحقها إلاَّ ذاك الذي أُعطي له قضيب من حديد.] كما يقول: [إن كان يبدو وجود زوان في الكنيسة، لكن إيماننا ومحبتنا لا تُعاقا، فلا نترك الكنيسة لأننا نرى فيها زوانًا، بل بالحري يليق بنا أن نجاهد لكي نكون نحن أنفسنا حنطة، حتى متى أُبتديء في جمع الحنطة معًا في بيدر الرب ننال ثمرًا عن تعبنا وعملنا... لنجاهد أيها الإخوة الأحباء لنكون أوانٍ من ذهب وفضة، لكن للرب وحده أن يسحق الأواني الخزفية هذا الذي أُعطي له القضيب من الحديد، أما العبد فلا يكون أعظم من سيده، ولا يدَّعي لنفسه ما أعطاه الآب للابن وحده، فيظن أنه قادر أن يأخذ المذراة ويذري الحصاد... أو قادر أن يفصل كل الحنطة عن الزوان بحكم بشري.]

ليس فقط ليس لنا أن ندين ونفرز الحنطة عن الزوان، والأواني التي للكرامة عن التي للهوان، وإنما يليق بنا أن نطمئن أن الحنطة لا تُُهمَل من الله بسبب الزوان، ولا الأواني المُكَّرَمة تفقد كرامتها بسبب التي للهوان، إذ يقول الرسول: "يعلم الرب الذين هم له". وفي هذا يقول القديس أغسطينوس: [ليس من أجل التبن تهلك الحنطة (مت ٣: ١٢)، ولا من أجل السمك الرديء، لا يؤخذ في الأوعية شيئ من الشبكة (مت ١٣: ٤٧)... لقد سبق فعيننا قبل أن نولد، واعدًا إيانا بيقين: "الذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضًا، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضًا، والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضًا" (رو ٨: ٣٠).] كما يقول: [حتى إن كانت البذار مختفية في التبن لكنها معروفة لدى صاحب الحقل. لا يخف أحد متى كان بذرة، حتى وإن كان وسط تبن، فإن عيني الذي يذرينا لا تنخدعان.]

5. الجهاد والحياة الداخلية

إن كان في البيت الكبير توجد آنية للكرامة وأخرى للهوان، والله يتمجد في هذه كما في تلك، فقد يظن أحد أنه لا ذنب له فيما يرتكبه من شرور، لأنه "إناء للهوان"، وكأنه قد جُلب ليكون هكذا. لهذا يعود الرسول فيؤكد حرية الإرادة الإنسانية التي يقدسها الرب ويبجلها، قائلاً: "فإن طهر أحد نفسه من هذه، يكون إناءً للكرامة مقدسًا نافعًا للسيد ومستعدًا لكل عمل صالح". ماذا يعني! إن طهر أحد نفسه، إلاَّ تأكيد حرية الإنسان ورفض القائلين بخلقة طبائع بشرية صالحة وأخرى فاسدة. لقد أكد الرسول أن الإنسان في كمال حريته أن يتغير من إناء للهوان إلى إناءٍ للكرامة، وإن كان هذا يتحقق لا بإمكانياته البشرية الذاتية إنما بعمل نعمة الله الغنيّة. يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [انظر إنه ليس بسبب طبيعة الإنسان ولا عن إلزام يكون الإناء ذهبيًا أو خزفيًا، إنما يتحقق ذلك عن محض اختيارنا؛ وإلاَّ لما كان للإناء الخزفي أن يصير ذهبيًا، ولا أن ينحط الذهبي إلى تفاهة الآخر... لقد كان بولس إناءً خزفيًا وقد صار ذهبيًا، وكان يهوذا ذهبيًا وصار خزفيًا.] وقد استخدم العلامة أوريجينوس عبارة الرسول هذه لتأكيد الحرية الإنسانية التي تمجد الله.

هكذا يحثنا الرسول بولس على الجهاد بتطهير حياتنا الداخلية، وتحويلها من الحالة الخزفية إلى الذهبية، أي تحويلها عما هو ترابي وأرضي إلى ما هو سماوي، وذلك بفضل نعمة الله العاملة فينا. هذا هو عمل الروح القدس الناري، إذ يقدس أعماق النفس في الداخل لتحمل صورة خالقها، وذلك خلال الميلاد الجديد الذي ننعم به في مياه المعمودية والتجديد المستمر غير المنقطع، لعلنا نبلغ إلى قياس ملء قامة المسيح السماوي.

كأن الرسول يود أن يعلن لتلميذه تيموثاوس، بل ولكل راعٍ، أنه لا نجاح للخدمة بدون تقديس الحياة الروحيةللراعي ونموها بغير انقطاع، أما العدو الأول لهذه الحياة المقدسة الذي يجعل الإناء خزفيًا أي أرضيًا فهو الشهوات الجسدية، لهذا يقول له: "أما الشهوات الشبابية فاهرب منها، واتبع البرّ والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي".

اهتم الرسول بالجانبين: السلبي والإيجابي لنمو حياة الراعي الروحيّة. فمن الجانب السلبي يلتزم بالهروب من العثرات أو من الشهوات الشبابية، أما الجانب الإيجابي فهو الالتزام بإتباع البرّ والإيمان والمحبة والسلام. فلا يكفي الهروب من الشر، إنما يلزم الشبع بالخير، ولا يكفي ترك الخطية، إنما يلزم اقتناء السيد المسيح برّنا وسلامنا وسرّ حبنا وإيماننا.

يليق بالخادم الحقيقي أن يحذر الشهوات الشبابية، فلا يظن في نفسه أنه محصن مهما كان ماضيه طاهرًا، أو مهما بلغ من العمر، ولا يحسب حذره هذا ضعفًا بل علامة القوة والجديّة.

ماذا يقصد الرسول بالشهوات الشبابية؟ يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [لا تعني شهوات الزنا فحسب، وإنما تضم كل شهوة شاذة. ليت كبار السن يتعلمون أنه ينبغي عليهم ألا يقوموا بأعمال شبابية. إن كان أحد يستسلم للغطرسة أو حب السلطة أو الغنى أو الملذات الجسدية تُحسَب هذه شهوات شبابية غبية. فإن هذه الأمور تصدر عن قلبٍ غير مستقرٍ بعد، وعن فكر مذبذب ليس له أساس عميق. إذن بماذا ينصح (الرسول) حتى لا يؤسر الإنسان بهذه الأمور؟ "اهرب من الشهوات الشبابية"، بل "واتبع البرّ والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي". إنه يدعو الفضيلة بوجه عام "برًا"، وتقوى الحياة والإيمان والوداعة والمحبة. وماذا يعني بقوله: "الذين يدعون الرب من قلب نقي"؟ إنه كمن يقول: افرحوا لا بالذين يدعون الرب فحسب، وإنما بالذين يدعونه بصدقٍ وإخلاصٍ، الذين هم بلا خداع، يقتربون إليه في سلام غير محبين للنزاع.التصق بمثل هؤلاء، أما بالنسبة للآخرين فلا تهادنهم لكن سالمهم قدر ما تستطيع.]

على أي الأحوال امتاز الرعاة الصادقون بالحذر من كل ما هو معثر، والجهاد في التمتع بكل ما هو للبنيان في المسيح يسوع، فمن كلماتهم:

إني أعتقد أن الحكمة تقتضي منا أن نستمسك بتقاليد الاكليروس، خصوصًا الذين انتظموا بالفعل في سلك الكهنوت، فيجب علينا، بنوعٍ خاص، أن نتجنب حفلات الغرباء، على أن لا يكون في ذلك أي مساس بإضافة المسافرين.

بالنسبة لصغار السن من الاكليروس فلا حاجة بهم إلى التردد على بيوت الأرامل والعذارى إلاَّ في زيارة محدودة. وإذا اقتضت الضرورة فليصحب معه واحدًا من الشيوخ كالأسقف أو كبار الكهنة. ولماذا نعطي للعالم فرصة حتى ينتقدنا؟
القديس أمبروسيوس

أعطِ اهتمامًا مساويًا لكل عذارى المسيح أو عدم مبالاة متساوٍ، غير مميز بينهن.

لا تبطىء في البقاء معهن تحت سقفٍ واحدٍ، معتمدًا على عفتك السابقة، فأنت لست بأقدس من داود ولا أحكم من سليمان.

احذر من كل ما يسبب شكًا أو عثرة، متجنبًا للفضائح، مغلقًا على كل عمل يسبب شكًا.
القديس إيرونيموس

6. الجهاد والخصومات المفسدة

لا يقف تقديس الحياة الداخلية عند الهروب من الشهوات الشبابية وإتباع البرّ، وإنما برفض الخصومات المفسدة لنقاوة النفس تحت ستار الدفاع عن الحق، إذ يقول: "والمباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها، عالمًا أنها تولد خصومات. وعبد الرب لا يجب أن يخاصم، بل يكون مترفقًا بالجميع، صالحًا للتعليم، صبورًا على المشقات، مؤدبًا بالوداعة المقاومين، عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق، فيستفيقوا من فخ إبليس إذ قد اقتنصهم لإرادته".

التزام الراعي أن يفّصل كلمة الحق باستقامة وأن يحفظ وديعة الإيمان بلاانحراف لا يعني دخوله في مباحثات غبية وسخيفة تولد خصومات، وتفسد نقاوة قلبه، وتنزع عنه سلامه الداخلي. وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم:[حتى في المباحثات لا يخاصم، فإن عبد الرب لا يجب أن يخاصم ما دام الله نفسه إله السلام.]

هكذا لا يليق به أن يقدم الحق خلال دخوله في خصام، فإن الوداعة – حتى في المناقشات وفي الانتهار أكثر فاعلية في حياة الآخرين من العنف أو الخصام ولو كان من أجل الحق. لهذا يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم:[يليق بمن يعلم أن يهتم على وجه الخصوص أن يحقق عمله بالوداعة، فإن النفس التي ترغب في التعلم لا تتقبل التعليم النافع خلال الخشونة والنزاع.]

إن كان ربنا يسوع المسيح هو المعلم الأعظم العارف بأسرار قلوبنا وله حق إدانتنا وتوبيخنا قيل عنه: "لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته" (مت ١٢: ١٩)، فكم بالحري يليق بنا أن نكون ودعاء مع إخوتنا في تعليمهم إذ نتعرض نحن لنفس ضعفاتهم!

قدم الرسول بولس أربع سمات هامة للمعلم الحقيقي:

أولاً: الترفق بالجميع، فلا ييأس من أحد، ولا يخاصم أحدًا. ولعله أراد أن يصد فكر الغنوسيين الذين كانوا يميزون بين المؤمنين بكونهم طبقات معينة مثل الكاملين والبسطاء.

ثانيًا: لا يكفي أن يكون وديعًا مترفقًا وتقيًا في حياته، لكن يليق بالراعي أن يكون "قادرًا على التعليم"، فالله الحكمة ذاته ومعلم المسكونة، يريد في رعاته أن يَتَعَلَّموا ويُعَلِّموا، حتى لا يَهلَكوا ولا يُهلِكوا الآخرين.

ثالثًا: صبورًا على المشقات، وذلك كالمزارع الذي قد يتعب لسنوات منتظرًا الثمار من الشجر، وربما يتعب لكي يجني أولاده ثمار غرسه الأشجار.

رابعًا: وديعًا في تأديباته، حتى يقدر بروح سيده الوديع أن يَرُد الخطاة الذين اقتنصهم إبليس في فخاخه.

إن كان العدو يقتنص البشر بمكر، فلا يليق بالرعاة أن يستخدموا العنف في إنقاذهم، إنما بالروح الوديع يستردوهم. تصير النفس وسط الفخ أسيرة لأفكار العدو ومُحطمة ومملوءة اضطرابًا. لذا فهي في حاجة إلى قلب وديع مملوء حنانًا وترفقًا حتى يسندها ويردها، لا إلى من يزيدها تحطيمًا بكلمات العنف والتوبيخ. أو كما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [إن الجرح لا يحتاج إلى مواد ملهبة بل إلى زيت رطب لكي يبرأ.]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر تيموثاوس الثانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر تيموثاوس الثانية   تفسير سفر تيموثاوس الثانية Icon_minitimeالخميس ديسمبر 09, 2010 12:14 am

الاصحاح الثالث

مقاومة روح الضلال

لا تقف رسالة الراعي عند الجهاد في حياته الخاصة ليحيا مقدسًا للرب، وإنما يليق به مقاومة البدع والهرطقات وكل ضلال سواء من جهة التعليم أو عدم السلوك بحكمة سماوية.

1.الهرطقات والشر ١ – 5.

2.المعلمون الفاسدون ٦ – ٩.

3.احتمال مضايقاتهم 10- ١٣.

4.الاستناد على كلمة الله ١٤ – ١٧.

1. الهرطقات والشر

إذ تحدث عن المباحثات الغبية والمفسدة بدأ يتحدث عن الضلال خاصة من جهة السلوك، فغالبًا ما ترتبط الهرطقات والبدع بالحياة الشريرة، إذ هي في جوهرنا تقوم على حب الأنا والمجد الباطل وحب الانشقاق، فيتلاحم الفكر المنحرف عن الحق بالسلوك الشرير.

"ولكن اعلم هذا:

أنه في الأيام الأخيرة ستأتي أزمنة صعبة.

لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم".

يقصد بالأزمنة الأخيرة بعد مجيء الابن الكلمة المتجسد، فإن كان في ملء الزمان تقدم الله بإعلان الحب بتحقيق خلاصنا خلال صليب ابنه، فإن الشيطان بدوره يثير العاملين لحسابه لمقاومة الحق. إنها أزمنة النعمة بالنسبة للمؤمنين، وأزمنة صعبة بالنسبة للمخدوعين بحيل إبليس وأضاليله.

على أي الأحوال في كل عصر يعلن الله محبته، وفي نفس الوقت يثير إبليس أتباعه للتضليل، وقد قدم الرسول بولس مثالاً بعصر موسى النبي، إذ يقول: "وكما قاوم يَنِّيس وَيَمْبِرِيس موسى، كذلك هؤلاء أيضًا يقاومون الحق، أناس فاسدة أذهانهم، ومن جهة الإيمان مرفوضون". إذن فالعيب ليس في الزمان، وإنما في قلب الإنسان الشرير. وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم:[لا تُلِم الأيام والأزمنة بل الناس عبر الأزمنة، فقداعتدنا الحديث عن أزمنة صالحة وأزمنة شريرة، وذلك خلال الأحداث التي تحدث لنا بواسطة الناس.]

أما جذر الشر وأساسه فهو الأنا أي محبة الإنسان لذاته، فيتقوقع حولها ويقيمها إلهًا له، يود أن الكل يخدمها عوضًا عن أن يخدم الآخرين، فيضر نفسه وهو لا يدري. وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم:[من يهتم بأمور الآخرين إنما يهتم بشئونه الخاصة... ومن يستهين بأمورإخوته يهمل ما يخصه هو. فإن كنا أعضاء الواحدللآخر، فإن نفع أخينا لا يعود عليه وحده، إنما يعود على الجسد كله، والضرر الذي يصيب أخانا لا يقف عنده وحده، إنما يصيب بقية الجسد بالآلام. هكذا في الكنيسة إن كنت تستخف بقريبك إنما تضر نفسك.] و أيضًا يعلق على كلمات الرسول: "لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم"، قائلاً:[إنه يضع الجذر أو الأساس الذي تنبع عنه الشرور... فمن يحب نفسه (الأنا)، ويقال عنهإنه غير محب لنفسه، أما من يحب أخاه فهو محب لنفسه بالمعنى الحقيقي.]

هكذا يضع الرسول بولس محبة الذات أو الأنا أو الكبرياء كأساس للشر والهرطقة، لهذا إذ يتكلم القديس أغسطينوس عن الهراطقة، يقول:[كيف يقاومون الحق إلاَّ بواسطة غرور كبريائهم المتشامخ باطلاً؛ بينما يقيمون أنفسهم متشامخين إلى العُلَى كعظماء وأبرار، وإذا بهم يعبرون كالهواء الفارغ.]

خلال محبة الذات أو الكبرياء يضيق قلب الإنسان جدًا، فلا يطلب إلاَّ ما لذاته من محبة مال أو شهوات، فينسحب القلب من خطية إلى أخرى، تسلمه هذه إلى تلك ليصير ألعوبة الخطايا والنجاسات، يفقد إرادته الحُرّة وقدسيته ليعيش في مذلة وضعف.

"لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم،

محبين للمال، متعظمين، مستكبرين، مجدفين،

غير طائعين لوالديهم، غير شاكرين، دنسين،

بلا حنو، بلا رضى، ثالبين، عديمي النزاهة،

شرسين، غير محبين للصلاح، خائنين، مقتحمين،

متصلفين، محبين للذات دون محبة الله،

لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها،

فاعرض عن هؤلاء".

لاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم في تعليقه على العبارات السابقة أن كل خطية تنتج الخطية التالية لها، إذ يقول:[تصدر محبة المال عن محبة الإنسان لذاته... وعن محبة المال تنبع محبة العظمة، وعن حب العظمة الكبرياء، وعن الكبرياء التجديف، وعن التجديف التحدي وعدم الطاعة... فمن يتكبر على الناس يتكبر على الله بسهولة. هكذا تتولد الخطايا وترتفع من أسفل إلى أعلى، فمن يكون تقيًا في تعامله مع الناس يكون هكذا بالأكثر مع الله. ومن يكون وديعًا مع العبيد زملائه يكون بالأكثر وديعًا مع سيده. إذ يحتقر العبد زميله ينتهي به الأمر إلىاحتقار الله نفسه. إذن ليتنا لا نحتقر بعضنا البعض، لأن هذه خبرة شريرة تُعلِّمنا احتقار الله.] هكذا لاحظ القديس أن الخطايا بدأت موجهة ضد الناس وانتهت موجهة ضد الله نفسه.

يقول القديس كبريانوس أن ما تنبأ عنه الرسول قد تحقق:[لقداقتربت نهاية العالم، فظهرت العلامات من جهة الناس كما من جهة الأزمنة، فالأخطاء تخدع والخصم (إبليس) يهيج أكثر فأكثر، والعنف يشتد، والحسد يلتهب، والطمع يعمي العيون، والشر يغوي، والكبرياء ينفخ، والانشقاق يتزايد مرارة، والغضب يسرع برعونة.]

في اختصار نذكر أهم الشرور التي أوردها الرسول هنا:

أ. حب الذات: رأينا أنها أساس كل الشرور وجذورها، حيث تغلقالنفس أو القلب عن محبة الله والناس.

ب. محبة المال أو الطمع: الإنسان المحب لذاته يطلب كل شيء لحسابها فيكون طماعًا يحب المال والكرامة على حسابإخوته، بل وعلى حساب نفسه. يرىالقديس يوحنا الذهبي الفم أن هذه الخطية تلتحم أيضًا بعدم الشكر، إذ يقول:[كيف يمكن للطماع أن يشكر؟ نحو من يشعر الطماع بالعرفان بالجميل؟ لا أحد، فإنه يحسب كل البشر أعداءه، مشتهيًا كل ما لهم، لو أنفقت عليه كل ما تملك لا يشعر بالجميل. إنه يغضب لأنك لا تملك أكثر لكي تعطيه أكثر. ولو أقمته سيدًا على كل العالم لبقي جاحدًا، ويظن أنه لم ينل شيئًا. هذه الرغبة النهمة لا تشبع، فهي رغبة مريضة... من كان مصابًا بحمى لن يشعر بارتواء بل دائمًا يطلب أن يشرب كظمآنٍ، هكذا من كان في جنون نحو الغنى لا يشعر بإشباع رغبته مهما أُعطي له، وإنما يبقى في حالة عدماكتفاء وبالتالي لا يشكر.]

ج. حب العظمة والكبرياء: كما أن محبة الذات تُوَلِّد عطشًا لا ينتهي نحو المال والغنى لا يمكن للعالم أن يرويه، هكذا ذات العلة قد تُوَلِّد عطشًا لا للمال بل إلى حب الكرامة الباطلة والمجد الزمني، الأمور التي تفقد الإنسان سلامه الداخلي.

د. التجديف: عطش الإنسان إلى الأرضيات سواء على مستوى المال والغنى أو على مستوى حب الكرامة الزمنيّة يحرف البصيرة الداخلية عن الله نفسه، فتحتقر النفس إلهها ولا تقدر أن تتلامس مع أعماله الخلاصيّة وعطاياه المجانيّة فتجدف عليه.

ه. عدم طاعة الوالدين: الإنسان الذي يستخف بالله يستخف بوالديه، ففي تجديفه يود أن يتحرر من الأبوة الإلهيّة، بكونها سلطة تحرمه الحريّة، وفي عصيانه للوالدين يحمل ذات الفكر تجاه الوالديّة الطبيعيّة الدمويّة.

و. عدم الشكر أو الجحود: رأيناه وضعًا طبيعيًا في حياة الإنسان محب المال، علامة شعوره بالفراغ الداخلي، الذي لا يستطيع العالم أن يملأه مهما قدم له. على العكس فإن السمائيّين إذ هم في حالة شبع روحي تتسم حياتهم بالشكر الدائم خلال تسابيحهم غير المنقطعة.

ز. الدنس: إن كان الفراغ الداخلي يخلق طبيعة جاحدة لا تقدر أن تشكر، فإن هذا الفراغ بعينه يلهب الإنسان نحو الأمور الدنسة لكي يلتهي فيها، حاسبًا أنه يجد شبعه وسروره الجسدي في التصرفات الدنسة.

ط.عدم الحنو: يُقصد به عدم وجود ود طبيعي، فالإنسان السالك في الدنس يطلب ما يشبع لذَّاته الخاصة، وإن أظهر حنوًا، فليس عن حنو داخلي لراحة الآخرين، وإنما لإشباع ملذاته الخاصة. والمثل الواضح في ذلك أمنون الذي مرض جدًا بسبب محبته الدنسة لأخته ثامار، ولما أخذ منها ما اشتهاه طردها. وأيضًا امرأة فوطيفار أحبت يوسف العفيف جسديًا، ولما تحدث معها بلطف رافضًا الشر سلمته للسجن وعرضت حياته للخطر.

ظ. عدم الرضا: يُقصد به نقض العهد الذيارتبط به.

ع. الثلب: يُقصد بهاتهام الآخرين زورًا. فلا يقف الأمر عند نقض العهد الذيارتبط به بإرادته وإنما يتهم غيره زورًا، يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم:[الذين يشعرون بأنه ليس فيهم شيء صالح بينما هم يرتكبون خطايا ومعاصي كثيرة، يجدون تعزيتهم في تشويه شخصية الغير.]

غ. عدم النزاهة أو عدم العفة: بمعنى عدم قدرة الإنسان على ضبط نفسه من جهة لسانه وشهواته وكل شيء آخر. يريد أن يعيش في الملذات بلا ضابط. وكما يقول العلامة أوريجينوس:[من يعيش حسب الملذات يحب الطريق الواسع، فينحرف عن طريق يسوع المسيح الضيق والكرب (مت ٧: ١٣-١٤)، الطريق الذي ليس فيه أدنى منحنيات، كما ليس فيه زوايا قط (مت ٦: ٥).]

ف. شراسة: طبيعة الخطية تفقد الإنسان إنسانيته ليحيا شرسًا، يقاوم الآخرين بلا سبب حقيقي.

ق. غير محبين للصلاح: أي يحتقرون الأمور الصالحة ويستهينون بها كأمورٍ تافهة.

ك. الخيانة: يقصد بها خيانة الإنسان للعهد الإلهي، ومن جانب آخر خيانته للعهد الطبيعي كأن يسلم الأب ابنه، أو الابن أباه (مت ١٠: ٢١) أو خيانة الصداقة.

ل.الاقتحام: يتدخلون بالشر فيما لا يعنيهم.

م.التصلف: أو الكبرياء بدون تروٍ.

ن.محبة اللذات: دون محبة الله، لأن محبة الإنسان لإشباع شهواته تقف حائلاً عن محبته لله.

أخيرًا يختم الرسول حديثه عن الأشرار بقوله: "لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها" ، وهذا هو أخطر أنواع الشر أن يحمل الإنسان المظهر البَرَّاق المُخادع أما الداخل فمملوء فسادًا. وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفمإن هذا الرياء يمثل لصًا خطيرًا يسلب المتدينين كل ما لديهم. فالخطايا السابقة واضحة يسهل على مرتكبيها أن يتوبوا عنها ويعترفوا بها، أما خطية الرياء، فغالبًا ما يصعب على مرتكبيها إدراكها. إذ لا يخدع الآخرين فحسب وإنما يخدع أيضًا نفسه، فيرى في نفسه أنه أفضل من الآخرين، ولا يقبل التعليم أو النصح.

2. المعلمون الفاسدون

"فاعرض عن هؤلاء،

فإنه من هؤلاء هم الذين يدخلون البيوت

ويسبون نُسَيَّات مُحَمَّلات خطايا،

مُنساقات بشهوات مختلفة.

يتعلمن في كل حين ولا يستطعن أن يقبلن إلى معرفة الحق أبدًا.

وكما قاوم يَنِّيس ويَمْبِريس موسى،

كذلك هؤلاء أيضًا يقاومون الحق.

أناس فاسدة أذهانهم،

ومن جهة الإيمان مرفوضون،

لكنهم لا يتقدمون أكثر،

لأن حمقهم سيكون واضحًا للجميع كما كان حمق ذَيْنِكَ أيضًا".

استطاعالهراطقة المفسدون التسلل إلى البيوت للعمل خِفية، خاصة بين النساء الطائشات اللواتي يعتنقن كل ما هو جديد. هؤلاء النساء أعجبن بالأفكار الغنوسية، وسلم بعضهن أنفسهن لبعض هؤلاء المعلمين الذين يستهينون بتقديس الجسد، إذ يعتبرونه عنصر ظلمة لن يقوم في يوم الرب ولا ينال مكافأةً أو مجدًا، فتركوا له العنان يفعل ما يشاء. ويبدو أن بعض النساء في طيشهن تركن رجالهن، وانسقن إلى هؤلاء المخادعين، فانحرفن عن الطهارة كما انحرفن عن الحق. وقد دعا الرسول هؤلاء النساء "نُسَيَّات" أي سخيفات أو غير حكيمات. إنهن يقبلن الأفكار المضللة التي يبثها المعلمون الفاسدون عند تسللهم إلى بيوتهن، وكأنهن يكررن ما قامت به أمهن الأولى حين تسللت إليها الحية القديمة إلى بيتها في الفردوس، ودخلت قلبها وفكرها لتبث فيه خداعها. هكذا يتسلل الهراطقة إلى بيوت المؤمنين عن طريق النساء غير الحكيمات. هنا لا يلوم الرسول الهراطقة وحدهم كمضللين ومفسدين، لكنه أيضًا يلوم النسوة الغبيات اللواتي يفتحن لهم بيوتهن، بل وقلوبهن وأفكارهن، ويسلمن لهم أجسادهن خلال عدم سهرهن الروحي وعدم تدقيقهن. لقد وجد الهراطقة فيهن استجابة داخلية قبل القبول الظاهري، وانفتحت القلوب والأفكار المنحرفة لهم، لأن هؤلاء النساء كن يستطبن الشر.

ضرب الرسول مثالاً للمعلمين المخادعين بما حدث في أيام موسى النبي وهرون حيث قاومهما الساحران المخادعان ينيس ويمبريس. لقد عرف الرسول الاسمين ليس من الكتاب المقدس وإنما من التقليد اليهودي. هذان الساحران خدعا المصريين إذ قاما بأعمال تبدو مشابهة لما قام به موسى النبي وهرون، لكنهما في حقيقتهما كانا رجلين فاسدي الذهن عديمي الإيمان مملوءين حماقة، أرادا بالمظهر المخادع أن يُدخلا الناس إلى الحماقة.

كأن الرسول يؤكد لنا أنه في كل عصر حيث يوجد العمل الإلهي يقابله الخداع الشيطاني! وُجد موسى وهرون من قبل الله، فأقام الشيطان مقابلهما الساحرين المخادعين. وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم

[إن كان أحد يعترض على وجود هراطقة الآن، فليذكر أن الأمر هكذا منذ البداية، إذ كان الشيطان يقيم الضلال على الدوام في مقابل الحق. في البداية وعد الله بالصالحات، وقدم أيضًا الشيطان وعده. أقام الله الفردوس، وخدع الشيطان الإنسان بقوله:"تصيران كالله" (تك ٣: ٥)، فإن كان قد عجز عن تقديم عمل قدم وعودًا هي بالأكثر كلمات، وهذه هي طبيعة المخادعين.

بعد هذا جاء قايين وجاء معه هابيل،

أبناء شيث ومعهم بنات الناس،

حام ومعه يافث،

إبراهيم (وفي أيامه) وُجد فرعون،

يعقوب ومعه عيسو.

وهكذا جاء موسى (وهرون) وقاما الساحران.

الأنبياء ومعهم الأنبياء الكذبة.

الرسل والرسل الكذبة،

المسيح وسيجيء ضد المسيح.

هذا ما كان قبلاً، وما حدث إلى ذاك اليوم... وفياختصار لم يكن هناك وقت لم يوجد فيه الباطل ليقف ضد الحق. إذن لا تقلقوا.]

3. احتمال مضايقاتهم

بعد أن تحدث الرسول عن وجود هراطقة في كل عصر يقاومون الحق، أوضح ضرورة احتمال مضايقاتهم بثبات، إذ يقول: "وأما أنت فقد تَبِعْتَ تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبتي وصبري، واضطهاداتي وآلامي مثل ما أصابني في أنطاكية وإيقونية ولسترة. أية اضطهادات احتملت، من الجميع أنقذني الرب".

هنا يقدم لنا مفهومًا حيًا للتسليم أو التقليد الرسولي إنه ليس مجرد عقيدة إيمانيّة فكريّة يتقبلها التلميذ عن معلمه، أو الجيل عن الجيل السابق، إنما فيما هو يحوي الإيمان الحيّ بكل جوانبه إنما يتسلم أيضًا التعليم والسيرة المقدسة والمقاصد التي عاش لأجلها وطول الأناة والمحبة والصبر، الأمور التي مارسها الرسول، وتَلَمَّسها تلميذه فيه، وأيضًا اضطهاداته وآلامه. كأن ما تسلمه تيموثاوس الأسقف عن بولس الرسول إنما هو "الحياة مع المسيح" بكل دقائقها الظاهرة والخفية. وكما سبق وأكدت في أكثر من موضع، خاصة في كتاب "التقليد والأرثوذكسية"إن التسليم الرسولي ليس أمورًا خارجية أو مجموعة من العقائد والنظم الكنسيّة تحكم عبادة الكنيسة وسلوك الجماعة والعضو فيها، إنما هي "الحياة" كما عاشتها الكنيسة الأولى وسلمتها في كل جوانبها.

هنا يمكننا القول أن قبول الآلام واحتمالها هو جزء لا يتجزأ من التسليم الرسولي، فقد تتلمذ تيموثاوس على يدي الرسول المتألم، وهذا هو المعلم يُذَكِّر تلميذه أن يتمسك بما رآه وما لمسه لكي تكون له معه شركة في الرب، محتملاً الألم بطول أناة، له ذات مقاصد الرسول ونياته وأناته ومحبته لمضطهديه. بمعنى آخر ليس مجرد رؤية القديس تيموثاوس لمعلمه بولس الرسول متألمًا يبعث فيهاحتمال الألم معه، وإنما تلمذته على يديه وإدراكه أعماق معلمه الداخلية من مفاهيم ومقاصد ومشاعر وأحاسيس خفية في المسيح يسوع، أي اكتشاف سرّ القوة الداخلية في الرسول أثناء ضيقه وآلامه.

يعلن القديس يوحنا الذهبي الفم على كلمات الرسول، قائلاً:[كن قويًا فإنك لم تكن حاضرًا معي فحسب وإنما تبعت تعليمي عن قرب... بقوله "تَبِعْتَ تعليمي" يشير إلى المناقشة (الإيمانيّة)، وبقوله "سيرتي" يشير إلى سلوكه، وبقوله "قصدي" يشير إلى غيرته وثبات نفسه. وكأنه يقول له: إنني لا أنطق بهذه الأمور دون أن أنفذها، لم أكن فيلسوفًا (حكيمًا) بالكلام وحده. وبقوله "إيماني وصبري" يقصد أنه ليس شيء من هذه الأمور قد أقلقه. يتحدث عن "محبته" التي لا توجد لدى هؤلاء (المفسدين)، "وصبره" التي ليست لهم. لقد أظهر طول أناته على الهراطقة وصبرًا في الضيقات.]

أما إشارته إلى الإضطهادات التي عانى منها الرسول في أنطاكية وإيقونية ولسترة لم تكن إلاَّ مجرد أمثلة لما عانى منه الرسول، وليس إحصاءً لكل أتعابه، فقد كانت نيته تقديم أمثلة لتلميذه وليساستعراضًا بقصد حب الكرامة. أما خبرته في هذه الآلام فلخصها في العبارة الجميلة: "ومن الجميع أنقذني الرب"، هذه هي الخُلاصة التي يود أن يقدمها لتلميذه.

لم تكن هذه الضيقات النابعة عن المعلمين المفسدين أو بالحري عن إبليس نفسه خاصة بالرسول بولس وحده، وإنما "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون". وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا يمكن لإنسان يسلك في حياة الفضيلة ألاَّ يتعرض لحزنٍ أو تعبٍ أو تجربةٍ، إذ كيف يهرب منها من يسلك الطريق الكرب الضيق، ومن يسمع أنه في العالم يكون له ضيق (يو ١٦: ٣٣)؟ إن كان أيوب قال في زمانه أن حياة الإنسان تجربة (أي ٧: ١) كم بالأكثر يعاني من هم في هذه الأيام؟.] كما يتحدث على لسان الرسول، قائلاً:[لا تجعل أمرًا كهذا يقلقك إن كان (المعلمون الفاسدون) في وسع وأنت في تجارب، فإن هذا أمر طبيعي. ففي المثال الخاص بي تتعلم أنه يستحيل على إنسان ما وهو في صراعه ضد الشرير لا يتعرض للضيق (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لا يقدر أحد أن يكون في معركة ويسلك في ترفٍ، ولا أن يصارع وهو ينعم بالملذات. ليت أي مجاهد (روحي) لا يطلب الحياة السهلة المفرحة! الحياة الحاضرة إنما تمثل حالة صراع وحرب وضيق وكرب وتجارب وهي مسرح للصراعات (الروحية). الآن ليس وقت للراحة، بل هو وقت تعب وجهاد.] وفي تعبيراختباري يقول القديس أغسطينوس:[إن أردت ألاَّ تكون لك متاعب، فأنت لم تبدأ بعد أن تكون مسيحيًا... إن كنت لا تعاني مناضطهاد (ضيق) لأجل المسيح، فاحذر لئلا تكون لم تبدأ بعد أن تعيش بالتقوى في المسيح.]

هذا بالنسبة للمجاهدين الروحيّين، إذ يتقبلون الضيق، أيًا كان مصدره، من أجل المسيح، أما عن الأشرار فيقول: "ولكن الناس الأشرار المزورين سيتقدمون إلى أردأ مُضِلِّين ومُضَلِّين" . لم يتحدث الرسول عنهم إن كانوا في ترف أو في ضيق، لأنهم حتى وإن عاشوا في ترفٍ وتدليلٍ، لكن الضيق يلازمهم داخل نفوسهم، وإن فرحوا فإلى حين، حيث لا يقدر العالم أن يُشبع أعماقهم. لكن الرسول اهتم أن يعلن حالهم أنهم يتقدمون إلى أردأ، يُسقِطون الآخرين في الضلال ويَسقطون هم معهم، فينحرفون من ضلالٍ إلى ضلالٍ، وينحدرون من هوان إلى هوان، متقدمين بالأكثر نحو الهاوية.

4. الاستناد على كلمة الله

كأن الرسول يود أن يعلن سرّ قوة الإنسان الروحي وسط الضيق ألا وهو التحصن في كلمة الله. فإن الكتاب المقدس هو سند الراعي، كما هو سند الرعية – وسط المشقات – ومعين ضد هجمات المخادعين، إذ يقول الرسول: "وأما أنت فاثبُت على ما تعلمت وأيقنت، عارفًا ممن تعلمت. وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع. كل الكتاب هو موحى به من الله، نافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البرّ، لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهبًا لكل عمل صالح".

وللقديس يوحنا الذهبي الفم تعليق رائعٍ على هذه العبارات، إذ يقول:[أُعطي الكتاب المقدس بهذا الهدف أن يكون إنسان الله كاملاً به، بدونه لن يمكن أن يكون كاملاً. يقول (الرسول): لديك الكتب المقدسة عوضًا عني. إن أردت أن تتعلم شيئًا فتعلمه منها. هذا كتبه لتيموثاوس المملوء من الروح، فكم بالأكثر يكون بالنسبة لنا!]

إن كان تيموثاوس قد رضع الإيمان خلال جدته وأمه اللتين ربتاه على الكتب المقدسة، فإنه وهو أسقف يليق به أن يثبت فيما تعلم فلا يكف عن التمتع بكلمة الله القادرة أن تثبته في إيمانه، وتدخل به من معرفة روحية إلى معرفة، ومن خبرة حياة إلى خبرة جديدة، ليحيا دائمًا في نموٍ، قادرًا أن يتعلم ويعلم، أن ينمو هو في الرب وأن يسند الآخرين في حياتهم الروحية. إنه الكنز المخفي في الحقل الذي يليق بالرعاة كما الرعية ألاَّ يكفوا عن اقتنائه في داخلهم، واللؤلؤة كثيرة الثمن التي من أجلها نبيع كل شيء لكي نقتنيها.

ما أخطرعلى الكنيسة أن يظن الأسقف أوالكاهن أنه قد عرف الكثير، فيتوقف عن التقوت بكلمة الله كل يوم، وكما يقول القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة:[يليق بالأسقف ليس فقط أن يُعَلِّم بل ويتعلم أيضًا، فمن كان في حالة نمو يومي متقدمًا إلى ما هو أفضل مثل هذا يعلم أفضل.]

ويحدثنا القديس إكليمنضس السكندري عن دور الكتاب المقدس كمصدر تعليم وتدريب في حياة الإنسان، راعيًا كان أو من الشعب، قائلاً:[حقًا مقدسة هي هذه الكتب التي تقدس وتؤله... ليس إنسان هكذا يتأثر بنصائح أي قديس من القديسين كما يتأثر بكلمات الرب نفسه محب البشر. لأن هذا هو عمله، بل عمله الوحيد، خلاص الإنسان، لهذا يحثهم على الخلاص ويفرح، قائلاً: "ملكوت السماوات داخلكم"... فالإيمان يقودك فيه، والخبرة تعلمك، والكتاب المقدس يدربك.] كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كلمة واحدة من الكتب الإلهيّة هي أكثر فاعلية من النار! إنها تلين قسوة النفس، وتُهيئها لكل عمل صالح] [معرفة الكتب المقدسة تقوي الروح، وتنقي الضمير وتنزع الشهوات الطاغية، وتُعَمِّق الفضيلة، وتتسامى بالعقل، وتعطي قدرة لمواجهة المفاجآت غير المنتظرة، وتحمي من ضربات الشيطان، وتنقلنا إلى السماء عينها، وتحرر الإنسان من الجسد، وتهبه أجنحة للطيران.]

يقول القديس بولس لتلميذه أن كلمة الله نافعة للتعليم كما للتوبيخ، للتقويم كما للتأديب، فيقدمها بلا تنميق وبلا مجاملة، يقدمها بروح الحق الذي يلاطف وينتهر، يترفق ويحزم. لهذا يحذرنا القديس أغسطينوس في إحدى عظاته من أن يتحول الكارز بالكلمة إلى عازف موسيقي يهتم أن يبهج سامعيه بألحانه العذبة، مع أنه يلزم أن يقدم لهم في الوقت المناسب الكلمات المرّة لكي تعمل لتأديبهم، فتتحول لهم فيما بعد إلى عذوبة في قلوبهم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
marcel solla
العضو الملائكى
العضو  الملائكى
marcel solla


عدد المساهمات : 1895
نقاط : 4983
تاريخ التسجيل : 04/08/2010

تفسير سفر تيموثاوس الثانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سفر تيموثاوس الثانية   تفسير سفر تيموثاوس الثانية Icon_minitimeالخميس ديسمبر 09, 2010 12:25 am

الاصحاح الرابع

وصايا وداعية

يختم الرسول رسالته بوصايا وداعية:

1. المثابرة على الكرازة ١ – ٥.

2. توقع الرسول رحيله ٦ – ٨.

3. أخباره الختامية ٩ – ٢١.

4. البركة الرسولية ٢٢.

1. المثابرة على الكرازة

إذ يختم الرسول حديثه مع ابنه الخاص يقدم له وصايا وداعية تتركز على وجه الخصوص في الكرازة بالكلمة، إذ يقول له: "أنا أُناشِدك إذًا أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته اكرز بالكلمة". يوصيه بالكرازة بالكلمة في حضرة الآب والابن العتيد أن يدين الأحياء والأموات. فإذ يكتب الرسول في أيامه الأخيرة منتظرًا لحظات استشهاده يتطلع إلى ربنا يسوع المسيح بكونه الديان الذي يدين الأحياء أي الأبرار، مكافئًا إياهم بشركة أمجاده الأبديّة ويدين الأموات أي الأشرار المُصرِّين على عدم التوبة والحياة معه. أو لعله كان في أيامه الأخيرة كما في كل أيام كرازته منشغلاً بمجيء المسيح ليلتقي بالأحياء في لحظات مجيئه والذين سبقوا فرقدوا، أنه يلتقي بالكل ليدينهم. هذا المنظر هو الباعث الحقيقي للكرازة بالكلمة الإلهيّة، فغاية خادم الكلمة هو انتشال النفوس من حالة الموت الداخلية للتمتع بالحياة في الرب حتى تنعم بظهور السيد المسيح وشركة أمجاده.

يناشده بالديان القادم أن يكرز بغير توقف، قائلاً له: "اكرز بالكلمة، اعكف على ذلك، في وقت مناسب وغير مناسب" ، فيليق بالراعي أن يتكلم في المسيح (٢ كو ٢: ١٧) بلا توقف، فقد يتوقف في وقت ما فلا يجد فرصة أخرى للنفس التي التقى معها، فيخسرها إلى الأبد. يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم:[ماذا يعني: "في وقت مناسب وغير مناسب"؟ هذا يعني أنه لا يوجد وقت محدد، إنما ليكن كل وقت هو وقتك، فتكرز ليس فقط في وقت السلام والأمان أثناء جلوسك في الكنيسة، وإنما حينما تكون في خطر أو سجن أو في سلاسل، وأنت ذاهب أيضًا إلى الموت.]

يكمل الرسول: "وبخ، انتهر، عظ بكل أناة وتعليم". ويعلقالقديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة، قائلاً:[يكون توبيخك مناسبًا جدًا عندما يكون ناجحًا، وعندما تتزكى الحقيقة. إنه يقول: انتهر، أي كن على مثال الأطباء الذين إذ يرون الجرح يشقونه ويضمدونه. فإن حذفت شيئًا من هذا يكون عملك بلا نفع. إنانتهرت الآخرين دون أن تقنعهم تكون كمن هو متهور، ولا يحتمل أحد تصرفك هذا. لكن إن كنت تبرهن على انتهارك بإقناع منطقي يقبلون منك الانتهار... وإن أقنعت إنسانًا ووبخته لكن في شدة دون أن تستخدم الكلمة الطيبة يضيع تعبك باطلاً.] كأن القديس يطلب في الراعي عندما يوبخ أو ينتهر أن يقنع وفي نفس الوقت أن يبرز طول أناته... بهذا يأتيانتهاره بالثمر المطلوب. فالراعي كالطبيب الذي يبرز للمريض حقيقة مرضه ويكشف له خطورته ما لم تُجرَ له العملية، وإذ يقتنع المريض يقبل ضربات المشرط من يد الطبيب الذي وهو يجرح يلاطف ويضمد.

يقول القديس أمبروسيوس:[لا يليق بالراعي أن يكون قاسيًا وعنيفًا، ولا يكون متساهلاً جدًا، لئلا يكون في الحالة الأولى كمن هو صاحب سلطان جائر، وفي الحالة الثانية كمن يهين بلا سبب وظيفته التي نالها.]

ويقول القديس يوحنا الدرجي:[من يرعى الخراف لا ينبغي أن يكون أسدًا ولا نعجة.]

ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم معلقًا على كلمات الرسول "بكل أناة وتعليم":[لأن من يوبخ يلزمه أن يكون طويل الأناة، فلا يصدق بسرعة كل كلمة تُقال، ولأن التوبيخ يحتاج إلى تعزية حتى يمكن قبوله. لماذا أضاف "وتعليم" إلى "كل أناة"؟ إنه لا يوبخ كمن في غضب أو كراهية، ولا كمن يسب أو من أمسك عدوًا، فإن هذه الأمور بعيدة عنك تمامًا، وإنما كشخصٍ محبٍ، يتعاطف معه ويتألم معه في حزنه، وينصهر معه في مشقاته!]

"لأنه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح،

بل حسب شهواتهم الخاصة،

يجمعون لهم معلمين مُستَحِكَّة مسامعهم،

فيصرفون مسامعهم عن الحق وينحرفون إلى الخرافات.

كأنه يقول يلزم الكرازة بروح القوة في كل حين، في وقت مناسب وغير مناسب، في حزمٍ لكن مع طول أناة ولطف... لماذا؟ لأنه يأتي وقت فيه تتصلف القلوب وتصير العنق متشامخة وعنيدة، فلا يحتمل الناس الاستماع للتعليم الصحيح. وكأن الرسول ينصحه أن يسرع بالعمل الروحي، لأن كل تأخير في الكرازة إنما يعني دخول الناس إلى حالة أكثر تصلفًا. كأن الزمن ليس في صالحنا إن أهملنا الخدمة! فالقلب المستعد الآن لقبول الكلمة قد يرفضها غدًا ما لم نخدمه اليوم! اليوم قد يقبل الناس المعلمين الحقيقيّين، لكن إن أهمل المعلمون في رعايتهم يسقط الناس في شهوات كثيرة، وعندئذ يطلبون لأنفسهم معلمين حسب أهوائهم. يطلبون ويجدون جماهير من المعلمين المنحرفين عن الحق، مملوءين فسادًا، تستريح لهم قلوبهم.

لم يقصد الرسول بهذا تحطيم تلميذه بروح اليأس، وإنما تشجيعه على السرعة في العمل الروحي وتقديم كلمة الحق حتى لا تهلك هذه النفوس، لهذا يكمل قائلاً: "وأما أنت فَاصْحُ في كل شيء،احتمل المشقات،اعمل عمل المبشر، تمم خدمتك".

سأله أن يكونصاحيًا متيقظًا حتى لا تدخل الذئاب بين الحملانفتفترسهم. حقًا في السهر على الرعاية يتحمل الراعي الكثير من المشقات، لكن تهون هذه كلها من أجل خلاص الخراف العاقلة. هذا هو عمل المبشر أن يحمل الصليب مع مخلصه المصلوب لأجل الدخول بكل نفس إلى رعية السيد المسيح ربنا. بهذا يتمم خدمته ويكمل رسالته.

يحدثنا القديس غريغوريوس النزينزي عن المشقات التياحتملها الرسول بولس لتتميم رسالته فيقول:[لكي نعرف ذلك، نترك بولس يحدثنا بنفسه. لا أقول شيئًا عن أتعابه وسهره وتحمله الجوع والعطش، في برد وعري، أعداء من الخارج ومخاصمون في الداخل (٢ كو ١١: ٢٣ الخ). سأعبر عن الاضطهادات التي تحملها والمجامع التي عُقدت ضده والسجون والقيود والمفترين عليه، ومحاكماته، وموته يوميًا وفي كل ساعة، ووضعه في زنبيل هاربًا خلف السور، ورجمه بالحجارة وضربه بالعصي، وأسفاره، والمخاطر التي صادفها في البر والبحر، وغرقه في العمق وانكسار السفينة به، ومخاطر في أنهار، مخاطر من لصوص، مخاطر من حكام، مخاطر منإخوة كذبة، معيشته بعمل يديه، التبشير بلا نفقة (١ كو ٤: ١٢؛ ٩: ٨)، كونه قد صار منظرًا للملائكة والناس (١ كو ٤: ٩)، وقوفه مناضلاً بين الناس والله لكي يوحدهم معه (بنعمة المسيح) فيصيروا شعبه الخاص (تي ٢: ٤)... من يقدر أن يذكر كل هذه الأمور بالتفصيل؟ الآلام اليومية والاهتمام الفردي، والعناية بكل كنيسة، والمودة الجامعة والحب الأخوي؟ هل أحد يعثروبولس لأجله لا يضعف؟ أو أحد يشتكي وبولس لا يحترق؟... لقد حارب لأجل الكل، صلى من أجل الكل، وتعطف على الكل، سواء الذين بلا ناموس أو تحت الناموس... كان مستعدًا هو أيضًا وراء المسيح أن يحتمل كل شيء من أجل خلاص الأشرار.]

2. توقع الرسول رحيله

إذ يشجع الرسول تلميذه على الجهاد بقوة الروح من أجل الكرازة بالحق، متممًا خدمته حتى النهاية، قدم نفسه مثالاً، إذ جاهد حتى النفس الأخير. حقًا ما أروع كلماته: "فإني أسكب سكيبًا، ووقت انحلالي قد حضر"إذ أدرك الرسول أن حياته على الأرض تبذل للنهاية بقبوله الاستشهاد يقول: "الآن أسكب سكيبًا". كأن الرسول قد عاد بذاكرته إلى أب الأسباط كلها يعقوب، وقد أقام عمودًا وسكب عليه سكيبًا ودهنه بالزيت (تك ٣٥: ١٤)، غالبًا ما كان هذا السكيب من الخمر، قدمه على العمود كتدشين لأول بيت يُقام لله في تاريخ الخلاص، إشارة إلى عطية فرح الروح القدس التي تملأ بيت الله أي شعبه. كأن الرسول يرى وسط آلامه داخل السجن منطلقًا نحو ساحة الاستشهاد أن روح الفرح الإلهي يملأ حياة الكنيسة خلال آلام الرسول. فلا فرح للكنيسة بدون ألم، ولا مجد لها خارج المشقات. لقد رأى القديس بطرس المؤمنين يدخلون تحت الآلام ويقبلون التعيير من أجل المسيح وإذا بروح المجد والله نفسه يحل عليهم، ليتقبل الله الألم في داخلهم تقدمة حب منهم واهبًا فرحه الإلهي ومجده الداخلي فيهم، إذ يقول: "كمااشتركتم في آلام المسيح افرحوا لكي تفرحوا فياستعلان مجده أيضًا مبتهجين، إن عُيِّرْتم باسم المسيح فطوبى لكم، لأن روح المجد والله يحل عليكم" (١ بط ٤: ١٣-١٤).

لقد حسب آلام المؤمنين شركة في آلام السيد المسيح... والعجيب أن الرسول يأمرهم: "افرحوا" كعربون لنوالهم الفرح الأبدي عند استعلان مجده. ما أمر به الرسول لم يكن وصية بقدر ما هي عطية، فإنه يأمرهم لينالوا العطية ويدركوها ويمارسوها، أما علة هذه العطية فهو "روح المجد والله يحل عليكم". يفرح الله بحب المؤمنين العملي، والمعلن خلال الآلام والمشقات من أجله، فيعلن ذاته سرّ مجدهم وفرحهم الذي لا يُنطق به.

ولعل الرسول وهو يتحدث عن نفسه كسكيبٍ يُسكب يذكر ما ألزمت به الشريعة من تقديم خروفين كل يوم، الواحد في الصباح والآخر في العشية، أثناء تقديمه يُصنع له سكيب من الخمر (حز ٢٩: ٤٠-٤١). وكأن ذبيحة الصليب قد ارتبطت بفرح الروح القدس الذي ينسكب على الكنيسة خلال الحمل الإلهي الذبيح. هذه هي خبرتنا المستمرة، ففي ليتورچيا الأفخارستيا إذ تقدم الكنيسة للآب بالروح القدس تقدمة الابن الوحيد، جسده المبذول، يسكب عليها وفيها فرحه الإلهي بحلول روحه القدوس الفائق! هذا ما رفع الكنيسة إلى التغني بليتورچيا الأفخارستيا كتسبحة فرح فائق، هي من صنع الروح القدس واهب الفرح الحقيقي!

أقول فياختصار أن الرسول بولس وهو يكتب لتلميذه المتألم بسبب مضايقات نيرون الظالم أراد أن يعلن له عناستشهاده في أروع صورة لكي يسنده ويشجعه لتكملة جهاده في الكرازة حتى النهاية. إنه يعلن بأن حياته كلها تُقدم – في المسيح يسوع – ذبيحة حب لله، وأن السيد المسيح نفسه الساكن فيه يحل بمجده عليه في لحظات الاستشهاد ليتقبل الألم واهبًا إياه روح المجد والقوة والفرح، لا بل نقول أن بسبب آلامه يهب الكنيسة كلها فرحًا وتعزية داخلية، فيصير الرسول نفسه كسكيب خمرٍ مفرحٍ يُسكب على بقية جسد الكنيسة المتألم! ما أبدعها لحظات حين يتقبل الرب آلام الراعي بكونها آلامه، واهبًا لأولاده الروحيين تعزية وفرحًا مجيدًا، الأمر الذي جعل منالاستشهاد للآباء أعيادًا تفرح بها الكنيسة وتُسَبِّح متهللة.

في اختصار يمكننا القول أن ما تتقبله النفس بل ومن هم حولها من تعزيات خلال لحظات الألم لا يُمكن اقتنائها خلال أصوام وصلوات ومطانيات وتعبدات لسنوات طويلة. الألم في المسيح يسوع ينبوع فرح الكنيسة لا ينضب!

يقول الرسول: "فإني الآن أسكب سكيبًا، ووقت إنحلالي قد حضر". إنه كعصفور في قفص، حتى وإن كان ذهبيًا، يود أن ينطلق!

أما سرّ فرحه فهو إدراكه أن الرب قد أنجح رسالته وقبل جهاده الحسن القانوني، إذ يقول: "قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيرًا قد وُضع ليإكليل البرّ الذي يهبه لي في ذلك اليوم الديان العادل، وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا".

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة، قائلاً:

[غالبًا إذ أضع الرسول بين يدي، وأتأمل هذه العبارة أشعر أنني قد فقدت الفهم...

بأي هدف كان الرسول يتحدث هكذا؟ لقد كان مشتاقًا أن يعزي تلميذه وينزع عنه كآبته، موصيًا إياه أن يبتهج، لأنه ذاهب إلى حيث يوجد إكليله، بعد أن أنهى كل عمله ونال نهاية مجيدة.

إنه يقول له: يليق بك أن تفرح لا أن تحزن؛ لماذا؟ لأنني "جاهدت الجهاد الحسن".

إنه كأب يجلس بجوار ابنه الذي يندب حال يتمه ليعزيه، قائلاً له: "لا تبكِ، فإننا نعيش حياة حسنة وقد بلغت الشيخوخة، وها أنا أتركك. حياتنا هنا بلا عيب، وها نحن نرحل في مجدٍ، يلزمك بالحري أن تُعجب بأعمالنا، فقد صار ملكنا كأنه مدين لنا. أو كأنه يقول: لقد رفعنا علامات النصرة، هزمنا الأعداء!"

يقول هذا ليسافتخارًا بنفسه! وإنما ليرفع من نفسية ابنه المغموم، ويشجعه علىاحتمال ما يحدث (رحيله) بثبات، باعثًا فيه الرجاء الصالح، بكونه لا يفكر في الرحيل كأمرٍ محزن. إن كان مجرد الانفصال يُحسب أمرًا محزنًا، بل ومحزن بحق، إذ يقول بولس نفسه: "قد فقدناكم زمان ساعة بالوجه لا بالقلب"؛ (١ تس ٢: ١٧)؛ وإن كان قد شعر بهذا عندما انفصل هو عن تلميذه، فماذا بالحري تكون مشاعر تيموثاوس نفسه؟ إن كان مجرد ترك الرسول له وهو بعد حيّ جعله يبكي، إذ يقول بولس: "ذاكرًا دموعك لكي أمتليء فرحًا" (٢ تي ١: ٤)، فماذا يكون الأمر عند موته؟

إذن كتب الرسول هذا ليعزيه... يقول: "جاهدت الجهاد الحسن" (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى)... هل هذا الجهاد حسن وقد وجد فيه سجن وقيود وموت؟ نعم، لأنه جهاد من أجل المسيح خلاله ننعم بأكاليل عظيمة!... ليس جهاد أسمى من هذا! إكليله بلا نهاية؛ إكليله ليس من أوراق الزيتون، والحكم فيه ليس بشريًا، والمشاهدون ليسوا بشرًا، إنما سيكون المسرح مزدحمًا بالملائكة!

هناك (في حلقات المصارعة) يجاهد الناس أيامًا كثيرة ويحتملون المصاعب لأجل ساعة ينالون فيها الإكليل، وعندئذ تنتهي كل بهجة في الحال. أما هنا فالحال مختلف تمامًا: الإكليل أبدي له بهاؤه ومجده وكرامته، لهدا يجب أن نفرح.

ها أنا أدخل راحتي تاركًا السباق. لقد سبق أن سمعت مني أنه خير لي أن أنطلق وأكون مع المسيح. لقد "أكملت السعي"؛ فإنه يليق بنا أن نجاهد ونجري، نجاهد محتملين الآلام بثبات، ونجري ليس باطلاً وإنما لأجل غاية صالحة. حقًا إنه جهاد حسن، ليس فقط يبهج ناظره وإنما يفيده، فلا ينتهي السباق إلى لا شيء. إنه ليس مشهدًا مجردًا لإبراز القوة والمنافسة وإنما هو رفع إلى السماء!

كيف أكمل السعي؟... لقد عبر الأرض كطائر، بل بالحري أسرع من طائر، لأن الطائر مجرد يحلق فوقها، لكن (بولس) إذ كان له جناح الروح وجد طريقًا خلال العوائق التي بلا عدد، والمخاطر والميتات والكوارث. كان أكثر خفة من الطائر، فلو كان طائرًا مجردًا لسقط... لكنه إذ هو محمول بالروح انطلق يرفرف فوق كل الفخاخ كطائر ذي جناح من نار!

يقول: "حفظت الإيمان"، فقد وُجدت أمور كثيرة كانت تود سرقة الإيمان... من تهديدات وميتات ومخاطر أخرى بلا حصر. لكنه وقف ضد هذا كله بثبات. كيف؟ بكونه صاحيًا ساهرًا...

كان هذا كافيًا لتعزية تلميذه، لكه أضاف المكافآت؛ ما هي؟ "وأخيرًا وضع لي إكليل البرّ". مرة أخرى يدعو الفضيلة هنا بمعنى عام: "البرّ". لا تحزن لأني راحل. فإنني سأُقَلد بذلك الإكليل الذي يضعه المسيح على رأسي، لو كنت سأستمر هنا لكان من حقك أن تحزن وتخاف عليَّ لئلا أسقط وأهلك. يقول: "الذي يهبه لي في ذلك اليوم الديان العادل، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا". بهدا أيضًا رفع ذهنه، فإن كان الله يهب الإكليل للجميع، فبالأولى يهبه لتيموثاوس.]

إن انتظار الرسول لرحيله أو مجيء السيد، أي التلاقي مع ربنا يسوع ليس مجرداشتياقات داخله أو كلمات يُنطق بها، لكنها حياة إيمانيّة مملوءة جهادًا وأتعابًا بفرح. وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم:[ليته لا يوجد فينا ما هو غير مستحق لمجيئه، عندئذ يجعل له مسكنًا فينا.] بمعنى أنانتظار ظهوره يتحقق بتهيئة نفوسنا الداخلية بعمل روحه القدوس لنكون بحق العروس اللائقة بعريسها الأبدي، أو الأبناء المشابهين لأبيهم، يرونه فينجذبون إليه ويوجد معه وفيه إلى الأبد.

كلمات الرسول بولس في أيامه الأخيرة لم تكن لتعزية تيموثاوس وحده وإنما لتعزية الكنيسة كلها في جهادها الروحي سواء في أيام الضيق (الاستشهاد) أو السلام. يقول القديس كبريانوس:[ليتهم يتقبلون الأكاليل، إما بيضاء بسبب الجهاد أو أرجوانية بسبب الآلام، ففي معسكر السماء توجد زهور خاصة بالسلام وأخرى خاصة بالصراع، بها يتكلل جنود المسيح للمجد.]

وقد راعى انتباه القديس أمبروسيوس في حديثه عن واجبات الكهنة أن الرسول يقول عن نوال الإكليل أنه "في ذلك اليوم" يهبه له وليس هنا؛[هنا حارب في أتعاب ومخاطر وانكسار السفينة به كمصارع جاهد عالمًا أنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السماوات.]

لقد استخدم أتباع بيلاجيوس كلمات الرسول بولس هذه لتأكيد فكرهم أن المكافأة هي ثمر جهادنا الذاتي، متجاهلين نعمة الله الغنية، وقد ردّ عليهم القديس أغسطينوس، قائلاً:

[لنتأمل استحقاقات الرسول بولس عينها، الذي قال أن الديان العادل سيجازيه بإكليل البرّ، لنرى ما إذا كانت استحقاقاته حقيقة نابعة عنه، أقصد أنه حصل عليها بمجهوده الذاتي، أم هي عطايا إلهيّة! إنه يقول: "قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان" (٢ تي 4: ٧). أولاً: هذه الأعمال الصالحة لا تُحسب شيئًا ما لم يسبقها أفكار صالحة. لاحظ ماذا يقول عن هذه الأفكار؟ "ليس أننا كفاة من أنفسنا أن نفتكر شيئًا كأنه من أنفسنا بل كفايتنا من الله" (٢كو ٣: ٥). ثانيًا: لنتطلع إلى كلاستحقاق على حدة:

أ. جاهدت (حاربت) الجهاد الحسن: أريد أن أعرف بأية قوة كان يحارب؟ هل بقوة ذاتية، أم بقوة أُعطيت له من فوق؟ يستحيل أن نظن أن معلمًا عظيمًا مثل الرسول كان جاهلاً بشريعة الله التي تعلن في سفر التثنية: "لئلا تقول في قلبك قوتي وقدرة يدي صنعت لي هذه الثروة، بلاذكر الرب إلهك أنه هو الذي يعطيك القوة" (تث ٨: ١٧). وأي نفع للمحاربة الحسنة ما لم يتبعها نصرة؟ ومن يهب النصرة إلاَّ الذي يقول عنه الرسول نفسه: "شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (١ كو ١٥: ٥٧)؟ وفي عبارة أخرى اقتبسها من المزمور يقول: "لأننا من أجلك نُمات اليوم كله، قد حُسبنا مثل غنم للذبح" (مز ٤٤: ٢٢)، مُكملاً القول: "ولكننا في هذه جميعها يعظمانتصارنا بالذي أحبنا"، أي أنه ليس بأنفسنا نحقق الغلبة بل بذاك الذي أحبنا.

ب. أكملت السعى: كيف يقول هذا، وهو يعلن في عبارة أخرى: "فإذًا ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل للهالذي يرحم" (رو ٩:16). هذه العبارة لا يمكناستبدالها فنقول أنه ليس من الله الذي يظهر الرحمة بل الإنسان هو الذي يشاء ويسعى. فمن يتجاسر ويفسر الأمر هكذا يكون من الواضح أنه مناقض للرسول.

ج. حفظت الإيمان: الذي يقول هذا يعلن في عبارة أخرى: "أعطى رأيًا كمن رحمه الرب أن يكون أمينًا" (١ كو ٧ : ٢٥). إنه لا يقول: "كمن رحمه الرب لأنني كنت أمينًا"، بل"رحمه أن يكون أمينًا"، مُظهرًا أنه حتى الإيمان نفسه لا يمكن نواله بدون رحمة الله، إنه عطية الله! هذا يؤكده لنا عندما يقول: "لأنكم بالنعمة أنتم مخلصون، بالإيمان وذلك ليس منكم، هو عطية الله" (أف ٢: ٨). ربما تقولون: "نحن تقبلنا النعمة لأننا آمنا"، ناسبين الإيمان إلى أنفسهم والنعمة لله، لذلك فإن الرسول بعد قوله: "لأنكم بالنعمة مخصلون بالإيمان"، أضاف: "وذلك ليس منكم، هو عطية الله". ولئلا يقولوا إنهم استحقوا هذه العطية العظيمة بأعمالهم (الذاتيّة) أضاف للحال: "ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد، لأننا نحن عمله" (أف ٢: ٩). لا بمعنى أنه يُدحِض الأعمال الصالحة أو يسلبها قيمتها، إذ يقول أن الله يجازي كل واحد حسب أعماله (رو 2: ٦)، إنما لأن الأعمال هي ثمر الإيمان وليس الإيمان ثمر الأعمال، لذلك فأعمال البرّ التي لنا هي من الله ومنه نصل إلى الإيمان ذاته الذي قيل عنه "البار بالإيمان يحيا".]

3. أخباره الختامية

قدم الرسول لتلميذه الحبيب بعضًا من أخباره:

أ. استدعاء تلميذه: أدرك الرسول أن وقت رحيله قد اقترب، فأرسل يستدعيه، قائلاً له: "بادر أن تجيء إلىّ سريعًا"، وإن كان للأسف لم يستطع أن يحضر قبلاستشهاده. وقد كان الرسول لطيفًا وحكيمًا فياستدعائه، إذ لم يقل له "لكي أراك قبل رحيلي"، لئلا إذا لم يتحقق الأمر يحزن القديس تيموثاوس ويكتئب، وإنما أعلن لهإن حاجته إليه في هذه اللحظات إنما بسبب ترك الكثيرين له.

ب. ترك البعض له: "لأن ديماس قد تركني، إذ أحب العالم الحاضر، وذهب إلى تسالونيكي". إذ تركه ديماس طلب تيموثاوس لكي يخدمه عوضًا عنه. ولكن لماذا تركه ديماس؟ يجيبالقديس يوحنا الذهبي الفم:[لقد أحب الطريق السهل والآمن، بعيدًا عن المخاطر. حقًا لقداختار أن يعيش في بيته في ترفٍ عن أن يعاني معي المصاعب، ويشاركني المخاطر الحاضرة. لقد لامه لا لأجل اللوم في ذاته، وإنما لكي يثبتنا نحن فلا نسلك بتدليل مبتعدين عن الأتعاب والمخاطر، فهذا يُحسب حبًا للعالم الحاضر، ومن ناحية أخرى أراد بهذا أن يجتذب تلميذه إليه.]

يكمل الرسول: "وكِرِيسكيس إلى غلاطية، وتيطس إلى دَلْماطية، لوقا وحده معي". هذان لم يتركاه من أجل محبة العالم وإنما لأجل ضرورة الخدمة.

ج. طلب مرقس الرسول: "خذ مرقس واحضره معك لأنه نافع لي للخدمة". في رحلته التبشيريّة الثانية رفض الرسول أن يأخذ مرقس معه لأنه سبق وتركه في رحلته الأولى عند بمفيلية، ربما بسبب حمى أصابته هناك. وبسبب رفض الرسول أخذ مرقس معهانفصل عنه برنابا الذي انطلق مع مرقس إلى الخدمة في طريق آخر، إلى جزيرة كريت حيث انتقل برنابا هناك، أما مرقس الرسول فجال فيإفريقيا يخدم، وكانت الإسكندرية مركز خدمته. هنا الرسول يشهد للقديس مرقس أنه نافع له في الخدمة. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على كلمات الرسول هذه، قائلاً:[إنه لم يطلب ذلك لأجل راحته الخاصة، وإنما لأجل خدمة الإنجيل. فإنه وإن كان سجينًا لكنه لا يتوقف عن الكرازة. لذات السبب أيضًا أرسل يطلب تيموثاوس، ليس لأجل نفسه، وإنما لأجل الإنجيل، فلا يكون موته مجالاً لحدوث اضطراب بين المؤمنين، إنما وجود بعض من تلاميذه ينزع عنهم ضيقهم.]

د. طلب الرداء: "الرداء الذي تركته في تراوس عند كاربُس احضره متى جئت، والكتب أيضًا، ولاسيما الرقوق". يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم:[الكلمة المترجمة هنا "رداء" تعني ثوبًا أو كما يقول البعض تعني حقيبة تحوي الكتب.] لقد طلب رداءه ربما لكي لا يضطر في أيامه الأخيرة أن يستعير رداء أحد، إذ لا يريد أن يثقل على أحد. أما طلبه الكتب فربما لكي يسلمها للمؤمنين في روما الذين يعاصرون استشهاده فتكون سبب تعزية لهم... حقًاإنه حتى في اللحظات الأخيرة لا يهتم بما لنفسه بل ما هو لراحة الغير.

ه. شر إسكندر النحاس: "إسكندر النحاس أظهر لي شرورًا كثيرة، ليُجازِهِ الرب حسب أعماله، فاحتفظ منه أنت أيضًا، لأنه قاوم أقوالنا جدًا". لقد كتب عن إسكندر النحاس لا ليدينه أو يتهمه، ولا ليطلب الانتقام منه، وإنما أراد أن يعد تلميذه للصراعات حتى النهاية، لكي يحتملها بثباتٍ. لقد صنع إسكندر ببولس الرسول شرورًا كثيرة، وها هو يخشى على تلميذه منه. أما قوله: "ليجازه الرب حسب أعماله"، فلا تحمل شهوة انتقام خاصة وأن الرسول يدرك أن يوم رحيله قد قرب جدًا، إنما يُهيء نفس تلميذه الذي سيتعرض لمضايقاتإسكندر وأمثاله لكي لا يضطرب، تاركًا الأمر في يدي الله الذي لا يترك الأشرار بلا تأديب أو عقوبة.

يظهر حنو الرسول حتى نحو مضطهده الشرير، فإنه لم يطلب من تلميذه أن ينتقم منه أو يعاقبه أو يطرده، لكن كل ما فعله حذره منه حتى لا يفسد خدمته، لأنه مقاوم للكلمة.

و. ترك الكل له في احتجاجه الأول: "في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي، بل الجميع تركوني. لا يُحسَب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقواني، لكي تتم بي الكرازة، ويسمع جميع الأمم، فأُنقِذت من فم الأسد. وسينقذني الرب من كل عمل رديء، ويخلصني لملكوته، الذي له المجد إلى دهر الدهور. آمين"

إذ وقف أمام نيرون في دفاعه الأول لم يقف بجواره أحد، حتى الأصدقاء، وهو أمر صعب على النفس. على أي الأحوال طلب الرسول لأصدقائه من الرب السماح من جهة إهمالهم في اللحظات العصيبة. والعجيب أنه إذ فشلت كل الأذرع البشرية، وأدرك الرسول أن الجميع قد تركوه، ليس من يسند ولا من يعين، تجلى الرب في هذه اللحظات: "الرب وقف معي وقواني". حين تتحطم كل الأذرع البشريّة لمساندة المؤمن في ضيقته تبقى ذراع الرب القوية ممتدة، قادرة على الإنقاذ من فم الأسد، وتتمم الشهادة له بنجاح.

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على عبارات الرسول هكذا:

[إن كان الناس قد هجروه، لكن الله لم يسمح له بضرر، بل قواه، أي وهبه الجرأة على الكلام، ولم يسمح له أن يغرق...

"لاحظ عظم تواضعه! فإنه لم يقل أن الله قواه لاستحقاقه هذه العطية، إنما من أجل الكرازة التي أُؤتمن عليها لكي تتم.

"انظر كيف اقترب من الموت! لقد سقط بين أنياب الأسد ذاته، فقد دعا نيرون أسدًا بسبب شراسته وعنف حكومته...

يقول: "أُنقذت من فم الأسد وسينقذني الرب من كل عمل رديء". لم يقل سينقذني من فم الأسد، بل سينقذني من كل عمل رديء، فإن كان الرب قد أنقذه من الخطر (نيرون) فسينقذه من الخطية، فلا يسمح له بالرحيل وهو مدان.]

كأن الله أنقذه من نيرون من أجل الكرازة والشهادة له حتى يتمم رسالته، أما وقد تحققت رسالته لا يعود يطلب الخلاص من يد نيرون، بل من حكم الخطية، بانطلاقه من العالم محفوظًا من الدينونة. لقد خلص من دينونة نيرون المؤقتة، لكن ما هو أعظم إن الله يخلصه من الدينونة الرهيبة حيث يدخل به إلى شركة أمجاده الأبديّة، قائلاً: "يخلصني لملكوته".

ز. إهداء السلام لأحبائه: "سلِّم على فرسكلا (بريسكلا) وأكيلا وبيت أُنيسيفورس". وقد سبق لنا الحديث عن أنيسيفورس الذي أراح الرسول مرارًا كثيرة أثناء سجنه (١: ١٦)، أما بريسكلا وزوجها أكيلا فقد ارتبطا بالرسول بدالة محبة قوية، إذ آمنا على يديه، وكانا خيامين يقضيان بعضًا من الوقت معه يعملان معه في صنع الخيام. لقد عملا معه في خدمته، إذ يقول الرسول: "سلموا على بريسكلا وأكيلا العاملين معي في المسيح يسوع، اللذين وضعا عنقيهما من أجل حياتي، اللذين لست أنا وحدي أشكرهما بل أيضًا جميع كنائس الأمم" (رو ١٦: ٣-٤). والعجيب أن الرسول – وهو في القرن الأول الميلادي – يذكراسم الزوجة قبل الزوج في الرسالتين، هنا والرسالة إلى أهل رومية، في وقت لم يكن للمرأة – حسب القانون الروماني – أية حقوق. لقد ذكرها الرسول أولاً ليؤكد أنه في الإيمان لا تحيز لجنس على آخر إلاَّ حسبما يقدم الإنسان من إيمان حيّ عامل. لقد كانت بريسكلا في عيني الرسول أكثر غيرة وإيمانًا من رجلها.

س. "أراستس بقي في كورنثوس، وأما تروفيموس فتركته في ميليتس مريضًا". بهذا يوضح الرسولاحتياجه إلى تلميذه، فقد بقيأراستس في كورنثوس، بينما ترك تروفيموس مريضًا في ميليتس. يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: لماذا لم يشفِ الرسول بولس تروفيموس؟ إن كان الرسول قد وُهب عطية شفاء المرضى، لكن الله سمح أن يوجد من بين أحبائه من هو مريض ولا يشفيه حتى يشعر الرسول بضعفه، فإن راوده فكر كبرياء من جهة المعجزات التي تتم على يديه يرى أحباءه مرضى وهو في عجزٍ عن تقديم شيءٍ ما لهم. هذا ومن ناحية أخرى، لكي لا يتحول هدف المؤمنين في الكرازة إلى الأمور الماديّة. بقاء المرض حتى بين الخدام الأمناء يعني أن غاية الكرازة أولاً خلاص الإنسان أبديًا وتمتعه بالملكوت، أما الأمور الأخرى فتُعطى للإنسان أو يحرم منها حسبما يرى الله فيه من خير.

ما نقوله هنا نردده بخصوص أَبَفْرودِتُس العامل مع الرسول والمتجند معه (في ٢: ٢٥) إذ كان مريضًا قريبًا من الموت، بل ونقوله بخصوص الرسول نفسه الذي صرخ إلى الرب ليشفيه لكن الرب أعلن له: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل".

ش. يكرر الرسول الدعوة: "بادر أن تجيء قبل الشتاء". في لطف لم يقل: "قبل أن أرحل" بل قال "قبل الشتاء" حتى لا يثير فيه مشاعر الحزن متى جاء ووجده قد رحل.

ص. تقديم سلام أحبائه الذين في روما: "يسلم عليك أَفْبولس وبوديس ولينُس وكَلافَدِيَّة والإخوة جميعًا"، من بينهم لينس الذي أُقيم أسقفًا على روما وكَلافَدِيَّة المملوءة غيرة على الشهادة لله.

4. البركة الرسوليّة:

"الرب يسوع المسيح مع روحك. النعمة معكم. آمين". إنها بركة ختاميّة تليق بما جاء في الرسالة، فإنهإذ يتحدث عن روح القوة، يؤكد أن سرّها هو المعية مع الرب يسوع. وإن كان الرسول يود أن يسند تلميذه ويعزيه، فليس من معزٍ سوى نعمة ربنا يسوع المسيح التي ترافق الإنسان وتعينه!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير سفر تيموثاوس الثانية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  تفسير سفر تيموثاوس الأولى
»  تفسير الأسفار القانونيَّة الثانية كاملا
» تفسير سفر طوبيا
» تفسير سفر ملاخى
» تفسير سفر اللاويين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: منتدى الكتاب المقدس :: دراسة اسفار الكتاب المقدس-
انتقل الى: